الطَّرد الهش
في الأسبوع التالي استمرت البرودة، وعلت الأحذية حواف بيضاء وتشققت النعال وأصبحت تصدر صريرًا، وعلى الطريق الجانبية حوَّلت الشمس قِطَع الجليد التي لم تُكسح منها إلى طين ذائب، بينما ومضت ألسنة لامعة من الثلوج في ضوء مصابيح الشارع.
كان الوقت مناسبًا لسوق عيد الميلاد. اتفقوا على اللقاء في الساعة السابعة مساءً أمام كنيسة إليزابيت؛ إذ كان النبيذ الساخن هناك أرخص من مثيله في جنوب المدينة. انتظرت فاندا أمام البوابة الرئيسية. تعرَّفت على زابينة من القلنسوة النرويجية التي اعتمرتها، تلك التي شغلتها أمها. كان الشريطان الرقيقان اللذان يتدليان من القماش العريض على كلا الجانبين يتبختران بدلال مع كل خطوة من خطواتها الواسعة. وكانت زابينة قد قررت أن تأتي بمفردها؛ فدرجات الحرارة الأدنى من الصفر لا تناسب جوسي بالمرة.
«وااو» بدا على زابينة إعجاب حقيقي، وقالت: «فعلًا مثل ما قبل التاريخ. وبهذا تسيرين مخلفة آثارًا مثل الماموث.» تأملت فاندا بفخر حذاءها الفرو ذي الرقبة العالية، وهو واحد من التذكارات النادرة التي استطاعت أن تجلبها إلى ألمانيا من العالم الجديد.
«هي أقرب لأحذية وقوف فقط، ما يجعلها تناسب تمامًا سوق عيد الميلاد.»
«سوف نرى كم من النبيذ الساخن تحتملين.» كانت زابينة قد اتخذت اتجاهًا واضحًا، وتبعتها فاندا عليه.
«هل تعرفين إلى أين تودين الذهاب؟»
««فان إلكان» يخمرون الأفضل حتى الآن.» وأشارت بذقنها ناحية أكشاك البيع الأخرى، «أما الباقون فَانسَيْ أمرهم.» بعد وقت قصير كانت أصابعهم المجمدة من البرد تقرع كئوس الأنخاب الدافئة.
«هل تلقَّاه يا تُرَى؟»
سحبت فاندا هاتفها المحمول من جيب سترتها. لا بد أن يكون شتورم قد وصل إلى تورنتو قبل ساعة لو أن كل شيء سار على ما يرام.
«كان سنايدر سيرسل رسالةً نصية بمجرد أن يحصل على الطرد، لكن لم يصلني شيء بعدُ.»
«ماذا لو أن سنايدر فتحه في الطريق …؟ أو عند الجمارك …؟»
«ربما هو في هذه الأثناء يسبح عبر الأطلنطي. لن نستطيع تخيُّل الأمر. ليس في أيدينا سوى الانتظار.»
ابتسمت زابينة «ربما يتمسك به.»
«مَنْ؟ شتورم؟ في منتصف الأطلنطي؟» لم تملك فاندا إلا الابتسام بعد تخيُّل الموقف. «لن يفيده شيئًا.»
عارضتها زابينة: «فكِّري بالأمر. إن فعلتنا هذه قد تكون أنقذت شتورم من حماقة كبرى، حتى لو كان سيعارضنا في ذلك الآن، من الممكن أن نوضح له المسألة. وإنْ اتَّضَحَ أن المادة مصدر مشاكل جمة كما نخمِّن، فلا يمكن إلا أن يكون ممتنًّا لنا.»
«لم أنظر للمسألة بهذه الصورة من قبلُ قطُّ. أنت محقَّة تمامًا. نحن ننقذ رأسه كلما أمكن.»
رسمت زابينة ملامح جادة على وجهها وقالت: «هذا يُسمَّى تدعيم المهارات القيادية لدى الرئيس.» من الواضح أن تدريبات التنمية البشرية التي تحضرها في مركز التوظيف قد أفادتها، على الأقل أثرت ثروتها اللغوية ومكَّنَتْها من النظر إلى الأمور من زاوية مختلفة. لقد رَجَتْ فاندا الرئيس أن يحمل معه طردًا إلى كندا؛ هدية عيد ميلاد قابلة للكسر لصديق عزيز، وقد تورَّدَتْ وجنتاها بحمرة الخجل وهي تخبره، ففهم شتورم المسألة خطأً، أو ربما على النحو الصواب. في النهاية كان يبدو أنه ابتلع قصة علاقتها الرومانسية العابرة للمحيطات، وأخبرت بيتر سنايدر بحيلتها، فأراد أن يستقبل الطرد الذي يحوي مادة النانو بنفسه في تورنتو. كان الأمر من الأهمية، وهو من المهارة بحيث يمكنه أن يقلِّد دور العاشق سعيد الحظ، بل سيشرفه أن يفعل ذلك، وكونه لم يتصل حتى الآن كان يقلق فاندا.
تناقشوا كثيرًا حول هذا الأمر في مقهى هافانا، حتى وصلوا إلى نتيجةٍ مفادها أنهم يحتاجون إلى هذه القطعة بشكل حتمي من أجل أن تكتمل صورة اللغز. كان عليهم أن يعرفوا عمَّا يبحثون بالضبط حين يفحصون أنسجة الحيوانات المريضة. كان بيتر سنايدر هو الشخص المناسب، فعنده كل المعلومات اللازمة حول مادة «إن بي ٢٧٠١»، وبمساعدته يمكن لهم أن يعرفوا إن كانت المادة التي حصلوا عليها من شركة بي آي تي هي ذاتها مادة النانو التي تُستعمَل جزيئاتها في معامل الولايات المتحدة للأسلحة. فمنذ أن حَكَتْ له فاندا عن الوفاة الغامضة لجونتر هيلبيرج، وهو يسأل باستمرار عن نتائج تشريح الجثة، لكنهم لم يتوصلوا لشيء بالطرق الرسمية، وقد وجدوا صديق دراسة سابقًا لأندرياس يعمل طبيبًا مساعدًا في معمل تحاليل مستشفى ميونيخ الكبير الذي توفي فيه هيلبيرج. كان يريد مساعدتهم، لكن ملفات هيلبيرج كانت محظورة التداول، وكان عليهم أن يفكروا في وسيلة أخرى.
«هذا الأندرياس، هل يمكن الوثوق فيه؟» سألت زابينة فجأةً وكأنها كانت تقرأ أفكار فاندا.
«أعتقد أنه وقع في غرامي.»
«هذا جيد، لكنْ سيئ من ناحية أخرى، وماذا عنك؟»
«يمكنه أن يكون أخي الأصغر.»
«بدأتُ أقلق عليكِ يا فاندا، فأنت معرَّضة لخطر الضمور جنسيًّا.»
«معرَّضة لماذا؟»
«النضوب.»
«لا تقلقي عليَّ. أنا أشعر كما لو كنتُ بقرةً حلوبًا في أفضل سنوات إنتاجيتها. وأنت كيف حالك مع فولفجانج، هل يسعدك؟»
«هو على الأقل لا يسبب لي التوتر … إلا أن …» مطت زابينة شفتيها وقالت: «الآن حيث لا عمل لي، كان عليه أن يحاول أن يكون أكثر جاذبية.»
«المسكين! لا أتصور أنها مهمة سهلة.»
«ما هي؟»
«أن يحاول أن يرضي عالمة مفصولة.» أفرغت فاندا كأس النبيذ في جوفها. «ربما الأفضل تجنُّب العلاقة الحميمة بدلًا من ملء الزهرية ورودًا باستمرار.»
«ليس الأمر بهذا السوء.» بدا أن زابينة استاءت.
أكملت فاندا: «أندرياس يشبهه. أعتقد أنه جبان يفضِّل أن يتعامل مع النساء في المنطقة اللينة على أن يختبر الحافة. مجرد رخو جبان.»
«إنك تحبينه.»
«نعم بالفعل، لكن ربما كشاعر عذري.»
«وهل لهذا السبب تريدين مساعدته في كشف ملابسات وفاة والده؟»
هزت فاندا كتفيها. لم يكن يعلم بأمر قائمة أسماء العلماء الذين حضروا المؤتمر سوى سنايدر وأندرياس. هل عليها أن تخبرها أن اسمها أيضًا كان على هذه القائمة؛ لأنها هي نفسها كانت في نيو مكسيكو؟ أعترف أن الأمر يخصني أيضًا بصفة شخصية؟ من العدل أن أخبرها، لكني أعرفها، لن تجعل المسألة تمر دون أن تطرح أسئلة مزعجة. هكذا هي طبيعتها.
«وماذا عن توماس؟» وبهذا السؤال عادت زابينة إلى موضوعها الأثير. تنهدت فاندا: «إنه مليء بالأسرار.»
ابتسمت زابينة بضيق: «يا للإثارة! بالتأكيد هو ليس من النوع الذي يغيِّر الحفاضات، ويُطعِم الحيوانات الأليفة، وينظِّف الحمام.»
«الآن تحديدًا تفكرين في إنجاب الأطفال؟»
«ربما عندي الآن حقًّا وقت طويل جدًّا للتفكير، لكن فولفجانج رجل تربوي، ولاحقًا يمكنه قضاء نصف الوقت بالمنزل. لا أتصور أن يحدث لي ما هو ألطف من ذلك، ففي نهاية الأمر، أنا أريد لحياتي أن تستمر، ووجود عاشق ولهان ببساطة أمر يجعل الحياة أصعب من أن تُحتمَل.»
«أها. أفهمك الآن. وراء كل امرأة عظيمة ربُّ منزل بلا شغف!»
«يبدو الأمر هكذا حقًّا، وأنا أريد أن أبدأ في ترتيب حياتي.»
«فَلْتبحثي إذن أولًا لنفسك عن وظيفة محترمة.»
انطفأت نظرات زابينة.
«أريد أن أخرج من البلد مرة أخرى، وبأسرع ما يمكن. حين يُعرَف الموضوع هنا لن يقدِّم لنا أحدٌ أي عمل.» كانت على حق، كانوا كلهم يخاطرون بكل شيء. وأنا؟ أنا ما زلت أستغلهم أيضًا.
علقت فاندا بملحوظة متشكية: «لا بد أن ثمة شيئًا موجودًا اسمه العدالة.» سحبت زابينة زاويتَيْ فمها لأسفل.
«سينتهي الأمر إلى لا شيء بعد أن يُحدِث جلبة كبرى.»
«لم يصل الأمر بعدُ إلى ذلك الحد. ومَن قال إن علينا أن نذيع نتيجة تحرياتنا ليعرفها القاصي وَالدَّاني؟ لكن يمكننا أن نضغط بها على شتورم بحيث يعيد توظيفك ثانية.»
«ماذا؟ هل تعتقدين حقًّا أني يمكن أن أحرِّك ساكنًا من أجل هذا الشخص مرة أخرى؟»
«على الأقل إلى أن تجدي وظيفة جديدة.»
نظرت فاندا فوق رءوس الواقفين متتبعة سلاسل الأضواء التي تمتد حتى أكشاك البيع. أسرتها الأضواء الدافئة المنبعثة من المصابيح والمعروضات الملوَّنة. ظلت عيناها معلقتين بمنزل ذي ألعاب خشبية. وقف هناك رجل معه طفلان، وحين أدار وجهه ناحيتها كانت متأكدة: إنها أنف جليزر الضخم تظهر في تناقض لا سبيل لحله مع سائر ملامحه الدقيقة. وبسرعة أدارت فاندا ظهرها لطبيبها، وأحكمت غلق سترتها على رقبتها ووجهها.
سألتها زابينة: «هل تشعرين بالبرد؟ أعرف علاجًا جيدًا لذلك.» اختطفت بسرعة كأس فاندا وتسللت من بين الجموع لتصل إلى بار النبيذ الساخن. إنك جبانة! سمعت صوتًا في داخلها، إنك تختبئين وتتجنبين وتلعبين لعبة سرية. ثم فكرت في نفسها: لكن يتحتم عليَّ أن أعارض تخمينات سنايدر تمامًا؛ فأسئلته الدائمة صارت أصعب من أن تُحتمَل. وماذا لو تأكدتْ مخاوفه؟ ماذا لو بدأ مرض جونتر هيلبيرج الذي مات بسببه في نيو مكسيكو؟ سأُثْبِت له أن الأمر ليس كذلك.
عادت زابينة وضغطت في يدها الكأس الساخن، وقالت: «بالمناسبة، ما آخِر أخبار أخيك الأصغر؟»
حكت لها فاندا أنهم اضطروا لبيع منزل والديهم، ولأول مرة تحدثت معها عن شكها في أن أخاها يُخفِي أمرًا ما؛ معلومة أو فكرة عن شيء صحبه والداها معهما إلى القبر.
«صوتك حزين.»
«ربما لن أعرف ذاك الشيء أبدًا، وربما يكون الحال هكذا أفضل. رغم ذلك لا يترك لي الأمر مجالًا للراحة، لا سيما أثناء الليل.»
«أعرف وصفةً مفيدة.» مرة أخرى أطلت من عيني زابينة نظرة مربية متمرسة «ترقدين على سريرك في الاتجاه العكسي، رأسك عند مؤخرة الفراش. سترقد قدماك على المخدة، وهي التي سيكون عليها التفكير.» نقرت جبهتها وقالت: «الخواطر في الداخل لا ترحم.»
اهتز هاتف فاندا المحمول. لقد وصلت رسالة من بيتر سنايدر: وصل الطرد!
لم يتبقَّ سوى عدة أيام ليعرفوا إن كانت تخميناتهم في محلها.