بَعْدَ الْعَاصِفَةِ
أَهَمُّ شَيْءٍ هُوَ أَنْ تَسْتَفِيدَ مِنْ نُورِ الشَّمْسِ مَا دَامَتْ مَوْجُودَةً، وَعِنْدَمَا تُمْطِرُ السَّمَاءُ، انْتَظِرْ بَصِيصَ الشَّمْسِ مَرَّةً ثَانِيَةً، مُتَيَقِّنًا أَنَّهَا سَتَسْطَعُ حَتْمًا مِنْ جَدِيدٍ. حَجَزَتْ عَاصِفَةٌ رَهِيبَةٌ أَهْلَ الْغَابَةِ الْخَضْرَاءِ وَالْمُرُوجِ الْخَضْرَاءِ وَالْبُسْتَانِ الْقَدِيمِ كَسُجَنَاءَ دَاخِلَ بُيُوتِهِمْ أَوْ فِي الْمَآوِي الَّتِي اسْتَطَاعُوا أَنْ يَجِدُوهَا. وَلَكِنَّهَا لَنْ تَسْتَمِرَّ إِلَى الْأَبَدِ، وَكَانُوا يَعْلَمُونَ ذَلِكَ. وَمَعْرِفَةُ ذَلِكَ هِيَ مَا أَبْقَتْ بَعْضَهُمْ عَلَى قَيْدِ الْحَيَاةِ.
لَقَدْ كَانُوا يَتَضَوَّرُونَ جُوعًا. أَجَلْ يَا عَزِيزِي، كَانُوا يَتَضَوَّرُونَ جُوعًا. لَكِنَّا أَنَا وَأَنْتَ فِي شِدَّةِ الْجُوعِ، حَقًّا فِي شِدَّةِ الْجُوعِ، إِذَا عِشْنَا يَوْمَيْنِ كَامِلَيْنِ مِنْ دُونِ طَعَامٍ، وَلَكِنْ إِنْ كُنَّا نَشْعُرُ بِالدِّفْءِ وَالْحَرَارَةِ فَلَنْ يُشَكِّلَ هَذَا لَنَا أَيَّ ضَرَرٍ. الْأَمْرُ يَخْتَلِفُ تَمَامًا بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَصْدِقَائِنَا الْبَرِّيِّينَ الصِّغَارِ، وَخُصُوصًا الْقَوْمَ الصِّغَارَ الْمَكْسُوِّينَ بِالرِّيشِ؛ فَإِنَّهُمْ بِالطَّبِيعَةِ فِي غَايَةِ النَّشَاطِ؛ لِذَا يَحْتَاجُونَ أَنْ يَمْلَئُوا بُطُونَهُمْ كَثِيرًا حَتَّى يُمِدُّوا أَجْسَامَهُمُ الصَّغِيرَةَ بِالْحَرَارَةِ وَالطَّاقَةِ. وَمِنْ ثَمَّ حِينَ تَنْفَدُ إِمْدَادَاتُهُمُ الْغِذَائِيَّةُ تَمَامًا، يَتَضَوَّرُونَ جُوعًا أَوْ يَتَجَمَّدُونَ حَتَّى الْمَوْتِ فِي فَتْرَةٍ قَصِيرَةٍ جِدًّا. عَدَدٌ كَبِيرٌ مِنَ الْكَائِنَاتِ الْحَيَّةِ الصَّغِيرَةِ تَنْتَهِي حَيَاتُهَا بِهَذِهِ الطَّرِيقَةِ فِي كُلِّ عَاصِفَةٍ شَتْوِيَّةٍ قَاسِيَةٍ طَوِيلَةٍ.
كَانَتْ نِهَايَةُ الظَّهِيرَةِ حِينَ قَرَّرَتِ الْأُخْتُ رِيَاحُ الشَّمَالِ الْقَاسِيَةُ أَنْ تَكْتَفِيَ مِنْ إِظْهَارِ قُوَّتِهَا وَضَرَاوَتِهَا، وَتُغَادِرَ الْمُرُوجَ الْخَضْرَاءَ وَالْغَابَةَ الْخَضْرَاءَ مُدَمْدِمَةً وَمُتَذَمِّرَةً، آخِذَةً مَعَهَا سُحُبَ الثَّلْجِ. ابْتَسَمَ قُرْصُ الشَّمْسِ الْمَرِحُ الْمُسْتَدِيرُ لِلْيَابِسَةِ الْبَيْضَاءِ، فَقَطْ لِبَعْضِ الْوَقْتِ قَبْلَ أَنْ يَحِينَ وَقْتُ عَوْدَتِهِ إِلَى فِرَاشِهِ خَلْفَ التِّلَالِ الْأُرْجُوَانِيَّةِ، وَكَانَتِ ابْتِسَامَتُهُ مُرَحَّبًا بِهَا أَكْثَرَ مِنْ أَيِّ وَقْتٍ مَضَى. أَسْرَعَ السُّجَنَاءُ الصِّغَارُ خَارِجَ مَأْوَاهُمْ؛ فَقَدْ كَانَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَسْتَغِلُّوا الْوَقْتَ الْقَصِيرَ قَبْلَ حُلُولِ اللَّيْلِ الْبَارِدِ.
كَانَ طَائِرُ الْقَرْقَفِ الصَّغِيرُ تومي ضَعِيفًا جِدًّا، حَتَّى إِنَّهُ لَمْ يَسْتَطِعِ الطَّيَرَانَ، وَكَانَ يَرْتَجِفُ فِي قُشَعْرِيرَةٍ. اتَّجَهَ مُبَاشَرَةً إِلَى شَجَرَةِ التُّفَّاحِ؛ حَيْثُ كَانَ ابْنُ الْمُزَارِعِ براون يَحْتَفِظُ دَائِمًا بِقِطْعَةٍ مِنَ الدُّهْنِ مَرْبُوطَةً بِغُصْنٍ مِنْ أَجْلِ تومي وَأَصْدِقَائِهِ. كَانَ نَقَّارُ الْخَشَبِ درامر قَدْ سَبَقَهُ إِلَى هُنَاكَ. هُنَا كَانَ مِنْ قَوَاعِدِ الْأَدَبِ فِيمَا بَيْنَ الْقَوْمِ الْمَكْسُوُّونَ بِالرِّيشِ أَنَّهُ حِينَ يَأْكُلُ أَحَدٌ، فَعَلَى مَنْ يَأْتِي بَعْدَهُ أَنْ يَنْتَظِرَ دَوْرَهُ.
قَالَ طَائِرُ الْقَرْقَفِ تومي بِصَوْتٍ ضَعِيفٍ وَلَكِنْ مَرِحٍ، لِأَنَّهُ لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مَرِحٍ حَتَّى لَوْ حَاوَلَ: «يَبْدُو هَذَا شَهِيًّا لِي.»
تَمْتَمَ درامر، وَهُوَ يَقْضِمُ مِنَ الدُّهْنِ بِشَرَاهَةٍ: «إِنَّهُ شَهِيٌّ، هَيَّا أَيُّهَا الْقَرْقَفُ تومي، لَا تَنْتَظِرْنِي؛ لِأَنَّنِي لَنْ أَنْتَهِيَ مِنَ الْأَكْلِ قَبْلَ وَقْتٍ طَوِيلٍ. إِنَّنِي أَتَضَوَّرُ جُوعًا، وَأَظُنُّكَ هَكَذَا أَيْضًا.»
اعْتَرَفَ تومي وَهُوَ يُحَلِّقُ مُقْتَرِبًا مِنْ درامر: «حَقًّا! أَشْكُرُكَ كَثِيرًا؛ لِأَنَّكَ لَمْ تَتْرُكْنِي أَنْتَظِرُ.»
أَجَابَ درامر، وَفَمُهُ مُمْتَلِئٌ: «لَا عَلَيْكَ. لَيْسَ هَذَا وَقْتًا لِلْأَدَبِ. هَا قَدْ أَتَى كَاسِرُ الْجَوْزِ يانك يانك. أَظُنُّ أَنَّهُ يُوجَدُ مَكَانٌ لَهُ هُوَ الْآخَرُ.»
دُعِيَ يانك يانك سَرِيعًا لِيَنْضَمَّ إِلَيْهِمَا، وَفَعَلَ هَكَذَا بَعْدَ أَنِ اعْتَذَرَ؛ لِأَنَّهُ بَدَا طَمَّاعًا، وَقَالَ: «إِنْ لَمْ أَسْتَطِعْ أَنْ أَمْلَأَ مَعِدَتِي بِالطَّعَامِ قَبْلَ حُلُولِ اللَّيْلِ، فَحَتْمًا سَأَتَجَمَّدُ حَتَّى الْمَوْتِ قَبْلَ الصَّبَاحِ. يَا لَهَا مِنْ نِعْمَةٍ أَنْ نَجِدَ كُلَّ هَذَا الطَّعَامِ الشَّهِيِّ فِي انْتِظَارِنَا! لَوْ كُنْتُ ذَهَبْتُ لِصَيْدِ طَعَامِيَ الْمُعْتَادِ مِنْ عَلَى الشَّجَرِ، فَحَتْمًا كُنْتُ سَأَسْتَسْلِمُ وَأَمُوتُ. لَقَدِ اسْتَنْزَفْتُ كُلَّ قُوَّتِي حَتَّى آتِيَ إِلَى هُنَا. يَا إِلَهِي! أَشْعُرُ كَأَنَّنِي طَيْرٌ جَدِيدٌ بِالْفِعْلِ! هَا قَدْ أَتَى طَائِرُ السِّنْدِيَانِ سامي. أَتَسَاءَلُ إِذَا كَانَ سَيُحَاوِلُ إِبْعَادَنَا كَمَا يَفْعَلُ دَائِمًا.»
لَمْ يَفْعَلْ سامي شَيْئًا مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ. كَانَ فِي غَايَةِ الْوَدَاعَةِ وَالْأَدَبِ. سَأَلَهُمْ: «أَيُمْكِنُكُمْ أَنْ تُفْسِحُوا مَكَانًا لِرَفِيقٍ يَتَضَوَّرُ جُوعًا حَتَّى يَحْصُلَ عَلَى قَضْمَةٍ؟ لَمْ أَكُنْ لِأَسْأَلَ لَوْلَا أَنَّنِي لَنْ أَسْتَطِيعَ الصُّمُودَ لَيْلَةً أُخْرَى بِدُونِ طَعَامٍ.»
أَجَابَ طَائِرُ الْقَرْقَفِ تومي وَهُوَ يُفْسِحُ مَكَانًا لِسامي: «يُوجَدُ دَائِمًا مَكَانٌ لِرَفِيقٍ آخَرَ. أَلَمْ تَكُنْ تِلْكَ عَاصِفَةً رَهِيبَةً؟»
تَمْتَمَ سامي قَائِلًا: «هَذَا أَسْوَأُ مَا عَرَفْتُ بِكُلِّ تَأْكِيدٍ. أَتَسَاءَلُ إِذَا كُنْتُ سَأَشْعُرُ يَوْمًا بِالدِّفْءِ مُجَدَّدًا.»
لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْهُمْ كَلِمَةً أُخْرَى حَتَّى امْتَلَأَتْ بُطُونُهُمْ. فِي تِلْكَ الْأَثْنَاءِ اكْتَشَفَ السِّنْجَابُ الْأَحْمَرُ ثرثار أَنَّ الْعَاصِفَةَ قَدِ انْتَهَتْ. وَحِينَ كَانَ يَتَقَدَّمُ مُتَعَثِّرًا بَيْنَ الثَّلْجِ نَحْوَ شَجَرَةِ تُفَّاحٍ أُخْرَى، رَأَى طَائِرَ الْقَرْقَفِ تومي وَأَصْدِقَاءَهُ، وَابْتَهَجَ قَلْبُهُ لِأَنَّهُمْ وَجَدُوا الطَّعَامَ بِانْتِظَارِهِمْ. وَانْتَهَتْ مَتَاعِبُهُ هُوَ؛ لِأَنَّ الشَّجَرَةَ الَّتِي كَانَ مُتَّجِهًا نَحْوَهَا كَانَتْ عَامِرَةً بِالذُّرَةِ.