الفصل الثاني والعشرون
الدردشة
وصل رد الرسالة من جوهانسبرج فعلًا قبيل مغرب نفس اليوم، وكانت تبدو ماري كامبل سعيدةً
جدًّا بالطلب، كما أنها اقترحت على فاندا أن تلتقيا على الإنترنت في نفس المساء. جلست
فاندا على
أرضية غرفة معيشتها واضعةً ساقًا على الأخرى، محملقةً في شاشة الكمبيوتر المحمول الخاص
بها.
دثَّرتْ نفسها بالبطانية الصوفية ولفَّتْها على كتفيها، وضغطت يديها على فنجان شاي الأعشاب
الذي
أعدته لنفسها. كانت شقتها باردة نسبيًّا، ومع ذلك فقد حاولت أن تهيِّئ لنفسها جوًّا مريحًا،
فارتدت بنطالَ العَدْو ذا الفتحات، والبلوفر التريكو الواسع، وكانت تشعر بالسعادة لأنها
ستتحدث
مع زميلتها العالمة المتخصصة، وفي تمام التاسعة سجَّلت نفسها في غرفة الدردشة المحمية
التي
اقترحتها ماري مكانًا للقائهما؛ ففيها — بحسب رأي ماري — ستتمكنان من الانفراد بنفسيهما.
لكن
مَن يضمن ذلك حقًّا؟ لذا قرَّرت فاندا أن تستعمل اسمًا مستعارًا، ووجدت ماري في انتظارها
فعلًا.
روبين
:
«هاي.»
ماري
:
«أووه، ما أجمل هذا! عصفور يزقزق …»
روبين
:
«أفضِّلُ أن أبقى غير معروفة، إن لم يكن يضايقك ذلك.»
ماري
:
«هل بيننا أغنية مشتركة؟»
روبين
:
«في أقصى الجنوب يزداد المكان ضيقًا.»
ماري
:
«سيتقلب ريتشارد فاينمان في قبره.»
روبين
(صوت طقطقة)
:
«سأهديه ورقتي البحثية بمجرد أن تنشر.»
ماري
:
«حسنًا، هذا يكفيني. مرحبًا بكِ. وبغض النظر عن غضبك بشأن مسوَّدة البحث … كيف أحوالك؟
:-)»
روبين
:
«حالي حال مَن تغيب عنه الشمس وتنفد شموعه. ؛-)»
ماري
:
«عندنا تذوب الآن …»
ماري
:
«… الشموع :-( روبين، ماذا أستطيع أن أقدم لك؟»
شعرت فاندا بالارتياح؛ إذ بدا أن ماري مدرَّبة على هذا النوع من
الدردشة، كانت تعبِّر عن نفسها بإيجاز، وتستطيع التعامل بالاختصارات المألوفة، فتشجعت
فاندا
على الدخول في الموضوع.
روبين
:
«يطالب الأستاذ المحكم أن يقوم شخصٌ الإنجليزيةُ لغته الأم بالتصويب اللغوي للبحث.
أسلوبه يذكِّرني بالأستاذ … بروبوف >:-<»
ماري
:
«أناتول؟»
روبين
:
«أخشى هذا …»
ماري
:
«إنه يكرهني. :-(»
روبين
:
«(@@)»
ماري
:
«لا، للأسف أنا لا أمزح، إنه يهاجمني في أي مؤتمر، ويرفض كل مسوَّدات أبحاثي حين تواتيه
الفرصة لذلك. الآن أعرف معنى أن يكون للإنسان عدو لدود. وطبيعي جدًّا أن أي أحد يستطيع
أن
يجد شعرة ما في طبق الحساء إن أراد. كل شيء مبني على انفعالات محضة …»
ماري
:
«… لا بد أن شيئًا ما قد حدث بعد نيو مكسيكو، لقد كانت علاقتنا طيبة هناك؛ لذا أنا لا
أعرف كيف أفسِّر المسألة. كنت أنتِ أيضًا لا تزالين عنده في روتشيستر، أَلَمْ تلحظي شيئًا
وقتها؟ هل وقع مثلًا شيء على رأسه؟
6\ /)»
روبين
:
«6\ /)؟»
ماري
:
«نعم، فيل … أو قام ثعبان ====3:>
بعضِّه؟»
روبين
:
«لم أشاهد هناك لا 6\ /)، ولا
====3:>.»
روبين
:
«فقط 8-)،
و===XOo_|+.»
ماري
:
«؟؟؟»
روبين
:
«مرتدو نظارات شمسية ومتزلجو جليد.»
ماري
:
«متزلجو جليد؟»
روبين
:
«إنه يسافر، ويسافر، ويسافر، ثم يصطدم، ويتدحرج نازلًا المنحدر ليستلقي ميتًا أمام أحد
الجدران.»
ماري
:
…
ماري
:
«… على أية حال لم يَعُدْ في مقدورنا أن نعتمد على أناتول … وإلا كنا ضحية جديدة من
ضحايا عُصابه … الآن خطر آخَر ببالي … هل تذكرين ريكاردو بانسيروتي؟»
روبين
:
«*<8-)؟»
ماري
:
«نعم، بالضبط، المهرج. لقد اختفت أعراض مرضه تمامًا. تخيَّلي ذلك! لا رسائل فاكس بعد
اليوم، ويشعر الآن وكأنه أصيب بالشلل. في الواقع لم يكن يعنيه سوى القائمة.»
روبين
:
«لا علم لي بذلك؛ إذ يبدو أني محبوسة هنا في حفرة بعيدة عن استقبال المعلومات.
:-|»
ماري
:
«لحظة من فضلك.»
انتظرت فاندا. المسألة أخذت تتعقد، ففي ظل ما حكته ماري عن علاقتها
ببروبوف، لم يكن ثمة جدوى أن تجعلها مؤلِّفة شريكة؛ فهذا من شأنه أن يهدِّد فرصها في
نشر
البحث بالكامل.
ماري
:
«عدت. كان عليَّ أن أنظف أنفي سريعًا. أعرف أن الأمر يبدو ضربًا من الجنون، لكن رائحة
البنفسج الدائمة هذه تصيبني أحيانًا بالدوار … أخ، من أين لك أن تعرفي هذا الأمر … حاسة
الشم لديَّ بها اضطرابات منذ مدة ليست وجيزة … في البداية فقدت القدرة على الشم تمامًا،
ثم
عادت لكن كل شيء كان له نفس الرائحة … الآن كل شيء يعبق برائحة اللافندر … القهوة، الشاي
…
أمر ممكن تحمله … لكن أكلاتي المفضَّلة من الأسماك أو النبيذ الجيد، صعب جدًّا … في كل
الأحوال أفضل من أن أشم فضلات القطط باستمرار، إذ أتمنى أن تكون تلك المرحلة قد مرت بلا
عودة.»
دار رأس فاندا، هل هذه حقًّا ماري كامبل التي التقتها قبل عامين ونصف في
سانتا فيه؟ نقرت فاندا العلامة المعبِّرة عن حيرتها.
روبين
:
%-(
ماري
:
«نعم، كنت أنا أيضًا في حالة اضطراب شامل، لكني تعودت … أين توقفنا؟»
روبين
:
«بانسيروتي.»
ماري
:
«آه، نعم، القائمة … كان سنايدر هو مَن جمعها … بيتر سنايدر … هل تذكرينه؟ كم كان
شابًّا ذكيًّا. غيَّر مساره الوظيفي ببساطة، وأصبح الآن ناشطًا في مجال حماية البيئة،
وعنده
أخبار عن الناس، هل وصلك منه شيء؟»
روبين
:
«لا. :-O»
ماري
:
«قائمة بأسماء الحضور وورقة استبيان؟»
روبين
:
«أي حضور؟»
ماري
:
«غريب …»
ماري
:
«… لا بأس، الأمر متعلق برحلة الحافلة، تلك الرحلة إلى «لوس ألاموس» … لقد كتب لكل
المشاركين فيها يسأل إن كان أحدهم شاهَد أمرًا بالخارج … أسئلة غريبة … لكني لم أرَ شيئًا
…
فقد كنتُ أثرثر طوال الوقت مع أناتول. :-(»
بدت ماري مشوشة الذهن. قالت فاندا ربما تبدو لي كذلك لأني لا يصلني منها
سوى هذه الجمل القصيرة، ربما كان الأفضل هو الاتصال الهاتفي، ففي الدردشة كثيرًا ما تعاودها
لحظات الاضطراب التي تختفي سريعًا تحت تدفُّق تيار المحادثة، وستعلق في ذاكرتها على أنها
ثغرات في المعلومات تسمح للخيال أن يلعب دوره في ملء فراغها، وهو أمر ليس جيدًا بالضرورة؛
لهذا قررت أن تسأل.
روبين
:
«هل أنت بخير؟»
ماري
:
«نعم عندك حق؛ يبدو الأمر ضربًا من الجنون على نحوٍ ما. ماذا يمكن أن تظني بي؟ لكن
بخلاف ذلك أنا بخير، حقًّا بخير. الأفضل أن تتوجهي مباشرةً إلى سنايدر، سيمكنه أن يوضِّح
لك
كل شيء، لقد حدث الكثير منذ أن التقينا آخَر مرة … أين تقع ماربورج أصلًا؟»
روبين
:
«في الخارج تمامًا … بعد الجبال السبع، عند الأقزام السبع …»
ماري
:
«… تبدو وكأنها مدينة مسحورة … هل عندك أحداث مهمة؟»
روبين
:
«أحلام كثيرة.»
ماري
:
«… و؟ هل تتحقق؟»
عادت لفاندا ذكرى الحلم الذي رأته في ليلتها الأخيرة في سانتا فيه. شخص
ما أراد أن ينبئها بأخبار مهمة، لكنه بمجرد أن فتح فمه لم يخرج منه سوى كلمات متفرقة،
لم تكن
تتوصل لأي معنى. استيقظت من نومها في منتصف الليل. دفعها الاضطراب للخروج من سريرها بالفندق.
حاولت أن تتذكر الكلمات، لكنها كانت قد تبخرت.
روبين
:
«لا أعرف إن كنت أريد ذلك حقًّا. يطاردني الأمر أحيانًا.»
ماري
:
«بدلي الأدوار، قومي أنت بمطاردة أحلامك.»
لم تجد فاندا في نفسها أية رغبة لمواصلة الحديث عن هذا الموضوع.
روبين
:
«سؤال … هل اسم جونتر هيلبيرج موجود أيضًا في تلك … القائمة؟»
ماري
:
«نعم، الجميع، كل مَن كان هناك.»
روبين
:
«لكنه تُوُفِّيَ!»
ظل السطر الأخير على الشاشة وكأنه أمر بالتزام الصمت. استغرقت ماري
وقتًا إلى أن أجابت.
ماري
:
«هذا مريع!»
كانت فاندا تعدُّ نقرات المؤشر على نافذة الكتابة. انتظرت.
ماري
:
«ماذا حدث؟»
روبين
:
«لا أعلم!»
ماري
:
«روبين علينا أن نتحدث هاتفيًّا … عليَّ أن أفكر أولًا … عندي إحساس غريب … إن هذه
الأحداث … ربما هي مرتبطة بعضها ببعض … هل تذكرين العجوز الهندية التي رأيناها في الليلة
الأخيرة بالفندق في سانتا فيه؟ … كانت تغنِّي مثل عرافة … لم يغمض لي جفن وقتها.»
روبين
:
«كيمياء دمي لا تميل للاعتقاد بقوى السحر.»
ماري
:
«هل تعتبرينني مجنونة؟»
روبين
:
«لا، لكن الأمر بالنسبة لي فيه خلط كبير، علاوةً على …»
ماري
:
«لا تشغلي بالك … لا أريد أنا أيضًا أن أمضي الوقت في الشكوى … في الواقع كنا نريد أن
نتحدث بخصوص مسوَّدة بحثك …»
روبين
:
«لا أعرف إن كان مجديًا، بعد أن حكيت عن علاقتك ببروبوف …»
ماري
:
«… أرسليه إليَّ رغم ذلك، سأرى ماذا يمكنني أن أقدِّم لك. بالتأكيد سنجد طريقًا، ربما
تستطيعين خلال هذه المدة أن تكتشفي السبب في موت الأستاذ هيلبيرج. اتفقنا؟»
روبين
:
«شكرًا … :-)»
روبين
:
«… لنتحدث عبر الهاتف، لكن متى؟»
ماري
:
«سأرد عليك قريبًا.»
روبين
:
«تصبحين على خير.»
ماري
:
«إلى اللقاء.»
انقطع الاتصال، وظلت فاندا بمفردها.
سمعت نفسها تقول «عرافة!» ثم تهز رأسها. لم تتمكن من تذكر شيء، فغادرت بعدها هذه الغرفة
الافتراضية، وأغلقت البرنامج وأطفأت الكمبيوتر.