إحباط
أثناء الليل عاودها الحلم ثانية: هي في منزل والديها، تعرف أنه أسفل بالقبو. تغلق سريعًا الباب المفضي لسلم القبو، تدير المفتاح، فيصدر القفل القديم صوت طقطقة متشكيًا، وتسمع الباب ينفتح وهو يطلق صوت صرير. فجأةً يغمر الضوء المكان. في المطبخ نافذة لا تزال مفتوحة، فتغلق باب البيت بالمفتاح وتسرع نحو النافذة. وهناك تجده جالسًا في إطار النافذة، فيقفز ليقع أمامها منفرج الساقين، إنه حديث السن متهدج الأنفاس يقول: «لا أريد سوى أن أظل عندكم.» كانت نبرة الرجاء في صوته واضحة.
استيقظت بلا خوف وكانت على يقين أن هذا الحلم لن يتكرر ثانية.
كان هذا هو الحل. لقد كان ظلها وكان ينتمي إليها، كلما أقصته ألحَّ في تتبعها. حاولت فاندا أن تحفر صورة وجهه في ذاكرتها فقد أعجبتها، كانت مثل صورة منعكسة على صفحة الماء تختفي بسهولة في دوامات أحداث اليوم المضطربة، ليتها تستطيع أن تصورها فوتوغرافيًّا لتحتفظ بها إلى الأبد.
ليتني كنت أستطيع الرسم، جال هذا ببالها.
تزاحم الناس في الحافلة رقم سبعة التي تصعد منحدرات اللان. اضطرت فاندا أن تنزل لوهلة عند المحطة الرئيسية لتسمح لطوفان من البشر بمغادرة الحافلة، إلا أن طوفانًا يقاربه عددًا صعد بدلًا منه. كانت تقف في نهاية الحافلة معلَّقة من يدها اليمنى بقضيب مثل قرد صغير ذي ساقين جد قصيرتين. كانت الذراع اليسرى لا تزال تؤلمها. لمحت زميلها المختص بعلم الفيروسات في المقدمة واقفًا إلى جوار السائق، أليس من المفترض أن يعود الأسبوع المقبل من رحلته إلى الولايات المتحدة؟ كان لا يحيد عن النظر أمامه.
كان كانتيرات أبعد من أن تحاول مخاطبته.
وعند محطة هانز-ميرفاين-شتراسه رأته يختفي وسط حشد من الشباب الذين يتحدثون ويتقافزون وهم متوجهون إلى محاضراتهم في المعاهد العلمية المقابلة. مشى منحني الظهر، وكان من الواضح أنه في عجلة من أمره، كما أنه أعطاها الانطباع أنه يهرب من أمرٍ ما.
هذه المرة أخذت المصعد حتى القسم، وأخذت تفكر هل كان يقف هنا في المصعد بعد أن قام بضربها هي ويوهانيس وسرقة بيانات زابينة؟ إنها تعتبر أن الفاعل كان رجلًا. أغلقت عينيها لبعض الوقت محاولة أن تستشعر وجوده في المصعد وهو ينزل. هل كان راضيًا؟ هل حصل على ما كان يبحث عنه؟ آنذاك كان مضطرًّا أن يقف وراءها في غرفة الكمبيوتر لوقت قصير. بعدها تلك الثغرة في ذاكرتها التي لا يزال عقلها متمسكًا بها رغم أنها لا تستطيع أن تملأها بشيء.
ومضت لمبة صغيرة على جهاز الرد الآلي الخاص بها، أحدهم ينتظر أن ترد مكالمته. تعرفت فاندا على رقم السكرتيرة. دخل يوهانيس وألقى بنفسه على الكرسي المعيب، وتأوه كلاهما.
قال وهو يسعل: «جسدي كله يؤلمني.»
«ظننت أنك ذهبت للتزلج على الجليد.»
رد وكأنه يعوي: «هذا عبء مختلف تمامًا.»
«هل مسحتم الصورة؟»
لم يرد وإنما ظل يتفرس فيها متشكِّكًا، وقال: «يبدو أن ذلك الشخص قد خلف انطباعًا قويًّا لديك.» عبثت فاندا بكومة أوراق على مكتبها. لم تشأ أن يلاحظ يوهانيس توترها. فمساء أمس تعرفت على صورة تيد، كان بين نحو أربعين من العاملين في المعهد الأمريكي متراصين أمام المصور على درجات سلم المعهد. استطاعت أن تكتشف وجهه باستخدام العدسة المكبرة. نفس الشبه بالغراب الذي أنبأتها به فراستها، لكن شعره كان قصيرًا وقتها. وجدته واقفًا في صف من أواخر الصفوف، غير ظاهر للعيان. كان باحثًا في مرحلة ما بعد الدكتوراه، مثلها تمامًا، لكنه كان في مجموعة أخرى. كان لا بد أن تعترف أن هذا الوجه لم يكن يحمل اسمًا في ذاكرتها، هل تيد هو اسمه الحقيقي؟ وقتها أيضًا لم تتبادل معه فاندا أي كلام ولم تكن تعرف أنه ألماني. من أين عرف حكاية ريك؟ ورغم كل الغموض الذي يكتنف هذا الشخص فإن فاندا بذلت ما في وسعها من جهد كي تقنع زابينة ويوهانيس أنهما يمكنهما الوثوق به، كما أن المعلومات التي أعطاها بخصوص اهتمام الأمريكيين بمادة «إن بي ٢٧٠١» خلفت انطباعًا إيجابيًّا عندهما، لكنهما كانا مستغربين أنها لم تحاول معرفة المزيد حول أمر السيارة الثانية.
نقر يوهانيس على المكتب: «هييه. هل تسمعينني أصلًا؟»
ردت فاندا متجنبة الرد: «كانتيرات كان اليوم صباحًا في الحافلة.» بعدها نقرت زر معاودة الاتصال على هاتفها، فردت عليها السيدة بونتي. كان بروفيسور شتورم يخطرها أنه سيتولى بنفسه المحاضرة المقرَّر إلقاؤها في مؤتمر برلين، إلا أنه يأمل أن تنوب هي عنه في محاضراته، وبعدها انتهت المكالمة أيضًا. وضعت فاندا السماعة وأخذت تنظر لزميلها متفكرة.
«هناك ثغرة ما.»
حدَّق فيها يوهانيس دون أن يفهم ماذا تقصد.
«سأوضح لك الأمر لاحقًا.» أضافت في عجالة وتوجهت إلى الجناح المجاور الخاص بقسم علوم الفيروسات.