محاكاة بالكمبيوتر
أشرقت الشمس عصر يوم الجمعة، واخترقت أشعتها الواجهات الزجاجية الكبيرة لغرف المعامل، وفي خلال دقائق معدودات تزايدت الأصوات ووَقْع الخطوات في الطرقات. فجأةً شعر كل واحد أنه يريد الخروج بسرعة. ظل باب مكتب فاندا مفتوحًا واستمتعت هي بخفوت صوت الضوضاء تدريجيًّا. كانت السترات وسحَّابات المعاطف تصدر صريرًا وكأنها تعزف مقطوعة موسيقية تحمل في طياتها كل التوقعات بالسعادة المنتظرة في عطلة نهاية الأسبوع التي يتدافعون للخروج من أجل بدئها، وبعد ذلك خيم على المكان صمت تام. بدا الأسبوع وكأنه لفظ أنفاسه الأخيرة. وقفت فاندا وذهبت إلى المعمل عبر الردهة، لم يَعُدْ هناك أحد. أما الستائر المعدنية فكانت تلتمع في ضوء الشمس، وعلى منضدة المعمل تراصت الماصات في حاوياتها متلاصقةً، والصناديق التي تحوي الحقن البلاستيكية الصغيرة كانت ممتلئة، وحاويات المواد الكيميائية مخزَّنة على الرف الزجاجي الطويل الممتد فوق أسطح العمل محكمة الغلق ومرتَّبة ترتيبًا أبجديًّا. كان كل شيء مرتبًا ونظيفًا. كانت بيترا تجيد إدارة الأمور بالمعمل. هي في أوائل العشرينيات من العمر، ورغم ذلك لم يكن أيٌّ من الأطباء ليجرؤ على دخول منطقة نفوذها إن وجدوا وقتًا للعمل على أبحاثهم في عطلة نهاية الأسبوع دون الاتفاق معها أولًا، ثم يجدون كل ما يحتاجون إليه في انتظارهم: محاليل طازجة للتجارب، أو لفتة رقيقة في مكان سري لأشخاص بعينهم؛ لكن ويلٌ لمن لا يخضع لنظامها، ناهيك عن أن يُحدِث فوضى أو يخلف وراءه مقلب قمامة.
دخلت فاندا إلى المطبخ الصغير المخصَّص للمشروبات المقام في «نيش» بالطرقة على الجانب الذي يقع فيه المكتب. أوقدت غلاية الماء، وتطلَّعت إلى مخلفات الموقِعة الحربية المتروكة في الحوض: فناجين ملتصق بعضها ببعض، صحون مكومة، سكاكين عليها آثار الزبد والمربى، شوك وملاعق علقت بها حبوب القهوة ذات اللون البني الداكن. قرأت فاندا قائمة خدمات المطبخ التي بدت وكأنها راية مهلهلة منكسة مدلاة من مقبض درج أدوات المائدة. كان الدور هذا الأسبوع على أولريكه وإيفو. كانت أولريكه على قوة مؤتمر، أما إيفو فما كان ليكافح منفردًا. هي صفة تكسبه تعاطفًا تحت ظروف أخرى. وجدت فاندا فنجانها، وجه قرد ومقبض، تحت الأطباق المبعثرة في صحبة آخَر على شكل الآنسة بيجي، وكوب بابا نويل الذي أهدى فيه العاملون الرئيس عصير ليمون ساخنًا في عيد ميلاده. كان يتشاكى طوال اليوم من آلام بالحلق ووجد الهدية تمس شغاف القلب. في الواقع لم تكن فاندا تحب فنجانها؛ إذ كان يبدو جادًّا أكثر من اللازم بين كل اللطائف الأخرى التي يحويها المعمل للتسرية عنهم وقت الراحة من الروتين اليومي بالمعمل. أحضرته من رحلة إلى نيو مكسيكو. لكن القناع الأزرق المحيط بالعينين اللامعتين ذواتي البؤبؤ الأبيض كان يشبه وجه قرد الماندريل، وهو لا يستوطن أمريكا على أية حال، ما يجعلها حالة واضحة لتزوير فني في فصائل الحيوان. أما فمه المدبب المشكل ليعطي انطباعًا وكأنه يصدر صوت «أووو» فقد أضفى عليه لمحة منذرة بالشر؛ ولهذا كانت تأمل فاندا أن يمنع كل ذلك غيرها من استعمال الفنجان. تشممت ومست أنفها. كانت الغلبة لرائحة القهوة، وعرفت فاندا من فورها أن فرانك — باحث الدكتوراه الذي تُشرِف عليه أستريد — هو مَن استعمل الفنجان بلا شك كان أقل مَن تحوم حوله شكوكها في أن يفسد بالبن رائحة الزنجبيل بالأناناس المنبعثة من الشاي الأخضر الذي كانت تحب شربه. ضغطت على الزجاجة البلاستيكية اللزجة لسائل تنظيف الأطباق مستخرِجة آخِر ما تحوي من صابون، وضعته في الفنجان وحكَّته بفرشاة التنظيف التي تحولت شعيراتها إلى اللون البني الداكن، لتحك الفنجان بقوة وكأنها أشواك قنفذ، ثم ألقت بالفرشاة فوق كومة الأطباق بأطراف أصابعها. شطفت الفنجان بالماء المغلي، وصبت لنفسها الشاي، ثم تأرجحت على غيمة من الرائحة الزكية حملتها إلى المكتب.
في مكان ما سمعت تكتكة لوحة مفاتيح الكمبيوتر، وبعدها صوت أزيز طباعة الليزر. ظلت فاندا واقفة في مكانها. كان الباب إلى حجرة مكتب توماس مواربًا. طرقت الباب بحذر ودلفت من فرجة الباب.
«فوبيا نور الشمس؟»
رد توماس ضاحكًا: «ليس الحال بهذا السوء. لكن هذه اللوغاريتمات لا تترك لي فرصةً للراحة.» كان لا يزال ينظر إلى الشاشة. تأملت فاندا وجهه من الجانب: أنفه المستقيم، جبينه العالي بتجعيداته حين يفكر، ثم شعر رأسه الكثيف المائل إلى الرمادي الذي أخذ في التساقط عند صدغيه. توماس بعمره الذي وصل إلى منتصف الثلاثينيات كان واحدًا من أكبر الزملاء بالقسم سنًّا. كان شعر سوالفه ينتهي تمامًا فوق شحمة أذنه الملاصقة للرأس، كانت قد قرأت في مكان ما أن شحمات الأذن تلك لها السطوة في عمليات الانتخاب الوراثي، مثلها مثل الآذان المتباعدة عن بعضها، وإن كانت في حالة توماس تأوي إلى صدغيه في دعة مثالية. تعرفت فاندا على الخرزة الصغيرة الضامرة على صيوان أذنه، وكأنها أثر صغير يذكرنا بأصولنا الحيوانية بحسب نظرية داروين في التطور. كان داروين قد عرَّف هذه الخرزة كأثر باقٍ من تحور الأذن في الحيوانات الثديية من الشكل المدبب إلى الشكل الدائري. شعرت برغبة عارمة تجتاحها أن تضع شفتيها على هذا المكان الرقيق وتبدأ في قضمه بحذر. ماذا يا تُرَى يكون مذاقه؟ أحكمت قبضة يدها اليمنى على أكرة الباب، بينما تابعت نظراتها حركات أصابعه على ذقنه غير المحلوقة، وهي بالنسبة لفاندا علامةٌ ترجِّح أنه غير مرتبط، ثم أدار رأسه ونظر نحوها بجانبه. كانت حواجبه الكثيفة مرفوعةً دهشةً. ظهرت تجعيدة مائلة مثل ظل على جفن العين المتجهة صوبها. ضيَّق نظرته وحدَّدها تجاه بؤبؤ عينيها وكأنه يبحث عن لحظة يضعف فيها دفاعها، لكنها تعجبت أن سمحت له بذلك، لوهلة قصيرة جدًّا، لكنها كانت كافية لإشعارها بالرهبة.
«ربما أنتِ أيضًا ليس لك أصدقاء.» قال توماس دون أن يُخفِي لمحة ساخرة في كلامه فظهرت على وجه فاندا أمارة عابسة.
«محاضرة للرئيس يحتاجها يوم الاثنين.»
«لا يبدو أمرًا مثيرًا.»
«بحسب ما تنظر للأمر. فالموضوع ليس مملًّا تمامًا.»
عاد توماس لانشغاله بالكمبيوتر الخاص به. وشعرت كيف أن قلبها أخذ يخفق بنفاد صبر، تمامًا مثل نقرات أصابعه على لوحة المفاتيح. رأت فوق مكتبه إعلانًا عن معرض لأعمال كاندينسكي، معلَّقًا في برواز أنيق. كانت ألوان الطباعة تشع وكأنها أشعة شمس تخترق نافذة من الزجاج الملون. مساحات خاوية من الجدار لتعليق تفضيلاتك الشخصية، كانت ضربًا من الرفاهية التي لا يتمتع بها بعدَ الرئيس والسيدة بونتي سوى توماس فحسب، وقد كان له وضع خاص بالقسم نظرًا لتخصصه في مجال المعلومات. لكن الأمر بدا وكأنه سعى لاكتساب امتياز غرفة مفردة بسبب ماكينة التصوير؛ إذ كان طول غرفته أطول من عرضها، لكنها من الصغر بحيث يَضْحَى رصُّ نُسَخ المخطوطات وأعداد المجلات كأي عالم ضربًا من لعب الأطفال، ليثبت به أن لا يوجد ثمة متسع لزميل يشاركه الغرفة. أما الطاولتان الإضافيتان فكانتا تُستعمَلان في حالات نقص أماكن التخزين، فكان من اليسير رَصُّ الأوراق عليهما طبقة من فوق طبقة لتبني أبراجًا مثل تلك التي في جزيرة مانهاتن، لولا الحجَرَان الثقيلان اللذان يحفظان أبراج الورق من الانزلاق، ويفسدان التشبه بالأبراج الأصلية. أما الأرفف فقد اكتنزت عن آخرها بالكتب حتى على عتبة النافذة، لكنها لم تكن منتظمة كغيرها بسبب سلسلة المفاجآت وهدايا الحب التي تبعث إليه بها بعض الطالبات. رائحة عطر ما بعد الحلاقة وجلد مدبوغ لفتت أنف فاندا ناحية اليسار، تتبعت الرائحة، ووجدت على مبعدة ذراع منها معطفًا جلديًّا معلَّقًا على مشجب كقطعة من بشرة ذات لون بني غامق به ندبات وسحجات. كان يرتديه دائمًا، حتى في تلك المرات التي تراه فيها في خيالها تتصوره أملس ويضمها لأنها لم تمسَّه بعدُ. رشفت فاندا من كوب الشاي الخاص بها الذي غطت رائحته الزكية على افتتانها ومنعتها من أن تفلت يدها مقبض الباب بلا تفكير لتمد ذراعها نحو معطف توماس وتتلمسه. سقطت نظراتها على ورقة الشهر في التقويم ذي القطع الكبير. كانت الصورة تذكِّر بنظام أرفف من شركة أيكيا. كانت الخانات مربعة واقفة على إحدى الزوايا بميل. أضفت الزوايا الملونة باللون البرتقالي في مقابل المساحات المطلية بالأخضر طابعًا متألقًا على التصميم فقط من خلال اللون وحده.
«ما هذا؟» سألت فاندا وتركت أكرة الباب لتشير بيدها إلى الصورة. استدار توماس.
«أخ، هذا … إنه تكبير لعنصر السيليكون، أما الألوان فكلها غير صحيحة، كل واحد من هذه المسام له قطر يصل إلى نحو عشرة ميكرومترات، ويتم استخدامها في صنع الميكروراي، أي المعامل المحمولة على الشرائح. أنت أيضًا تعملين عليها.» عاد توماس واستدار ثانيةً نحو برنامجه. ذكَّرتها ملحوظته بأنه من الضروري أن تنهي أوراق الطلب الخاص بتمويل الأبحاث؛ فمشروعها الجديد كان ينتوي بحث تحليل الجينات، وأرادت أن تنفِّذه باستخدام معامل الدي إن إيه المحمولة. كان الكثيرون لا يزالون يرون أن هذه المعامل هي أهم إنجازات التحاليل الجينية، وكانوا يثمِّنونها غاليًا وفقًا لذلك التقييم. كانت هذه الطريقة تقدِّم أكبر تركيز على أصغر مساحة؛ حيث إن هذه الشرائح كانت تُوضَع بلا عناءٍ على طبق بحجم اليد. كانت فاندا دائمًا ما تفكر في بركة مليئة بسنارات الصيد حين تعمل بها. ربما كانت الصورة تبدو أوفق لو شبَّهتها بشبكة الصيد، وذلك نظرًا للكثافة العالية، أكثر من أربعين ألف فرع مفرد من الدي إن إيه، ذات روابط نيوكليتيدية معروفة تنتظر فريستها هناك في ترقُّب. إنها بمثابة الطُّعْم الذي سيتم بواسطته اصطياد أخواتها المتطابقة تمامًا، قطع الدي إن إيه المكملة، من الخلية المتجانسة. إنه أمر يشبه مسابقة صيد الأسماك لكن في عالم النانو. ولكل سمكة يتم اصطيادها بواسطة مستخرجات الاختبار المكونة من الخلايا والأنسجة يوجد الطُّعْم المناسب. إن نقطة مضيئة على لوحة الاختبار لتعني أن هذا المكان تم قضمه، وبهذه الطريقة يمكن قراءة أي معلومة هي الأهم لدى الخلايا في ذلك التوقيت، وأي موضوع لم يتم الإخبار عنه إلا لمامًا. استندت فاندا إلى إطار الباب ورشفت رشفة من فنجان الشاي باستمتاع.
«هل تسمح بأن أسألك سؤالًا؟» رأت إيماءة بالإيجاب.
«هل هناك أجهزة كمبيوتر أذكى من البشر؟»
دفع توماس كرسيه دفعة بعيدة عن المكتب وتوجَّه ناحيتها. غضت طرفها بارتباك.
«أنت تسألين إن كان الذكاء الذي نصنعه يتفوق على ذكائنا» … ضم ذراعيه على صدره «سؤال مثير للاهتمام.»
نظرت له فاندا الآن في عينيه مباشرة.
«هل هذه الأجهزة موجودة الآن؟»
«سيتطلب الأمر مزيدًا من الوقت لتحقيق ذاك الهدف. تخيَّلِي التطور كعملية ذكية. إنها هي التي أنتجت الإنسان. نحن أيضًا سيكون بمقدورنا أن نبني أجهزة تتفوق على ذكائنا.»
«حقًّا!» رضيت فاندا عن الإجابة، فقد استطاعت أن تضرب الوتر المناسب لدى توماس، وكانت تستمتع باهتمامه.
أكمل حديثه: «سنعايش هذا الأمر على أنه إثراء عظيم لنا. التطور التقني هو المستقبل.» ألَمْ تبرق بعينيه لمحات شغف؟ أومأت فاندا برأسها موافقة بتحفظ. لم تكن تحب أن تعترف بأن الثقة التي يسرد بها توماس فرضياته تبعث في نفسها الوجل؛ إذ كانت تشعر وهي إلى جواره أنها لا تزال طالبةً في الفصل الدراسي الأول.
«إن التطور البيولوجي على سبيل المثال ما هو إلا مبرمج رفيع المستوى؛ إذ قام بتطوير الدي إن إيه الذي يحوي كل تنوع الحياة على الأرض برمته. هنا منطقة التقاطع بين النانوبيولوجي وتكنولوجيا النانو. إن خلايا أجسادنا إن شئت الدقة ما هي إلا ماكينات نانو.»
«كنت أظن دائمًا أن التطور لا هدف له.» قالها فجأةً صوت غريب من ورائها، «كيف يمكن له أن يفكر أو يتصرف؟» استدارتْ فاندا لتنظر في وجه شاب كبير. أكمل حديثه قائلًا: «كما أني أجد خطرًا كبيرًا في استخدام المصطلحات التقنية لوصف الأمور الطبيعية. لا يستوي الأمران.» ابتسم. وجدت عينين ذكيتين تنظران عبر زجاج النظارة. رأت الأنف الخالي من العيوب، الذي يبدو وكأنه أجمل من أن يكون أنف رجل، كما رأت حسنة صغيرة أعلى شفتيه المكتنزتين. كان يبدو شاحبًا، ورغم ذلك شعرت أنها تعرفه. علقت ورقة شجر صفراء بين تجعيدات شعره البني الغامق. نظرت فاندا ثانيةً إلى توماس. كان متعلِّقًا بكرسيه، مدليًا ذراعه على مسند الظهر، محركًا إياها يمنة ويسرة، مكورًا قبضة يده.
«لا أريد سوى توضيح السياقات المعقدة.» قال بنبرة موضوعية مؤكِّدة، «علينا أن نتعلم أن التكنولوجيا والطبيعة تستطيعان التعايش معًا في عملية سلمية؛ فالتكنولوجيا هي تتمة التطور لكن بوسائل أخرى.»
«ما نوع الوسائل؟» أطلق سؤال الغريب أزيزًا حادًّا وهو يمر إلى جوار رأس فاندا. كان لا يزال واقفًا وراءها. مَن هو؟ كانت تفكر محمومة أين يمكن أن تكون قد رأته من قبلُ.
أوضح توماس برباطة جأش قائلًا: «المخ البشري مثلًا، يُعتبَر أداة شديدة البطء في معالجة البيانات. لا يزال التطور يبني مستخدمًا الدي إن إيه. لكن مادة البناء هذه سيتعيَّن التخلي عنها؛ لأنها لن تستطيع مواكبة التطور التكنولوجي.»
أصرَّ الغريب على سؤاله، وقد اكتسبت نبرته بعض الحدة: «عليَّ أن أعيد السؤال: أي وسائل سيتم استخدامها؟»
تلفتت فاندا حولها ثم خطت خطوة إلى الجنب حتى تُخرِج نفسها من مرمى النيران وقالت: «كنت أسأل عن ذكاء أجهزة الكمبيوتر.»
«وكيف تعرِّفين الذكاء؟» لقد أضحى الرجل ثقيلَ الظل. ماذا يريد هنا أساسًا؟
«إن محاولة الوصول إلى المثالية ما هي إلا عملية اختزال متواضعة، أليس هذا تناقضًا؟» حملت نبرة الغريب لمحة مرارة. «إنه أمر يدعو إلى الأسى. وفي كل ذلك فإن الذكاء ينبني على أسباب أخرى عديدة أكثر من مجرد عمليات حسابية، أذكر منها: المرونة، والتعلم، والتقرير الذاتي. ربما يستطيع «ديب بلو» أن يلعب الشطرنج أفضل مني بكثير، لكني أراهن أنه لم يَقُمْ في حياته بطلب بيتزا.»
«وما عسى «ديب بلو» أن يفعل بالبيتزا؟» رد توماس بحدة: «بفضل تكنولوجيا النانو ستظهر في القريب شرائح أكثر فعالية ثلاثية الأبعاد، ومواد تعمل كأشباه موصلات، وعناصر محولة عالية السرعات. سيتم إنتاج أجهزة كمبيوتر نوعية: كوانتينكومبيوتر لتحل محل المعالَجة الرقمية للبيانات. تتعامل الأجهزة الجديدة مع الكيو-بِت. يمثل الكيو-بِت إجابتين محتملتين. وارتباط وحدتين من الكيو-بت يشكل أربع إجابات محتملة. إن مجرد ربط ٦٠ وحدة كيو-بت ببعضها يمكن أن يسمح للكمبيوتر بتنفيذ مليون بليون عملية في نفس الوقت. إن أجهزة الكمبيوتر هذه ستقوم بكتابة برامجها بنفسها.»
فرد توماس ظهره للوراء ووضع ذراعيه خلف رأسه. بعض من شعيرات صدره الرمادية أطلت من فوق الزر العلوي لقميصه المشدود عند الخصر. كانت عيناه تلتمعان رغبةً في مزيد من الهجوم، في حين ارتسمت على زوايا فمه إيماءات ساخرة، وهو ما راق لفاندا، وكان عليها الآن أن تبقيه في هذه الحالة المزاجية.
فسألته بحذر: «وما رأيك يا توماس: هل ستقوم الأجهزة بالعمل من أجلنا أم ضدنا؟»
«أنا مقتنع أن التطور سيكون للأفضل، فالشعور بالفهم مثلًا يمكن أن نعزوه إلى عمليات تجري في مناطق معينة من الدماغ. ستوجد ماكينات تمكننا من توسعة نطاق وعينا. تدخلين ببساطة على الإنترنت وتحملين إحداها لنفسك.»
قالت فاندا بابتسامة متكلفة: «يتعين علينا أن نوصي الرئيس بإحداها.»
سمعت من ورائها صوتًا مستثارًا يقول: «أنا أطالب بمواد تُبطِل مفعول هذا الأمر.» تدريجيًّا توترت الأجواء. نظر توماس بحدةٍ وقال: «يومًا ما ستنكسر أيضًا كل هذه المعارضة، فالمكسب ببساطة أكبر بكثير بهذه التقنية من أن يُرى الآن. إن استخدام أجهزة الكمبيوتر متناهية الصغر في النظارات، وفي العدسات اللاصقة، وفي زرع الخلايا العصبية سيسهم في توسعة نطاقات خبرتنا بالعالم، بل إننا سنشعر أننا أكثر حرية.»
«معامل متخيَّلة، وأبحاث متخيَّلة، وبيانات متخيَّلة، وزملاء، وعلاقات، ووظائف، وهموم، وأزمات، وآلام الصداع …؟» أخفت فاندا شكوكها بابتسامة غامضة.
«نعم تستطيعين أن تختاري لنفسك ما تشائين، لكنه في هذه الأثناء أضحى من المهم الحديث عن رؤاه. ما هي الرؤيا غير أن تكون سيناريوهات غير واقعية، وصورًا متخيَّلة نعرضها على شاشة وعينا؟ نحن الآن على أعتاب التكيف مع هذا الزمن الجديد؛ لأنه في مثل هذه الصور تضخ استثمارات كبيرة.»
«صور خادعة»، رن الصوت في ظهر فاندا «والإنترنت هي قاعة المزاد عليها.»
مد توماس ذقنه نحو الأمام وعبر ببصره من فوق فاندا متوجهًا نحو الغريب.
«من أين لك أن تعرف أن هذه اللحظة ليست سوى مجرد محاكاة؟ ألا يمكن أن تختفي هنا بأسرع مما ظهرت؟»
«إذن أرجو أن تطفئني!»
ضمت فاندا رقبتها نحو جسدها والتفتت نحو الصوت. لدهشتها وجدت ابتسامة متواضعة.
«أخشى أني أكاد أكون حقيقيًّا، رغم الأعطال الكثيرة في الآونة الأخيرة.»
تنهدت فاندا بارتياح.
رد توماس بغضب: «أنا أتحدث عن العلاقات السببية، قانون الوقت والفوضى. الفترات الزمنية بين الأحداث المهمة يتناقص أمدها. إن هذه التطورات لن تردعها حدود بعد اليوم.»
«مثل هذا الأمر ذُكِر في قسم التنبؤ بالطالع في ملحق مجلة التليفزيون.» هذا الشخص لا يستسلم ببساطة.
ألقى توماس نظرة طويلة على شاشة الكمبيوتر.
فقال ببرود: «الآن أعتقد أن هذه المسألة يمكن النظر إليها من هذا الجانب أو ذاك. هل تمت الإجابة عن سؤالك يا فاندا؟»
كان توماس أستاذًا في التخلص من الناس. «عليكم اللعنة» لو قالها لكان أصدق، وكان في مقدوره أن ينسحب إلى ذاته بسرعة فلا يبقى منه شيء، وكأن أحدهم قد حوَّل مؤشر المذياع من موجة الإرسال ليتركها في ثقب الاستقبال، فلا يصدر عنه شيء ولا حتى الصرير. لكن التوتر ظل بداخلها، إذ كانت ترغبه بأقوى من أي وقت مضى. دائمًا حين يقِلُّ هذا الشعور بداخلها كانت تمر بغرفته وتدخل لتمضي وقتًا قصيرًا؛ فنظرة منه كفيلة أن تعيد شحن بطاريتها في وقت لا يذكر. هل وقعت في حبه؟ وما موقفه هو؟ لم يَقُمْ بطلب رقمها قطُّ، ولم يَدْعُها إلى الدخول قطُّ، كان فقط يتأملها، وكانت تظن أنه يعرف كل ما يعتمل بداخلها. لم يكن عليه سوى أن يشير بأنامله، لكنه لم يفعلها. هل عليها أن تخاطبه في ذلك؟ وماذا لو لم يكن يهتم للنساء الحقيقيات؟ توماس وعذراء السايبر؟ أمر لا يصدقه عقل. أو ربما حقًّا نسخة صادقة لفصيلة الذكور التي تضطر فاندا إلى ركلها بمجرد أن تلتصق بالبيت. ليس ذاك أفضل أيضًا. شربت فاندا آخر رشفة شاي من فنجانها. هل كان على هذا الشخص أن يقاطعهما اليوم خاصة؟ استدارت فوجدته قد عاد إلى الطرقة يراقب لوحات الإعلانات المعلَّقة على الجدار. وقفت فاندا إلى جواره.
«ومَن أنت؟»
«أنا اسمي أندرياس، وأريد أن أذهب إلى فاندا فالس.»
«هي أنا، مَن سمح لك بالدخول إلى هنا؟»
«واحد من الذين خرجوا.»
«يا للفوضى!»
«لا أريد سوى لحظات معدودة، أسألك عدة أسئلة.»
«هذا ما يقوله كل الناس.»
كانا بالفعل في الطريق إلى مكتبها.
«من أجل أطروحتي للدكتوراه.»
«ومن الذي دلَّك عليَّ أنا خاصة؟»
ابتسم أندرياس وقال: «خدمة سرية. بل لا، لا أذى في الأمر؛ فقد دخلت فقط على الصفحة الرئيسية لموقعكم الإلكتروني وبحثت فيه، ويبدو لي أنك أفضل مَن في التخصص.»
واحد آخر يريد أن يطويني تحت جناحه، كم كانت ملاحظته مثيرة للانتباه. «وفيمَ تعمل؟»
«حدود وإمكانات تقنية النانو البدنية لتحسين الإنسان.»
«أفففف، ومَن يرعى هذا الموضوع؟»
«إنه مجرد عنوان للعمل. أنا تخصصي هو الفلسفة. أريد أن أبحث في الرؤى البشرية العابرة، وفي رسم الحدود لجوهرنا الإنساني، وفي زوال الحدود بين الحقيقة والخيال في التفكير العلمي.»
«لست أفهم شيئًا في هذه الأمور.» دلفا إلى مكتبها، وأطلق كرسي الضيوف أزيزًا منذِرًا بمجرد أن جلس عليه أندرياس.
«إذن فقد حان الوقت كي تفكري في هذه المسائل، فأنت منغمسة فيها بالفعل، وقد قدَّمَ لك زميلك مختصرًا للأمر منذ قليل. إن أردت أوضحتُ لك كل شيء.» شخص متقد الذكاء إذن، تمامًا كما حزرت.
«وأنا التي خشيتُ أن أضطر إلى تعليمك شيئًا.»
أجاب مبتسمًا: «هذا صحيح، ربما أستطيع في المقابل أن أُظهِر بعضًا من علمي المتواضع.» كان قد دسَّ ساقًا من ساقيه الطويلتين تحت الكرسي، أما الساق الأخرى فتركها ملتوية على الجانب بشكل غريب. لم يكلف نفسه مشقة أن يعدل الكرسي إلى وضع مريح له. كان يجلس هناك وكأنه واحد من عناكب البحر العملاقة، تلك الحيوانات السلطعونية طويلة السيقان التي كانت قد اندهشت من شكلها حين رأتها عندما كانت طالبة في صناديق العرض بمتحف زينكينبيرج. كتمت فاندا ضحكتها. ولمَ لا؟ فكرت وقد أمتعتها الفكرة. رئيس عمل يستغلني، زميل ليس له إلا نوايا متخيَّلة، كمبيوتر يسدي لي النصح، والآن فيلسوف. أهدته ابتسامة مشجعة. مرحبًا بك في فريق الأحلام.