نانوسنيف
كان ماكس شتورم يتطلع من نافذة غرفة الاجتماعات. لم تكن السماء التي تغطي ماربورج تختلف كثيرًا عن مثيلتها في بوسطن في هذا الوقت من العام. تتساقط أمطار أبريل الخفيفة على العشب شاحب الخضرة الذي كان يتمدد بدلال مثل سجادة على كل المنخفضات والمرتفعات المتموجة على صفحة الأرض. احمرت عينا شتورم كالنار وهما تنظران عبر ستار المطر الرقيق. لكن هذه الخضرة لم تكن تمتلك من القوة ما يمكِّنها من بث طاقة في شبكية عينيه. فبالأمس ظهرًا سافر من فرانكفورت وهبط تقريبًا في التوقيت نفسه من اليوم التالي في بوسطن. استغرقت الرحلة ست ساعات طيرانًا نحو الغرب، ومثلها ست ساعات متأخرة عند الوصول نتيجةَ فروق التوقيت. رغم ذلك بدت له الرحلة أطول. كانت ساعته الداخلية مضطربة بجنون. أرسلت شركة بوسطن للعلاجات المبتكرة — اختصارًا «بي آي تي» — سيارة إلى المطار لتحمله إلى فندق قريب من مقر الشركة. غادرت السيارة المدينة. كان يعرف الطريق الذي يمر بعدة طرق سريعة متشابكة تتجه إلى الشمال الغربي، إلى أن وصل بعد حوالي الساعة إلى بيدفورد.
أرهقه فرق التوقيت كثيرًا رغم أنه هو تحديدًا طالما عمل تحت ضغط الوقت. بذل مجهودًا شاقًّا ليبقى يقظًا حتى المساء، وبعد تناول الطعام مع مديري الشركة ذهب مبكرًا إلى الفراش، ثم استيقظ حوالي الساعة الرابعة فجرًا ولم يتمكن من النوم ثانية. نهض من فراشه وأعدَّ لنفسه قهوة لا طعم لها، من تلك المتوفرة في حجرات الفنادق، ثم بدأ يراجع محاضرته. عليه ألَّا يستثير انتباه سامعيه في اتجاه خاطئ، يكفي أن زابينة ميرتينز كانت في غاية العصبية وهي تخبره بملاحظاتها قبل سفره إلى بوسطن بمدة وجيزة. ورغم أنه لم يكن يحب نوبات الانفعال لكنه أنصت إليها وحاول تهدئتها. في النهاية كانت هي واحدة من أفضل الباحثين العاملين معه، لكنها أحيانًا ما تكون غارقةً أكثر في العمل. تمنى لو أنها تمكَّنت أيضًا من إبقاء فمها مغلقًا. لم ينسَ أن يذكِّرها بمنتهى الوضوح بشروط الحفاظ على السرية التي وقَّعت عليها وقت اتفاقية التعاون مع شركة بي آي تي. كانت شكوكها تدور تحديدًا حول التجارب الأولية التي تسبق المرحلة الثانية من الدراسة. طالما أنه لم توجد أدلة دامغة فلا ينبغي أن يعلم أحد بهذا الأمر، والآن خاصة، حيث يريد الأمريكيون مواصلة العمل معه. أيُّ إشاعة، أيُّ ثغرة من شأنها أن تُفقِده الخمسمائة ألف دولار المخصَّصة لتمويل المشروع.
وجد برنامج جلسة اليوم موضوعًا على المنضدة أمامه. خلع شتورم نظارته وفرك عينيه، ثم أعاد ارتداءها؛ إذ كان من الصعب عليه التعود على العدسات الجديدة. ظل يطأطئ رأسه بشك إلى أن وصل إلى نقطةٍ وجد الحروف تكتسب فيها معالمَ محدَّدةً، فعاد بأفكاره إلى زابينة ميرتينز. كانت مجرد ترس في ماكينة مؤسسته، ما أسهل إبدالها بغيرها! في الشهر القادم ستبدأ الباحثة الجديدة القادمة من روتشيستر عملها تحت رئاسته. هدَّأ نفسه بخاطر أن ميرتينز ستلزم الصمت. أخرج منديلًا بلون البراعم البيضاء من جيبه وجفَّف عرق يديه فيه. تزعجه كثيرًا الرطوبة في راحة يديه، ولحسن الحظ لم يكن الأمريكيون يعبئون كثيرًا بالاتصال البدني. نظر في ساعته الروليكس، باقٍ خمس دقائق على البداية الرسمية للجلسة في تمام التاسعة.
•••
أحس شتورم بمخالب مدير الشركة تنغرز في كتفه وهو يحييه: «مرحبًا ماكس.»
تكسَّر صوت ماكس من هول الصدمة المفاجئة كما يتكسر الغصن الرفيع، حتى أنه حاول أن يداريه بضحكة مفتعلة وقال: «صباح الخير يا باول.»
«أرجو المعذرة، أعرف أن الوقت مبكر بالنسبة لكم، خصوصًا في ظل فروق التوقيت وتغير المناخ، لكن الأمر شديد الأهمية.» رغم طغيان اللكنة الأمريكية على حديثه، فإن لغته الألمانية كانت رفيعة المستوى لدرجة تجعله يفهم كل الكلام، وهو ما يأسف له شتورم سرًّا؛ لأن هذا الأمر لن يسمح له أن ينسِّق مع محاميه في أثناء الجلسة دون أن يلاحظ أحد. تصدَّر باول تورمان بهيئته الضخمة رأس طاولة الاجتماعات، بينما أخذ صوته الرخيم يدوي في القاعة.
«أين الدكتور لوزر؟»
فقال المحامي الذي أتى للتو من الحمام مصححًا إياه: «بل لوثر، مثل مارتن لوثر، صباح الخير يا سيد تورمان …»
«آه نعم، مارتن لوزر، تذكرت الآن.» كان ينظر بعينيه الداكنتين الصغيرتين. وضع المحامي حقيبة أوراقه على الطاولة، ثم أزاحها بحيث توازي مقدمتها حافة الطاولة. وبدا شاحبًا، فكان شتورم يبتسم له مشجِّعًا. حتى لو لم يكن فعلًا يؤاخذ تورمان على تصرفه الفظ، لكنه لن يجرؤ أبدًا أن يدير له ظهره. فخلف إطلالة تورمان الساحرة يختبئ دبٌّ قطبي جائع.
دخلت ليندا فارن غرفة الاجتماع، وهي مديرة الإنتاج بقسم علاجات النانو. تعرَّف عليها شتورم بالأمس أثناء عشاء العمل. قدَّر أنها في نهاية العشرينيات من العمر، شقراء، زرقاء العينين، رشيقة وناعمة مثل ثعبان الماء، بدت وكأنها أنهت إخراج أحد المسلسلات الوثائقية المدبلجة لتنزلق لتمثيل دور جديد. تبدو وكأنها تعلِّق على فمها لافتة تعليمات «يُرجى الابتسام» مكتوبة بالطباشير. تبعها ثلاثة رجال لم يكن شتورم يعرفهم. إنهم بالتأكيد محامو السيد تورمان.
تحوَّل السيد تورمان ناحية الحاضرين وقال: «هلَّا عرفتكم ببعضكم؟» قالها بلكنته الأمريكية، فغطت على حدته في الحديث.
«الدكتور ستيفن برايت من شركة لينكس فارماسيوتيكال، أهلًا بك ستيف. وهؤلاء هم مايك بارنفيلد وجيم روس، حارساي الشخصيان»، وضحك بصوت عالٍ وهو يومئ برأسه إليهما، «هذه دعابة طبعًا. لكننا سعداء أن تمكَّنَّا من الفوز بهما في شركتنا قبل بضعة أشهر، لا بد أن تعرف أن شركة بي آي تي تحوي الآن قسمًا خاصًّا للشئون القانونية.»
ثم أشار تورمان نحو شتورم: «الدكتور ماكسيميليان شتورم من ألمانيا، معهد السموم جامعة ماربورج، وهو أيضًا مدير شركة نبيكس، ومحاميه السيد رولف لوووثر.» سمع شتورم كيف أن لوثر تنفس الصعداء وهو جالس إلى جواره. طلب تورمان من كل الحضور في الجلسة أن يتخذوا مقاعدهم على الطرف البيضاوي من الطاولة، بينما ظل هو واقفًا في المقدمة.
«ليس لدي فكرة لِمَ يوجد فقط اثنا عشر مكانًا على الطاولة، لكني أؤكد أن ليس للأمر علاقة بأي مؤامرات دينية»، ثم نظر إلى لوثر الذي كان عرضًا يدوِّن شيئًا ما، واستطرد: «هل تعرف أن يهوذا الإسخريوطي لم يكن أصلًا حاضرًا العشاء الأخير، وأنَّ يسوع كان قد صرفه؟» ابتسم هازئًا، وصمت قليلًا ثم قال: «وعلاوةً على ذلك نحن فقط سبعة أشخاص، مما سيجعل إثبات الخيانة أسهل، في حال وُجِد بيننا خائن.» رف جفن شتورم الأيسر؛ لقد أبرز تورمان الحدود الفاصلة غير المرئية بين الحاضرين للجلسة، فلكأنه رسمها بالقلم الأحمر.
•••
شغَّل تورمان جهاز العارض الضوئي المعلَّق في سقف حجرة الاجتماعات، فألقى شعاعه على الحائط الشعارَ الأزرق التقليدي لمايكروسوفت. أمسك في يده جهاز التحكم عن بُعْد، فتسارعت على الصورة المعروضة على الحائط نقطة بيضاء تشبه السهم. في نفس اللحظة ظهرت صورة بانورامية لمدينة بوسطن في أضواء المساء. أسند شتورم ظهره، ألَمْ يَرَ تلك الصورة على أحد الكتالوجات بغرفته بالفندق؟ نهضت ليندا فارن واتَّجهت نحو الباب. ضغطت على عدة مفاتيح فانسدل على إثرها ببطء قماش أسود من السقف مُحدِثًا أزيزًا خفيفًا، حتى غطَّى النافذة من الداخل. ساد ظلام في الغرفة فكأن الليل قد حَلَّ، ولولا خط الضوء الرفيع الفاصل بين الستائر وحواف النافذة لتصور شتورم أن هذه كواليس رحلة عبر الزمن في اتجاه الشرق، نحو الجانب الآخَر من القارة.
الشريحة التالية عرضت شعار شركة بوسطن للعلاجات المبتكرة ومعه الاختصار المتداول بي آي تي.
«نحن نريد اليوم التوكيد على المرحلة الثانية من التعاون المشترك» قالها تورمان وهو يفرك يديه وكأنه سينتقل حالًا لتنفيذ المهمة. «ولأجل هذا الأمر علينا توضيح بعض الشكليات، وإن كانت هامشية من وجهة نظري.» تنحنح ورفع شريط بنطاله إلى خصر بدنه الضخم. «بالأحرى على خبرائنا المختصين بالشئون القانونية العمل على ذلك. ومن أجل أن يستوعبوا هم أيضًا ما نريد أن نفعل، أريد أن أستعرض بإيجاز النقاط الرئيسة لبحثنا المزمع.» كانت عيناه اليقظتان تتجولان هنا وهناك بين المحامين الثلاثة. «لِنَقُلْ إننا اليوم نتحدث بلغة قناة «ناشيونال جيوجرافيك» العامة بدلًا من قناة «نيتشر ميديسين» المتخصِّصة، على سبيل المجاملة لكم. وأرجوكم قاطعوني لو استشكل عليكم فهم أي أمر من كلامي.» بعدها ظهرت على الحائط صورة شارع تتدافع فيه حشود من الناس. وبينما كان تورمان يقرِّب الصورة بشكل غير متدرج، بدا لشتورم وكأن الناس فيها آتون نحوه، ولما اقتربت وجوه الناس بشكل ظاهر تجمدت الحركة. كانت كلها وجوهًا لأناس متقدمين في العمر، سيدات ابيضَّتْ شعورهن ورجال صلع الرءوس، ملامحهم وقورة وعيونهم براقة. استدعت الصورة في ذاكرة شتورم إعلانًا عن شركة تأمين على الحياة، كان قد شاهده مؤخرًا في السينما.
«حتى الآن كان الطريق هو الغاية»، قالها تورمان ونظر للحضور المتحلقين في صمت. أدرك شتورم إلامَ يرمي تورمان.
«لقد طورنا إنتاج نانوسنيف، حتى نحمل المواد الفعالة على جزيئات النانو مثل قوارب النقل عبر مسارات الشم من الأنف وحتى المخ، وهذا طريق جديد تمامًا. أفكر مثلًا في علاج السرطان، أو في المواد المنومة، أو أدوية العلاج النفسي. إنه طيف عريض من المجالات المتاحة، وسنكون موجودين حين تظهر أدوية نانوسنيف في الأسواق، علاج أنفي فقط. إن براءة الاختراع مضمونة لنا بلا جدال.»
شتورم أيضًا كان مقتنعًا بعبقرية الفكرة. إن الطبقة المخاطية المبطنة للأنف، وكذلك مراكز التحكم بأعصاب الشم في الدماغ شديدة القرب من بعضها، فوصول مواد النانو إلى المخ سيكون بالبساطة التي تشبه القفز من فوق سور الحديقة. للدقة فَلْنَقُلْ إنها ثغرة ستتمكن جزيئات النانو من التسرب عبرها. بالأحرى هي نقطة الضعف التي طالما استغلتها فيروسات شلل الأطفال والالتهاب السحائي المخيفة. ببساطة تذكرنا مكانها؛ ولهذا فقد اشترى شتورم عددًا من أسهم شركة بي آي تي في البورصة قبل نحو الشهر، رغم أنه ليس مطلعًا على كافة خلفيات هذا المشروع. وفي النهاية فقد أكدت أحدث النتائج التي أُجرِيتْ في معمله صحة هذا التطبيق ونجاحه. لا تزال بي آي تي تخفي نانوسنيف وكأنه سر من أسرار الدولة. فهي لم ترسل إلى ألمانيا إلا النزر اليسير من مادة النانو، كما اشتمل عقد الشراكة على غرامات مالية عالية تُدفَع في حال استخدمت مادة النانو في غير الأبحاث المتفق عليها. لم ينجح أحد حتى الآن في توصيل جزيئات النانو عبر مسارات الهواء إلى المكان الذي عليها أن تعالجه دون أن تعلق وتتشابك؛ وهذا ما يزيد من صعوبة وضعها في البخاخات الطبية. من الواضح أن العلماء في شركة بي آي تي قد طوَّروا أسلوبًا يمكِّنهم من التغلب على تلك الآثار المزعجة. خمَّن شتورم أن السر الحقيقي في نانوسنيف يكمن في سطح جزيئات النانو. ربما خدعة ما تفكِّك الجاذبية الشديدة بين هذه الجزيئات. وهو غاضب حقًّا من كونه لا يعلم المزيد. في نفس الوقت كان يشعر بالزهو أن يكون مشاركًا في مقدمة تطوُّرِ مبتكَرٍ مثل هذا؛ فهذا ما كان يمثِّل له منطقة التقاطع بين العولمة، ورأس المال الإنساني النزعة وتدويل الأبحاث الممتازة في علوم النانو. ففي الوقت الحالي كانت تبدو له هذه المصطلحات في غاية الجاذبية وهي تخرج من بين شفتيه، فمهما كان متعبًا، بل وحتى لو كان نائمًا، كان يستطيع صياغتها والنطق بها؛ إذ كانت توفر عليه الوقت وتبدو مناسبة للتداول في المجتمعات التي يتحرك فيها. ولم يكن يضايقه أنه هو ذاته لا يفهمها أحيانًا، فلم يكن الأمر متعلقًا بما يقول على قدر تعلقه بالكيفية التي يقوله بها، لكنه يتمنى لو كان معه جهاز استشعار دقيق الحجم مثل الإبرة الصغيرة يغمسها في محلول نانوسنيف ليستكشف أسراره. أيًّا ما كان الأمر، فليس ثمة شك أن واحدًا من أهم الإنجازات التقنية الطبية وصل إلى عقر داره، وهي خطوة مهمة على طريق تطبيقات النانو العلاجية. فلماذا الآن نعطي مانح العمل سببًا لعدم الثقة؟ فحتى الآن أثبتت «مسبارات نانوسنيف» كفاءة كبيرة كوسائل مواصلات يمكن الاعتماد عليها بشكل كبير، وهذا الخبر السعيد جاء من معمله، وحتى الآن كل شيء يسير بشكل جيد، وسيظل أيضًا يسير بشكل طيب. الشك هو آفة كبرى في هذا السباق. نانوسنيف يعمل بكفاءة. لقد تم تحقيق الأهداف المرجوة، كما أنه واحد من أعضاء الفريق المبتكِر.
«لكننا نريد المزيد»، اخترق صوت تورمان العميق أفكاره وهو يشير إلى صور الوجوه مكبَّرة الحجم على الحائط. «نريد أن نحصِّل الحكمة التي تختبئ في كل هذه الرءوس؛ ففيها يكمن ما نصبو إليه للمرحلة القادمة. إنها لتكاد تتحرك صوبنا مباشرة.» وبهذه الكلمات أعاد الصورة إلى حجمها الأول. وهنا أدرك شتورم أن الأمر أكثر من مجرد نقاش حول إمكانات التعاون مع شركته. كان تورمان قد ألمح بالأمس على العشاء أن اثنتين من أضخم شركات الأدوية تحومان حول بي آي تي، جالت عيناه حتى وصلت إلى ستيفن برايت. بالتأكيد ليست لينكس فارما بالشريك السيئ.
«هل سمعتم من قبلُ أيَّ شيء عن تعديلات التخلق المتوالي؟» طرح تورمان السؤال على مستمعيه، ثم أعطى من فوره الإجابة: «سأقول لكم. التخلق المتوالي هو ما يحدد ما ستئول إليه حياتنا، خصوصًا لو كانت حياة مديدة. إنها بمثابة محكمة عليا، إما تقضي لجيناتنا بالكلام وإما تجبرها على السكوت. ونحن نعلم أن عمليات التولد الذاتي اللابنيوي في خلايانا تساهم بقدر لا يستهان به في أننا نشيخ، وفي الكيفية التي يحدث بها ذلك. الأمراض الناتجة عن تدهور الأعصاب وضعفها، العته، كل أشكال العجز الذهني التي تتواكب مع التقدم في السن، في كل ذلك يكمن مستقبل عملنا.» بدأت شقوق رفيعة تتخلل الصورة المعروضة على الحائط، ثم تفككت إلى مربعات صغيرة في ذات الوقت بدأت تتشكل من العمق صورة تشبه الزهرة الصغيرة تتحرك حركة لولبية في المقدمة. فكَّر شتورم أن هذا شكل ماندالا (شكل هندسي مشهور في العقيدة البوذية عبارة عن مربع داخله دائرة يُعتَقد بقدرته على تحقيق التوازن الإشعاعي)، لكنها لم تكن في صورة مستوية لأنها كانت طبيعية. تعرَّف فورًا على التركيب الجزيئي للحمض النووي دي إن إيه.
أكمل تورمان محاضرته: «أنتم تشاهدون هنا نموذجًا من داخل النيوكليوسوم. الأسطوانات الملونة في المنتصف هي بروتينات الهستونات، إنها تشكِّل ما يشبه المغزل الذي تلتفُّ حوله خيوط الحمض النووي. المفترض أن الجينوم البشري يحتوي على خمسة وعشرين ألفًا من مثل هذا النيوكليوسوم. ببساطة لكم أن تتخيلوا كتابًا، فَلْنَقُلْ موسوعةً مطبوعة على شريط رفيع، بدلًا من طبعها على صفحة كبيرة الحجم، قام مجلِّد الكتاب بلفها بشكل دقيق وعناية فائقة حول سلسلة طويلة، بحيث يتمكن من برمها وتخزينها في درج، ومن حسن الحظ لم يُستخدَم الورق في الطباعة، وإنما مادة مطاطية تستطيعون مدها حين تريدون البحث المحدد عن مصطلح. ولكي تتمكنوا من قراءة النص، عليكم إبعاد الشريط المطاطي عن السلسلة، ولكي تفعلوا ذلك عليكم استخدام ملقاط؛ لأن الشريط المطبوع عليه النصُّ في غاية الرقة، حتى أنكم لن تتمكنوا من إمساكه بين أصابعكم. تمامًا بهذه الطريقة تسير الأمور في النيوكليوسوم. مثل الملقاط الذي في أيديكم تقوم إنزيمات معينة في خلايانا النووية بحلحلة الرابطة بين مغزل الهستون وشريط الحمض النووي، هناك فقط يمكن قراءة كود الشريط الوراثي. لنَقُلِ الآن إن الموسوعة تقادمت مع الزمن، وإن شريط النص ملتصق فعلًا في مناطق كثيرة، بحيث أصبح من الصعب عليكم فتحها ثانية، وكل فترة يزيد عدد النصوص التي لم تَعُدْ قراءتها ممكنة. كذلك الحال في خلايانا حين نهرم، مناطق مهمة من النصوص في مادتنا الوراثية تصبح مغلقة بالترباس إلى الأبد، فاقدة النطق، محبوكة، وهذه العملية هي التي نريد وقف أثرها من خلال تدخلنا العلاجي.» أومأ تورمان لزميلته في العمل إيماءة سريعة، فنهضت من فورها وفتحت نور الغرفة. «بفضل نانوسنيف تمكنَّا من تمرير بعض التسلسلات الوراثية في دماغ حيوانات التجارب، ونجمعها على معديات النانو ثم نرسلها تبحر إلى رحلتها. إنها الإنزيمات الوراثية، بمعنى أن وراء تسلسلها تكمن الإنزيمات المختلفة، والمحفزات التي من المفترض أن تتدخل في عمليات التولد الذاتي اللابنيوي. لنَقُلْ إننا نورد الملقاط، الأداة التي تحتاجها خلايا المخ من أجل إعادة فتح نصوص الجينوم التي تم إغلاقها بالترباس.» ونقل يده اليمنى فوق فمه. «لعلكم تجدون في هذا الكفاية، ستتفهمون أني لا أستطيع الحديث أكثر لأسباب متعلقة بأسرار الشركة.» وفي تلك اللحظة انسلَّت ليندا فارن إلى مقعدها ثانية. تعلَّقت عينا شتورم بمؤخرتها التي تتراقص مثل كرة مرحة تحت الفستان الأزرق الضيق؛ لكن صوت تورمان العميق أفسد عليه هذا السحر.
«خبيرنا، البروفيسور شتورم، سيؤيد كلامي حين أقول إن أوائل تجارب ناقلات الجين باستخدام نانوسنيف واعدة بالنجاح.»