نخب العام الجديد
كانت فاندا غاضبة.
صاحت: «أَلَا يمكن أن ينتظر ذلك إلى الغد؟ علاوةً على ذلك، مَن أخبرك أين أكون؟» كانت تجري، تكاد تهرب. كانوا يتوجَّهون إلى المدينة بالأسفل.
أجابها أندرياس: «أنت نفسك أخبرتني بذلك ذات مرة.»
لا تذكر فاندا أنها أخبرت أندرياس بخططها لليلة رأس السنة.
قال بحذر: «لقد اتصلت بي الشرطة أول أمس. لذلك عدت إلى ماربورج قبل الموعد. لم أكن أريد أن أخبرك هاتفيًّا حتى لا أثير قلقك. الآثار على السور في باحة القصر مصدرها ذخيرة ذاتية التحلل فعلًا. ربما بالفعل ثمة علاقة …»
قاطعته قائلة: «هراء!» كانت فاندا مذهولة؛ فقط لأن الشرطة اكتشفت بالفعل آثار ذخيرة ذاتية التحلل، تلك العينة التي أخذتها تلك الشقراء مثل الخبز المقرمش ذات الاسم الذي يصلح أن يكون اسم سفينة، يأتي ليفسد عليَّ الأمسية؟
قال بصوت محبط: «أرى أن هذه المعلومة شديدة الأهمية، خصوصًا أن الذخيرة ذاتية التحلل تلك ليست بالذخيرة المتاحة للمستهلك العادي.»
«وماذا يقول لنا هذا إذن؟ إن المخابرات تلاحقني أو تلاحقك؟ لا تجعل من نفسك أضحوكة.» ألم يكتب سنايدر على عمليات السلطات الفيدرالية الأمريكية في أوروبا؟ لكن لماذا يطلقون علينا النار؟ هزت فاندا رأسها. «لم يكن سوى أحمق ثمل.» قالتها بتوكيد لم يَدَعْ مجالًا لمعارضة، «لن أندهش إن وجدنا هذا الشيء في السوق السوداء.»
أرادت فاندا العودة إلى المنزل. سبقته، وسرعان ما وصلَا إلى المدينة القديمة ومنطقة المشاة. حتى تلك اللحظة ظلَّا يتجادلان، كان الشارع مليئًا بالناس قبل منتصف الليل بقليل. دفعت أجواؤهم الاحتفالية فاندا للصمت رغم أنها كانت لا تزال تغلي من داخلها. ما الذي يفكر فيه هذا الغر؟ تذكرت حكاياتها مع أخيها، وكيف أنه كان يتبعها سرًّا إلى حفلاتها الأولى. ذات مرة وقف على غير انتظار بباب معلمها الجزائري، كانت في الخامسة عشرة وجميل في الثالثة والعشرين، وكان المفترض أن يعلمها الفرنسية. كان أسلوبه في التدريس عمليًّا وقريبًا من الحياة المعيشة، أما مذاقه فكان مثل الثوم ومثل أحد التوابل الغريبة. لم تعرف أنه حَبُّ الهال سوى بعد ذلك بكثير، من محل وجبات سريعة أفغانية، قريب من مسكنها في فترة الدراسة الجامعية، وكانت تعتمد عليه لتأمين استمرارها على قيد الحياة فترة الامتحانات. مع المذاق عادت ذكرى جميل مثل الآن، حسية وكلها شغف. آنذاك كان يشتعل بداخلها وهج أقوى من الجوع ومن الحاجة إلى النوم، ثم جاء ذلك الأخرق ليقف بالباب، ويتراجع مرتبكًا ليدوس ساقًا بالأخرى؛ لأنه كان قد وصل إلى سن يفهم فيها ما يحدث. سبَّت ولعنت وصاحت واعتبرت أن والديها كانا وراء ذلك. عوقبت بالمكوث في المنزل شهرًا كاملًا، ولم تَرَ جميلًا ثانيةً.
تُرَى هل يأكل توماس الآن الحلوى الخاصة بي؟ لقد تركها تمضي ببساطة، بلا حجج معارضة، دون أن يُبدِي أي إشارة لخيبة أمل. لقد ظل خلفها في الطرقة، لكنها رأت وجهه في المرآة، لم يَبْدُ عليه أي أثر، فشعرت بالإحباط. هل ذهبت مع أندرياس لهذا السبب؟
جفلت حين انفجر صاروخ ناريٌّ بجانبها. وفي ميدان السوق أمام مجلس المدينة القديم وقف الناس في مجموعات صغيرة مسترخية. أسرعت فاندا خطواتها. مرت من حول المنتظرين دون أن تكترث إن كان أندرياس يسير وراءها، وواصلت الخطو بهمة نحو هدفها. كانت تريد أن تتخلص منه، لكنه ظل يتابعها.
تبعثر الطين تحت قدميها حين قفزت على درجات الزقاق، وفي اللحظة التي عبرت فيها تقاطع بيلجريمشتاين بدأ الهدير. جاء الصراخ والطرقعة والفرقعة من كل مكان، وأخذت أجراس الكنائس تدق. تناثرت الشرارة فوق رأسها. كانت لا تزال تجري تتعجل الدخول في العام الجديد بخطواتها الواسعة كثيرًا. كانت تتخيل الأمر على نحوٍ مغايرٍ. في أحضان رجل ربما؟ كيف يمكن أن أكون بهذا الغباء؟ إنه لا يريدني بتاتًا. ارتعبت عندما أمسكها أندرياس من ذراعها، وشل الارتباك قدرتها على الاعتراض وتبعته في نزوله على درجة سلم مظلمة على طريق موحل. بدت لها أشجار الحديقة النباتية العملاقة أكثر ضخامة من حجمها بالنهار، ومع كل طقطقة كانت الغربان تضرب بأجنحتها ثم تعاود الهبوط الوئيد على الأغصان التي ينامون عليها. أخرج أندرياس زجاجتي بيكولو من جيبه وفتحهما وناولها واحدة بابتسامة تشي بالندم.
«نخب العام الجديد!» قال بصوت خفيض وقرع الزجاجتين إحداهما بالأخرى. شربت فاندا ثم مسحت فمها، وعاودها غضبها القديم.
«بالمناسبة الألعاب النارية توزِّع الجزيئات بكفاءة وتحمل الأجواء، خصوصًا في ليلة رأس السنة، بنِسَب عالية جدًّا من غبار النانو.»
تطلع أندرياس إلى سماء الليل التي تنهمر منها أمطار الضوء.
«لكنك تتمتعين بجمالها قبل أن تقتلك.»
راقبت فاندا كيف أنه يقف إلى جوارها بفم مفتوح. طفل كبير. دسَّ رأسه في رقبة المعطف في حين التمعت على عدسات نظارته انعكاسات الأنوار الملونة.
قالت ببرود: «هذا الموت يأتي متسللًا. يبدأ بالسعال وأزمات التنفس، ثم تتسارع ضربات القلب وتتحلل الرئتان أو يتضاعف حجمهما. سيان. النهاية واحدة. هل تعتقد حقًّا أنك ستذكر هذه الألعاب النارية وأنت تختنق؟»
نظر أندرياس إليها بقلق.
«هل ذهبت للطبيب؟»
هزت فاندا رأسها.
«حتى متى تسكتين على هذا الوضع؟»
«حتى أتأكد.»
«لن تتأكدي إلا من الطبيب.»
«أتعلم …» تناولت رشفة شامبانيا أخرى واستطردت: «أحيانًا أعتقد أنه سيزيد من سوء الأوضاع. هل تعلم أن نسبة الجزيئات الصغيرة قد زادت في الهواء بعد أن تم تركيب فلاتر السخام في محركات الديزل؟» وبعد وقفة قصيرة أكملت: «في السابق كانت الجزيئات الكبيرة تُبْقِي الصغيرة تحت السيطرة، كانت تربطها وتُبْطِل مفعولها الضار، والآن بعد التخلص من الكبار صارت الحلبة خاوية يرتع فيها الصغار بمفردهم.»
فتح توماس ذراعيه عن آخرهما وتراقص في مكانه: «حين يختفي الطغاة يرقص الشعب.» كان يترنح خفيفًا. هل ثمل؟
ردت فاندا بفظاظة: «أنا أعني شيئًا آخَر. في كل مكان لا يتم إلا معالجة الأعراض، وكل تدخُّل يخلق مشكلة جديدة: فلاتر السُّخَام أدت إلى إزاحة في جدول أحجام الانبعاثات الملوثة، تناوُل الأدوية يؤدي إلى عدم تحمل الأدوية، فيؤدي إلى أمراض لا تُعالَج إلا بأدوية أخرى، يزعمون أن جينًا بعينه فيه الشفاء من كل داء يتحول إلى سلاح فتَّاك.» خرجت عباراتها متهدجة. ماذا قلت الآن؟ سلاح فتَّاك؟ هراء! «على أية حال نحن لا نطلع على عواقب أعمالنا، إنما نخادع أنفسنا، ونحن نعمل في إطار ظروف معزولة، ونضع نظمًا مثالية لنماذجنا؛ لذا نحقِّق النجاح، لكن الحذر الحذر إن أطلقناها حرة؛ تتحول أفعالنا إلى ردود أفعال، ونبدأ في ملاحقة الظواهر بعد تفشيها.»
«يرى أفلاطون أن مكتشف فن ما ليس بالضرورة هو أنسب الأشخاص للحكم على الجيد أو السيئ الصادر عن أولئك الذين يمارسون فنه.»
لم تخلُ نبرتها من شماتة وهي تقول: «… وهم لا يعرفون بالضرورة كُنْهَ ما يفعلون. الأمر تحوَّل إلى تفويض مطلق لم يحن وقته بعدُ. لا يزال العلم الحديث كيانًا مخنثًا، يملي فيه المصنِّع ما يريد على المكتشِف. وقد يحدث أن يُفتَن شخص بكلا الدورين …» قطعت كلامها وابتسمت من زلة اللسان، «أقصد أن يقوم شخص واحد بكلا الدورين. مَن يتحمل المسئولية في هذه الحالة؟»
«إن محاولة أي فرد أن يحل لنفسه مشكلة تمس الكل محتومة بالفشل. هذه مقولة فريدريش دورينمات في رواية الفيزيائيون.» تذكرتها فاندا، توماس أيضًا استخدم استشهادًا. هل كان استخدام الاستشهادات هو العلامة المميزة للخَرِعين؟
سألت مُستفزة: «هل تردد كل شيء مثل الببغاء؟ ثم ماذا يقصد بالفشل؟ حين يضع المجتمع إرضاء نرجسيته هدفًا، سيصيب النجاح حتمًا، سيظل هناك سبب لدعم التغيير. من ناحية أخرى أين يبدأ التغيير إن لم يبدأ بالفرد؟ أليس عملنا يصب في الصالح العام؟ ولذلك كل عالم ملزَم بأن يختبر دوافعه بمفرده، بل إني سأذهب خطوات أبعد وأزعم أننا نتصرف فقط من أجل إيجاد حلول لمشاكلنا الخاصة جدًّا.»
ابتسم أندرياس.
«هل تريدين لزملائك مثلًا أن يكتفوا بالجلوس على الأريكة؟»
هزت فاندا كتفيها.
«أريد فقط أن نتوقف عن خداع أنفسنا.»
أومأ أندرياس.
«لقد تشاجرت مع أبي حول هذا الموضوع قبل أن يدخل في غيبوبة بفترة وجيزة. ما زلت أعتب عليه أنه لم يخبرني الحقيقة، فقد كان يعرف أنه مريض.»
ردت فاندا وقد بدأ غضبها يهدأ: «ربما كان خائفًا.»
زفر أندرياس وقال: «نعم بالتأكيد، لكن ما نتيجة أن نزحف خائفين لنختبئ خلف وضعنا الاجتماعي، أو لقبنا العلمي، أو حسابنا في البنك، أو صناديق الادخار والأسهم ومعامل التميز في الدورية العلمية …»
سألت فاندا نفسها: أو ربما نختبئ من أنفسنا ذواتها؟ لكنها لم تنطقها. مستها نظرة أندرياس، فقد بدا مثل صبي صغير يلقي قصيدة. ثم قالت وهي تتصنع أنها تمر بالموضوع عرضًا: «بالمناسبة … هل من الممكن أن تكون الغيرة هي دافعك؟»
«هل ثمة سبب يدفعني إلى ذلك؟» قبل بضع ساعات كانت لتجيب بنعم، أما الآن فلم تَعُدْ متأكدة. على بُعْد خطوات منهما كان ثمة صندوق قمامة مملوء عن آخره، فوضعت زجاجات الشمبانيا الفارغة إلى جواره على الأرض.
ثم قالت: «وما أخبارك؟ هل بعثت برسالة تهنئة بالعام الجديد إلى لاريسا؟»
زم أندرياس شفتيه ورد باقتضاب «لاحقًا سأفعل. بسبب فروق التوقيت. الحفل سيبدأ الآن.» من مكان ما انطلق صاروخ رأس السنة، ورن من بعيد بوق إنذار. لم تكن فاندا قد لاحظت الهدوء الذي ساد من قبلُ. شعرت بالبرد وأرادت العودة إلى منزلها، ثم مشت أمامه فلم يتحدثا معًا. أوصلها أندرياس حتى باب المنزل، فالتفتتْ نحوه ثانيةً لتودِّعه.
«بلِّغْها التحية مني!» ثم تمنَّتْ له ليلة سعيدة.
•••
كان مصباح بئر السلم معطَّلًا ثانية. وأخيرًا فتحت باب شقتها قرب الساعة الواحدة، كانت ترتعد من البرد إذ ظلت بالخارج أكثر من ساعة. بالداخل أيضًا ساد الظلام حتى بعد أن ضغطت على مفتاح النور. كان باب المطبخ مفتوحًا كالعادة، في حين ألقت أضواء المدينة عليه ظلالًا رمادية تميل للزرقة فجعلته يلمع وكأنه صورة مطلية بالرصاص. كانت تستطيع كل مرة أن تشعر باللحظة التي تنضبط عيناها فيها على الرؤية الليلة، كان ذلك إجراءً فسيولوجيًّا طبيعيًّا تنشط بموجبه خلايا الإبصار المسئولة عن التمييز بين الأبيض والأسود، وكأن أحدهم رفع حجابًا داكنًا من أمام وجهها، فتتخذ الأشياءُ فجأةً في محيطها حدودًا خارجية. تزداد حدة التباين بين الفاتح والداكن، كما تستنتج عمقًا في المكان تستطيع أن تتجرأ وتتقدَّم فيه. اصطدمت قدمها بشيء رخو، فتعثَّرتْ وتعرفت على جوال الغسيل الذي أرادت أن تأخذه إلى القبو، لكنها اضطرت لتركه عندما دقَّ جرسَها سائقُ سيارة الأجرة ليُعلِمها بوصوله. عثرت على مصباح الجيب في دولاب المطبخ. بمزيد من السرعة حركت قرص الضوء في الغرفة، وهي تسب وتلعن في داخلها. الآن تحديدًا. إن لم أفعلها الآن فسأظل غدًا في الفراش طوال اليوم. كانت قد قرأت على لوحة الإعلانات بالأسفل «لا مدير للمنزل في رأس السنة.» كان مجرد التفكير أن المدفأة عطلانة يجعلها ترتعد بردًا. في طريق العودة إلى الطرقة تلقَّى جوال الغسيل ركلة غاضبة. كانت الصورة فوق صندوق الكهرباء مائلة، فأخذتها من على الحائط وأرادت أن تضعها على الخزانة الصغيرة أمامها، فاصطدمت بالزهرية التي لا تضعها عادةً في هذا المكان، لكنها أمسكت بها في الوقت المناسب. وعلى ضوء مصباح الجيب رأت مفاتيح الكهرباء قد قفزت لأسفل، وحين مدت يدها لترفعها شمت الرائحة، استدارت فرأت رجلًا، كان يرتدي جوربًا في رأسه. أمسكها من كتفها، وعلى الفور ضربتها الرائحة المنتنة وكأنها خرقة كبيرة لزجة تضرب وجهها. فصرخت لكن صوتها انحبس. شعرت بثقل ذراعه يضغط على صدرها. أدارها بحركة واحدة وضغط على جسدها. كادت تختنق حين وصل الأثير إلى حلقها وأفقدها الوعي، فاسترخت كل التشنجات. آخِر ما رأته كان الألعاب النارية وكأنها في صورة فوتوغرافية، نقاط بيضاء على ورقة كرتون، ثم ظلام دامس.
•••
إصبع قدم ضخم يأتي ناحيتها. هذا الوجه، أنا أعرفه، إنه الجار. ساعدني! ماذا يحمل في يده؟ كرتونة بيض؟ أنا عطشانة. لماذا لا يسمعني؟
حين استعادت فاندا وعيها كان الضوء منيرًا في المطبخ. وكانت ذقنها تضغط بقوة على ظهر كفها وهي مستلقية على بطنها تحت غطاء، ورأسها يهدر كما لو كانت قضت الليل تشرب الخمر. ضيقت عينيها، وهي تتساءل أَلَمْ يكن الجار هنا منذ قليل؟ شعرت فجأةً بالغثيان، فتقيأت قطع الديك الرومي والمخاط. بعناء شديد ذهبت إلى الحمام وهناك نهضت ونظرت في المرآة، بدت مثل شبح. كان وجهها ظاهر الشحوب مثل الطباشير، وإنسان العين يومض بلون زهري. استيقظت ثانية في منتصف الليل، كانت متكورة تحت دواسة الحمام. بدأت دمعاتها خفيفة كالرذاذ، ثم سرعان ما تحلحل الاحتقان في صدرها على دفعات، فصار بكاؤها عويلًا مثل صاروخ رأس السنة منطلقًا في عتمة الفجر.