بضاعة مهرَّبة
استمر الشتاء قليلًا، لكن تقلبات درجات الحرارة ألقت بظل من الشك على وجوده؛ إذ كان موسم البرد يتصرف مثل مريض في فترة النقاهة، تعاوِده نوبات النكوص لكنها أضعف في كل مرة من سابقتها. ثم تهالك تدريجيًّا ومات موتًا بطيئًا، وقد نسيه الجميع سريعًا بمجرد دخول الربيع، وفي نفس الوقت زادت حمى شعب يعشق كرة القدم. عرفت فاندا أخبارها من الجرائد والمجلات التي تقرؤها في غرفة الانتظار بعيادة طبيب الأسرة، كما في ذلك الوقت. لم تكن تهتم بكرة القدم، فأخذت تقلب الصفحات الكثيرة بلا نهاية التي تخبر عن الحدث، ولهذا لم يفرق معها كثيرًا أن فريق ساحل العاج لم يَعُدْ يتخذ معسكره في ماربورج. كانت أيامها في هذه المدينة معدودة، فالرحلة التي تنبَّأت لها بها الشابة التركية في برلين صارت على وشك أن تتحول إلى حقيقة؛ فلجنة تحكيم من لجان المؤتمر كافأتها على عرضها المؤثر ودراستها الكاشفة بجائزة بحثية تستطيع بموجبها أن تُكمِل أبحاثها في الخارج لمدة عام، لكن قبل ذلك أرادت أن تستكمل مشروعًا مهمًّا حتى النهاية.
بعد محاضرتها في برلين اتصل شتورم بمدير شركة بي آي تي. كان يجب أن يعرف باول تورمان من شتورم شخصيًّا أن الجين المستخدَم في نانوسنيف تسبَّب في نشر فيروس بين الفئران. لم يُخْفِ شتورم هذه المرة نسبة الوفيات، ولدهشته أبدى تورمان استعداده الكبير للتعاون، بل إنه اقترح أن يتم توثيق هذه الملاحظات من خلال التجارب المعملية. أما السبب في ذلك فقد عرفوه بعد عدة أيام حين جاء إليهم وسيط من أمريكا ليوصل عدة مليجرامات من مادة الاختبار. لقد قامت الحكومة الأمريكية بمصادرة كل كميات مادة «إن بي ٢٧٠١» كلما اشتبهت في تواجدها بمكان ما بسبب أبحاث الشركات، كما طالبتهم بسحب طلبات الحصول على براءات اختراع؛ إذ تم الادعاء بأنهم تجاوزوا الاتفاقات المبرمة، ومحامو الحكومة أصروا على الدفع بأن مادة «إن بي ٢٧٠١» هي ملكية خاصة للحكومة، ومن ثم فإن للحكومة الحق في أي تطور ينشأ عن هذه المادة. أما الممثلون القانونيون للشركات فعارضوا هذا التفسير للتعاقدات المبرمة، وما دام لا يوجد حكم قانوني في هذه المسألة فستَسُود حالة طوارئ غير رسمية، وستطول مدة المفاوضات.
•••
كل هذا عرفته فاندا من بيتر سنايدر الذي عاد يكتب إليها من جديد، لكنه لا يزال يكتب من عنوان خفي. وجاء في رسائله كذلك: «ذات صباح وقف عشرة رجال أمام بابنا، لدرجة أني ظننت أن فرقة الإبادة قد حضرت، لكن ما لبث أن ظهر أنهم أقرب لفرقة من العاملين بالنظافة. وقالوا إن عليهم تفتيش المكان. ولو أنهم طلبوا شرب القهوة لوقعت في حرج بالغ؛ إذ لا يوجد في مكتبنا سوى ثلاثة فناجين. فعشرة أشخاص عدد كبير. ظلوا واقفين على أقدامهم في الحجرات الصغيرة.» كانت الإشارات إلى المعمل الكائن في ماربورج قد مُحِيت، وكانت هذه هي الجملة التي سمحت لفاندا أخيرًا أن تتنفس الصعداء.
لن يستطيع أحد أن يتوقع كم بقي لفاندا من الوقت، لكن عليها أن تسرع إن أرادت أن تُنهِي دراستها في الوقت الملائم. كان أكبر عائق هو طلب إجراء تجارب على الحيوانات، وحتى تحصل على موافقة رسمية يدور فيها الطلب داخل الجهاز الحكومي من الممكن أن تنقضي ستة أشهر وهي لا تزال لم تغادر البلاد، لكنها هذه المرة تعقد النية على إنجاز كل شيء بالصورة الصحيحة. لقد أعلنت أن المواد التي يريدون العمل بها مواد معدية ومعدَّلة وراثيًّا، وأن كل التجارب ستُجرَى في قسم علم الفيروسات الذي يُطبِّق شروط السلامة من بند «إس١»، وحتى «إس٤». وصارت المسألة الآن في يد رئيس المعهد. لقد اتصل شتورم باللجنة المركزية للسلامة الحيوية في برلين، وهكذا وصلت الموافقة بعد أربعة أسابيع لتستقر على مكتب فاندا. وهكذا، يمكنها أن تبدأ البحث في الأول من شهر مارس. وفي بداية مايو عرفت فعلًا أن ملاحظاتها يمكن توكيدها معمليًّا. تستطيع الآن أن تبدأ في الإعداد لنشر البحث. مهنيًّا سارت كل الأمور بسلاسة غير مسبوقة، لكنها لا تزال تعاني من تلك الرعشة في يديها، صحيح أنها ليست بنفس القوة التي كانت في الأسابيع الماضية، لكنها لا تزال رعشة خفيفة تسبِّب لها القلق.
وعبر نافذة غرفة الانتظار بعيادة الطبيب، رأت سماء عصر يوم جمعة خالية من الغيوم، ونحو الساعة الخامسة ستقابل الآخرين في مرج خلف قصر روتينبيرج. لا يزال عليها أن تنتظر دورها بعد هذين المريضين. كان الرجل الأكبر عمرًا الجالس أمامها يتمخط ويدق الأرض بعصاه بنفاد صبر. أما المرأة الجالسة إلى جواره فكانت ترفع بصرها عن مجلتها وتحرك رأسها، بدا وكأنها أسيرة حالة دائمة من التبرم، لكنها ابتسمت لفاندا، فردَّتْ عليها فاندا بابتسامة رغم أن منظر السيدة كان يسبب لفاندا التوتر. حاولت أن تقرأ، لكن أفكارها لا تلبث أن تعود وتتجول في أحداث الأسابيع الماضية. ثمة أمور كثيرة ظلت معلَّقة. لقد تجمعت وتشابكت أسئلتها التي بلا إجابة مشكِّلَةً شبحًا لحوحًا يصعب عليها إزاحته جانبًا.
وحين تفكر في توماس تتصلب رقبتها كلها حتى منابت شعرها. لا يزال مسيطرًا عليها، وقد علمت من السيدة بونتي أنه ترك وظيفته بدون فترة إخطار مسبق ودون إبداء الأسباب، وفي هذه الأثناء تم إخلاء غرفة مكتبه. وذات مرة ذهبت فاندا إلى شقته، لكنها وجدت اسمًا آخَر على لوحة الباب. لقد اختفى توماس ببساطة وبدأ في محو كل أثر مادي لوجوده أثرًا بعد الآخَر، ولم يترك لها ثغرة من خطأ تنفذ منها فتمكِّنها من الشعور بغضب أو حزن أو حتى سرور. أما هذا التلاشي الذي لا يخلف أثرًا فقد جعلها تشكك في عقلها. وفي تلك اللحظات كانت أيضًا الصورة التي التقطتها له قبل أن يولي هاربًا تبدو لها وكأنها صورة لشبح. كانت تؤرقها فكرة أنه هو ذاته غير متاح لتمسك به، بينما هو يعرف كل شيء عنها، وبالطبع سيحافظ على مراسلاتها مع رودي حفاظَه على أمانةٍ ليضمن سكوتها. كانت مشكلتها أنها لن تستطيع أن ترد عليه بشيء، وكانت مقتنعة أن توماس مسئول عن المداهمات التي حدثت في المعهد وفي شقتها، لكنها لا تستطيع أن تُثبِت ذلك.
لم يستغرق فحص الدكتور جليزر هذه المرة وقتًا طويلًا، فالمفترض أن تكون هذه هي الاستشارة الأخيرة بعد سلسلة طويلة من الفحوصات.
«لم يجد طبيب الأعصاب ضررًا. يقول طبيب الأشعة إن الغدة الدرقية سليمة. طبيب النساء أفاد أن …»
«نسيتَ أخصائي الأمراض»، حاولت فاندا أن تمازحه.
«لم نصل لتلك المرحلة بعدُ.» قطب جليزر جبينه قليلًا بما يشي بقلة حيلته واستطرد: «لكن ارتفاع معدل الكريات البيضاء هو السبب الذي من أجله أردتُ أنْ أراك ضروريًّا مرةً أخرى، إذ لم يَعُدْ ممكنًا إثباته، فكيف تشعرين الآن؟»
ضحكت فاندا وقالت: «فيما عدا أني لم أَعُدْ أستطعم الشاي الأخضر، كل شيء على ما يرام.»
«أعتقد أن تغيير المكان قد يكون مفيدًا لكِ.» لمعت عينا الطبيب المجلوَّتان، وبدأ يحكي عن زمانه حين كان لا يزال طبيبًا مساعدًا في جنوب أفريقيا. أعطاها بعض النصائح الخاصة بالتطعيمات، ثم خطت فاندا خارجة من العيادة إلى ذاك الأصيل الربيعي الذي يبدو أنه لم يعكر صفوه شيء. على الجانب الآخر من الشارع، كان أندرياس يقف منتظرًا إياها. كان البلوفر الذي يرتديه ذو اللون البرتقالي يبدو مثل الضوء التحذيري، وحين هرول في الشارع فرملت السيارات. كان وجهه مشرقًا مائلًا للون البرونزي، فبدت زواياه أكثر بروزًا. كان أفضل دليل على أن ثمة حياة خارج المعامل مكيَّفة الهواء. خطوات قليلة فقط تفصل بين كلية الفلسفة ومروج اللان، حيث يستمتع الطلاب في الأيام المشمسة بشيِّ أجسامهم علاوة على شيِّ اللحم. القراءة والكلام والتفكير مع الأصدقاء والمرح في كل أرجاء المرج، كانت هذه الحياة تشي بسلام مصطَنَع، وتذكِّر فاندا بالوقت الذي كانت فيه هي نفسها طالبة.
«أنت لا تفعل شيئًا سوى التسكع.» أمسكت يده ورفعت كُمَّ البلوفر ووضعت ذراعه في الشمس متفحصة وكأنها تبحث عن لسعات الحشرات. تركها أندرياس تفعل ما يحلو لها، وربت بودٍّ على كتفها.
«هذه هي العدالة. العتمة للأغنياء وللفقراء بقعة صغيرة مشمسة.» ثم أخذ بيد فاندا وسارَا معًا.
ثم قال: «تعالَيْ، سنذهب سيرًا على الأقدام. أعرف طريقًا جميلًا.»
صعدا على الطريق المائل نحو القصر. وفي وقت ما اتخذا أحد المنحنيات فصارا في الغابة. سقط الضوء من بين الأشجار الشاهقة عبر أوراقها التي لا تزال صغيرة، فبدا وكأنه ينعكس على ورق شفاف ليجعل الظلال على الطرقات تضيء بدرجات اللون الأخضر. لم يلتقيا منذ مدة، ولهذا ظلا يتجاذبان أطراف الحديث حول صغائر وتفاهات، إلى أن تجرَّأ أندرياس أخيرًا على طرح سؤال: «بخلاف ذلك هل كل شيء على ما يرام؟» كان ينظر إليها نصف نظرة من الجانب.
«نعم، هذا ما يبدو، لقد ذهبت اليوم إلى الطبيب للمراجعة.» ترددت ثم أكملت: «لقد أمضينا معظم الوقت في الحديث عن جوهانسبرج.»
«جوهانسبرج؟»
«سأسافر في القريب إلى هناك.» كانت هذه هي المرة الأولى التي تصيغ فيها نيتها بهذا الوضوح، لم تكن حتى قادرة على استيعاب ذلك. نظر إليها أندرياس مندهشًا، فأكملت قائلة: «أعرف هناك عالمة، دَعَتْني أن أعمل معها. ماري كامبل، اسمها أيضًا موجود على القائمة اللعينة التي …» صار يومئ بقوة وكأنه لا يريد أن يسمع المزيد.
«متى؟»
«في نهاية يونيو.»
«وكم من الوقت تمكثين؟»
«لقد حصلت على جائزة بحثية، ستكفيني لمدة عام، وبعد ذلك سنرى ما يحدث.» نشَّت فاندا فراشة خضراء صغيرة من على كمها. «لا أستطيع تصديق الأمر بعدُ، فحصولي على الجائزة جاء مفاجئًا مثل حمل السيدة العذراء بالسيد المسيح. والحقيقة أني لا أعرف ما السبب الذي فزت بها من أجله.»
«كنت أعرف دائمًا أنك أفضل عالمة، لكن ماذا سيحدث لترقيتكِ إلى أستاذ مساعد؟»
«لم أَعُدْ واثقة أني أريد هذه الترقية، فالأستاذ المساعد يتعيَّن عليه أن يدرِّس كثيرًا، كما أن عليه أن يترقى، وأن يُثبِت وجوده العلمي في المحافل الدولية التنافسية. هل تعرف أني حقًّا أحسدك على هذه المروج؟»
«الشمس تشرق أيضًا في جنوب أفريقيا.»
«نعم بالتأكيد، ستكون بالتأكيد فرصة للاستشفاء.»
«هل أنتِ إذن …؟» نظر إليها أندرياس بقلق.
«لا، لا تقلق، ليس ثمة شيء، فقط ماري مختلفة عني تمامًا، صارت تدَّعِي أنها تستطيع أن تشم الألوان.»
«يا للهول!» فلتت من بين شفتي أندرياس.
«نعم، إنها تعاني من اضطراب في الشم، أنا خائفة قليلًا …»
«هل هذا مرض مُعْدٍ؟»
ضحكت فاندا وهزت رأسها بالنفي، وفجأةً تذكرت أخاها. حاولت أن تتحدث معه بشأن الخطابات التي وجدتها في مكتب أبيها، إلا أن روبرت لم يهتم بهذا الحديث، فتوقفت عن ذلك. لم يَعُدْ هناك الكثير يربطها بالبقاء هنا.
«لا أنوي العودة.» ساهم الحسم الذي نطقت به هذه العبارة في شد عودها.
ظلا يسيران متجاورين صامتين لبعض الوقت. أصغت فاندا، كانت الغابة تصدر أصوات طقطقة، وكأن أعدادًا لا نهائية من فقاعات صغيرة تفرقع. رأت فاندا خيالات الفراشات من وراء الأغصان. كانت الأوراق مخرمة وكأنها أصابها وابل من الرصاص، فبدت مثل مصفاة، وفي أماكن كثيرة لم يبقَ سوى أُطُر حزينة معلَّقة. تساءلت: تُرَى ما المغزى من هذا؟ ربما كانت ماري على حق ونيو مكسيكو غيرتهم جميعًا، سواء بشعوذة السحرة أو بجزيئات النانو. بغض النظر عن السبب، فقد صارت تمثِّل بالنسبة لفاندا بداية تحوُّل مليء بأحداث لا يبدو فهمها سهلًا. لقد شفي بانسيروتي من مرضه ومات جونتر هيلبيرج. بدا لها الأمر وكأنها تنظر في مرآة تتسارع عليها الوقائع وكأنها فيلم سينمائي، أحداثه حقيقية لكنها في الوقت نفسه أسرع من قدرة المشاهد على الاستيعاب. مساحة شديدة التشابك حتى لتكاد تنفجر، لكن لا شيء وراءها. فكرت فاندا: ربما ما زلنا في البداية، اضطرت للابتسام فجأةً وأكملت خاطرتها: وعالم النانو هو مجرد قشرة.
عبرَا شارع روتينبيرج وراء داميلزبيرج ومرَّا عبر المقابر الرئيسية.
بدأت تقول بحذر: «يؤسفني الأمر.»
«أنك ستذهبين؟»
هزت فاندا رأسها: «لا، بل أننا لن نستطيع أن نكتشف المزيد حول وفاة والدك. على صعيد آخر …»
«ماذا؟»
«سعيدة أننا لم نجد شيئًا.»
ضغط أندرياس يدها وقال: «أنا أيضًا. لم يكن هذا ليعيده إلى الحياة، لكن أنت … هل أنتِ بصحة جيدة؟» أومأت برأسها. وصلا إلى الحقول ويداهما متشابكتان. وخيم على أندرياسَ صمتٌ مهموم.
قالت فاندا في محاولة للتسرية عنه: «تستطيع أن تأتي لزيارتي.» لم تكن في حالة تسمح بمعاناة ألم الوداع.
أجابها: «حاذري مما تقولين!» ثم أكمل: «قد تجدينني بالفعل أمامك فجأةً.» وضحكَا معًا.
•••
كانا قد تواعدا على اللقاء على المرج أمام الصاري. لم يكن متاحًا رؤية تلك المروج من أسفل لأن طريق المشاة الصاعد إلى هناك كان يختفي متخذًا منحنى، وهناك وقفت السيارة من طراز تويوتا على حافة الطريق. إذن وصلت بيترا ويوهانيس بالفعل.
استمتعت فاندا بالأمسية المشمسة. مروا بالمروج والحقول وصعدوا الطريق ببطء، وعلى أحد المرتفعات مشطت ريح باردة العشب ولعبت بألوانه، ليبدو مرة بنفسجيَ اللون مائلًا إلى الباذنجاني، ثم يعود تارة أخرى أخضر اللون. أزهرت ورود الهندباء وارتفعت أولى نواراتها، وفي قلب هذا المكان ركض يوهانيس وبيترا على مفرش مشمع سماوي اللون مثله مثل الطوف. بعدها فتحَا زجاجة شمبانيا.
ركضت فاندا نحوهما، وسقطت لاهثة الأنفاس جالسة على المفرش وأخذت الكأس الأولى، كانت الشمبانيا تفور، فسقطت بعض الرغوة على يدها.
استقامت بيترا — التي كانت جالسة إلى جوار يوهانيس — في جلستها ورفعت كأسها عاليةً. بدت بالعصابة التي عقصتها على جبينها وهي مرتدية قميص يوهانيس الذي أخذ يتطاير مع الريح وكأنها تمثال الحرية في نزهة خلوية، ورغم هذه الجلسة المسترخية بدا جسدها خاليًا من أي عيب ولا يمكن المساس بها. لم تكن فاندا واثقة تمامًا أن بيترا تستوعب الأمور من حولها. كانت سلاستها الطفولية في التعامل مع الآخرين تحصِّنها من استياء الآخرين وغضبهم. أما الأشياء التي كانت تغضبها فكانت تظهر عليها في وضوح، لكن بطريقةٍ لا يلومها عليها أحد.
«في نخبنا!» قالت بيترا محتفية.
قرعوا الأنخاب.
قال أندرياس مستعلمًا: «أين زابينة؟»
رفعت فاندا حاجبًا وقالت: «غاصت في الجنوب. تحت، في أستراليا، إنها تُجرِي أبحاثها الآن في أديليد، وقد اهتموا لأمر فولفجانج حتى لا يشعر بالملل، فهو سيُدرِّس اللغة الألمانية هناك.» لعقت فاندا أصابعها اللزجة وهزت نفسها، قائلة: «طعمها غريب على نحوٍ ما.»
رشف أندرياس من كأسه ثم قال: «بل أجد طعمها جيدًا.» وزَّع يوهانيس قطعًا من الخبز الأبيض وشرائح جبن. لم تستطعم فاندا الجبن، لكنها لم تَقُلْ شيئًا هذه المرة.
جلسوا بعضهم إلى جوار بعضٍ متلاصقين، وأخذوا يتأملون شمس الغروب الدافئة. كانت المدينة أسفل منهم تطل بجناحها الجنوبي، بانوراما يلفها السلام. وعلى أقصى اليسار فوق سلاسل منحدرات اللان ارتفع برج القيصر فيلهلم مثل عمود رفيع بين القباب الطبيعية المكسوة بالأشجار، تلاه جبل داميلزبيرج الذي أخفى أجزاءً من مرأى القصر. تطلعت فاندا نحو أندرياس.
«هل اتصلتْ بكَ الشرطة مرة أخرى؟»
«هل كان عليهم أن يفعلوا؟» لكن بدا أن ذهنه شارد في مكان آخَر.
قالت فاندا بإلحاح: «رغم كل شيء كانت ثمة آثار.» ثم تبعت نظراته نحو سلسلة الهضاب الغربية.
قال مستغرقًا في تأملاته: «هناك في الأسفل على ربوة أوكيرهاوزن يمر شارع تجاري قديم في هيسن يُسمَّى فاينشتراسيه.»
«هل كان مخصَّصًا للكروم فحسب؟» سألت بيترا وجلست ملتصقة به.
«المقصود هو عربات الكارو القديمة التي كانت تُستخدَم منذ العصور الوسطى.»
تدخَّل يوهانيس ليقول: «في هذا الشارع قَطَنَ اللصوص، والرجال ذوو اللحى الطويلة الذين تفوح منهم روائح العرق والقذارة.» غمز لفاندا ثم أكمل: «كانوا يقودون عرباتهم بمحاذاة الشارع في الأيام التي تهطل فيها الأمطار بغزارة وتكون فيها الأرض قابلة للتشكل بسهولة، وفي مكان ملائم لا يمكن رؤيته من برج المراقبة يتركون الطريق الصحيح ليرسموا آثار خطاهم نحو كمين.»
«مثل العصابات في ميامي.» قالت بيترا التي كورت نفسها على المفرش مثل الحلزون، وكانت نظرتها طفولية ولم ينقصها شيء سوى أن تمص إبهامها.
«لا يبقى أمامهم سوى عدة أيام مشمسة في الصيف أو ليالٍ قارسة البرودة في الشتاء، حتى تثبت الآثار المخادعة على الأرض الموحلة لتقود العربات المحمَّلة بالبضائع في سلاسة نحو الأكمنة.» لمعت عينا يوهانيس وهو يحكي، فقال له أندرياس مستمتعًا: «عليك أن تتقدم لوظيفة مرشد المدينة.»
بينما رد يوهانيس مدافعًا عن نفسه: «يعجبني دور روبين هود أكثر، كذلك تروق لي التاجرة الذكية التي اكتشفت الخدعة في الوقت المناسب.» نظر يوهانيس إلى فاندا الآن بتركيز كبير وقال: «لقد لاحظتْ أن أمرًا ليس على ما يرام، فقادتِ العربة خارج الممر الخطأ، وظلت تتعثر بقوة على الطريق الوعرة لدرجة أن محاور العربة أصدرت صريرًا وعجلاتها أزَّتْ بصورة تهدِّد سلامتها، لكنها نجت.»
قالت بيترا مداعبةً: «وعاشت في تبات ونبات …» فأكمل يوهانيس الجملة: «وطارت إلى أفريقيا حيث الغابات والحيوانات.» ثم قرع نخب فاندا وقال: «في صحة جائزتك، أنت تتصرفين بشكل سليم؛ إذ تبتعدين بغنيمتك لتضعيها في مكان آمِن، في حين نحن هنا لا نزال عاكفين على إزاحة آثارنا من الطريق الموحل.» سحبت فاندا رأسها إلى داخل رقبة ردائها.
تلعثمت حرجًا وهي تقول: «إنك محق. في الواقع لم يكن يجدر بي أن أقبل الجائزة، فمثلها مثل البضاعة المهرَّبة، في نهاية المطاف، لقد كان الإنجاز نتاج عمل الفريق.»
رد يوهانيس ضاحكًا: «لا تقلقي. أنا أَهَبُكِ إياها. حقًّا. في النهاية لستِ أنت سوى مجرد معطف يُعلَّق عليه الوسام.» قضم رغيفه وأكمل وهو يمضغ «… أرجوكِ لا تغضبي مني، لكن لنكن واقعيين، الجائزة لا يستحقها أحد سوى رئيسنا، هو يعرف تمامًا مَن يجدر شكره عليها، ومن سيكون ممتنًّا له في المناسبة التالية.» مط يوهانيس وجهه إلى ابتسامة عريضة. «لقد قلتها لكم دومًا: صديقك يكسب.»
قالت بيترا متحمسة: «لكنه لا يكسب شيئًا إن حصلت فاندا على الجائزة.» بينما هزت فاندا رأسها.
«أن تمنح أحدًا جائزةً لهو أرقى طريقة تسرحه بها، إنه لا يريد سوى أن أرحل.»
وضع يوهانيس شريحة جبن في فمه ومال برأسه قائلًا: «لست واثقًا من هذا تمام الثقة، فبالتأكيد فكَّر أنك قد تُعِيدين ضخ قيمة الجائزة في القسم مرة أخرى. صحيح أنه يستحق ألَّا تفعلي ذلك وتبتعدي بالمال، لكن إن يستقم له الحال فقد يحصل فعلًا على جائزة ميتوزيلا الفئران.»
«جائزة ماذا؟» سألت بيترا وهي تتجول ببصرها من واحد لآخَر.
رد يوهانيس موضحًا: «ميتوزيلا يعني جائزة فأر ميتوزاليم، عبارة عن أربعة ملايين ونصف من الدولارات تُمنَح للعلماء الذين في وسعهم إطالة أعمار فئران التجارب التي تعاني من الشيخوخة، لكن هذه الفئة من الجوائز تتخطى إمكاناتنا الحالية؛ لأن الفئران عاشت بالفعل مدة أطول من مدة تعاقداتنا في المعهد، لكن الذي ينجح في رعاية الفئران المسِنَّة قد ضمن لنفسه حياة باذخة بعد المعاش.»
«شتورم؟» هزت فاندا رأسها وقالت: «أنت تنشر الشائعات من جديد.»
لمعت عينا يوهانيس استمتاعًا وهو يقول: «سترين، سيظل وراء هذا الموضوع حتى يفلح فيه.» كانت نبرته مقنعة، «شتورم يحتاج هذه الجوائز كل بضع سنوات لتغسل أعماله، إنها تعمل له عمل تأثير اللوتس. بعض الناس يرتدون هذه النوعية من السترات بالفعل، أنتم تعرفونها، تلك التي تحوي فقاعات كثيرة صغيرة الحجم. إن رئيسنا ينتمي إلى هذه الفصيلة، وحين تمطرينه بأموال الجوائز يساهم ذلك في إزالة الأوساخ عنه وكأنها لم تكن.»
ردت فاندا مستاءةً: «شكرًا على الزهور.» لقد ضربت كلمات يوهانيس وترًا حساسًا لديها، فمالُ هذه الجائزة يسمح لها هي أيضًا أن تغسل ماضيها.
«لا أعنيك أنت يا فاندا، أنا أتحدث عن شتورم، فالأمر عنده وراثي، يمتُّ لجيناته بِصِلَةٍ.» ران صمت لوهلة.
«جينات بالمصادفة.» أخذ أندرياس الكلمة وسأل: «هل عرفتم في هذه الأثناء السلسلة الجينية لمادة نانوسنيف؟»
أجابت فاندا في يأس: «ربما سيظل هذا الأمر سرًّا من أسرار الشركة.»
«ربما يعرفها شتورم. في النهاية هو رتَّب كل شيء مع رئيس قسم علم الفيروسات، وعلى الأرجح أنهما اكتشفا الشفرة، لأنهما مَن قاما بالتحاليل آنذاك. لكن هذا موضوع لا يمكن الاقتراب منه، ولكي أكون صادقة، فأنا أيضًا لم أَعُدْ أهتم بمعرفة الشفرة.»
قال يوهانيس بصوت منخفض: «إنها حالة كلاسيكية من الحماية المتبادلة. ما لا نعرفه لا يمكن أن يؤثِّر فينا.»
اعترض أندرياس قائلًا: «ليس الأمر تمامًا هكذا. نحن على علم بالأثر وفي هذا ما يكفي للتحذير من المسألة.»
ردت فاندا وسألت: «إنها مسألة رخوة بصورة ما. لكن ما الذي قتل الفئران في النهاية؟ هل كان السبب هو الجين منفردًا، أم كان ذلك الارتباط بين الجين وناقلات النانو هو الذي هيَّأ أولًا البيئة القاتلة؟ المسائل متشابكة بعضها ببعض بدرجة معقَّدةٍ لا تسمح بالحكم عليها بسهولة. نحن حتى لا نعرف ممَّا تتكون ناقلات النانو، وما الذي يمكِّنها من اختراق الكائن الحي متَّجِهَة بدقة نحو هدفها.» أخذت تفكر ثم استطردت: «أسرار جزيئات النانو محمولة كلها على سطحها، وهذا هو الفرق بينها وبين عالمنا الكبير. نحن تعوَّدنا أنْ نفُضَّ الأشياء وأن نفكِّكها لكي نتعرف عليها ونفهمها، أما عالم الجزيئات متناهية الصغر فكله سطح وحسب، ليس ثمة ما يُسمَّى بالنظر في بعد أعمق. نحن نتعامل هنا مع ظواهر حدية، تبدو للمرء أنها لا متناهية كلما زادت تشعُّباتها. لقد فقدت إحساسي بالاتجاه في هذه الأثناء.»
«هذه هي اللحظة المناسبة لطرح الأسئلة.» سمعت أندرياس يقول، ثم رأت سيارة الشرطة ترتقي ببطء طريق الحقل.
«ماذا يريد هؤلاء؟» سألت بيترا غاضبةً وأخفت بسرعة زجاجة الشمبانيا في السلة. كانت سحابة من الغبار تتراقص خلف السيارة التي صارت تقترب منهم بلا تردد، وكان سائقها ينظر إليهم.
«اللعنة.» فلتت من بين شفتي يوهانيس فاحمرَّ وجهه.
سألت فاندا مداعبةً: «هل تناولت شيئًا؟» وعند برج الإرسال توقفت السيارة وخرج منها شرطيان، رجل وامرأة تعقص شعرها الأشقر خلف رأسها، فكرت فاندا في توماس وفي آثار مادة الذخيرة ذاتية التحلل، ربما أمسكوا به وصادروا جهاز الكمبيوتر الخاص به. انكمشت فاندا في بلوفرها.
قال يوهانيس هامسًا: «أنتم لا فكرة لديكم، هل هذا واضح؟»
«عمَّ تتحدث؟» سألته فاندا بينما كانت نظراتها لا ترتفع عن الشرطيَّيْن. لقد دخل كلاهما إلى المرج وصارا يتقدمان نحوهم ببطء خلال العشب الطويل. ظل يوهانيس يتقلب على مؤخرته وقال: «نحن لم ندبِّر قط مناورة لتعطيل سفر شتورم.» زاد رعبه في كل خطوة اقترب فيها الشرطيان، وفجأةً انهالت عليه بيترا.
«لا أصدق، هل كانت الحقيبة بالمطار من بنات أفكارك؟»
صاح يوهانيس مزمجرًا: «الزمي الصمت.» بينما مر شريط الصور أمام عين فاندا: حقيبة وحيدة في المطار، إنذار بوجود قنبلة، فرملة الطوارئ، هكذا سمَّاها يوهانيس بنفسه.
«مَن كان وراء الموضوع؟» سألت فجأةً والشرطيان على بعد خطوات قليلة منهم.
«كان تيد لا يزال مدينًا لنا.» لم يقل المزيد لأن الشرطيين وقفا إلى جوارهما. كان شعر المرأة أشقر مثل الخبز الأبيض المقرمش بلا جدال، أما بشرتها المشربة بلون الورد، فكانت تضيء ببراءة تدعو للحسد. ظل زميلها وراءها بخطوتين. كان شخصًا آخَر غير ذلك الذي كان معها تلك المرة عند القصر.
أومأت ليديا فازا تجاه فاندا وأندرياس قائلة: «مساء الخير. لقد تعرفنا من قبلُ.» كانت تتحدث بحرفية عالية، لم يُحِرْ أحدٌ جوابًا، فنظرت الشرطية متسائلة من واحد لآخَر.
«هل تعرفون لماذا نحن هنا؟» أشارت الشرطية نحو مجموعة من الأشجار على حافة أحد الحقول، وأكملت: «لقد اتصل بنا الفلاح يشكو، أنا مضطرة أن أطالبكم بمغادرة المرج.» قفز أندرياس من فوره قائلًا: «حالًا، اعتبرينا غادرنا فعلًا.» وبسرعة جمع الكئوس ووضعها مع الأطعمة في سلة النزهة. كان ثمة راية وردية تكسو صفحة السماء حين تابعت فاندا الشرطيين وهما يغادران ببطء ليستقلا سيارتهما. لقد حان وقت التقاط صورة أخيرة، فالتقطت هاتفها المحمول من جيبها وصوَّبت عدسته الصغيرة نحو يوهانيس الذي كان رابضًا على الأرض على قوائمه الأربع بوجهه الأحمر حمرة السلطعون، ممسكًا بطنه من فرط الضحك. كانت بيترا جالسة على ظهره وتقرعه بعنف بقبضتي يديها، بينما وقف أندرياس هنالك ممسكًا السلة ناظرًا نحو الجنوب. ستبعث بالصورة إلى زابينة. ومن مكان بعيد ترامى صوت محرك الجرار إلى أسماعها، فرفعت فاندا أنفها في مهب ريح الربيع وتشممت.
لكن لا شيء. لم تشم شيئًا. لا شيء على الإطلاق.