شوكولاتة قديمة
أجاب يوهانيس اتصالها فورًا، فوصفت له فاندا ما تراه.
أراد أن يعرف: «هل تستطيعين التعرف على المادة السوداء؟» مسحت فاندا جذع المخ المشقوق أسفل الجسيمات الحلمية.
«لا تستحق هذا الاسم. فلونها أحد درجات اللون الرمادي إن كان لها لون.»
علق يوهانيس باقتضاب: «ناقصة الصباغة»، وكان يدوِّن الملاحظات، ثم قال: «أَلَمْ يكن هيلبيرج يرتعش؟»
«ماذا؟» نظرت فاندا ناحية أندرياس الذي كان يقف أمام الباب يراقب الطرقة.
«أقصد مرض باركنسون، هل كان يعاني من الشلل الرعاش؟»
«هل من الممكن أن نتحدث عن ذلك لاحقًا؟» لاحظت فاندا أنها بدأت تتوتر. «أفضِّل أن تخبرني ماذا بعدُ؟»
«هل تستطيعين رؤية النتوء أسفل الجهاز الحوفي؟ إنه الوطاء، ومنه يمتد الحصين. لا بد أنك تعرفت عليه. إنه مركز كلِّ ما يدخل إلى أنوفنا، إنْ كانت جزيئات النانو قد دخلت فلا بد أننا سنجدها ها هنا. لكن ينبغي علينا أولًا أن نواصل فحص كيف يبدو الوضع من الداخل. خذي قطعًا أماميًّا على نفس ارتفاع الجسيمات الحلمية.» لم تعجبها بتاتًا ومطلقًا النبرة التي يحدِّثها بها، كما أن ما يطلب منها يوهانيس فعله كان يضايقها بشدة.
«أَلَمْ نتفق بالأمس على أخذ بعض الأنسجة فحسب حتى لا نلفت النظر، والآن وفجأةً عليَّ أن أشرِّح هذا الشيء؟ إن أيَّ عامل في قسم التشريح سيلاحظ أن أمرًا ما ليس على ما يرام.» تمخطت فاندا بصوت عالٍ.
«هل عليَّ أن أواسيك، أم لعلك تحتاجين مذيبًا للمخاط؟» أَلَا يستطيع ألَّا يغير الموضوع. تنحنحت فاندا، فكان عليه أن يسمع أنها غاضبة.
أكمل يوهانيس بنبرة أكثر جدية: «لقد أظهرت فئران زابينة النافقة أعراضَ عَتَهٍ مُبكِّر. وحيواناتك أيضًا إن كان من المسموح لي أن أذكِّرك بهذا … هل أصابك ألزهايمر فنسيت أننا نبحث عن تشابهات.» فكرت فاندا وهي تشق بالسكين «ليتكَ تغلق فمك.»
كانت هذه واحدة من اللحظات النادرة التي تنجز فيها عدة مهام في آنٍ واحدٍ، والتي عادة تسعد بتذكرها، إلا أن هذه المرة خاصة جاءتها كصدمة. لقد انحشر سكين التشريح في منتصف شق مخ هيلبيرج حين انطفأ النور فجأةً، ووجدت أندرياس أمامها يهمس بأمر ما. لم تفهم منه شيئًا لأن ثرثرة يوهانيس سدت أذنيها. حبست فاندا أنفاسها، اللعنة، سأفسد كل شيء. هذا الأحمق. لماذا؟ أكملي! مَن يقول ذلك؟ أعمى؟ أكملي! ارتطم السكين بالرف السفلي محدثًا طقطقة مكتومة. شعرت فاندا كيف أن كتلة الأنسجة تنحل بعضها من بعض. وفي الضوء الشاحب الذي تسلل من المدخل إلى الغرفة رأت أندرياس، كان ينظر متوترًا نحو الطرقة. رفع يده في إشارة لها أن تظل ساكنةً.
سأل يوهانيس بنفاد صبر: «ما الذي يحدث؟»
همست فاندا: «ششش … أخشى أن أحدهم سيزورنا.»
«اللعنة!»
مرت لحظات كدهر كامل، ثم أرخى أندرياس ذراعه ببطء.
قال أخيرًا: «يمكنك مواصلة العمل.»
وماذا كنت أفعل طوال الوقت يا ترى؟ لم تَبُحْ بخاطرتها، لم تكن منتبهة ولهذا لم تلاحظ إشارة أندرياس التحذيرية، مما اضطره لترك موقعه فحضر إليها وأطفأ نور مصباح الطاولة.
ردت بصوت منخفض: «شكرًا.»
«لا بأس … ليس هناك ما يستوجب الشكر.» جاءها هذا الرد من السماعات. «إلى أين وصلت؟» في النور أخذت تقيِّم المحاولة التي أجرتها في الظلام، لم تكن سيئةً البتة.
«أعتقد أني أعرف الآن ما هو المحلل الأعمى.» كان ذلك مصطلحًا قرأته كثيرًا في الأبحاث العلمية المنشورة، كان يشير به مؤلف البحث إلى أن تجربته نجحت تحت معايير موضوعية، بمعنى أن الشخص الذي يقيِّم النتائج، يعطي المستحضرات أرقامًا مفتاحية لا يعرفها، بحيث لا يعلم إلى أي مجموعة تجارب تنتمي حتى لا تؤثر توقعاته على النتائج.
«هو ليس بالأمر المادي، بل نوع من التعمية الذهنية.» رد يوهانيس فورًا. «لا ينبغي عليه أن يعرف ما الذي يراه.»
«فعلًا.» زفرت فاندا. صارت الآن تحمل ربع مخ في كل يدٍ ناظرةً إلى مساحات القطع الملساء. هزت رأسها في إحباط، كانت لتعرف أكثر لو أن ما بيديها ديدان الأرض.
«كم أفضِّل لو كان الجهاز العصبي مصنوعًا من الحبال. بل لو كان قطعة خبز لكان أوضح.»
«هل ثمة غُرَف مجوَّفة كبيرة؟»
«غُرَف مجوَّفة؟»
«نعم، شبيهة بقطع الجبن السويسري؟»
«لا، هي أشبه بحبة حلوى محشوَّة بالنوجة من الداخل، ومكسوة بطبقة من الشوكولاتة التي تغيَّر لونها من الخارج. لحاؤها مبرقش قليلًا. ثقوب! الأوعية الدموية متباعدة ومستديرة. مفتوحة.»
غمغم يوهانيس: «هذا شكل تعفُّن الدم لا العَتَه. نحتاج التقاط صور بالضرورة.»
انتهوا بعد نصف ساعة. بعد معارضة وبامتعاض وافق أندرياس على طلب يوهانيس والتقط بعض الصور بكاميرته الرقمية. وضعت فاندا عينات الأنسجة في أوعية بلاستيكية بعد أن ملأتها ببعض الفورمالين الذي أخذته من الوعاء الأبيض. أعاد أندرياس الوعاء إلى مكانه في الوقت الذي قامت هي فيه بوضع المصباح، فالسلك الكهربي، وأدوات التشريح، وعينات الأنسجة في حقيبة ظهرها. هذه المرة تأكدت أن السكاكين موضوعةٌ بأمان. غادرا قسم علم الأمراض من نفس الطريق الذي جاءا منه.
سار أندرياس أولًا. كان يبدو مثل الزبَّال وهو يحمل كيس القمامة تحت ذراعه. وفي الخارج استقبلتهما سماء صافية تتلألأ فيها النجوم، أفادهما الهواء النقي. لم يكن يراقبهما سوى كوكب المريخ الأحمر.
«لماذا هو شديد الحمرة؟» أرادت فاندا أن تعرف. خبَّأ أندرياس رأسه في رقبته.
«إنه خجلان منا.»
«هل يؤنبك ضميرك؟»
هز أندرياس كتفيه. سارَا على طريق العودة المؤدي إلى محطة مترو الأنفاق صامتَيْن، وكان رايموند قد عرض عليهما المبيت عنده.
جاء سؤال أندرياس متردِّدًا وكأنه لا يريد أن يطرحه: «هل يمكنك أن تقولي شيئًا الآن؟» هزت فاندا رأسها بالنفي. في الواقع، كان يمكن لها أن تكون راضية. إن كانت قد فهمت يوهانيس على النحو الصحيح، فإن النتائج الميكروسكوبية التي وجدها لدى حيوانات التجارب لا يؤكدها ما وجدوه عند جونتر هيلبيرج.
«أخشى أن الأمر أكثر تعقيدًا مما نظن.» وتعجبت من كلماتها التي تلفظت بها.