بعيدًا عن المدينة القديمة
في هذه الأثناء كانت الساعة قد تخطت الواحدة بقليل. وقفت فاندا بمفردها أمام المتجر الكبير في وسط المدينة. دخلت في هالة الضوء الساطع في إحدى الواجهات وارتجفت. وفي هذه الأثناء ندمت على أنها رفضت عرض يوهانيس بتوصيلها إلى شمال المدينة، فقد كان يسكن في الحي الجنوبي. لم يتحدثا معًا في أثناء الرحلة هبوطًا من منحدرات اللان.
«هل تتقدم في كتابة بحثك؟» ما إن قالت فاندا ذلك حتى غضبت من نفسها بسبب هذه المحاولة غير الماهرة في بدء حوار. لقد كان من الصعب عليها أنْ تنحِّي سوء ظنها بزميلها جانبًا. شيء ما في تصرفاته في الأعلى في غرفة الكمبيوتر جعلها تتشكك فيه. تداعت إليها صور أحداث الساعة الأخيرة ثم اختفت ثانيةً. لم تكن تظهر الصور وفق تتابع منطقي، رغم أنها كانت تحاول ذلك جاهدة. انقشع الضباب قليلًا في اتجاه الوادي.
«لا بأس»، استغرق الأمر وقتًا طويلًا حتى أجاب يوهانيس، ثم صمت من جديد. بدا قَلِقًا. لبضع لحظات كان يزيد من سرعة السيارة، ثم يرفع قدمه فجأةً من على دواسة البنزين. كان دائم النظر في المرآة الأمامية. ألحَّت على فاندا صورة ظبي يهرب، دائمًا ما يتوقف بعد عدة قفزات ليتأكد مما وراءه. شعرة واحدة هي كل ما فصله عن دهس ذلك الرجل السكران الذي كان يعبر كوبري كونراد أديناور مترنحًا.
«اللعنة، كدتُ أصدمه.» كان صوت يوهانيس مثل صوت الحشرجة الخارجة من ماسورة موتوسيكل حين يخرج منها الهواء. لم يكن من الممكن، بسبب شدة الظلام، أن تعرف إن كان وجهه قد احمرَّ أم اصفرَّ جرَّاء هذا الموقف.
قالت فاندا متأوهة: «أعتقد أن ثمة شارعًا يُحفَر في رأسي، هل تسمع ضجيج معدات البناء؟»
«كان عليَّ أن أذهب بكِ إلى عيادة الطوارئ.»
«سأذهب باكرًا إلى الطبيب، أعدكَ بهذا.» حاولتْ فاندا أن يكون صوتها مقنعًا.
«ربما سأصاب بالبرد، فعندي فعلًا صداع خفيف منذ عدة أيام.» ثم صمَّمت أن يتركها تنزل في وسط المدينة بدعوى أنها في حاجة لإنعاش رأسها. كانت تعلم أنه لن يستطيع أن يأتي بشيء إزاء تصميمها. كانت تشعر بالغثيان، لكنها لم تخبره.
توقف يوهانيس أمام المتجر الكبير الكائن في شارع الجامعة. «هلَّا اتصلت بي بمجرد أن تصلي إلى المنزل؟» لا بد أنه لاحظ كيف بدا صوته يدعو إلى الضحك؛ لذا قال بحسم: «لو لم تتصلي بي في غضون نصف الساعة، فسأمر عليك.»
قالت مداعِبةً: «حسنًا يا أبي»، ثم أطلقت فاندا قُبْلة طائرة في الهواء تجاهه، واستأنفت: «لو سمحت لا تنسَ قصة ما قبل النوم.» ثم أغلقت باب السيارة. راقبت المصابيح الخلفية للسيارة التي انحنت بعد ذلك بقليل عند منعطف شارع جوتينبيرج، ثم اختفت.
لم تَعُدْ تذكر كم مر من الوقت وهي تحدِّق في هاتين العينين المتحجرتين. ما زال صدى كلماتها الأخيرة يتردد في رأسها حين حررت نظرها المعلَّق على الدمية التي بواجهة المحل. كانت مدفأة السيارة قد لفت قدميها ببعض الدفء اللطيف، لكنها واقفة الآن أمام المتجر وتشعر بالبرودة الرطبة لهواء الليل تزحف أسفل بنطالها. دفنت يديها في جيوب سترتها وجرت في اتجاه ميدان رودولف. أسرعت بنزول الدَّرَجات القليلة المؤدية إلى النفق. كان هذا الطريق المختصَر بمثابة رد فعل تلقائي ذي معنى إذا فعلت ذلك صباحًا، إن كان المرور مزدحمًا في المفرق الضيق بين اللان والمدينة القديمة، لكن في هذه الساعة المتأخرة كان يمكن لها أن تعبر التقاطع بلا عقبات لتصل إلى الجانب الآخَر من الميدان. تباطأت خطواتها لبرهة. هل عليها أن تعود؟ راقبت كل الاتجاهات بيقظة. كان القرميد يلتمع في انعكاسات المصابيح الخافتة. على اليمين المبنى المرتفع لأحد البنوك، في الأمام مباشرة السلم المؤدي إلى فايدنهاوزن والجانب الغربي من المدينة.
ثمة طريقان يفضيان إلى شمال المدينة، الأول هو الشريان الرئيس لماربورج الذي يربط المرور من الشمال إلى الجنوب مرورًا بوسط المدينة التاريخي، إلا أن قدمَيْها تاقتا فعلًا للسير بمحاذاة ضفة النهر. قطعت فاندا الميدان الصغير الذي كان بمثابة سرة غائرة قليلًا في وسط المدينة. كانت في وسطه نافورة تتكون من مجموعة من الأحجار المتكومة بلا شكل محدَّد، لكنها جافة مثل بئر معطلة. كانت تشعر بغربة عن حميمية هذه المنطقة الكائنة في الأسفل، بعيدًا عن واجهات المباني المزخرفة. هنا ملتقى الفاشلين، يتناقشون ويثملون. لكن الميدان كان خاويًا في منتصف الليل. رأت زجاجة بيرة وحيدة على السور المقابل للنفق المؤدي لضفة نهر اللان، وعلى الأرض كيس قمامة منفجرًا. كانت محتوياته تخرج من الشق الطولي به وكأنها أحشاء تدلت من جدار البطن. كانت البوابة الحديدية الموصلة إلى النهر مفتوحة. سعدت فاندا أنها لم تَعُدْ مضطرة أن تدخل إلى النفق الصغير. فبدلًا من ذلك سارعت إلى البوابة وسارت على الطريق الخشن الرصف الذي يؤدي إلى طريق ضفة النهر، ويعبر أسفل الجسر الموصل حتى فايدنهاوزن. انزلقت قدماها على القرميد الرطب حين انحنت بزاوية قائمة عند الدرابزين. اخترقت أنفَها رائحةُ بولٍ حادة، فكادت تختنق، إنه بول بشري بكل وضوح. لقد نسيت أن تكتم أنفاسها عند هذا الموضع كما تفعل عادة. وبعد الجسر أخذت نفسًا عميقًا. كانت رائحته رائحة النهر والتربة. كانت المياه تهدر إلى جوارها في دوامات جامحة فلكأنها تريد أن تبتلع هدأة الليل. سحبت أفكارَها لبرهة أضواءُ النيون الزرقاء لمطعم «هوجو» عبر الواجهة الزجاجية له إلى داخله، حيث الدفء المريح الذي يستشعره رواد المطعم الجالسون إلى جوار بعضهم البعض في هذه الساعة المتأخرة. أمامها رأت جسر اللان الجديد في الضوء الخافت لمصابيح الإنارة. حين تكون الرؤية واضحة يمكن من هنا أيضًا مشاهَدة برج القيصر فيلهلم بين الهضاب على الناحية الأخرى من النهر. أما اليوم فلا يمكن حتى مشاهَدة أضوائه بسبب قِطَع الضباب المتكاثفة. صعدت السلم بعد جسر اللان القديم، ثم انحنت يمينًا إلى شارع الضفة. كان الضوء الأصفر المنبعث من مصابيح الإنارة مزركشًا بكِنَار من الضباب، وعلى الأرض هيئة جسم نحيل سرعان ما يلحق بها كلما عبرت مخروط ضوء. سباق ظلال، مسابقة عَدْوٍ دون فائزين، ثم خطوات من الخلف، ثم دوران، لا أحد. اليد اليمنى تقبض على «رذاذ الفلفل» هدية زابينة التي أخبرتها: «ماربورج ليست آمِنة تمامًا كما يدَّعُون.» سمعت وقع خطواتها، وصوت احتكاك ملابسها ببعضها. كانت تنتج ضوضاء عالية. حاولتْ بلا جدوى أن تغطي على ضجيجها حتى تسمع بصورة أفضل ما الذي يحدث خلفها. بحثت عن مفتاح ما في رأسها يمكن أن يشحذ حواسها؛ أنا أعشق شحذ الحواس، ومستعدة أن أضحي بنفسي من أجله. أريد أن أمحو من رأسي وَقْع خطواتي، وصوت احتكاك ملابسي وصوت ضربات قلبي من أجل أن أعرف بصورة أفضل، فهذه هي وظيفتي، وأنا متميزة فيها، فأنا ألاحظ كيف تنقسم الخلايا في وسيطها المغذي، كيف تنمو وتموت. أتغلغل في منطقتها الحميمة وأحاول أن أنقي الضوضاء التي أصنعها وأنا أخترقها من أجل أن أستمع إلى همسها، ذاك الذي يئن في الخفاء. في الواقع كانت تشعر بنفسها شديدة الغلظة إذا ما قارنتها برقة العمليات الحيوية التي كانت تُجرِي أبحاثها عليها. كانت تعلم أنها تقترب من إيجاد إجابة على السؤال البائس الذي طالما أرَّقها مثل عجوز شمطاء متبرمة تلاحقها وهي تعرج، إنه السؤال عن مغزى ما تفعل. لم يَكُنْ ليثير دهشتها، بعد كل ذلك، ما قد حدث فعلًا، لكن لا داعي للمبالغة. هزت رأسها لتنفض عنها بسرعة كل الأفكار التي تريد أن تشلَّ تفكيرها.
كانت في هذه الأثناء قد تجاوزت الجسر المؤدي إلى منتزه التلامذة «شولربارك». عمل الهواء النقي على تصفية رأسها، فسكتت أصوات الهمهمة فيها، أنصتت فلم تسمع سوى هدير الماء. لم تعد المسافة المتبقية كبيرة. وصوت حفيف شجر يتردد في أذنيها. ألقت نظرة خاطفة وراء ظهرها، خطر ببالها أنها ربما تراه، لكنها لا تستطيع أن تتعرف عليه لأنها ليست لديَّها أية فكرة، ليست عندها صورة له. لو كان ذلك الذي يتبعني يعيش فقط في رأسي، فهل معنى ذلك أنه أقل حقيقة؟ إلى أين يمضي حين أطرده من تفكيري مثل أي ذبابة مزعجة؟ ربما يسارع إلى باب بيتي ويختبئ في ظلمة عتبة داري. أسرعت فاندا من خطواتها، وجرت في شارع عرضي باتجاه كنيسة إليزابيت، ثم انحنت مع الشارع يمينًا. كانت أرض ميدان الكنيسة زلقة تحت أقدامها، كأننا في العصور الوسطى، جالت الفكرة بخاطرها وغضبت لأنها لم تأخذ الطريق الأبعد قليلًا عبر شارع دويتشهاوس. قفزت على أطراف أصابعها فوق أكثر المواضع لزوجةً، حتى وجدت أخيرًا أرضًا مسفلَتة تحت أقدامها. خرجت أبخرة تنفُّس قصيرة من فمها. نظرت عابسة إلى حذائها الذي اتَّسخَ ثم دقت الأرض عدة مرات دقًّا، وكأنها مع كلِّ كتلة طينية تتحلل من نعل حذائها تتخلص من قطعة من خوفها. كان مقهى «كافيه جورنال» لا يزال مفتوحًا وبه عدد من الزبائن. هدَّأ من روعها مطالعةُ الناس. من الاتجاه المقابل لها اقترب منها مجموعة من الشباب، كانوا يتضاحكون ويقرعون الأنخاب. كُسِرت زجاجة بيرة وأحدثت صوت رجرجة.
كتمت أنفاسها وهي تمر من جوار الشبان المتصايحين على ناصية المنازل. فقط بضعة أمتار قليلة وتقف أمام باب منزلها، ارتعشت يداها، ومرت بضع ثوانٍ إلى أن دخل المفتاح في القفل. انسلَّت بسرعة إلى بئر السلم وألقت بكل ثقلها على الباب الخشبي الثقيل حتى انفتح مُحدِثًا صريرًا عاليًا. أخذت فاندا نَفَسًا عميقًا ثم ضربت بيدها مفتاح النور ولعنت حارس المنزل الذي لم يُصلِح الدائرة الكهربية. سقط ضوء خافت من مصابيح الإنارة عبر الشبابيك في بئر السلم، وبدا لها — على خلاف المعتاد — أن عليها أن تصعد الطوابق العالية لهذا المنزل القديم بلا نهاية. كل شيء يلفه السكون. كانت شقتها في الدور الثالث. جفلت حين شعرت بذبذبات هاتفها الخلوي.
جاءها صوت يوهانيس قلقًا: «أين أنت؟»
«أتسلق الآن جبل كليمنجارو في الليل، بَيْدَ أني غير متأكدة إنْ كان الجليد الأبدي لا يزال في انتظاري على القمة» … أعطتها كلماتها بعض الشجاعة.
«هل تحتاجين أي مساعدة؟»
«أنا واقفة الآن على سلالم بيتي المظلمة، وأكاد أبول على نفسي من الرعب، أنت الآن رابطي الأخير بسائر العالم. قُل لي شيئًا أحمق. تحدَّثْ معي وتعالَ فورًا إن بدأتُ في الصراخ.»
«تمالكي نفسك، وأضيئي النور أولًا.»
«لا يعمل.»
«ماذا؟»
«الضوء، ماذا إذن؟» … ردت فاندا وقد قطعت بالفعل منتصف المسافة إلى شقتها.
«هل تستطيعين رؤية أي شيء؟»
وضعت يدها على ورق الحائط المقلم، «أرى حُمُرًا وحشية تطير …»
«هل أنتِ حقًّا على ما يرام؟»
«… وفي الأعلى يبرق ضوء من أحد الأكواخ.» كان نور الباب لشقة جيرانها مُضَاءً، ولهذا قفزت الدرجات الأخيرة بارتياح. تكوَّمتْ أمام باب الجيران كالعادة فوارغُ صناديق وأكياس بلاستيكية كما هي الحال بعد الحفلات، ولأول مرة لا تغضب فاندا من هذا الأمر. بعجالة فتحت باب شقتها فطارت قصاصة ورقية نحو قدميها. قالت بعصبية: «هذا أمر يلاحظه كل الناس. لا بد أن أفكر في حيلة جديدة.» انزلقت فاندا إلى الطرقة المظلمة، وبسرعة أحكمت إغلاق الباب وأشعلت الضوء في كل الغرف.
«المنظر رائع من هذه القمة.» رنَّ صوتها عاليًا من فرط انفعالها.
«يوهانيس، هل ما زلت على الخط؟» نظرت فاندا إلى شاشة الهاتف. كان مؤشر البطارية أبيض، لقد نفد شحن البطارية، وكان الشاحن كالعادة في المعهد.