جزيء عظيم الشأن
كانت الاستعدادات تجري على قدم وساق حين دخلت فاندا المعهد يوم الاثنين. تولَّتْ بيترا مباشَرَةَ العيِّنات. يوهانيس أراد أن يتناقش معها بصورة ملحة حول الصور التي أرسلتها له فاندا في اليوم التالي فورًا من ميونيخ.
وجدت في صندوق بريدها رسالة من قسم علم الفيروسات، أُلْصِقت عليها ورقةٌ صغيرةٌ صفراءُ مكتوبة بخط لا يكاد يُقرَأ، تعرف منه أنه لشخص أعسر تم تدريبه ليكتب باليد اليمنى. كان الزميل يعتذر أن التحاليل استغرقت كل هذا الوقت، ويقرر أن النتيجة غريبةٌ بحسب ما ستقرأ بنفسها. بخلاف هذا فإن الفيروس ليس نادر الانتشار بين الفئران، صحيح أنه مزعج لكنه لا يمثل مشكلة.
في الطرقة اصطدمت بالرئيس الذي طلب منها أن تفرِّغ نفسها ذلك المساء. ناولها الدعوة بعد أن مَرَّ من جوارها، في حين أطلق نعلاه صريرًا على بلاط الأرضية الصناعي. الضيف المحاضر سيأتي اليومَ مساءً من روتشيستر، وهذا أمر بالغ الأهمية، وبالتأكيد سيكون لديهما الكثير من الأحاديث يتبادلانها. أَلَمْ تكن فاندا هناك؟
أومأت فاندا، وكانت قد نسيت تمامًا أمر الندوة التي ستُعْقَد بالمعهد.
«إذن في تمام الثامنة في مطعم ألتر ريتر.» صاح شتورم قبل أن يختفي في مكتب السكرتارية.
اليوم تحديدًا كانوا متفقين على اللقاء في مقهى هافانا؛ إذ كان عليهم مناقشة العديد من المسائل، كما أنها لا تشعر بالراحة كلما تخيَّلت أنها ستقابل أحدًا من روتشيستر. كانت تعرف المحاضر معرفة سطحية؛ إنه شخص مهم وعلى الأرجح صديق رئيسها السابق. لم يكن بها أدنى رغبة للتحدث في قصص قديمة.
واساها يوهانيس بقوله: «حاولي أن تعتبريها فرصةً لمراقبة العدو، وبغض النظر عن أي شيء آخَر تطلبين لنفسك أغلى طعام.» لم يُقْنِع هذا فاندا كثيرًا.
في هذه الأثناء توافرت معلومات جديدة كان ينبغي تصنيفها أولًا، وكانت تعتمد في ذلك على رودي، جهاز الكمبيوتر الخاص بها.
«صباح الخير أيتها الجميلة.» حيَّاها هذه التحية في هذه المرة، وكانت فاندا فخورة أنها تمكَّنت من برمجته ليقول ذلك. «شخص آخر يريد أن يطويني تحت جناحه»، غمغمت باسمةً وأخذت تنقر أحدث ما توصلت إليه تحرياتهم.
سنايدر لم يتركها تنتظر طويلًا أي جديد يخص «إن بي ٢٧٠١»؛ فبالأمس بعث لها رسالة إلكترونية يشرح لها فيها تفاصيل أخرى تخص المادة الخاصة بشركة بي آي تي، والتي تشبه كبسولة الفيروس. لقد كانت زابينة على صواب في تخميناتها. لقد كانت جزيئات النانو تحمل على سطحها مستقبلات خاصة لخلايا الشم المخاطية. كانت فاندا تتخيلها مثل قنافذ البحر تتخللها هذه الجزيئات البروتينية من جميع أنحائها، وبهذا تتعاظم فرصتها في الرسو على الغشاء المخاطي المبطِّن للأنف.
إلا أن السلوك الخاص لجزيئات النانو هذه لا يزال يسبب لسنايدر إزعاجًا كبيرًا كما كتب في رسالته؛ إذ اتَّضَح أن المادة العازلة التي يجب أن تُتناوَل مع هذه الجزيئات عبارة عن مذاب الكالسيوم عالي التركيز. ووفقًا لهذا، فإن ظاهرة الرفض العجيبة التي حاول أن يشرحها بتمثيل كرات البلياردو يكون مردُّها إلى المبدأ البسيط وهو «الأقطاب المتشابهة تتنافر». على الفور اتصلت فاندا بزابينة لكي تشاورها في الأمر.
«جزيئات نانو حرة في محلول كالسيوم مائي عالي التركيز. كيف لي أن أتخيَّل ذلك؟»
«الفكرة ليست سيئة.» كان رأي زابينة التي بدا أنها فهمت ما يقصده سنايدر بكلامه. «ليتم ذلك لا بد من شحن سطح الجزيئات بشحنات سالبة، على سبيل المثال من خلال غطاء من أيونات الفوسفات. الشحنات السالبة تتنافر، وحين تكون محاطةً بطبقة حاملات الشحنات الموجبة مثل أيونات الكالسيوم يمكن أن تُرَشَّ من خلال البخاخات بشكل رائع.»
«هل تعنين أن ذلك يشبه البحر، حين يقذف الرذاذ ملحًا في الهواء، فنتذوقه نحن على ألسنتنا؟»
«نعم، القشرة الملحية التي تعلق على شفاه الواحد منا لتحلي قبلاته ليست إلا جزيئات نانو متبلورة.» أكدت لها زابينة وسألتها: «هل جربت ذلك على الشاطئ من قبلُ؟»
ضحكت فاندا قائلة: «هذه مسألة مرملة أكثر منها مملحة!»
«من الممكن أن ينجح ذلك تمامًا. تتحول الجزيئات في الأنف إلى بلورات لأن طبقة السائل تتبخر.» استطاعت زابينة تغيير الموضوع كما تغيِّر الحرباء لونها. «لكنها لا تسيل بعضها مع بعضٍ كما العادة في البخاخات؛ لأن الجزيئات لا تزال تتنافر. تصل إلى الأغشية المخاطية وتظل عالقة هناك بما عليها من مستقبلات …»
«… ويتم امتصاصها بواسطة الخلايا.» أكملت فاندا الفكرة.
«لحظة. هذا لا يتم إلا إذا كانت الجزيئات محايدة؛ أي لا تحمل شحنات.» قالت زابينة مقاطعة ثم همست: «المكون الثالث.»
تذكرت فاندا أن الصندوق كان يحوي ثلاث مواد، اثنتان منها فقط هما ما تدخلان الأنف.
«ماذا عنه؟»
«من الممكن أن يكون أحد الإنزيمات. الفوسفاتيز ربما، ليتصدى للأيونات السالبة على بوابات الخلايا مباشَرَةً ويعادلها.»
قالت فاندا بِأَسًى: «لن يمكننا أن نتثبت من ذلك، فقد نفدت المواد.»
«لماذا لم أعرف هذا بنفسي؟» لم يكن من الممكن تجاهُل أن زابينة غاضبة.
«أفهمك. من الممكن أن يكون كذلك، لكن نحن نتكهن. ما الذي يفيدنا أن نعرف كيف يعمل «إن بي ٢٧٠١» بالتفصيل؟ أفضِّل أن تخبريني أي مسافر مهم نحن نتعامل معه؟ مَن ذاك الذي استُقْبِلَ في قاعة كبار الزوار، وأُلبس بدلة الفيروس ليتم رشه في مخ الفئران؟»
«كبار الزوار؟»
«لنَقُلْ إذن: شخص عظيم الشأن أو بالأحرى جزيء عظيم الشأن.»
تنهدت زابينة.
«رغم كل شيء نحن نعرف أنه كودٌ جينيٌّ.»
•••
بروفيسور هارتموت فيبيلينج، معلمها في الفصل الدراسي الأول كان ليتحدث عن الحد الأدنى من المعلومات، خلافًا للحد الأقصى من المعلومات التي تقترب من الحدود العليا للحقيقة؛ لأنها تشتق من التجارب. ليس ثمة خيار آخَر. كما أنه ليس من النادر أن يتجاور الاثنان بصورة تكاد تكون لصيقة، وعلى الباحث أن يتعلم أن يرضى بالقليل، كانت هذه هي وصيته للجيل الصاعد من العلماء. لكن ما البحث سوى التشجيع على إعادة البحث من جديد؟
لقد كان رودي هو مَن قاد فاندا إلى خيط مثير في بحثها ذاك الصباح؛ إذ أثبتت ذاكرة البيانات أنها كنز ثمين، كما أن البرنامج صار يصنع تركيبات لغوية أفضل من ذي قبلُ. إن المستخدم السابق لهذا الكمبيوتر كان يبحث عن الأعراض السمية لمادة البيلوباليد، وهي إحدى مكونات مادة الجنكة التي ذاع صيتها كمادة ذات تأثير معجز ضد النسيان وشيخوخة خلايا الأعصاب، ولهذا لم يكن مستغرَبًا أن مصطلحات البحث مثل «العلاج الجيني العصبي» أو «تجدد» ولَّدت إضاءات كثيرة بمساعدة رودي. لقد أثارت فاندا الطريقةُ التي قفزت بها على الشاشة دراساتٌ بكاملها حول العَتَه في الشيخوخة، وموت الخلايا، والحماية العصبية. لقد جعل التتابع اللاهث لنتائج البحث فاندا متوترةً. ورغم أن عقلها كان يكبح جماح أفكارها، فإنها ظلت تخشى أن يستهلك الموضوع رودي تمامًا فيما قد يُسمَّى بالنضوب الرقمي، ثم توقفت الشاشة فجأةً. سارت ببطء من الخلف للأمام في النص، وقلَّبت الشاشة صفحةً صفحةً، وقرأت سريعًا الفقرات الملخَّصة، إلى أن اصطدمت بمقطع من مقالة بجريدة: «شباب إلى الأبد — الآليات الجينية تجعلنا نشيخ — كيف يمكننا أن نحافظ على نشاط جيناتنا». لم تتمكن من معرفة السبب، لكنها استشعرت حقيقة المعرفة مثل صعقة كهربية سَرَتْ فيها فشدت ظهرها ووسعت عينيها. كادت تطير من الفرح إذ كانت متأكدة تمام التأكُّد أن هذه هي الإشارة التي ظلت تبحث عنها طول الوقت.