نُدْفات الثلج الأولى
غلالة رمادية لفَّت الطبيعة التي كانت تحاول أن تقطع طرقاتها بسيارتها. كانت تتجه غربًا، لكن الشمس لم تشرق قطُّ ذلك اليوم. كانت قد انطلقت قرابة الساعة الثامنة والنصف، إذ دبَّر لها موثِّق العقود في جوترسلوه موعدًا سريعًا، وهي أفرغت نفسها اليوم لهذه المهمة، يوم واحد لا غير. لم تكن تريد أن تنفق أكثر من ذلك على هذا الأمر، كما أن روبرت لم يفكر في دعوتها لقضاء الليل، وعلى الأرجح لم تكن هي لتقبل بعرضٍ كهذا لو قُدِّمَ.
كانت الشوارع تعجُّ بالحركة صباح تلك الجمعة. أحكمت إمساك عجلة القيادة حين مرت بالهضبة شديدة الرياح عند ضاحية هايجر بورباخ. كان يوهانيس شارد الذهن حين أحضر لها بالأمس مفتاح السيارة.
«عَقْد عملك لا يزال ساريًا لفترة، وهي فترة كافية لسداد الأقساط لو حدث أي تخريب للسيارة.»
صحيح أن فاندا كانت لا تجيد القيادة على النحو المرجوِّ، إلا أن قيادة السيارات كانت تشعرها بمتعة كبيرة، كانت تشعر وكأنها فرَّتْ من قفص. متعةٌ أن أقود خطواتي بنفسي مباشَرَةً على الطريق، متى كانت آخِر مرة مارست فيها ذلك؟ ففي عملها ازداد إحساسها أن أحدًا يقودها من بعيد، كما أن المعلومات الأخيرة التي حصلت عليها من بيتر سنايدر لم تسهم في التخفيف من هذا الإحساس، لكن ربما يكون «إن بي ٢٧٠١» هو المفتاح لمعرفة مادة النانو الغامضة تلك التي استقرت الآن في ثلاجتها — حتى إشعارٍ آخَر — إلى جوار البَيض. كانت تفكر بجدية في أن تُفْصِح لسنايدر عن كل شيء، وعليهم يوم الاثنين أن يقرروا ما الذي سيتعيَّن فعله بعد ذلك. ألقت فاندا نظرة خاطفة على الكرسي المجاور للسائق، حيث طبعتْ خريطة الطريق التي بحثت عنها في الإنترنت بالأمس. كانت المسافة التي قطعتها في البداية غريبة عليها، لكن بدءًا من بريلون انتابها إحساس أنها مرت بكل ذلك من قبلُ، ثم بعد ساعتين من القيادة تمكَّنتْ من إعادة التعرف على البيئة التي نشأت فيها.
أرض مسطحة، «تستطيعين صباحًا رؤية المكان الذي ستنامين فيه مساء» قالها لها صديق ذات مرة. في الثلاثين كيلومترًا الأخيرة قررت أن تتصرف كالحمام الزاجل وتعتمد كليَّةً على غريزتها.
وبعد أن تركت الشارع الرئيسي وانحنت لتدخل إلى المنطقة السكنية، توقفت قليلًا. المفترض أن كنيسة السيدة العذراء تكون في هذا المكان، أنزلت فاندا زجاج النافذة لتتأمل شجرة الدردار القديمة. مرت اثنتا عشرة سنة. كان الطريق إلى منزل والديها يسير كما في أحلام يقظتها بين كنيسة العذراء وأشجار الدردار وكأنها بوابة دخول إليه. أين ذهب المبنى المطلي بالأبيض بتمثال العذراء، فالسيد المسيح، والزهرية النحاسية التي كانت تضع بعض الورود فيها؟ ورود من الحديقة. قرأت اللافتة الجديدة، «بيركين آليه»؛ أي ممر أشجار التبولا، وبالفعل زيَّنت حافةَ الطريق المسفلت عن يمينه ويساره أشجارُ تبولا حديثة الغرس ذات جذوع تذكِّر بأطفال كبروا قبل الأوان.
كثيرًا ما ماطلتْ فاندا في زيارة والديها، والآن قَضَيَا نحبهما. بحثت في حقيبتها وأخرجت منها خطاب موثِّق العقود. هل كان روبرت ينتظر الآن حضورها؟ هذه المرة لم يَبْقَ لها من حجة. كانت عودتها لهذا المكان واجبة. دارت أمام وجهها بلورات ثلج رقيقة، فنظرت فاندا حولها، لماذا الآن تحديدًا يبدأ الثلج في السقوط؟ أغلقت نافذة السيارة وواصلت السير.
بعد بضعة مترات قليلة انحنت يسارًا ووصلت إلى مدخل المنزل. بدأت أصوات طرقات تدق رأسها، وتسارع نبضُها بصورة مخيفة. طرقات البلاط غير المثبت حين ينهرس تحت عجلات سيارة والدها العائد من العمل، البلاطات الآن جديدة ومثبتة بإحكام، لا يصدر عنها أي صوت، فُرِض عليها الصمت.
كان المنزل متدثرًا بالسكون، مظلمًا إذ كل ستائره المعدنية مسدلة، فيما علت أشجار إبرة الراعي جافة من أصيص على السلم. مَنْ ذا الذي زرعها؟ لقد مات أبواها الآن منذ أكثر من سنة، لا يمكن أن يكونا هما مَن قاما بذلك، ألم تكن ثمة سيارة مركونة إلى جوار الطريق الخارج؟ أوقفت فاندا محرك سيارتها فساد الهدوء التام.
كان هذا هو المنزل الأول في هذه المنطقة. في البداية كانوا يعيشون أمام الماء المنساب عبر المراعي الموحلة والمباني الأسمنتية باحثًا عن شقوق رفيعة نادرًا ما وجدها. كانت الطبيعة تحاول أن تحمي نفسها من تغول جدران القبو المبنية كأسوار حصن، لكن مقاومتها لم تُجْدِها نفعًا، الأمر الذي كان مبعث فخر والدها. ثم جاء الجيران الأوائل، بُنِيت بيوت، وزُرِعت حدائق. انحسر الماء، مروضًا هادئًا مثل طفل شبَّ عن الطوق. هكذا حكى لها والداها عن الأحوال.
أحكمت فاندا لف شالها حول رقبتها وخرجت من السيارة. كان الهواء المشبَّع بالجليد يَخِزُها في أنفها. كان باب البيت مواربًا، أما المدخل فانبعثت منه رائحة أحذية لم تتم تهويتها.
«روبرت، هل هذا أنت؟» لم تحصل على إجابة. وجدت طريقها عبر المطبخ إلى غرفة الطعام الصغيرة. كان الموقف مثل الحلم الذي يراودها. طاولة من الخشب حولها خمسة كراسي، لماذا حقًّا خمسة؟ الطاولة الصغيرة التي تحمل الهاتف القديم رمادي اللون ذا السماعة البيضاء، تمامًا كما ظهرت لها في الحلم، ثم رأته. كان يجلس في مقعدٍ ظهره إليها، وينظر من النافذة تجاه الحديقة. كان يسند ذراعه اليسرى على مسند المقعد، ومضت سيجارة بين أصابعه. أعسر، كان روبرت أعسر. تذكَّرت الآن.
قالت بصوت منخفض: «مرحبًا، ها أنا ذا.»
«كان الوالد يجلس هنا دائمًا حتى قبل انتحاره بقليل.» رد ببطء. اللعنة، أَلَا يستطيع حتى أن يتحدث معي بصورة طبيعية؟ لا تبدئي في الإحساس بالذنب الآن.
«أنا هنا الآن، وبرأيي الأفضل ألَّا نطيل الموضوع بيننا كثيرًا.»
«نعم، فَلْنقصر المسألة. كان الأمر أيضًا قصيرًا وغير متوقَّع.» كم كان يرتعش صوته وكيف يمص سيجارته، إدمان الأب، لقد ورث إدمان الأب مثل النار التي تشتعل ثم يأكل بعضها بعضًا في النهاية.
«أولًا، ماتت الوالدة بعد مرض قصير، ثم أعلنَّا عن ذلك في صفحة الوفيات بالجريدة.» أكمل روبرت كلامه «ثم مات هو بعد حزن قصير … أم كان عليَّ أن أكتب بعد إدمان طويل للكحول؟»
أَلَا تستطيعون أن ترحموني من معاناتكم؟ بالنهاية لقد ماتَا، فَلْنترك الأمر يمر بسلام. لا أريد أن أفكر كثيرًا في الأمر، أريد أن أحتفظ بهدوئي.
«لم أحضر إلى هنا من أجل استعادة القصص القديمة.»
«لكني أريد أن أتحدث عنها» رد عليها معاندًا. «أريد أن تهتمي لأمرهم، ففي النهاية، هذه هي أسرتك.»
لا أستطيع، لن أستطيع أن أكترث لأمره. لماذا أفكر في هذا الآن تحديدًا؟ أسبوع بأكمله قضيته بشفاه متورمة، فيما اختلقت قصةً حول طبيب الأسنان. لكن السبب فيما حدث لي كان الوالد وهو في حالة سكر كامل، بعد أن حكى عني الأخ الأصغر حماقةً ما. أنت أيها الشكَّاء الصغير، كنتَ دائمًا ماهرًا في العويل، وكنتُ أنا مَن تحتمل الضرب نيابةً عنك، ولم يحدث ذلك مرة واحدة فحسب. «وكان عليَّ وحدي أن أتعامل مع الموضوع.»
«لقد هربت. صنعتِ لنفسك حياةً جميلة في أمريكا، إنك حتى لم ترجعي لحضور الجنازة. أما الآن وقد صار ثمة شيء تأخذينه …»
«لم آتِ لهذا السبب.» لماذا أصلًا؟ لأتحدث معه؟ نعقد سلامًا؟ هل اعتقدت فعلًا أن هذا سيحدث؟
«لماذا إذن إن كان لغير ذلك؟» استدار روبرت بوجهه نحوها بسرعةٍ أثارت فَرَقها؛ فقد زمَّ عينيه وأخذ يرمقها بنظرات عدوانية. كانت تعرف تلك النظرة، نظرة والدها. لا أفهمه. لم أفهمه قطُّ. إنه لا يريدني أن أعرف. لكن ماذا؟ ولماذا؟
قالت بلا ثقة: «ما الذي يمكن أن يكون سببًا لعودتي؟» التزم الصمت وانكمش في ذاته مثل حيوان جريح يتسلل ليقبع في وكر جروحه. كانت ترى سهام تنهداته تنغرس في جسده الغائم حاجبًا وجهه خلف أصابعه العظمية، فقط الوهج المنبعث من عقب السيجارة هو ما لم تستطع تجنُّب رؤيته. كان الرماد يتساقط على بنطاله المصنوع من القماش. ازداد وزنه. لماذا لا أشعر بشيء؟ لا شيء البتة ولا حتى الاشمئزاز؟ ترك روبرت ذراعيه تهبطان.
قال بنبرة محايدة: «لا أعرف.» نظرت في عينيه المحمرتين.
«هل تريد حقًّا البقاء هنا؟»
«يتعيَّن على أحدهم أن يبقى.»
«هيا، دَعْنَا نذهب من هنا.»
«لكني أعرف المكان هنا حق المعرفة.» هل هذه حق المعرفة؟ أنت تلتصق بوحل ماضيك، أوحال ماضينا. لا أستطيع أن أسحبك خارجًا، يكفيني ما هو عالق بساقي.
«هل كان على والدينا ديون؟»
«نعم، الدَّيْن» صاح فجأةً «أنت المدينة بكل شيء.»
«تمالك نفسك.» ليس معي، هذا لا يُفعل بي، لن يُفعل بي ثانيةً. وقفت فاندا بالفعل في طرقة الباب، وسمعت أنه يتبعها.
«علينا أن نبيع المنزل» صار صوته فجأةً موضوعيًّا، «عليكِ أن توقِّعي. لن يتبقَّى الكثير لنا، لكن ثمنه سيكفي لسد الديون.» حتى كلامه كان يضايقها، كالعادة، لم أتوقع غير هذا. الوضع مرير عليك، أنت يا مَن دائمًا تأتين بعد فوات الأوان ولا تجدين مَن يتعاطف معك، من ناحيتي تستطيع أن تحتفظ بالنصيب الباقي كله. اتجهت خطوة نحو الباب وقالت: «إذن لنُنْهِ المسألة.»
وفي وقتٍ لاحقٍ أخذا جولة أخرى في المنزل. كان الوالدان قد تصرفا في غرفة فاندا وقاما ببيع أثاثها، وأهديا ألعابها. لم تجد ثمة أثر يعيدها إليهما. ماذا أيضًا كانت تريد أن تتهمهما به؟ ففي نهاية المطاف، فإنهما لم يفعلا سوى كتابة النهاية لما بدأته هي برحيلها. في غرفتها السابقة، وجدت المكتب ذا الأرفف القديم الأثير لدى والدها، وقد ورث تلك القطعة كما قال، لكنها لم تعرف عمَّنْ ورثها. كانت الطاولة الدقيقة للمكتب تقف كمهر ذي ساقين طويلتين. حقَّ لها بما فيها من قوارير عطر وعلب بودرة أن تكون لامرأة، لا لرجل عجوز سكير. جلست فاندا على الكرسي المقابل لها ونظرت في المرآة البيضاوية التي تعلو الأدراج.
«هل كان يجلس هنا؟» رأت في المرآة كيف أن روبرت فتح يديه وأغلقهما أمام بطنه السمين في إيماءة بأنه لا عِلْمَ له. حاولت أن تتخيل وجه والدها في المرآة. بحثت عنه خلف عينيها الداكنتين، شكل أنفها أو الأجزاء التي حول فمها الدقيق. كانت ببساطة أقرب شبهًا بوالدتها. أحسَّتْ تحت يديها بالقرص الرخامي البارد. سحبت أصابعها خطًّا رفيعًا في طبقة الغبار التي علت الرخام البني المرقط. كانت درجة لونها تتوافق مع درجة لون الخشب المائل للحمرة ذي الزخرفات البارزة التي تؤطر الطاولة والمرآة، ربما تعود لطراز «الآباء المؤسسين» أو ربما ترجع لطراز الفن الحديث «يوجيندستيل». لم تكن تفهم كثيرًا في هذه الأمور. كان بها دُرْجان، سحبت فاندا مقبض الدرج الكبير أسفل الطاولة الذي لم يُرِدْ أن ينفتح.
«ثمة مفاتيح؟»
هز روبرت كتفيه.
«يمكنك الاحتفاظ بها، فليس عندي لها مكان.»
في المساء عادت تقود السيارة على الطريق السريع ثانيةً. في هذا الجو على الهضاب؟ كان رأي روبرت أن هذا يسبب الإنهاك الشديد. ظلت تبكي طوال طريق العودة، لم تذكر أنها فقدت كل هذا الماء من عينيها من قبلُ. شغَّلت مسَّاحات الزجاج. كانت أضواء السيارات التي تأتي من الاتجاه المقابل تتراقص بين الثلوج المتساقطة مساء. ما الذي حدث لها؟ لقد وقَّعتْ عقد البيع للبنك. البنك الذي يعمل به روبرت، سيتحمل الموضوع. لقد انتهى الكابوس، بالنسبة لها على الأقل. هل هذه هي الراحة المنشودة؟ خطرت ببالها كنيسة العذراء ثانيةً. حاولت أن تبتلع الغصة التي في حلقها. لم يكن ثمة شيء على حاله كما كان في البداية. كيف بدأ الأمر حقًّا؟ تخطتها العربة الخلفية متجاوزة إياها لتجعلها خلف شاحنة. لقد مرت السيارة من طراز تويوتا بخفة مخلِّفةً لطخات من الطين الممتزج بالثلج تصطفق على زجاجها الأمامي، وبحركة غريزيَّة، حاولت تجنب الأمر برد رأسها للوراء. يتعيَّن عليها الآن النظر إلى الأمام.
بعد أربع ساعات بدت لها كعُمْرٍ بأكمله وصلت إلى ماربورج. كانت فاندا في غاية التعب حين صعدت السلالم المؤدية إلى شقتها، وكانت صناديق البيرة الفارغة التي تخصُّ جيرانها قد ولدت جيلًا جديدًا. افتقدت فاندا الشعرة التي تضعها في إطار الباب، كما نقصت من الثلاجة ثلاث بيضات. مست كرتونة مادة النانو الموضوعة في الركن الأخير من درج البيض فاستراحت. هزت رأسها غير مصدِّقة. هل صرت أخرِّف الآن أم أني أخطأت العد فحسب؟ جابت شقتها بانتباه. كان كل شيء كما تركته. وكانت تجد أُلْفة في فوضاها. لِمَ كانت تحب ترك الفوضى على حالها؟ تُرَى كيف كان يبدو شبح غيابها؟ تذكرت الفيلم مرةً أخرى. ساكن سري؟ كانت سلة الورق ممتلئة، لم يحاول أحد حمل جبل الغسيل، كما أن أكوام الورق المطبوع على مكتبها ظلت في انتظار أن تقوم هي بتصنيفها. فكرت أن تمر سريعًا على زابينة، لكنها كانت تفضِّل أن تأوي إلى فراشها. أوصدت باب الشقة مرتين، ثم دخلت فراشها سريعًا. واستغرقت بعض الوقت إلى أن هدأت نفسها.