ريدي يَخُوضُ مَعْرَكَةً
بَعْدَ الْأُمْنِيَّاتِ الْحَمْقَاوَاتِ الثَّلَاثِ الْأَخِيرَةِ، غَادَرَ ريدي الْبِرْكَةَ الْبَاسِمَةَ وَاتَّجَهَ مُبَاشَرَةً نَحْوَ الْمَرَاعِي الْقَدِيمَةِ الَّتِي كَانَ قَدْ بَدَأَ رِحْلَتَهُ مِنْ أَجْلِهَا. تَمَنَّى حِينَهَا لَوْ أَنَّهُ ذَهَبَ إِلَيْهَا مُبَاشَرَةً مِنَ الْبِدَايَةِ؛ فَمَا كَانَ لِيَرَى الدُّهُونَ مَرْبُوطَةً بِفَرْعِ شَجَرَةٍ بَعِيدًا عَنْ مُتَنَاوَلِ يَدِهِ فِي الْبُسْتَانِ الْقَدِيمِ، ومَا كَانَ لِيَرَى أُسْرَةَ بوب الْأَبْيَضِ وَهِيَ تَطِيرُ بَعِيدًا إِلَى مَأْمَنٍ بَعْدَ أَنْ كَانَ مُتَأَكِّدًا مِنَ الْإِمْسَاكِ بِأَحَدِهَا، ومَا كَانَ لِيَرَى بيلي الْمِنْكَ وَهُوَ يَأْتِي بِسَمَكَةٍ شَهِيَّةٍ مِنَ الْمَاءِ وَيَأْكُلُهَا أَمَامَ عَيْنَيْهِ. مِنَ السَّيِّئِ أَنْ تَكُونَ جَائِعًا وَأَنْتَ لَا تَرَى الطَّعَامَ أَمَامَكَ، وَلَكِنْ أَنْ تَكُونَ جَائِعًا مِثْلَ ريدي وَتَرَى الطَّعَامَ بَعِيدًا عَنْ مُتَنَاوَلِ يَدِكَ، وَتَشْتَمَّ رَائِحَتَهُ وَلَا تَقْدِرَ أَنْ تَحْصُلَ عَلَيْهِ؛ فَهَذَا أَكْثَرُ مِمَّا قَدْ يَتَحَمَّلُهُ الْغَالِبِيَّةُ بِصَبْرٍ.
لِذَلِكَ، تَذَمَّرَ ريدي فِي نَفْسِهِ وَهُوَ يُسْرِعُ إِلَى الْمَرَاعِي الْقَدِيمَةِ وَقَلْبُهُ فِي مَرَارَةٍ شَدِيدَةٍ. بَدَا لَهُ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ ضِدَّهُ. امْتَلَكَ جِيرَانُهُ الطَّعَامَ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَمْتَلِكْ طَعَامًا قَطُّ، وَلَا حَتَّى الْفُتَاتَ. هَذَا لَيْسَ عَدْلًا. كَانَتِ الطَّبِيعَةُ الْأُمُّ الْعَجُوزُ غَيْرَ عَادِلَةٍ. إِذَا كَانَ يَسْتَطِيعُ التَّسَلُّقَ كَانَ سَيَأْتِي بِطَعَامٍ. إِذَا كَانَ يَسْتَطِيعُ الطَّيَرَانَ كَانَ سَيَأْتِي بِطَعَامٍ. إِذَا كَانَ يَسْتَطِيعُ الْغَطْسَ كَانَ سَيَأْتِي بِطَعَامٍ. لَكِنَّهُ لَا يَسْتَطِيعُ التَّسَلُّقَ وَلَا الطَّيَرَانَ وَلَا الْغَطْسَ. لَمْ يَتَوَقَّفْ حَتَّى يَتَفَكَّرَ فِي أَنَّ الطَّبِيعَةَ الْأُمَّ الْعَجُوزَ قَدْ أَعْطَتْهُ بَعْضَ أَكْثَرِ الْمَوَاهِبِ ذَكَاءً فِي الْغَابَةِ الْخَضْرَاءِ كُلِّهَا، أَوْ فِي الْمُرُوجِ الْخَضْرَاءِ كُلِّهَا، وَأَنَّهَا أَعْطَتْهُ أَنْفًا عَجِيبًا، وَأَنَّهَا أَعْطَتْهُ أَكْثَرَ الْآذَانِ إِرْهَافًا، وَأَنَّهَا أَعْطَتْهُ سُرْعَةً لَا يَفُوقُهَا إِلَّا قَلِيلُونَ. وَلَكِنَّهُ نَسِيَ هَذِهِ الْأُمُورَ، وَانْشَغَلَ كَثِيرًا وَهُوَ يُفَكِّرُ بِمَرَارَةٍ فِي الْأُمُورِ الَّتِي لَمْ يَمْتَلِكْهَا، حَتَّى إِنَّهُ نَسِيَ أَنْ يَسْتَخْدِمَ مَوَاهِبَهُ وَأَنْفَهُ وَأُذُنَيْهِ حِينَ وَصَلَ إِلَى الْمَرَاعِي الْقَدِيمَةِ. كَانَتِ النَّتِيجَةُ أَنَّهُ مَرَّ بِجَانِبِ الْأَرْنَبِ الرَّمَادِيِّ الْكَبِيرِ جيد ثامبر الْعَجُوزِ، الَّذِي كَانَ يَجْلِسُ وَرَاءَ الشُّجَيْرَةِ الصَّغِيرَةِ حَابِسًا أَنْفَاسَهُ. فِي اللَّحْظَةِ الَّتِي رَأَى فِيهَا جيد الْعَجُوزُ ريدي يَمُرُّ بِسَلَامٍ، انْطَلَقَ نَحْوَ قَلْعَتِهِ الْمَصْنُوعَةِ مِنَ الْأَغْصَانِ الشَّائِكَةِ بِأَقْصَى سُرْعَةٍ مُمْكِنَةٍ.
لَمْ يُدْرِكْ ريدي وُجُودَهُ إِلَّا بَعْدَ ذَلِكَ. بِالطَّبْعِ، انْطَلَقَ ريدي فِي أَثَرِهِ، وَهَذِهِ الْمَرَّةَ اسْتَخْدَمَ سُرْعَتَهُ جَيِّدًا. وَلَكِنَّهُ كَانَ مُتَأَخِّرًا. وَصَلَ جيد ثامبر الْعَجُوزُ إِلَى قَلْعَتِهِ وَريدي عَلَى بُعْدِ قَفْزَتَيْنِ مِنْهُ. عَلِمَ ريدي حِينَهَا أَنَّهُ لَا فُرْصَةَ لَهُ فِي الْإِمْسَاكِ بِجيد الْعَجُوزِ ذَاكَ الْيَوْمَ، وَلِبِضْعِ دَقَائِقَ شَعَرَ بِمَرَارَةٍ أَكْثَرَ مِنْ أَيِّ وَقْتٍ مَضَى. ثُمَّ فِي التَّوِّ وَاللَّحْظَةِ أَصْبَحَ الثَّعْلَبُ ريدي الشَّابَّ الْمَاهِرَ الذَّكِيَّ الَّذِي هُوَ عَلَيْهِ حَقًّا، وَابْتَسَمَ ابْتِسَامَةً عَرِيضَةً.
قَالَ: «لَا جَدْوَى مِنْ أَنْ تَمْلَأَ مَعِدَةً فَارِغَةً بِأُمْنِيَّاتٍ. لَوْ كُنْتُ قَدْ أَتَيْتُ إِلَى هُنَا مُبَاشَرَةً وَاهْتَمَمْتُ بِشُئُونِي، لَكُنْتُ قَدْ أَمْسَكْتُ بِجيد ثامبر الْعَجُوزِ. وَالْآنَ سَوْفَ آتِي بِبَعْضِ الطَّعَامِ، وَلَنْ أَعُودَ إِلَى الْمَنْزِلِ حَتَّى أَفْعَلَ ذَلِكَ.»
أَخْرَجَ ريدي — بِكُلِّ حِكْمَةٍ — مِنْ ذِهْنِهِ كُلَّ فِكْرَةٍ مُزْعِجَةٍ، وَقَرَّرَ أَنْ يَسْتَخْدِمَ مَوَاهِبَهُ وَعَيْنَيْهِ وَأُذُنَيْهِ وَأَنْفَهُ كَمَا يَنْبَغِي؛ لِأَنَّ الطَّبِيعَةَ الْأُمَّ الْعَجُوزَ أَرَادَتْ ذَلِكَ. جَالَ يَصْطَادُ عَبْرَ الْمَرَاعِي الْخَضْرَاءِ كُلِّهَا، حَرِيصًا عَلَى أَلَّا يُفَوِّتَ مَوْضِعًا وَاحِدًا حَيْثُ تُوجَدُ أَضْعَفُ الْفُرَصِ فِي إِيجَادِ طَعَامٍ. وَلَكِنْ كَانَ كُلُّ هَذَا هَبَاءً. ابْتَلَعَ ريدي خَيْبَةَ الْأَمَلِ.
قَالَ: «وَالْآنَ إِلَى النَّهْرِ الْكَبِيرِ.» ثُمَّ انْطَلَقَ بِشَجَاعَةٍ.
عِنْدَمَا وَصَلَ إِلَى حَافَةِ النَّهْرِ الْكَبِيرِ، أَسْرَعَ بِقُرْبِ الضِّفَّةِ حَتَّى وَصَلَ إِلَى بُقْعَةٍ نَادِرًا مَا يَتَجَمَّدُ الْمَاءُ بِهَا. وَكَمَا أَمَلَ، وَجَدَهَا غَيْرَ مُتَجَمِّدَةٍ. بَدَتْ فِي غَايَةِ الِاسْوِدَادِ وَالْبُرُودَةِ؛ حَتَّى إِنَّ مَنْظَرَهَا جَعَلَهُ يَرْتَعِشُ. جَرَى ذَهَابًا وَإِيَابًا وَأَنْفُهُ صَوْبَ الْأَرْضِ. وَفَجْأَةً تَوَقَّفَ وَتَشَمَّمَ، ثُمَّ تَشَمَّمَ ثَانِيَةً، ثُمَّ تَبِعَ أَنْفَهُ مُتَّجِهًا نَحْوَ حَافَةِ النَّهْرِ الْكَبِيرِ. هُنَاكَ كَانَتْ سَمَكَةٌ مَيْتَةٌ طَافِيَةٌ عَلَى الْمَاءِ الْأَسْوَدِ! إِذَا خَاضَ الْمَاءَ يَسْتَطِيعُ الْوُصُولَ إِلَيْهَا.
ارْتَعَشَ ريدي عِنْدَ لَمْسِهِ الْمَاءَ الْبَارِدَ، وَلَكِنْ مَاذَا تَكُونُ الْقَدَمُ الْمُبَلَّلَةُ مُقَارَنَةً بِمَعِدَةٍ فَارِغَةٍ؟ فِي غُضُونِ دَقِيقَةٍ كَانَتْ بِحَوْزَتِهِ تِلْكَ السَّمَكَةُ وَعَادَ إِلَى الشَّاطِئِ. لَمْ تَكُنْ سَمَكَةً كَبِيرَةً، وَلَكِنَّهَا تَسْتَطِيعُ أَنْ تُوقِفَ الْأَلَمَ فِي مَعِدَتِهِ حَتَّى يَأْتِيَ بِالْمَزِيدِ. تَنَهَّدَ ريدي فِي سَعَادَةٍ خَالِصَةٍ وَغَرَزَ أَسْنَانَهُ فِيهَا ثُمَّ … حَسَنًا، لَقَدْ تَذَكَّرَ الْجَدَّةَ ثعلبة الْعَجُوزَ الْمِسْكِينَةَ. ابْتَلَعَ ريدي قَضْمَةً وَحَاوَلَ أَنْ يَنْسَى الْجَدَّةَ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَسْتَطِعْ. ابْتَلَعَ قَضْمَةً أُخْرَى. كَانَتِ الْجَدَّةُ الْعَجُوزُ الْمِسْكِينَةُ بِالْبَيْتِ جَائِعَةً مِثْلَهُ تَمَامًا، وَغَيْرَ قَادِرَةٍ عَلَى الصَّيْدِ مِنْ شِدَّةِ التَّيَبُّسِ وَالتَّعَبِ. غَصَّ ريدي بِالطَّعَامِ، ثُمَّ بَدَأَ مَعْرَكَةً مَعَ نَفْسِهِ. طَالَبَ بَطْنُهُ بِتِلْكَ السَّمَكَةِ. إِذَا أَكَلَهَا، فَلَنْ يَلُومَهُ أَحَدٌ. وَلَكِنَّ الْجَدَّةَ كَانَتْ تَحْتَاجُ إِلَيْهَا أَكْثَرَ مِنْهُ. صَارَعَ ريدي نَفْسَهُ مُدَّةً طَوِيلَةً. فِي النِّهَايَةِ، الْتَقَطَ السَّمَكَةَ وَانْطَلَقَ إِلَى الْمَنْزِلِ.