الزر الأحمر
كلما عادت بذاكرتها للوراء، وجدت نفسها دائمًا ما تأتي في آخِر القائمة. بدأ ذلك منذ أيام رياض الأطفال. «عليك التحلي بالصبر إلى أن يأتي دورك»، كم كانتْ تكره هذه التوجيهات. كانت لا تزال تحملق في قائمة الأسماء التي بيدها. إنها بلا شك القائمة نفسها التي تحدثت عنها ماري، لقد أرسلها بيتر سنايدر للجميع. لماذا لم تحصل على واحدة؟ ومرة أخرى تكون هي آخِر مَن يعلم، حتى أندرياس عنده واحدة، أم ربما كانت القائمة هنا بالفعل من أجل هيلبيرج، جونتر هيلبيرج؟ تحدثت ماري أيضًا عن استبيان. ألقت فاندا نظرةً أخرى على الأرض، ثم على خزانة الملفات، لم يكن هناك سوى هذه القائمة. ما نوع الأسئلة التي ذكرتها ماري؟ لم تتمكن فاندا من التذكُّر. رأت الصليب المطبوع بالخط العريض إلى جوار اسم هيلبيرج. مَن الذي وضعه هنا؟ سمعت صوت طقطقة قادمة من المطبخ، كما هلت روائح القرفة والقرنفل. شعرت فجأةً بالبرد وارتعشت يداها. وبحذر أعادت تعليق العقد الخشبي على الخزانة، لكنها أبقت على الورقة في يدها. وجدت معطفها في الطرقة فطوت الورقة ودستها في جيب المعطف وغادرت الشقة. اصطفق الباب وهو يُوصَد وراءها، فاستدارت حين وصلت إلى صندوق البريد لتقرأ البطاقة فوجدت تحت اسم أندرياس هيلبيرج اسم لاريسا زخارياس.
فعلقت تعليقا خاطفًا: «اسم فنانة.»
في وقت ما بينما هي في الطريق انطلق رنين هاتفها المحمول فقامت بإغلاقه.
وحين وصلت إلى المنزل وجدت ظرفًا أبيض اللون في صندوق بريدها، كان يحمل ختم طبيب الأسرة. وضعته في المطبخ مؤجلة فتحه لفرصة أخرى إلى جوار القائمة، سيكون لديها وقت لهما حتى الغد. وبينما كان النعاس يداعب جفونها، رأت الصليب عريض الخط وكأنه قفز من القائمة ليستقر مباشرة على جبينها، فهبت فَزِعة. اللعنة، لقد نسيت أن أسأل عن وفاة جونتر هيلبيرج، ثم غطت وجهها بالبطانية وهي تفكر، وما يعنيني في الأمر؟ ثم غطت في سبات عميق على الفور.
•••
في صباح اليوم التالي دس يوهانيس رأسه في فتحة باب مكتبها. كل شيء يسير وفق الخطة، فعينات الأنسجة تم تخزينها في سائل الحفظ اللزج. ماذا تريد أن تفعل بها؟ لم تكن فاندا تعرف بعدُ. كانت تحتاج متخصِّصًا في تحاليل الجزيئات الحيوية. عرض يوهانيس عليها أن يحاول بنفسه. كلا. كان رفض فاندا قاطعًا، لا يمكن إجراء التحليل في نفس القسم. الأفضل هو تكليف معمل مستقل بهذه المهمة. شخص لا يعلم عمَّا يدور الأمر. عمَّ تبحثين تحديدًا؟ كان لا بد من التفكير المتأني في هذه المسألة، لم تكن فاندا تريد إفساد شيء باندفاعها … فَلْتتحدث مع زابينة أولًا.
سمعت خطوات توقيعية ترن في الطرقة. لقد عاودت «المتصابية» بونتي ارتداء حذاء عالي الكعب، إذن لا بد أن الرئيس قد عاد في موعده.
همس يوهانيس وهو يبدي وجهًا تآمريًّا: «لا علمَ له بشيء البتة.»
ردت فاندا بثقة: «إذن أنا عندي ميزة.» كانت قد قررت صباح اليوم وهي تغسل أسنانها أن تبادر بالهجوم. كانت لا تزال مشحونة جرَّاء الأحداث التي وقعت في وحدة تجارب الحيوان، وكان على شتورم الآن أن يتصرف.
«قُل لي كلمات مشجعة!»
رد يوهانيس: «أنت تحققين دائمًا كل ما تعقدين عزمك عليه، أجهزي على شتورم!»
دخلت فاندا حجرة الانتظار المفضية إلى مكتب الرئيس دون أن تستأذن، كانت السيدة بونتي تتحدث في الهاتف ونظرت إليها متسائلة. مطت فاندا شفتيها بالعرض قدر ما تستطيع وأملت أن تبدو ودودة.
همست وأشارت إلى مكتب الرئيس: «عليَّ أن أقابله. ضروري.» وجرت ببساطة في اتجاهه، كان الباب مواربًا. كان شتورم يحدق في شاشة جهاز الكمبيوتر الخاص به حين دخلت فاندا إلى الحجرة.
قال دون أن يحول نظره من الشاشة: «من فضلك ضعي الشاي على الطاولة.»
تنحنحت فاندا. «صباح الخير يا سيد شتورم» عمدت تجنب ذكر لقبه العلمي.
نظر شتورم مفزوعًا وقال: «آه هذا أنتِ. من الجيد أنك حضرت. اجلسي.»
انزلقت فاندا على كرسي الضيوف وبدأ غضبها يضرب بجناحيه استعدادًا للتحليق.
«كانت رحلة بوسطون ناجحة أيما نجاح.» بادرها شتورم مقتحمًا ترددها. نستطيع الآن أن ننشر النتائج، أريدك أن تسافري إلى برلين في نهاية يناير حيث المؤتمر السنوي. علينا أن نعرض النتائج هناك.
«لكن المهلة الممنوحة للتقديم …» قاطعها قائلًا: «انتهت منذ مدة طويلة … أعرف ذلك … لقد سويت كل تلك المسائل، وستقومين أنت بإلقاء المحاضرة.»
أخذت فاندا نفسًا عميقًا.
«أرى أن زابينة ميرتينز هي الأولى بذلك.» فاجأها الثبات الذي بدا في صوتها. ألقى شتورم نظرة على الشاشة وظل مدينًا لها بإجابة.
خفق قلب فاندا، ثم قالت بصوت عالٍ نوعًا ما: «ثمة مشاكل في وحدة تجارب الحيوان.» نظر إليها شتورم مستفهمًا.
«الفئران في سلسلة تجاربي الأخيرة تموت مثل الذباب؛ ربما أصابها وباء.»
«ماذا تنتظرين إذن؟ اقضي عليها جميعها، أعلني حجرًا صحيًّا. افعلي أي شيء قبل أن ينتشر الوباء، فالأمر يقع تحت مسئوليتك.»
قالت وهي تراقبه بانتباهٍ: «هل ينطبق هذا أيضًا على الحيوانات المشاركة في دراسة شركة بي آي تي، فمنها بدأ الوباء.» اندهشت لسماع نفسها، وتعجبت أن طرأت هذه الفكرة على بالها، أما هو فكان يحدق فيها وهي لم تُبْعِدْ ناظريها عنه. رد بحسم: «إذن سأتولى أنا هذا الأمر.» أومأت فاندا موافقة.
«لقد تم بالفعل التكفل بكل شيء كما تم حرق الجثث أمس.» استند شتورم بظهره إلى الكرسي وترك ذراعيه تهبطان، فيما كان يتأملها مفكرًا.
قال بنبرة محايدة: «لقد فعلت الصواب.» اندهشت فاندا؛ هل كان الأمر بهذه البساطة؟ لقد صدَّقها. بالطبع كان ما تقوله حقيقيًّا، في جزء منه. كانت نصف الحقيقة. ربما كان من الأجدى اكتساب ثقته بدلًا من خوض حرب ضده، حتى لو بدت أمام نفسها كخائنة سيكون من الأفضل المناورة معه لو بقيت تحت جناحه. على أية حال، فإنها لم تكن لتتحمل الصدام معه طويلًا، ويكفي أن زابينة طُرِدت فعلًا.
سألها فجأة: «كيف حال رقبتك؟»
أدارت فاندا رأسها.
أجابته مبتسمة ثم نهضت: «على خير ما يرام، فُكَّ تصلُّبها من تلقاء نفسه … آه. محاضرة برلين. متى موعدها تحديدًا؟» حين عادت فاندا إلى مكتبها لم تتمكن رغم انتصارها من التمتع بالهدوء.
سألت الكمبيوتر الخاص بها: «هل أنا خائنة؟» قررت منذ ذلك اليوم أن تُطلِق عليه اسم رودي تيمُّنًا بالزميل الذي أهداها البرنامج التفاعلي. كانت تفضِّل ألا تأخذ رودي على محمل الجد؛ فقد كان هذا أفضل من أن تعترف لنفسها أن رودي الآن هو الوحيد الذي يتمتع بثقتها غير المشروطة، ربما يرجع ذلك إلى بساطته، وإلى السعادة التي يُضفِيها على يومها حين تجري تجارب بلا رقابة حين تغذيه بالمعلومات. أما شعورها الخفيف بالانزعاج من هذا النوع الغريب من التسلية، فسرعان ما كانت تنحيه جانبًا. كانت تعتبر رودي شريكها، وهو شعور لم تُكِنَّه لأيٍّ من زملائها ولا حتى المقرَّبين منهم. كانت الإجابات الموضوعية التي يمدها بها الكمبيوتر تُشعِرها بالأمان، فهنا كانت تسمح لنفسها أن تعبِّر عن ذاتها بحرية وهدوء بالٍ، وبالطبع كانت تعي تمامًا أن أي شبكة معلومات لا يمكن أن تكون مؤمنة بشكل كامل، إلا أن حاجتها لحليف كانت تفوق مخاوفها.