القائمة
نظر الشرطي بارتياب إلى بطاقة الاسم المشبوكة على سترة فاندا.
وقال بحسم: «لا يمكنني السماح لك بالمرور»، ثم أزاحها جانبًا، وأشار إلى مجموعة من التلاميذ بالمرور من جانب الباب الوحيد المفتوح. كانت مجموعة لا بأس بها من الحراس الموكلين بحفظ النظام قد اجتمعت حول هذه الفتحة الصغيرة التي يقف أمامها أسراب من البشر.
صاحت فاندا في الشرطي من فوق الرءوس المنتظرة أمام مدخل الصالة: «ما الخطأ إذن؟»
«بطاقات الاسم المكتوبة بخط اليد من اختصاص زميل آخر، سيأتي الآن.» كان الناس يتدافعون ويخبطون بعضهم البعض من أجل استراق نظرة على الصالة من ثغرة المدخل. هل بقيتْ أماكن شاغرة أصلًا؟ حتى في الداخل كان الناس واقفين حتى كادوا يقتربون من الباب، وهذا كله بسبب أن رئيس الوزراء سيكون حاضرًا اليوم. كانت قد استمتعت اليوم ببعض الهواء النقي وقت استراحة الظهيرة، وعندما عادت بعدها إلى مبنى المؤتمرات عبر الممر الذي أمنته الدولة، وجدتْ عربتَيْ تشريفة حكوميتين ذواتَيْ زجاج داكن اللون تصطفان أمام المدخل الرئيسي. أما المدخل فحاصره متظاهرون يرفعون أصواتهم بنداءات معارضة. كان رجال الشرطة مشغولين بالإبقاء على المتظاهرين في الخارج، بينما يتدافع الزوار إلى داخل المبنى.
لهذا ساء مزاج فاندا كثيرًا، وندمت لأنها سمحت لأندرياس بإقناعها بالخروج. كانا قد ركبا القطار معًا إلى مدينة جيسن. «النانو – هنا المستقبل» عنوان المعرض المقام هناك. تركت العمل بالمعمل على حاله؛ إذ كان عليها أن تخرج في وقتٍ ما، أما ذاك الخلل في وحدة حيوانات التجارب فهي الشعرة التي قصمت ظهر البعير. كان الضغط عليها شديدًا وكانت مستنفَدة، والآن فإنها تقف في هذه المناسبة الدعائية التابعة لولاية هيسن، ولا تعلم تحديدًا أي شيء فقدت، فهي حقيقةً لم تتسرب إليها النشوة التي يعرض بها الصناع منتجاتهم، والأطباء يتصرفون وكأنهم يمسكون بأيديهم العلاج الناجع لكل الأمراض، أما الساسة فكانوا يتحدثون عن فتح الأسواق وفرص العمل الجديدة، وكان حديثهم على أحسن ما يكون. هي المذنبة إن كانت هذه الجهود تبدو لها كعرض سيئ. إنها تتدافع الآن مع الزوار الآخرين من أجل الدخول إلى الصالة الكبرى التي ستُعقَد فيها الحلقة النقاشية التي تُعتبَر تتويجًا لليوم باشتراك رئيس الوزراء. تشتتت أفكارها وسط الزحام فلم تستطع التعرف على نفسها.
أعطاها الشرطي الواقف على مدخل القاعة إشارةً، فتوجهت إلى الرجل القصير ذي النظارة الكبيرة الذي كان يدفع نفسه بين جموع المنتظرين. أومأ إيماءةً قصيرة فسمح لفاندا بالدخول على الفور. هل هذا كل المطلوب؟ لا بد أنها أخطأت فهم أمر ما، من الواضح أن المسألة تدور حول التخصُّص لا الأمن.
اكتشفت فاندا وجود أندرياس بين المشاهدين، كان يستند بيده إلى الكرسي الشاغر إلى جواره ويتلفت حول نفسه. «هل تسمح لي بالمرور؟ أووه، لم أكن أريد ذلك … سترتك … هل آلمتُك؟ حقيبة ظهرك عالقة فوق ساقي …» وأخيرًا.
«أرجو المعذرة»، حاول أن يقدِّم اعتذاراته «أفضلُ الأماكن كانت قد حُجِزتْ سلفًا.»
غمزت بعينها قائلةً: «الهروب من هنا ممنوع، لا فرق في أي مكان تجلس.» أطلت بعض شعيرات بنية اللون على ياقة سترته فاتحة اللون. ترددت فاندا، إذ كانت المنطقة تجذبها كالمغناطيس، كانت تغريها بمد إصبعيها الإبهام فالسبابة وجذبها برقة. لمحة من لمسة ليس إلا، فارتسمت على شفتيه ابتسامة.
«وأنا كنت أظن أنك ستقرصينني.» نتفت خيطًا من كُم سترة بدلتها، وأومأت.
تنهدت قائلة: «كان من الممكن أن يحدث. إنني أفضِّل زافير نايدو، هل يستطيع الغناء؟»
«مَن؟»
«رئيس الوزراء.»
«لا أعرف، ربما يجيد الطبخ.»
ما زال الناس يتدافعون للدخول إلى القاعة الممتلئة عن آخرها. تدريجيًّا أصبح المكان غير مريح. كان رجال بسترات داكنة يمشطون الممرات التي بين الصفوف. بَدَوا لعينَيْها وكأنهم جنس مخنث خليط من المرشدين شديدي اليقظة على المرافقين المستعدين لتقديم المساعدة.
سمعت هتافات المعارضين تتدافع إلى القاعة، فلم تشعر فاندا بالراحة وهي هكذا في موقع بين الجبهات. كانت تفضل الوقوف في المدرجات الخلفية؛ إذ هي تجيد المراقبة في الوقت الذي تُبقِي فيه عينًا مفتوحة على سبيل الهروب، لكن هذه هي المرة الأولى التي تكون فيها في قلب الحدث. إنها لتكاد تقف في البؤرة الهادئة لزوبعة عاصفة. كانت تحاول الانزواء قليلًا. ظهر عدد من رجال السياسة والاقتصاد على المنصة وبدءوا في اتخاذ مجالسهم، بينما عُرضت من فوق رءوسهم صورة وُرَيْقة البرسيم الرباعية التي تجلب الحظ. صفَّق الجمهور، وأُغلقت أبواب القاعة الخلفية، إلا أن ضربات الممنوعين من دخول القاعة كانت تقرع الأبواب كدوي الرعد. مع أي جانب أقف أنا حقًّا؟ طرحت فاندا على نفسها هذا السؤال.
لقد أزاحت الصين ألمانيا إلى المركز الرابع في أوليمبياد النانو، بعد اليابان والولايات المتحدة. هكذا بدأ المحاور الحلقة النقاشية بعد أن قدَّم الضيوف تقديمًا سريعًا. جلسوا في نصف دائرة، سبعة من الرجال شُعْث الرءوس كما لو كانوا في معركة. ألمانيا متقدمة في الشق البحثي، لكنها بطيئة فيما يتعلق بالتسويق. كان الجميع متفقًا على هذا؛ وعليه فيجب رفع كفاءتها في هذا الصدد. كانت قرعات أيدي المستبعَدين لا تزال تزلزل أبواب القاعة الخلفية.
ليس ثمة سيناريو آخَر على طريقة التكنولوجيا الحيوية، كما قالوا.
«لقد غادر القطار بدوننا! وألمانيا فوَّتت فرصة اللحاق به؛ لأننا أمضينا وقتًا طويلًا على مقاعد الانتظار نفكر ونعيد التفكير، ونختبر ونعيد الاختبار.» شعرت فاندا بالتوتر؛ إذ ظل موضوع فئران التجارب لا يبرح بالها. فوتنا فرصة اللحاق بالركب؟ أنَّت فاندا داخل ذاتها، هذه هي بالضبط مشكلتي حين تستمر التجارب على نفس المنوال، ثم يأتي أولئك المهتمون برعاية الحيوان؛ إذ اتصلوا بها بالأمس وأخبروها بوقاحةٍ أن أمرًا ما غير سليم فيما يختص بالفئران، وأن عليها أن تراجع الموقف بنفسها. لقد أصابتها نوبة غضب حينما رأت الحيوانات النافقة … أمر غير سليم … يا لبلاهتهم! … أَلَا يعرفون كيف يتكلمون؟ عشرة فئران تنفق بين عشية وضحاها؟ وكل هذا بلا أي سابق مقدمات منذرة؟ هكذا ببساطة؟ لم تستطع أن تصدق ذلك. هل الزملاء في حظيرة الحيوان يلهون طوال الوقت أم ماذا؟ كما أن الحيوانات المتبقية من التجربة الأخيرة لا تبدو على ما يرام، ربما أصيبوا بنوع من العدوى. هكذا ظنت. ربما وباء خاص بالفئران. مَن يعلم؟ لم يكن أمامها خيارات أخرى. عليها أن تقتلهم. وفجأة وجدت يوهانيس واقفًا إلى جوارها قائلًا: «سأقوم أنا بهذا!» لم يقل سوى هذه الكلمات. نظرت إليه باستغراب. لقد تحدثت زابينة معه، ربما نشب بينهما سوء تفاهم.
قررت فاندا راضية أن الحديث مع صديقتها في هافانا كان مثمرًا بالفعل، لقد اتفقت مع زابينة على أخذ عينات من أنسجة الحيوانات المشتركة في دراسة شركة بي آي تي المتبقية قبل أن يرجع شتورم من الولايات المتحدة. إن كان معنا في الموضوع فالأمر لا يتعلق بمجرد حفنة من فئران أقل أو أكثر.
أضاف غامزًا بعينيه: «الرئيس يعطيني بالتأكيد مكانةً متميزة.» كان يوهانيس يريد أن تساعده بيترا في العمل. رفض العمل مع فاندا لأنها كثيرة الحركة بحسب زعمه، وكم أوجعها ذلك الوصف! لكنها لا تستطيع أن تنكر أنها غير قادرة على السيطرة على حركات يديها. كانت ترتعش، وحين تتوتر يظهر ذلك جليًّا، مما يزيد من اضطرابها، وكلما زاد اضطرابها اشتدت رعشة يديها. هل لاحظ من ذلك شيئًا؟ كان يوهانيس ماهرًا في استخدام مشرط التشريح، حتى لو كانا الآن يتعاملان معًا مثل قطٍّ وكلب، فلم يكن لينتاب فاندا أي شكوك في أن يوهانيس هو خير مَن يقوم بهذه المهمة؛ ولهذا السبب لم تسأل. أما هو فقد اقترح أن يرسلوا الأعضاء التي تم استخراجها لتُفحَص من قِبَلِ مختصِّين في علم الأمراض الحيوانية.
«لا يمكن لألمانيا أن تتحمل مرة أخرى أن تفقد الريادة في تكنولوجيا أساسية.» عادت فاندا لتنتبه لما يقال على المنصة. كان رئيس الوزراء قد وضع ساقًا على الأخرى في الوقت الذي يفضي فيه بقناعاته إلى الميكروفون: «نحن في حاجة إلى المزيد من الاستعداد لتقبل المغامرة»، وكأنه بهذه الجملة قد أعطى الكلمة المفتاحية ليسود التوتر بين جمهور السامعين؛ إذ قد وقف بعضهم وأخذوا في خلع معاطفهم، والآن فقط لاحظت فاندا أن بعض الزائرين وقفوا خلفها كذلك ونحَّوا ستراتهم جانبًا، وأنهم كانوا يرتدون ملابس سوداء تحت السترات. بدا الأمر لفاندا وكأنها في المسرح تحضر عرضًا، وأنها متشوقة في انتظار بدء الأحداث. كانوا منشغلين الآن بوضع نظاراتهم الشمسية، لحظتها سمعت صفارة قصيرة فخرجت كوكبة من الشباب، عددهم أكثر من الثلاثين، انسلوا كالنمل من بين الصفوف. لم ينبس أيهم ببنت شفة. بدوا وكأنهم يقومون بتوزيع شيء ما. ران الصمت على القاعة، حتى المحاور بدا وكأنه قد تجمَّد، كان يحمل الميكروفون أمام فمه نصف المفتوح ويزدرد ريقه.
شيء ما لم يكن على ما يرام، لكن أحدًا لم يتدخل. في هذه الأثناء كانت قوات حفظ النظام مشغولة بتأمين أبواب القاعة ضد الضغط الواقع عليها من الخارج. ظل الناس جالسين، يتلفتون يمنة ويسرة متسائلين، ثم يرفعون أكتافهم غير مبالين. بعضهم تنحنح في توتر، فيما ضحك البعض الآخر ضحكًا مكتومًا. المكان الذي كان يجلس فيه رئيس الوزراء أصبح الآن شاغرًا، ووُرَيْقة البرسيم المعروضة على المنصة اختفت وظهرت بدلًا منها عبارة: «نحن نحذركم! لا سيطرة للجنون التكنولوجي» مكتوبة بحروف سوداء بالخط العريض. أما علامة التعجب فكانت تحتها نقطة حمراء كبيرة. لقد تمكَّن المعارضون إذن من اقتحام القاعة رغم أنف الاحتياطات الأمنية، ومن كل الاتجاهات انساب الأشخاص المتلفحون بالسواد حتى منتصف القاعة. لم يكن قد مَرَّ أكثر من دقيقتين على الأكثر منذ بدء العملية، إلا أن الهدوء جعل الوقت يمتد وكأنه شريط مطاطي. صفارة أخرى فمضى الجيش الكئيب بحسم إلى الخلف، وانقسم إلى مجموعتين أمام المنصة تستهدف كلُّ واحدة منها مخارج القاعة. اصطدموا بقوات حفظ النظام أمام الأبواب الموصدة. صاح أحدهم: «لا تخدعنكم عيونكم!» حاول شُرْطِيَّان سحب من قال ذلك خارج المجموعة. كان يقاوم رافعًا ذراعيه عاليًا ويصيح: «لا تلمسوني.» اقتربت مجموعة النشطاء بعضها من بعض وأخذت تضغط ككتلة داكنة على أبواب الخروج. كانت فاندا لا تزال مبهورة بذاك الشيء الصغير الذي دسَّه لها أحدهم في يدها اليمنى أثناء العملية: كان زرًّا أحمر أملس. تعرَّفت عليه من فورها؛ كانت قد رأته قبل عشرة أيام كاملة إلى جوار الكمبيوتر المركزي. كان النموذجان متطابقين.
«عملية ممتازة» سمعت أندرياس يقول ذلك، وكانت عيناه تلمعان. «كان الأمر يستحق مشقة الحضور لهذا السبب وحده.» أومأت فاندا وأشارت إلى الزر البلاستيكي الذي في يدها.
«هل رأيت هذا من قبلُ؟»
هز أندرياس رأسه بالنفي. في هذه الأثناء كانت أبواب الصالة قد فُتِحت على مصاريعها، كما قام أحدهم بإطفاء جهاز العارض الضوئي. توقفت الحلقة النقاشية التي على المنصة، وأخذ الحضور ينضمون لمجموعات صغيرة يتناقشون فيها فيما هم ينسحبون ببطء إلى خارج القاعة.
اقترح أندرياس: «دَعِينا ننتظر لوهلة.» فأومأت فاندا موافقة، وكانت ترى البشر المتدافعين على المخرج. لم يكن بها أي رغبة أن تنضم لهذه الجموع.
ثم سألت: «وبخلاف هذا؟ هل كان الاجتماع مفيدًا لك على أي نحوٍ بخلاف هذا؟»
«الكيفية التي يعملون بها الآن مثيرة لاهتمامي.» كان هذا رأي أندرياس، «فالمواطن الواعي يقف الآن في بؤرة اهتمامهم، تمامًا كما تقترح التوجيهات الصادرة عن الاتحاد الأوروبي.»
بدأت فاندا تنفس عن غضبها قائلةً: «وهل تعتقد حقًّا أن هذه معلومات؟» كان توتر الدقائق السابقة لا يزال عالقًا بمفاصلها، وكانت تبحث له عن مصرف. «إن كل شيء يبدو لي وكأنه لعبة استغماية مليئة بالخِدَع. قل لي بالله عليك، متى تم هنا من قبلُ النقاش مع الناس علانية؟»
«رغم كل شيء ما زال الاتحاد الأوروبي يتبنَّى خطابًا اجتماعيًّا، في المقابل فإن تقرير المؤسسة القومية الأمريكية للعلوم عن الإن بي آي سي يبدو وكأنه ضرب من الخيال العلمي.»
«إن بي آي … ماذا؟»
«تقريب التكنولوجيات من أجل تطوير الأداء البشري. يستعرض هذا التقرير صورة بانورامية لمسوَّدة نظرية تطور جديدة. تطوير الفرد، والإنسانية، والثقافة والتكنولوجيا، بحيث تُوضَع جميعها في سياق متصل، وما عليك سوى قراءة رأي كورتسفايل لتعرفي كيف يفكرون، أو فَلْتسمعي لصديقك توماس؛ إذ يبدو أنك تصدقينه في كل ما يذهب إليه.» تجاوزت فاندا عن الهجوم المضمر، وردت بنبرة أهدأ: «رغم ذلك أفتقد هنا الحجج المقنعة، فمن ناحيةٍ تريد التكنولوجيات الجديدة حماية البيئة والموارد، لكن من ناحيةٍ أخرى يظل النمو الاقتصادي هو الهدف الرئيس.»
«وهذا مع انخفاض مستويات جودة الحياة.»
«بالضبط، أين إذن في هذه المهزلة ذاك الإنسان الذي يريدون رفع وعيه؟» لقد وصلت الآن لنقطة لا تستطيع معها كبح جماحها، فاستطردت: «ما الأسوأ: الأزمة الاقتصادية أم تلوث البيئة؟ من بوسعه اليوم أن ينظر للأمرين بوصفهما منفصلين أحدهما عن الآخر؟» كان ردها على سؤالها، «أنا أيضًا يُطلَب مني الإفصاح عن حقائق حين أعلن أن مادةً ما تُعَدُّ مادةً سُمِّية.»
وضع يده على ذراعها بحذر.
قال لها مبتسمًا مهدئًا: «على الأقل أنتِ تفعلين الصواب.» إلا أن نظرته التي تشبه نظرة كلب من فصيلة الدشهند جعلتها تستشيط غضبًا. هل كان يسخر منها؟ قالت ثائرة: «إنه نفس القرف يتكرر في كل مرة.» سحب أندرياس يده ثانية، واصلت حديثها الغاضب قائلةً: «الناس حمقى، لماذا لا نضع كل أوراق اللعب على الطاولة، ونقول لهم بصراحة إننا ما زلنا في مرحلة البداية؟ لِمَ هذا الضغط بخصوص فرص التسويق؟ في نفس الوقت نحن في حاجةٍ للتكنولوجيا من أجل قياس المخاطر، فهنا يكمن مستقبلنا، بدلًا من ذلك لا نقوم إلا بتقليد الأمريكيين!»
«هل تقصدين أننا لن نكون سوى أمريكيين سيئين؟»
تنهدت فاندا.
«قضيت مدة هناك، وأعجبني الكثير، لكني لم أستطع التواؤم هناك بشكل كامل.» ظلَّا لبعض الوقت في المؤتمر، يتجولان بين أروقة المعارض الصناعية، واستمعَا لبعض الكلام يُلقَى في جلسة هنا أو هناك، لكن فاندا كانت غارقةً في أفكارها، فلم تكن منتبهة بالقدر الكافي. يا تُرَى ما أخبار يوهانيس وبيترا في التشريح؟ لا بد أنهما انتهيا منه في هذه الأثناء.
•••
وحين عادت هي وأندرياس إلى ماربورج في المساء أرادت فاندا التوجه إلى منزلها على الفور، أما كون أنها صاحبت أندرياس إلى منزله، فلم يكن لذلك علاقةٌ بشاي اليوجي الذي وعدها بتحضيره لها من أجل أن يعوضها عن الإحباط الذي صادفته اليوم، بل الأرجح كان الدافع هو فضولها أن تعرف كيف يعيش، علاوةً على ذلك أرادت أن تجد فرصةً سانحةً تطبِّق فيها نصيحة ماري كامبل وتسأله عن والده.
كان أندرياس يقطن في الضاحية الجنوبية. صعدا بيت السلالم الضيق من المبنى القديم حتى أعلاه إلى أن توقفت الدرجات. أنَّت ألواح خشب الأرضية بمجرد أن دلفَا إلى العلِّيَّة. استقبلهما دفء مريح، فخلعت فاندا معطفها وتشممت، فصعد إلى أنفها عبق توابل.
لم يقل سوى: «ناج تشامبا … أصلي من الهند.»
وبسرعة سبقها ليشعل النور. كانت كل الأبواب المطلة على الطرقة مفتوحة عدا واحدًا. وقع نظرها على ملصق لبيبيلوتي ريست. ساقَا امرأةٍ تتدليان بسعادة من مجموعة أوراق شجر متداخلة. كانت مجرد نعومة اللقطة كافية لإضفاء الإثارة على الصورة الفوتوغرافية. كانت الصورة تضيء الجدار ذي اللون الأحمر المحروق؛ درجة الطوبي التيراكوتا؛ لونها المفضَّل. أسفل الصورة طاولة يصل طولها بالكاد إلى الركبة يزيِّن خشبها زخارف فنية، ارتفع عليها تمثال من البرونز في حجم هرة، يمثِّل نصف امرأة ونصف شاب في جلسة اللوتس، والمرأة رافعة يدها بالتحية. أشارت فاندا بحياء: «هل هي ربة؟» فعند قدميها طبق صغير به رمال منغرسة، بها أعقاب أعواد بخور لا تزال مشتعلة. ثمة امرأة تسكن هنا. كانت هذه هي فكرتها التالية، وظل فضولها معلقًا بالباب المغلق. لماذا لم أُمْعِن النظر على البطاقة التي إلى جوار جرس الباب؟ لم يكن ليفوتني أمر كهذا في السابق. لم تتدرب كفايةً على مثل هذه المسائل. خرج الآن صوت نسائي من الغرفة التي دخل إليها أندرياس. «… لم ألحقه … سأتصل ثانية … قبلاتي» … بدا الصوت متقطعًا لكنه شاب وحيوي، ثم صوت رنين ماكينة. لقد كان صوت ماكينة الرد الآلي، فكرت فاندا بارتياح. انتظرت، ثم في لحظة ما أطل عند الباب.
«هل تريد أن تغرس جذورًا ما هنا؟» قالت فاندا، وأشارت بذقنها إلى التمثال.
«هذه سيتاتارا.» قال أندرياس موضحًا، «تارا البيضاء، وهي تعبر عن الحياة المديدة.» اختفى ثانية في غرفته، فتبعته فاندا.
رغم كبر حجمها فإن الغرفة بدت كئيبة لفاندا. كانت تحوي نفس السحر المنبعث من المكتبات الخاصة التي يعلو رفوفها التراب. كانت الجدران مغطاة بالكامل بالأرفف المكتظة بالكتب. سرعان ما عرفت أن الكثير منها ما هو إلا شرائط فيديو وسي دي ودي في دي. كان غطاء سرير قطني ملون ملقى بلا ترتيب ليغطي الفراش في ركن الحجرة، إلى جواره أجهزة استيريو. أنصتت فاندا إلى اللحن الثقيل نوعًا ما الذي بدأ يملأ الغرفة. أغمضت عينيها. شعرت فاندا بغناء المطربة يسقط على جسدها مثل زخات مطر صيفي، في حين تغلغلت شكواها التي بدت مألوفة حتى نخاعها. شعرت بدفء جسده وراءها وبأنامله تمسِّد رقبتها برقة.
قالت هامسة: «مثل السفر البعيد … ما هذا؟»
«مادريديوس»، أعجبها وقع صوته. لم تتحرك وظلت تستمتع بالتلامس الرقيق، مدة بدت كالأبد. في وقت ما فتحت عينيها، وشدت ظهرها وتنهدت بمتعة. أتته نظرتها من بعيد حين تأملته. ثم سألت: «وأين الشاي؟» فأومأ معتذرًا، وقال: «سيستغرق إعداده بعض الوقت، فَلْتأخذي راحتك حتى أنتهي.» ثم اختفى في المطبخ.
أخذت فاندا تمر بنظرها على الأرفف. وجدت أعمالًا من تأليف برتولت بريشت، وفريدريش دورينمات، وجوتهيلف كيستنر، وماري لويز كاشنيتس، تلك الأسماء التي رافقتها فترة المدرسة. عرفت أيضًا هنينج مانكل بعد ذلك، لقد قرأت تقريبًا كل رواياته البوليسية، لكنها لم تَعُدْ تتذكر تفاصيلها. كانت تقرأ كل يوم خمس صفحات في الفراش إلى أن تغمض عينيها. لم تتمكن قط من قراءة المزيد. ستين نادولني؟ سمعت الاسم من قبلُ. أورهان باموق، فرفعت كتفيها وتركت رقبتها تغطس بينهما، إن زابينة على حق، إنها فعلًا تعاني من ثغرات معرفية، ولا تملك أي حاسة ثقافية، كانت لها بعض الاهتمامات الأدبية، لكن فقط كهواية ينبغي أن يتوفر الوقت الكافي لها، وهي لم يكن لديها وقت إن أرادت أن تنجز عملها بشكل معقول. ربما في بضع سنين. اكتشفت عقدًا خشبيًّا معلَّقًا على باب خزانة الملفات، وحين أخذته طارت ورقة على الأرض. انحنت لتلتقطها، وبينما كانت تعاود النهوض بالورقة في يدها انزلقت نظرتها على الكلمات المطبوعة. هيلبيرج، كامبل، بانسيروتي، بروبوف، سنايدر … كانت تعرفهم جميعًا. ظلت عيناها معلقتين على السطر الأخير. تدافع الدم إلى رأسها؛ فقد قرأت اسمها هي، بدا وكأنه محشور في غير موضعه وبعيد جدًّا. داهمها خليط عجيب من الإحباط والغضب؛ فكالمعتاد تأتي دائمًا في آخِر الأمر.