ذخيرة ذاتية التحلل
حرَّرها رنين من حلمها؛ إذ كانت فاندا واقفةً منذ لحظات في القبو المظلم بمنزل والديها ترتعد ذعرًا، في حين يلاحقها شخصٌ لا تعرفه، ثم يترصدها خلف الباب في زاوية قصية. كان نفس الحلم الذي يطاردها. وقد كانت سعيدة بالتحول المفاجئ إلى الحقيقة، لكنها تلمست طريقها وكأنها آلية يُتحَكَّم بها عن بُعْدٍ، وهي تمضي في اتجاه الصوت. كان هاتفها يدق على الخزانة الصغيرة بالمدخل. كان لا يزال متصلًا بمقبس الكهرباء.
لم يلتقط سوى اتصال من شرطة ماربورج. كان المتصل يسأل عن السيدة الدكتورة فالس. تنحنحت فأدركت كم كان حلقها محتقنًا.
«هذه أنا.» خرج صوتها ناعقًا، وبدت في حلقها نار ملتهبة، أنفها مسدود وفي جمجمتها طنين. لقد تمَّ تعيينك شاهِدَةً من قِبَل مَن يُدعَى أندرياس هيلبيرج الذي قام صباح اليوم بتقديم بلاغ ضد مجهول. تم تحديد موعد للمعاينة عند القصر في تمام الواحدة ظهرًا؛ أي بالضبط بعد ساعة من الآن. سيكون من الجيد لو استطعت الحضور. قال إن مكان اللقاء هو محطة الحافلات الكائنة بعد المنحنى جنوب جينوزينفيج.
حين وصلت فاندا كان بانتظارها بالفعل شرطيان، رجل وامرأة. كانت الشرطية تدوِّن ملاحظاتها. انحنى زميلها متفحِّصًا الزجاج على الأرض أسفل عمود الإنارة الذي انكسر مصباحه من الرصاص. كان يحمل في يده عصا معدنية في نهايتها قرص من المعدن كذلك. كان أندرياس في تلك اللحظة قادمًا من طريق جانبي. لا بد أن هذا هو الطريق الذي هربا منه في الليلة السابقة. حيَّا الشرطي فاندا باقتضاب وفتور. قال إنه يُدعَى ترامبيرت وإن زميلته تُدعَى فازا، لكنه كان يخاطبها باسمها الأول ليديا. كانت شابة شقراء يظهر عليها بوضوح بالغ علامات حداثة السن، وشقرة الشعر فلكأنها خبز مقرمش سويدي.
«لن نجد آثارًا أخرى على الأرض، فقد قامت الأمطار بإزاحتها كلها.» كانت نبرته تشي بأمر بالذهاب بأكثر مما تحمل نبرة تصريح موضوعي. «لو استطعتما أن تخبرونا من أي اتجاه جاءت الطلقات لتوفرت لدينا فرصة العثور على مقذوفات.» وقف أندرياس في ذات المكان الذي كان واقفًا فيه بالأمس حين بدأ إطلاق النار. تلفَّتَ حوله باحثًا. لقد كان الظلام دامسًا؛ لذا فالطلقات من الجائز أنها صُوِّبَتْ تجاههما إمَّا من مخبأ أو من نافذة مظلمة. أدركت فاندا في التوِّ واللحظة أن المكان مكشوف للغاية. هل أخطأ ذلك المهاجم المشئوم التصويب حقًّا؟ لقد كانا يقفان ها هنا مثل حلوى المارزبان على طاولة عرض محل الحلويات. أصابتها الفكرة بقشعريرة سرت في بدنها. إن أي طفل كان بوسعه إصابتهما بسهولة. لا بد أن الرامي كان من أسوأ ما يكون. هل كان ثملًا، ربما؟ أشار أندرياس إشارةً متردِّدةً في اتجاه غير محدَّدٍ.
«متى إذن سقطت الرصاصة الثانية؟» أراد الشرطي أن يعرف. لم تتمكن فاندا أن تحدِّد بدقة وأخذت تنظر إلى الطريق المسفلت الذي هربا منه.
سألت الشرطية: «هل كان أزيز الرصاصة مزدوجًا؟ هذا يمكن أن يخبرنا بشيء عن المسافة التي كان يطلق منها الرامي رصاصه.» نظرت فاندا إلى أندرياس بحثًا عن المساعدة، لكنه هز كتفيه وبدأ الحديث عن طلقة ثالثة ورابعة وخامسة، وكأنهما كانا يقفان في مرمى خط النار. فاندا عايشت الموقف بصورة مختلفة، لكنها لاحظت أن ترامبيرت هز رأسه برفق في إشارة إلى زميلته مما دفعها للإحجام عن قول ما تريد خوفًا من أن تزيد من حنقه. لم يكن الشرطي يصدِّقهما، وفي النهاية سيحمِّلهما مسئولية مصباح الإنارة المنكسر.
توجهت نحو الجرف الأيمن دون مزيد من اللغط وقالت: «لا بد أن الطلقة صُوِّبت من مكان ما هنا.» توجَّه ترامبيرت ناحيتها وحرَّك عصا الكشف المعدنية على المكان الذي أشارت إليه، لكنه لم يجد شيئًا.
قالت فاندا بعد فترة من البحث غير المجدي: «ربما يكون لنا حظ أوفر إذا ما صعدنا القصر. من الجائز أن الطلقة الأخيرة اصطدمت بسور البوابة عند الجناح الشمالي. المكان هناك مكشوف أكثر من هنا.»
أعلن الشرطيان موافقتهما، وهكذا ركبوا السيارة حتى وصلوا إلى الجراج في باحة القصر. ضيقت فاندا عينيها في شمس الشتاء الرقيقة، وفتح الهواء العليل أنفها المسدود. وجدوا أن سور البوابة لم يُمَسَّ كما لم يعثروا في الأرض أمامه إلا على كوبٍ ورقي مجعد وعلكة وبعض أعقاب السجائر. وقفوا في حيرة من أمرهم ما عدا الشرطية التي جلست ملاصقة للسور، وأخذت تدرس الأحجار وكأنها تبحث عن نقش خاص، لم يكن ينقص إلا أن تطلب عدسة مكبرة. تغيَّر وجه ترامبيرت المعبِّر عن الملل ليعبِّر عن الاستفزاز.
«هل أنتما متأكدان أنكما سمعتما صوت إطلاق نار؟» رأت فاندا أن أندرياس أيضًا لم يفهم ماذا كان يقصد. أوضح ترامبيرت: «ارتطام الطلقة بالسور؟» لكنه لم ينتظر إجابتهما، وإنما تبع إشارة زميلته التي غمزت له كي يذهب إليها. لم تتمكن فاندا من رؤية الشيء الذي رغبت أن تريه إياه؛ إذ كان كلاهما يغطي على المكان. كانت تتحدث بصوت خفيض وبدت كأنها تشرح له أمرًا. أومأ برأسه. بعدها نهضت وذهبت إلى السيارة.
نادتها فاندا متسائلة: «ما الأمر؟»
«أحتاج لحظة بعدُ.» لم تمكث الشرطية كثيرًا، ولما عادت كانت تحمل في يدها أنبوبة بلاستيكية صغيرة الحجم. تبعتها فاندا وأندرياس نحو السور، فأخرجت من الأنبوب ملعقة صيدلاني. كانت أدواتها تبدو مثل تلك المستخدمة في أخذ عينات البراز. بدأت ليديا فازا في الخربشة على السور. وفي تلك اللحظة فقط تعرفت فاندا على الشيء الداكن المستدير في الجزء العلوي من قاعدة السور، لم يكن أكثر سماكة من علامة قلم رصاص عريض. وقف ترامبيرت إلى جوارها يراقب أخذ العينة بارتياب لا يخفيه، وأخذ يحك فمه.
«لستُ متأكدة.» نظرت الشرطية إلى فاندا بعينين زرقاوين متسعتين حين بدأت تتكلم. لقد كانت جميلة حقًّا. وكانت بشرتها الناعمة ووجنتاها اللتان ورَّدتهما البرودة تجعلها تبدو مسترخية، على عكس فاندا. كانت تشير بأناملها الرفيعة نحو الخط الداكن.
«إن هذا هنا يبدو مثل أثر ذخيرة ذاتية التحلُّل، لكني قد أكون مخطئة. ليست عندنا خبرة بذلك.» نظرت فاندا متسائلة. «إنه شيء جديد، ذخيرة ذاتية التحلُّل، ربما لهذا السبب لم نجد أثرًا للمقذوفات؛ فباستخدام ذخيرة ذاتية التحلُّل لا يَبْقَ أيُّ أثر، أو إنْ شئنا الدقة، ليس ثمة أثر يُرَى بالعين المجرَّدة، إلا إذا اصطدمت الرصاصة بشيء صلب مثل هذه هنا بالسور.»
«وما هي تحديدًا؟» سألت فاندا.
أجابت ليديا فازا: «إنها جزيئات نانو. إن مقذوفات الذخيرة ذاتية التحلل تتفتت إلى غبار ناعم غير مرئي وتتوزع، وهي تترك آثار روابط كربونية لا يمكن إثباتها إلا باستخدام طُرُقٍ معينة. إن كانت هذه العلامة بسبب ذخيرة ذاتية التحلل فسنتمكن من إثبات ذلك باستخدام هذه العينة.»
«هل تبحثون مثلًا عن الفوليرينات؟» كانت فاندا قد تحولت كلها إلى آذان مصغية، فإلى جوار الجرافيت، والماس، كانت الفوليرينات تمثِّل رابطة الكربون الطبيعية الثالثة، لقد كان العلماء واثقين حتى في عقد الستينيات من وجودها، رغم أنها لم تُكتشَف إلا في منتصف الثمانينيات عن طريق الصدفة.
«نعم، بالضبط.» نظرت إلى فاندا بانتباه وسألت: «هل أنتِ مطَّلِعة على هذه الأمور؟» ضحكت فاندا قائلة: «عملي بالكامل يعتمد على هذه الأمور، أنا متخصصة في علم السُّمِّيَّات، لكني لم أكن أعلم أن أحدًا يمكنه أن يُطلِق النار مستخدمًا «كرات بوكي».» إن «كرات بوكي» بقطرها الذي لا يتجاوز النانومتر تمثِّل أصغر الفوليرينات على الإطلاق. قام المعماري ريتشارد باكمينستر فولر (ويُدعَى اختصارًا بوكي) بتسميتها في براءة الاختراع؛ لأنها كانت تذكِّره بالقبات الكروية الجيوديسية التي اشتهر بتشييدها، ولأنها تحتوي على ستين ذرة كربونية اعتبرت إنها بمثابة كرات القدم في عالم النانو، لأنها كانت مثل كرات القدم، مركَّبة من اثني عشر خماسيًّا، وعشرين سداسيًّا تضمن لها استدارة الشكل. كانت الوليد الجديد في عالم صناعة الشرائح. أما أخواتها الطولية، أنابيب النانو، فوصلت إلى قوة شدٍّ عالية من شأنها أن تسعد الأجيال الجديدة من لاعبي التنس بهذه الكرات العجيبة، فلماذا إذن لا تقتحم هذه الأقزام تكنولوجيا السلاح؟
«ومَن يطلق النار مستخدمًا شيئًا كهذا؟» سأل أندرياس.
أجابت الشرطية: «هذه الذخيرة ليست متوفرة في السوق بعدُ. يتم تطويرها للاستخدام في الأسلحة ذات العيار الصغير، وهي قاصرة على استخدام الجيش والمخابرات. أنا أعلم بهذا الآن فقط بسبب حضوري دورة تدريبية.» زمجر ترامبيرت بنفاد صبر، فنظرت إليه زميلته بهدوء وقالت: «ربما أيضًا أكون قد جانبني الصواب تمامًا، إلا أن زميلي يرى أن تحليل البقايا ليس خطأً. إن حالفنا الحظ فسيثير الأمر اهتمام معمل متخصِّص في كارلسروه.» دسَّتْ ليديا فازا أنبوب العينة في جيبها.
«هذا ما لدينا!» استدارت للذهاب وكان ترامبيرت قد سبق إلى السيارة.
قال أندرياس: «شكرًا على مجهودك.»
«سنتصل بكم.» ثم مدت يدها لتصافحهما مودِّعةً، واستطردت: «لكن لا تعقدوا آمالًا عريضة.»