أكاذيب بيضاء
استيقظت فاندا من إغفاءة قلقة، وحين نظرت من النافذة عرفت أنها وصلت جيسن من اللافتة المثبتة على رصيف المحطة. كانت ساعة يدها لا تزال تشير إلى الوقت في شيكاجو: الساعة السابعة، فأجرت الحسبة في رأسها، لا بد أن الساعة الآن الثانية بعد الظهر. لقد نامت ما لا يقل عن نصف ساعة. كان الشاب الذي يجلس قبالتها لا يزال في مكانه، مستندًا برأسه إلى النافذة. هل كان نائمًا أم يتأمل المناظر في الخارج؟ لم تتمكن من رؤية وجهه، وتبددت رغبتها في الحديث إليه. تمطت وتثاءبت. هَلَّا حاولتِ الشعور بالسعادة؟ حاولت أن تشجِّع نفسها، تستطيعين الآن أن تفعلي ما حلمت به دومًا: تأسيس معمل للسموم، تنفيذ مشروعاتك الخاصة، قيادة فريق. لم تضطر إلى تفكير طويل حين أتاها ماكس شتورم في المؤتمر الذي عُقِد بالخريف الماضي، وعرض عليها منصبًا في معهده بماربورج. لقد كان يتباهى أمامها مرارًا وتكرارًا بالتجهيزات التقنية المتقدمة والموارد المالية المتاحة في قسمه، كما أنه وفوق كل ذلك أشار إلى إمكانية حصولها على درجة الأستاذية. الأستاذ الدكتور الطبيب ماكسيميليان شتورم. لم يَبْدُ لها من ذاك النوع من الأساتذة الذين يمارسون سلطاتهم الأبوية على مَن يشرفون عليهم، وهو النوع الذي تفضِّل العمل تحت رئاسته، فقد كان يبدو مثل جرذ نحيل.
واصل القطار رحلته، أخذت فاندا شهيقًا ثم أطلقت الهواء في تنهيدة على زجاج النافذة البارد، فتكوَّن على الزجاج ضباب خفيف ما لبث أن تلاشى. نظرت إلى الطبيعة الرمادية المغسولة بمياه الأمطار نظرات حالمة. لقد عدتُ إلى وطني ألمانيا. كان عليها أن تقرص نفسها في وجنتها لتتأكد أنها لم تكن تحلم. وكأنها أتت من عالم آخَر بعيد، بثتها شعاعاته لتعيد تكوين ملايين من جزيئاتها في حالة روحية فريدة ومادية جديدة. ما الذي أصبو إليه هنا؟ هل أتطلع إلى دفء صحبة ليس لي منها نصيب؟ أم أخشى أن أفوت عقد صلةٍ ما بيني وبين الوطن؟ هل أخشى غلق الأبواب المتاحة؟ في أمريكا لست سوى باحثة نكرة في مرحلة ما بعد الدكتوراه بين عشرات الباحثين. الوظيفة مؤقتة لمدة سنتين. طبعًا كان يمكن أن تقبل عرض الاستمرار لعامٍّ بحثي آخَر في روتشيستر. منعها فقط تلك الطرقات التي كانت تتصاعد بطيئًا من صدرها لتدق في حلقها. أحيانًا كانت تداهمها ليلًا وتجبرها على السهر حتى الصباح.
لا. لم تكن تريد أن تضطر ثانية أن تواجه مشاعر الخوف. حاولت أن تهدِّئ من روعها وتقول لنفسها كان صوابًا أن ترحل في هذا التوقيت. أما ذاك الشيء فلن يلحظه أحد، خصوصًا الآن بعد أن رحلت. فقد انتهى المشروع، ولن يقوم أحدٌ بإعادة فحصه. لقد ضغط عليها ريك لأنه كان يحتاج إلى النتائج لينشر بحثه، فقامت بحذف بضعة أرقام. كانت من خاصة الباحثين. أكدت فقط على النتائج التي هي مقتنعة بها ببضع لمسات تجميلية على الإحصائيات، لتبدو البيانات قابلة للتصديق، وقد كانت تريد أن ترى اسمها منشورًا على السطر المخصَّص لأسماء مؤلفي البحث. ففرصة النشر في دورية مرموقة مثل تلك لم تكن لتفوتها. هل كان بوسعها الاستغناء عن النشر؟ أي أحمق لم يكن ليفعلها. كان عليها أن تتصرف بهذه الطريقة إن كانت تريد التقدم في عملها. في النهاية، فإنها لم تزوِّر، وإنما شذبت النتائج قليلًا. كان الزملاء يسمون هذه التصرفات: أكاذيب بيضاء. هي ليست أكاذيب، لكن هي الحقيقة مصقولة قليلًا. لمزيد من الوضوح والإفهام، يعني من أجل غرض طيب. هي فقط نصف الحقيقة. طبعًا لا يمكن أن تلعب بنار كهذه دون أن تحترق أصابعك، فالحدود الفاصلة بين ذاك الأمر والخديعة ليست واضحة.
فتحت سوستة معطفها ومرت بيدها على رقبتها. هنالك كانت الثنية التي ورثتها عن أمها، لقد زاد وزنها. وخلَّف لها الشعور بالذنب توترًا. عاشت عامين قلقين، لكنها تركتهما الآن وراءها. كانت حياة على الحافة عليك أن تقفز من فوقها إن عاجلًا أو آجلًا، وهذا ما يجب أن يتغير الآن. الوظيفة الجديدة مدتها ثلاث سنوات. ضحك شتورم بعد أن أخبرته بموافقتها، ومَرَّ فوق رابطة عنقه فاردًا طيَّاتها.
«سنرى كيف سيكون أداؤك.» شعرت بعصارات من مرارتها تغص حلقها.