قطة سوداء
دفع مايك زينكي يده اليمنى في جيب البنطال، ومس بأصابعه الزر البلاستيكي الأملس باضطراب. سيكون عليه أن يمسحه حتى لا يخلِّف آثارًا. الخطوات التي يسمع وقعها الآن كانت آتية من ناحية اليسار، وبقفزة واحدة اختبأ وراء سيارة تويوتا كانت قد صُفَّت مباشرةً إلى جوار مبنى مركز الأبحاث، وهذا من حسن طالعه؛ لأن موقف السيارات كان خاويًا إلا من سيارة أخرى اصطفت في طرفه القصي. فرك مايك عينيه، فلم يكن نال قسطًا وافرًا من النوم. كاد يقع بالأمس في مأزق خطير — لولا أن تمكن من الهروب في الوقت المناسب — حينما علم أن الفتاة تعمل في المكان الذي سيتعين عليه تنفيذ المهمة به. صدفة حمقاء؛ لقد تعارفا في الديسكو، وصاحَبَها إلى منزلها. وبحذر استرق النظر من وراء غطاء محرك السيارة، ورأى في الضوء الشحيح للمصابيح كيف أن سيدة تقف أمام المدخل الرئيس للمعهد. بدت متردِّدة، وكانت الظلمة تسدل أستارها بحيث لم يتمكن من معرفة ما الذي تفعله هناك. وفجأةً أدارت وجهها ناحيته، لكن مايك استطاع أن يخفي رأسه في الوقت المناسب خلف رفرف السيارة، وحين رفع رأسه من جديد كانت السيدة قد اختفت. سمع صوت انغلاق الباب الزجاجي في القفل، واختبأ ثانيةً وراء السيارة حتى لا يكشفه الضوء الذي توقَّع أن ينتشر الآن من داخل المبنى، لكن الضوء لم يُشعل، وكأن الظلمة قد فغرت فاها العملاق وابتلعت السيدة.
هل كان يحلم؟ لا، إن كان يثق في شيء فهو يثق في عقله اليقظ. لقد دخلت سيدة لتوها إلى مبنى الأبحاث. هذا أكيد. والغريب أنها لم تشعل الضوء بالداخل. إما أنه لا يعمل، وإما لم تُرِدْ هي لأحد أن يراها. قرَّر أن ينتظر لبرهة أخرى.
هل كانت هي عميلته المجهولة؟ لكنه سمع أن العميل رجل. ربما يكون هو مَن أرسلها. لا يمكن أن يعرف المرء ماذا يدبِّر أولئك الناس. فعلى عكس الاتفاقات يظهرون في مكان تنفيذ المهمة بدافعٍ من فضولهم فيفسدون العملية بأكملها. بالنسبة لمايك فقد كان وراءه علماء محبطون يريدون أن يُثبِتوا شيئًا على رئيسهم. لم تكن دوافعهم تعنيه في شيء. لقد فتنته الأبواب والأقفال التي كانت تمنعهم من المرور. كان عليه أن يفتحها، وكان ذلك بمثابة التزام أُوكِل إلى موهبته الفذة.
لا يتذكر كيف بدأ الأمر في الماضي، فقد كان جد صغير وقتها، بالضبط سبع مرات تمكَّن فيها من فتح صندوق مجوهرات أخته دون أن يترك خدشًا واحدًا على القفل، وقرأ عدة خطابات كانت تحتفظ بها بين مقتنياتها الرخيصة، ولم تعلم قط، لكن الأمر اختلف تمامًا مع خزينة والده، كان وقتها في الثانية عشرة من العمر، وكان لا بد للأمر أن يبدو حقيقيًّا، ولهذا فقد اندفع من الشرفة إلى المنزل قبل أن يتعامل مع الخزينة في حجرة المكتب. كان كل شيء متوافقًا تمامًا مع سلسلة الاقتحامات التي أفزعت وقتها سكان الحي، لكن لم تثبت سرقة أي شيء. رغم ذلك تم استدعاء الشرطة، وحُفِظت القضية دون أن تُحَلَّ. وقتها بدأت تلك الدغدغة التي كان يستشعرها في بطنه، والتي كانت تملأ إحساسه بمعنى وجوده، هذا الذي كان يراه تافهًا، ولم يغادره هذا الشعور بعدها. وفي وقتٍ ما بدأ يجرب نفسه مع أنظمة الغلق الإلكترونية. وبعد طلاق والدَيْه لم يَعُدْ هناك مَن يستهزئ به إذا ما أمضى أيامًا كاملة أمام الكمبيوتر. وسريعًا وجد بعضًا ممَّن يماثلونه في التفكير، وبدءوا في اقتحام بنوك المعلومات الكائنة في المدينة، والفائز في سباق الحواجز هذا هو مَن يصل أولًا إلى شبكة قسم الشئون المالية. لم يكن يعنيهم حقًّا حجم المصروفات التي ينفقها عمدة المدينة على ورق التواليت أو رحلات العمل، ما كان يفتنهم هو كسر المقاومة الخارجية التي كانت تسعى لإيقاف التيار الذي وجدوا أنفسهم يسبحون فيه.
وفي وقتٍ ما بدأت أيضًا هذه الألعاب الصبيانية تصيبه بالملل، فبدأ يبحث عن تحديات جديدة. عرَّفته إحدى الصديقات على جماعة «والدن أربعة» وهي مجموعة من الشباب — بنظره — غريبي الأطوار، المغتربين عن هذا العالم، المحبين للطبيعة بجنون، الذين يعتبرون كلمات التقنية والتكنولوجيا وكأنها شتائم بذيئة. كانوا يريدون إيقاف كل شيء له صلة بأيهما. مبدئيًّا كان يجد أيديولوجيتهم مضحكةً؛ لأنهم كانوا يحتاجون واحدًا مثله هو بوجه خاص، مدمن كمبيوتر، لا يستطيع أن يواصل حياته دون جرعاته اليومية منه. وفي نظر مايك كانوا مجرد نشطاء بيئيين محبطين، يؤرق وجدانهم هراء إجماع كافة المؤسسات الراسخة. كانوا يريدون نسف الهياكل الإدارية من أصولها، ولم يعبئوا بالطريق غير الشرعي الملغوم، إذا ما اضطروا إلى دهس جماعات الضغط المؤمِنة بالعلوم وأذرعها الطولى. كان هو الناشط السري في كل مشروعاتهم المثيرة، والآن وهو في بداية العشرينيات، أضحى واحدًا من أهم القراصنة «الهاكرز» على الساحة، وكان يحب ما يفعل. كان ينبغي له أن يحبه؛ لأن هناك فقط كان يجد القارب الذي يعبر به عبر الضفائر الرقمية الملغزة، وكان يستمتع بذلك مثل كلب يتشمم بحثًا عن طعامه. وحين يصعب عليه اقتحام شبكة معلومات من الخارج، يتسلل سرًّا إلى الهدف المنشود، يكسر أكواد الكمبيوتر غير المؤمَّنة جيدًا، ويحمل بعض المعلومات ثم يختفي. كان التحدي الحقيقي يتمثل في التحضيرات لعملياته، دراسة خرائط المباني، وترتيب كيفية خداع أنظمة الإغلاق. في هذه الأثناء تلقت المجموعة مؤشرات سيئة من العلماء بشأن تزوير البيانات، تبديد الأموال العامة وممارسات بحثية غير قانونية. للأسف قلما كانت الدوافع لذلك خشية العار الذي قد تسببه فضيحة، إلا أن العملية هنا كانت جد كبيرة، وإلا لما كانوا استخدموه فيها، إلا أن مركز الأبحاث في ماربورج أثبت أنه مثل جوزة صلبة قشرتها. لقد كانت البيانات الخاصة بكل عالِم على حدة تُخزَّن على خادم مركزي خاص بالجامعة لم يستطع أن يخترق برنامج الحماية «فايروول» الخاص به؛ لذا تعيَّن عليه أن يجد مدخلًا آخَر، ومن حسن الحظ أن نظام الإغلاق في المبنى الجديد كان يعتمد على خادم مستقلٍّ تمكَّن من اختراقه بنجاح، واعتمادًا على الكود المفتاحي الخاص بعميله تمكَّن أن يجد لنفسه مدخلًا بين دوائر الأرقام التي يعمل بها نظام الإغلاق الإلكتروني، وركب لنفسه مكانًا في قلب القلعة الحصينة. كان يسجل دخوله ببساطة من الخارج كمستخدم جديد على النظام، لكن باستخدام سلسلة رقمية قصيرة، مثله مثل ذبابة اليوم الواحد، تفنى حياتها القصيرة دون ملاحظة من أحد، بعد أن تؤدي مهمتها بنجاح. أثر يمحو نفسه بنفسه ولا يمكن أن يتتبعه أحد. بقيت له من الزمن الآن ساعة. مدة كبيرة جدًّا تتسع لأداء عمله.
شعر بالبلاستيك الناعم بين أصابعه. الشيء الوحيد الذي سيخلفه وراءه كان الزر الأحمر، بطاقة التعريف الخاصة بجماعة «والدن أربعة»، والتي تُظهِر لعميله أنهم كانوا هناك. أخذ مايك حقيبة الظهر من ورائه وسحب السوستة، ثم أخرج الصندوق الصغير الذي يحوي «المُرسِل» الذي صنعه بنفسه. تلفَّتَ حوله من جديد، فكان كل شيء غارقًا في الصمت، ثم تسلل إلى مدخل المعهد. كان عليه أن يلتزم الحذر فهو ليس بمفرده هنا. كان يريد أن يتحول إلى قطة سوداء تستطيع بضربة جفن واحدة أن تُلقِي ستارًا واقيًا يمنع انعكاس الضوء على عينيها. صوَّب مايك «المُرسِل» نحو الباب. أزيز خفيف فتح الباب فانسل لتتلقفه ذراعَا الظلمة التي تلف المبنى.