حذف البيانات
«فاندا! فاااااندا!» جاءها الصوت من وادٍ سحيق، بينما ضغطت صخرة ثقيلة على أضلعها، ثم مادت الأرض من تحتها، ارتفعت الصخرة في الأعالي فارتفعت معها، ثم انزلقت إلى الأسفل، وتدحرجت من جنبها على ظهرها حتى هبطت عند كومة من الخشب، لكنها لم تتألم الألم الذي توقعته. فتحت فاندا عينيها فرأت ضوءًا منبعثًا من اللمبة الأسطوانية، بينما يد تهزها من كتفها: «فاندا، هل أنت مستيقظة؟» سمعت صوتًا مألوفًا وعرفت أنه يوهانيس.
رفعت رأسها ونظرت إلى وجه زميلها الذي بدت عليه أمارات القلق. «لا أعرف، ربما كنت فقط أحلم.»
الآن فقط تعرفت على ما حولها. كانت مستلقية بظهرها على ساقَيْ يوهانيس الذي استند على يده وأمسك بالأخرى مؤخرة رأسه بحرص. شعرت بدقات مطارق تدق رأسها وتكاد تخترق صدغيها بلا هوادة. تركت رأسها ينزل من جديد.
سألت مباشرة: «هل أسرفنا في تناول كحوليات؟»
«بالتأكيد، ربما لا سبب آخَر لو حللنا الموقف.»
«ماذا تقول؟ أنا لستُ كارهة للحياة.» نهضت فاندا ببطء، ثم جلست إلى جوار زميلها على الأرض. كان يوهانيس يبدو مثل المهرج بجلسته تلك وبتعابير وجهه التي تحاول أن تكتم ابتسامة يشوبها الألم. كان عليها أن تعطس فجأةً، فعاد لها شعور الوخز في رأسها. نظرت مأخوذة إلى الفئران التي كانت تعبث بين الأسلاك التي أسفل لوح الطاولة الخشبي الطويل. حكَّتْ سوالفها.
سألت: «كم الساعة الآن؟» نظر يوهانيس إلى ساعته: «بالضبط بضع دقائق قبل أن ينتصف الليل.» حسبت حساباتها، فوجدت أنها تفتقد عشر دقائق. ماذا فعلت فيها؟ كان الفاصل الزمني في رأسها يدير صورًا لحظية أمام عيني خيالها: سيارة أجرة، بئر سلم، رواق مظلم، يوهانيس على الأرض، ألم مبهم؛ مجرد لقطات فيلم.
سألته: «متى أفقت؟»
«قبلك بقليل.»
«ماذا تفعل هنا حقًّا في هذا الوقت؟»
احمرَّ وجه يوهانيس.
«ممكن أن أطرح عليك نفس السؤال.»
نظرت فاندا حولها في غرفة الكمبيوتر. كان واحد من الأجهزة مفتوحًا.
«هل كنتَ تعمل عليه؟»
نظر يوهانيس حائرًا ثم قال: «لا.»
«ما معنى هذه اللا؟ أَلَا تستطيع ثروتك اللغوية أن تأتي بما هو أفضل؟»
قال بصوت يرتعش قليلًا: «هل من الممكن أن تتخيري نبرةً مختلفة للحديث؟ تشعرينني وكأني في محكمة. كان الكمبيوتر مغلقًا حين دخلتُ إلى هنا، وظننت أنكِ أنتِ التي فتحته.»
«كيف يُعقَل هذا؟ هل تتوقع حقًّا أني ضربتك على رأسك فقط لكي أعمل على الكمبيوتر؟ أَلَمْ يكن لي أن أفكر في طريقة أسهل؟»
طوى يوهانيس ذراعيه ونظر إليها متفحصًا.
«كنتِ تريدين الكمبيوتر؟»
فكرتْ فاندا مليًّا: من الممكن أن أمضي نصف الساعة القادمة في جدال معه، ولن أصل إلى شيء. لكن عليَّ أن أعرف لِمَ هو هنا.
قالت بنبرة أهدأ: «كنتُ أريد أن أدخل إلى مكتبي. ساعتها رأيت باب الماسورة الرئيسية مفتوحًا. ووجدتك مستلقيًا على ظهرك على الأرضية، فاقدًا للوعي. قدَّمتُ لك بعض الإسعافات الأولية، وحين أردت الاتصال بطبيب الطوارئ أظلمت الدنيا فجأةً. ارتطم شيء صلب برأسي. لا أعرف أكثر من ذلك.» وبدون أن يلاحظ أدخلت يدها اليمنى إلى جيب سترتها. أين ذهبت الورقة المدوَّنة عليها كلمة المرور؟ لم تتمكن من العثور عليها. أصابها دوار.
«ماذا يحدث؟» راقب يوهانيس يدها التي لا تزال تبحث في جيب سترتها … «لقد شحب وجهك فجأة.»
«لا أعرف، أشعر بهبوط خفيف. أنا أبحث عن … مناديلي الورقية.» وقف يوهانيس وناولها عبوة مناديل «كيم» الورقية المبلَّلة، التي كانت على الطاولة. سحبت فاندا منديلًا وتمخطت، من الواضح أن حيلتها انطلت عليه. نهضت ببطء من على الأرض وجلست على الكرسي الموضوع أمام الكمبيوتر المفتوح. رأت رموز الاختصارات التي تشير إلى حسابات المعلومات الخاصة بالعاملين كل على حدة. كان رمز زابينة عبارة عن نحلة كبيرة تحدق عيناها فيها بعمق لا قرار له وتلمعان بشدة. لعنت فاندا نفسها سرًّا: لماذا لا أستطيع أن أتذكر القصائد؟ تذكرتُ فقط الأرقام المكتوبة في نهاية كلمة المرور، وكل شيء آخَر بدا وكأنه حُذِف تمامًا. لعبت أصابعها بتوتر على زر أحمر إلى جوار لوحة المفاتيح. أخذته على راحة يدها وتأمَّلتْه. كان عبارة عن قرص من البلاستيك، حجمه أكبر قليلًا من قطعة العملة فئة اثنين يورو، أحمر مثل حبة طماطم. مدت فاندا يدها المنبسطة نحو يوهانيس ثم استدارت نحو الشاشة مرة أخرى.
سألت دون أن تبعد نظرها عن الشاشة: «ما هذا؟»
«وما أدراني؟»
«لقد كان هنا شخص آخَر عدانا يا يوهانيس.» نظرت نحوه الآن بانتباه. «واضح أننا تسببنا في إزعاج هذا الشخص المجهول، لكني أتساءل ماذا كان يريد؟» حَكَّ يوهانيس مؤخرة رأسه: «ما زلت أشعر بضغطة ضربته.» تجول بعينيه في الغرفة وكأنه يبحث عن الأداة التي ضُرِب بها منذ دقائق معدودة، ثم التقت أعينهما.
«وإن كان هذا الشخص لا يزال هنا؟» ارتعبتْ فاندا بمجرد أن تلفظت بكلماتها، فقال يوهانيس مقترحًا: «ربما يتعين عليَّ أن أتفقد المكان.» ثم نظر إلى الرواق بالخارج.
سمعته فاندا يقول: «كل شيء هادئ هنا»، ثم اختفى.
لم تصدقه فاندا، لماذا لم تخطر على باله فكرة طلب الشرطة؟ إنه يأخذ الأمر على نحو بسيط. ربما تجول بباله نفس الخواطر بشأني. ومن سجل الأسماء على هاتفها المحمول وجدت رقم زابينة واتصلت بها. وبينما كانت تنتظر أن يتم الاتصال، سحبت ذاكرة يو إس بي ووضعتها في منفذ الكمبيوتر. بدا وكأن زابينة استغرقت دهرًا حتى ردتْ عليها.
«ألو؟» ردت زابينة بصوت ناعس.
همست فاندا: «مرحبًا هذا أنا.»
«مرحبًا، مَن هناك؟»
«اللعنة يا بينة، لا أستطيع أن أرفع صوتي الآن.»
قالت زابينة متثائبة: «ما الأمر إذن؟»
«سأخبرك فيما بعد، أخبريني بكلمة المرور بسرعة.»
«حسنًا. في البدء …»
«لا، الحروف بسرعة لأكتبها معك على الكمبيوتر.»
«حسنًا»، وأملتها الحروف والأرقام، بينما تنقرها فاندا على لوحة المفاتيح، ثم نقرت على مفتاح الدخول وانفتح حساب زابينة.
«في أي ملف حفظت بيانات المشروع؟»
«ملف: بي آي تي، بيانات ٢٠٠٥، كلها ملفات إكسيل، وهناك ملفا وورد.»
نظرت فاندا إلى سطح الشاشة.
«الملف فارغ.»
«لا يمكن، لقد حفظتُ فيه عشرين ملفًا على الأقل.»
«صفر، كل شيء محذوف. سأتصل بك لاحقًا.» اقترب وقع خطوات في الرواق، فأنهت المكالمة وأغلقت حساب زابينة. بدا يوهانيس مصفرَّ الوجه حين عاد إلى غرفة الكمبيوتر.
قال: «الجو هادئ»، استشعرتْ فاندا الإنهاك باديًا في صوته، وتساءلت إن كان محبطًا أم مرتاحًا بسبب هذا الخبر.
سألته: «ماذا علينا أن نفعل الآن؟ هل نبلغ الشرطة؟ في نهاية الأمر، ثمة عملية سطو.»
سكت يوهانيس، ثم تحدَّث عن تجربة مهمة عليه أن يجريها غدًا، وقد تم التخطيط لها منذ أسابيع ولن يمكن تأجيلها بعد كل الترتيبات التي اتُّخِذَت، ولا ينبغي أن يفشل الأمر، وكيف أنه في غاية التعب الآن، ولا بد أن يخلد للنوم. ليس من الضروري إبلاغ الشرطة، فلن يفعل رجالها شيئًا سوى أن يسلبوهما الراحة، بل إن زيارةً قصيرة لعيادة الطوارئ بدت له أكثر أهمية. له صديق يعمل في هذه الوردية. ألَمْ يُغشَ على كليهما؟ نظرت فاندا إلى ساعتها وقالت: «أنا بخير، فلتذهب أنت.» أشارت الساعة إلى عدة دقائق بعد الثانية عشرة والنصف. «يا للشناعة! لا بد أن سيارة الأجرة التي طلبتها قد رحلت.»
قال لها يوهانيس: «بوسعي أن أقلك معي، فقيادتي ليست بالسوء الذي تبدو عليه هيئتي.»
ولِمَ لا؟ فكرت فاندا: لعلي أعرف منه المزيد في أثناء ذلك. سرًّا كانت سعيدة أن يوهانيس لم يشأ أن يُبلِغ الشرطة. نقلت بصرها ثانية في الغرفة قبل أن يغادِرَا. كانت كل الشاشات مطفأة. ضيَّقت فاندا عينيها لوهلة، ثم أغلقت الباب وهي تشعر أنها أغفلتْ أمرًا مهمًّا.