الفصل الثالث

موجز لتاريخ العالم وما يمكن أن نتعلمه منه

لماذا تكون بعض الدول غنية والأخرى فقيرة، وهل يجب أن يظل الوضع كذلك دائمًا

ما من شيء يحدث خارج سياق الزمن.

لا سبيل لفهم قضايا التنمية دون توسيع النطاق الزمني الذي يجري التحليل ضمنه. إننا نتحدث عن أطر زمنية، تمتد من نقطة إلى أخرى، لا عن مجرد شكل مُتجه منفرد يختفي في المستقبل. ومن أجل التطلع إلى الأمام بصورة عقلانية، لا بد أن نحسن النظر إلى الوراء. كل ما كان جديدًا ذات يوم يصبح قديمًا، ويمكن أن يختفي تمامًا بمرور الوقت. وهذا يسري على حضارات كبرى وإمبراطوريات بأسرها، كما يسري على أمور قد تعد في بداية ظهورها طفرات ثقافية أو تكنولوجية، ثم تلقى التهميش وينظر إليها في نهاية الأمر على أنها لم تعد ملائمة، فعندما أرسلت أول برقية من بريطانيا العظمى إلى الولايات المتحدة عبر المحيط الأطلنطي عام ١٨٥٨، لم يخطر على بال أحد أن يأتي اليوم الذي ترسل فيه آخر برقية أيضًا. لكن هذا ما حدث عام ٢٠٠٧. هل سيأتي اليوم الذي يرسل فيه آخر بريد إلكتروني؟ ربما. إننا لسنا بحاجة اليوم لشغل عقولنا بهذه المسألة، فهناك الكثير من المسائل الأخرى الخطيرة والمهمة التي تستحق أن يُسأل عنها. إن الذين لا يسألون لا ينالون الإجابات أبدًا.

إن النظر إلى الماضي على امتداد تسلسل الزمن، والتعرف على الآليات التي شكلت مسار التاريخ الاقتصادي، ليس أمرًا شائقًا في حد ذاته فحسب، لكنه مفيد أيضًا في اقتناص لمحات من المستقبل. وهذه اللمحات — بقدر ما نرغب في تعليق أي آمال عليها — تملي علينا التحسب لبعض المحاذير:
  • إننا لا ندري ما سوف يحدث في المستقبل.

  • إننا نحلل ما يمكن أن يحدث.

  • وإن الشيء الوحيد الذي نعلمه (مع أننا لا نعلمه جميعًا ولا نعلمه دائمًا) هو ما نرغب في حدوثه.

إن الدقة الفعلية والمنهجية للتحليل (وهي ليست أمرًا هينًا)، والتكهنات حول التنمية تتطلب أرحب الأبعاد الممكنة ومد المنظور الزمني في كلا الاتجاهين؛ لا نحو الأمام فحسب، بل نحو الخلف أيضًا. عند السير في نزهة على الأقدام مثلًا، لا يتمكن المرء من رؤية الكثير إذا اكتفى بالنظر على امتداد الأفق أمامه، بل يحظى بأفضل رؤية حين ينظر إلى كامل محيطه في كل الاتجاهات.

عندما ننظر نحو الخلف — بصرف النظر عن مدى إعجابنا بالحاضر واحترامنا لإنجازات البشرية، التي لا تبلغ اليوم سوى عشرين ضعف ما حققه البشر منذ ألف سنة مضت، لكنها تنتج في مناوبة عمل واحدة ما يساوي إنتاج سنة كاملة في ذلك الوقت — نلاحظ على الفور أن البشرية على مدى معظم تاريخها كانت تهدر وقتها، فيما يتعلق بالتنمية الاقتصادية، ومن ثم بالزيادة الدائمة لكميات السلع والخدمات، وبتطورات جودة المعيشة. لكن هذا لم يكن حال الجميع، وليس دائمًا ولا في كل مكان، لكنه كان السمة الغالبة التي كانت تنطبق على بعض الحضارات والعصور، والقرون أو الأجيال، ناهيك عن السنوات والأيام. ويصف عالم الاجتماع البولندي المرموق زيجمونت بومان هذا الأمر بسخريته المعهودة قائلًا: «على الأرجح كان شراء الغث مع الثمين، والحماقة مع المنطق، والخوف مع الأمل هو أفضل تجارة مارسها البشر على مدى تاريخهم بأسره.»1 هذا صحيح بالتأكيد، فقد كان من الممكن أن نفعل ما هو أسوأ، فنشتري التفاهة والحماقة والخوف فحسب. ويجب أن نرى علام يعتمد ذلك، وهل باستطاعتنا معالجته مستقبلًا، بحيث نشتري القيمة والمنطق والأمل فقط.

وإذا تعرج الطريق فمن الضروري أن نتعقب كل خطوة عليه، وألا نعتمد على معالم الطريق المهمة فحسب. أعتقد أننا حينما لا ننظر إلى الأشياء من منظور المؤرخ، ولكن من منظور متطلبات اقتصاد التنمية يمكننا أن ندرك — حتى في ظل الاختلاف الشديد في الزمان والمكان — ظواهر وعمليات معينة يمكن تعميمها. إن الملاحظات القائمة على هذا الأساس يمكن أن تكون مهمة لتفسيرات يمكن التوصل إليها ضمن بنية اقتصاد التنمية. مما لا شك فيه أننا نستطيع أن نستمد الكثير من التاريخ الحديث، لكننا ينبغي ألا نتجاهل الدروس المستفادة حتى من أقدم الصفحات.

ولا مجال للشك في أننا كنا من الممكن أن نحقق نتائج أفضل في الماضي على صعيد الاستثمار، أو أن نحقق نفس النتائج التي تحققت، لكن باستثمار أقل. بالنسبة لخبير اقتصادي، تعد الآثار المترتبة على هذه العبارة بعيدة الأثر إلى أقصى حد ممكن، لأنها تقييم لمدى عقلانية التدابير التي اتخذت، وعلم الاقتصاد ما هو إلا علم التدابير الرشيدة. إن غياب العقلانية هذا، أو نقصها، أمر لا ينبغي أن يغيب عن بالنا. والحقيقة هي أنه كان من الممكن أن يضيع وقت أكثر، فتقل إنجازات البشرية عما هي عليه الآن بالفعل. وبعبارة أخرى، كان من الممكن دومًا أن تتطور الأحداث في اتجاه مختلف. وكان من الممكن أن تكون أفضل أو أسوأ مما كانت عليه ومما هي عليه الآن.

لكن علام يعتمد هذا الأمر؟ وما الذي حدد ما وصلنا إليه الآن، وحدد الطريق الذي سلكناه؟ لا بد أنه كان مستمدًّا من الصراع الأبدي بين الحكمة والغباء، وبين الإبداع والتدمير. فعندما ساد المنطق والإبداع تقدمت الإنسانية وازدهر العلم والفن والاقتصاد. وعندما تغلب الغباء والتدمير لم يكن ثمة غموض وبؤس فحسب، بل كثيرًا ما كان هناك سفك دماء أيضًا. لكن الفترات السيئة، بلا شك، كانت أكثر ودامت مدة أطول، وبآثار سيئة عادة. قليل من الناس هم من يسألون «ماذا لو؟» بالإضافة إلى خبراء التاريخ البديل،2 الذين يبينون لنا مقدار ما حدث على مر تاريخنا نتيجة سلاسل من المصادفات. فالأحداث حدثت بالطريقة التي حدثت بها لأن أشياء كثيرة حدثت في الوقت نفسه. إن أكثر من عملية تاريخية كان من الممكن أن تحدث على نحو مختلف تمامًا، وكانت العواقب الاقتصادية لذلك ستكون في غاية الأهمية.

ولو كانت الأحداث وقعت بطريقة مغايرة، لكان من الممكن أن يبلغ البشر مستوى حضاريًّا أرفع، هذا لو كانت الحقيقة والمعرفة انتشرتا انتشارًا أسرع، وكانت الحكومات والسياسة عملتا على السعي للسلام والتنمية. واليوم يمكن أن نقول كذلك أيضًا عن الغد وما بعد الغد. وللأسف، في ظل امتزاج العوامل التي تشكل العمليات التاريخية سنفشل في تحقيق كل ما يبدو لنا ممكنًا في المستقبل. إن الغباء والزيف والتدمير والطمع أشياء تجب محاربتها، لكن لا يمكن استئصالها بالكامل أبدًا.

حددت الحرب والسياسة، إلى جانب العوامل الجغرافية، شكل خارطة العالم على مدى أغلب فترات التاريخ. وفي الوقت الراهن أضحى الذي يضع حدودها بدرجة متزايدة هو السلام والنشاط التجاري والعلم. يقول الكاتب جاك أتالي واصفًا نقطة التحول الكبرى التي ظهرت منذ ما يقرب من خمسة قرون مضت: «خلال فترات الصفاء الوجيزة، عندما يتوارى العنف والغباء، تتفتح الزهور فوق كومة الروث.»3 وهو محق إذ يعتبر عام ١٤٩٢ — الذي يشار إليه عادة بأنه عام اكتشاف كولومبوس لأمريكا، أو على نحو أدق؛ وصول أولى حملاته البحرية إلى عدة جزر في الأنتيل — عامًا حاسمًا للتغيرات المصيرية التي استمرت أجيالًا قبل هذا التاريخ وبعده. فالكثير جدًّا من الأمور كانت تحدث إلى جانب مغامرات الأسطول الذي يرفع علم قشتالة فوق سفنه «النينا» و«البنتا» و«سانتا ماريا»، التي تلتها سفن أخرى. لقد كانت الاكتشافات التي أعقبت حملة كولومبوس بمنزلة انهيار ثلجي لا حصر لتأثيراته على التنمية الاقتصادية، بما في ذلك العولمة السائدة في يومنا هذا.

لكن عام ١٤٩٢ حمل الكثير، فهذا العام هو عام الولادة الحقيقية للعصر الحديث، وكل التأثيرات الثقافية على القرون التالية. فقد ظهرت آلة الطباعة — أحد أهم الاكتشافات الخارقة التي أحدثت ثورة في الثقافة، والتي تحتل المرتبة الخامسة في قائمة أعظم اختراعات البشرية — خلال تلك السنوات. ففي منتصف القرن الخامس عشر، حوت أضخم المجموعات المكتبية ما لا يزيد على ٦٠٠ مجلد بحد أقصى، وهذا أقل مما يملكه عدد كبير من الناس اليوم في غرفة واحدة فقط. وكان إجمالي عدد الكتب في أوروبا كلها يبلغ ١٠٠ ألف كتاب. وبحلول عام ١٥٠٠ كان هناك ما يفوق ٩ ملايين كتاب. شكلت تلك السنوات فرصة جديدة لأوروبا ولتأثيرها في العالم. وأكثر ما يثير الاهتمام أن هذا الأمر لم يُر بوضوح إلا الآن من خلال المنظور البعيد للقرون الماضية.

لم يكن هناك سوى القليل من نقاط التحول التي تغيرت خلالها أمور كثيرة — في أساليب التفكير والأداء، وفي تراتُب القيم والثقافة، وفي التكنولوجيا والإدارة — خلال فترة زمنية بهذا القصر. فقبل ١٤٩٢ بخمسة قرون كانت هناك نقطة تحول في حوالي عام ٩٦٢، عندما قامت الإمبراطورية الرومانية المقدسة للجرمانيين بقيادة أوتو الأول. وهذا أرسى الأساسات السياسية لشكل أوروبا خلال القرون التالية. وكان هذا هو الوقت الذي تشكلت فيه مؤسسات الدولة. وظهرت الدنمارك والمجر وبوهيميا وإنجلترا — وبولندا أيضًا — باعتبارها دولًا لها اقتصادات وطنية. وفي الوقت نفسه، وبمعزل عن التحولات الأوروبية، كانت الصين تتطور، شأنها في ذلك شأن إمبراطورية الخمير الحمر القاصية في الأراضي التي صارت اليوم كمبوديا ولاوس وتايلاند. وفي الجانب الأقصى من العالم ازدهرت حضارات أخرى في ثقافات ما قبل حضارة الإنكا في الأراضي التي صارت اليوم بيرو والإكوادور، وفي ثقافة المايا (في أوائل مرحلة ما بعد العصر الكلاسيكي) في الأراضي التي صارت اليوم المكسيك وبليز وجواتيمالا وهندوراس.

وبعد عام ١٤٩٢ بثلاثة قرون ونصف، حل عام ١٨٤٨ المميز، ذروة ربيع الأمم. لكن سبقته الثورة الفرنسية ونهاية القرن الثامن عشر بجيلين. كانت هذه فترة بالغة الأهمية لعملية التغيرات الاقتصادية النوعية. وحققت فيها بريطانيا العظمى هيمنة اقتصادية عالمية فترة من الزمن. وفي العام ١٨٤٨ نفسه صدر كتاب «البيان الشيوعي» للكاتبين ماركس وإنجلز. وألغت الإمبراطورية النمساوية العبودية، وأعطت الفلاحين في إقليم جاليسيا الحق في امتلاك الأراضي (في النمسا نفسها كان هذا يحدث أثناء فترة الإصلاحات التي طبقها حاكما إمبراطورية النمسا جوزيف وثيريزا في نهاية القرن الثامن عشر). وكان النموذجان الأمريكي والبروسي للرأسمالية الزراعية يحققان نجاحًا. واكتسبت عمليتا التصنيع والتحديث — سواء على النمط البريطاني أو الأوروبي للتحول — سرعة في أوروبا. وكانت أول ثورة تكنولوجية تنتشر سريعًا، يصاحبها ازدياد في وسائل النقل البحري والسكك الحديدية، وانتشار التلغراف. كانت الصناعة تتقدم بسرعة والمدن تزداد سكانًا. ولا تزال الروائع الثقافية لهذه الفترة لا سيما في مجالي الأدب والموسيقى تحظى بشعبية حتى يومنا هذا. فقد كان فيكتور هوغو وآدم ميكيفيتش يكتبان روائعهما. وكان هكتور برليوز يؤلف موشحته الدينية «تي ديوم»، وكان ريتشارد فاجنر يقود الأوبرا في دريسدن ويكتب «لوينجرين»، وكان فريدريك شوبان لا يزال يقدم حفلاته الموسيقية. وكان التوسع الاقتصادي الأمريكي، ثم الياباني، وشيكًا. وبدا العصر الحديث وكأنه يبدأ من جديد، إلا أن نطاقه هذه المرة كان عالميًّا، يمتد في تردد نحو أستراليا ونيوزيلندا في منتصف الكرة الجنوبي، وبجرأة أكبر نحو أمريكا اللاتينية التي كانت تحرر نفسها من قبضة الاستعمار. ونتيجة للتقدم التقني والاقتصادي والسياسي تيسر للأفكار الجديدة ومجموعة جديدة من البضائع أن تشق طريقها إلى أبعد أصقاع الأرض منذ منتصف القرن التاسع عشر.

وربما نحن أيضًا محظوظون، لأن هناك مؤشرات كثيرة تشير إلى أن العصر الذي نعيشه — ويمتد بين جيل سابق وجيل سيعقبنا في المستقبل — نقطة تحول أخرى. هل يمكن أن يكون هناك كتاب بعنوان «١٩٨٩» في غضون بضع مئات من السنين أو ربما بضعة عقود؟ إذا حدث هذا فسنشعر بما تغنت به المطربة البولندية الشهيرة ماريلا رودفيتش:
كم أنا محظوظة
لأنني في هذا الوقت بالذات يمكنني أن
أعيش حياتي
في الريف على ضفاف نهر الفيستولا
كم أنا محظوظة
لأعيش على هذه الأرض السعيدة
إنه أمر رائع وحقيقي …4

كان لعام ١٩٨٩، وجميع الظروف حينئذ، تأثير هائل على مسار التاريخ، بما في ذلك التاريخ الاقتصادي. فقد كان تضافر المنطق السليم الجمعي النابع من اتفاقيات المائدة المستديرة في بولندا في ربيع ١٩٨٩ هو الذي أسقط حائط برلين في خريف نفس العام. وشملت الجوانب الإيجابية لهذا التحول نهاية الحرب الباردة وبداية ظهور شبكة الإنترنت، وسقوط الأنظمة الديكتاتورية في تشيلي وجنوب أفريقيا ورومانيا وكوريا الجنوبية، وانسحاب السوفييت من أفغانستان، وانفتاح عشرات الدول على التجارة العالمية الحرة وتدفق رءوس الأموال، وظهور ابتكارات علمية جديدة في علم الوراثة، وانفجار ثورة الاتصالات اللاسلكية، واكتشاف النانوتكنولوجي وظهور القنوات الفضائية، وانطلاق رحلات فضاء إلى خارج النظام الشمسي، وبدء حركة سياحة عالمية ضخمة، وبدء التنسيق الدولي من أجل اتخاذ تدابير لحماية المناخ، وزيادة عدد المنظمات الاجتماعية العالمية غير الحكومية.

لكن للأسف، يتألف التاريخ أيضًا من أحداث مريرة، بل في غاية المرارة. فقد وقعت مأساة ميدان السماء في بكين عندما عمدت قوات الأمن الحكومية إلى تفريق الطلاب المتظاهرين بوحشية. وفي طهران أصدر الزعيم الروحي آية الله الخميني فتوى إسلامية بوجوب قتل الكاتب البريطاني سلمان رشدي، ولا تزال أصداء هذه الفتوى تتردد حتى بعد مرور عقدين من الزمان.5 وظهرت تشوهات وعيوب خلقية وأمراض جديدة. والأسوأ أن أمراضًا جديدة لا يمكن توقعها لا تزال مستمرة في الظهور حتى اليوم؛ تمامًا كما لم يتوقع أحد، حتى في عام ١٩٨٩ الثوري، بما في ذلك أبرز خبراء علم المستقبل6 نطاق الإرهاب الدولي، أو كارثة انتشار فيروس نقص المناعة البشرية (الإيدز). لقد انقضى زمن محاكم التفتيش والعبودية، لكن كومة الروث لا تزال باقية.

•••

يمكننا، بنظرة عامة إلى تاريخ الكون، أن نقول إننا لم نكن نسيطر على الأمور زمنًا طويلًا. فقد ظهر البشر، بوجه عام، على وجه الأرض منذ زمن قصير جدًّا، والبعض قد يميل إلى أن يقول إننا أنجزنا الكثير خلال المراحل الحديثة من التاريخ، بالنظر إلى المعدل البطيء للتقدم خلال كل العصور التي سبقت الألفي سنة الماضية. لقد مرت ١٥ مليار سنة منذ وقوع الانفجار العظيم، لكن الإنسان لم يوجد على الأرض إلا منذ ٣ ملايين سنة، ولو افترضنا أن عمر الزمن هو يوم واحد مثلًا لكانت نسبة بقائنا إلى ذلك اليوم تساوي ١٧ ثانية. أو ربما ٣٥ ثانية، ما دمنا أننا في نهاية الأمر — أو بالأحرى، منذ البداية — لا ندري بالضبط منذ متى وجدنا على الأرض. لقد كان التطور مستمرًّا طوال الوقت.

يعود رفات أقدم القردة العليا الشبيهة بالإنسان إلى ٧ ملايين سنة مضت. كان أقدم هذه الأنواع الذي يطلق عليه «أوسترالوبيثيكوس» يعيش على الأرض في ذلك الوقت، ثم ظهر أول إنسان منذ ٢٫٦ مليون سنة. في ذلك الوقت ظهرت أدوات أساسية وبدائية، عثر عليها في ممر «أولدوفاي» (يعود تاريخ ما يطلق عليها اسم حضارة «الأولدوفاي» التي قامت في سهل سيرنجيتي، في تنزانيا حاليًّا، إلى حوالي ٢٫١ مليون سنة مضت). وقد عثر في جنوب غرب آسيا على أقدم حفريات للإنسان المنتصب «هومو إريكتوس» تعود إلى ما يقرب من ١٫٤ مليون سنة مضت. وفي وقت لاحق، ظهرت الحضارة الآشولية في الشرق الأوسط خلال العصر الحجري القديم السفلي وصارت واسعة الانتشار منذ نحو ٣٠٠ إلى ٧٠٠ ألف سنة مضت. ولم يظهر الإنسان العاقل الذي نعرفه «هومو سابيانس» إلا منذ ٢٥٠ إلى ٣٠٠ ألف سنة فقط، ويعود تاريخ ظهور الفرع الأوروبي منه إلى نحو ١٨٠ ألف سنة. إننا عصريون للغاية، بينما أول إنسان عاقل «هومو سابيان» كان قديمًا وعتيقًا، وأعقبه ظهور إنسان «كرومانيون»، الشديد الشبه بنا (منذ نحو ٤٥ ألف سنة). لقد عاش إنسان «كرومانيون» زمنًا قصيرًا مع إنسان «نياندرتال»، الذي انقرض في أوروبا منذ ٣٠ ألف سنة. وخلال فترة تعايشهما التي استمرت خمسة عشر ألف سنة، كان لديهما ما يكفي من الوقت (والفرص) لتبادل الجينات. ولا شك أن مواجهاتهما كانت رائعة.

وإذا كانت الثواني القليلة — أو الثلاثة ملايين عامًا — التي مرت منذ ظهور البشر جزءًا من يوم مؤلف من ٢٤ ساعة، فسيكون عمر اقتصادنا قد بدأ في الدقائق السبع الأخيرة فقط. فقد ظهر النشاط الاقتصادي للإنسان العاقل منذ نحو ١٥ ألف سنة. وانطلاقًا من هذه الرؤية، تكون العولمة المعاصرة بمثابة غمضة عين إذا ما قورنت بكامل عمر حياة البشرية. لكننا نحن الذين نقوم بهذه الغمضة، لهذا، يختلف تقديرنا للزمن.

تشير تلك الخمسة عشر ألف سنة إلى النشاط الاقتصادي المستقر، على الرغم من انقسام الآراء حول هذا الموضوع. فقد عاش البشر الأوائل حياة تجوال، واعتمدوا على القنص وصيد الأسماك وجمع النباتات، على الرغم من أن بعض الأشكال البدائية للنشاط الاقتصادي بدأت في الظهور منذ نحو ٤٠ إلى ٤٥ ألف سنة مضت، خلال ما يعرف بثورة العصر الحجري القديم العلوي. ونلاحظ وجود قبور بشرية تعود إلى ما يقرب من ١٠٠ ألف سنة، مما يشير إلى أول آثار تدل على وجود الدين. وبعد ذلك بقليل، منذ ٣٥ إلى ٣٠ ألف سنة مضت، ظهرت أولى الأعمال الفنية (أو على الأقل، أقدم ما بقي محفوظًا على حاله منها بحيث تسنى لنا اكتشافها) في شكل رسوم على جدران الكهوف.

لكن أولًا، ظهر الإنسان المنتصب «هومو إريكتوس» في المسار البطيء للتطور: انتصب أحد أسلافنا واقفًا ثم تطلع حوله، فاكتشف أن رؤية الأفق أفضل من هذا الارتفاع. وربما يكون هذا تحديدًا هو أعظم اختراع عرفته البشرية. كانت عملية التطور طويلة الأجل للغاية، وكل ما عليك فعله لتدرك مدى أهمية هذا التحول، هو أن تجرب أن تجثو على أطرافك الأربعة لحظة، ثم تنظر حولك، بعد ذلك، قف وانظر حولك ثانيةً لتدرك الفرق.

تجول الإنسان العاقل «هومو سابيان» وتاجر بالأدوات. ولا يزال الجدل دائرًا بين علماء الآثار والمؤرخين حول بدء ظهور المقايضة بين البشر، لكن هناك إجماع على أنها بدأت في زمن أقدم بكثير مما كان يفترض من قبل. وهناك علامات تدل على المقايضة تعود إلى ٥٠ ألف سنة ماضية، لكنها ربما بدأت في زمن أقدم من ذلك. استخدم الهومو سابيان البذور، وخزنوها في حفر أعدت خصيصًا لهذا الغرض. ويمكن أيضًا ملاحظة عناصر الثقافة الروحية للإنسان. وتعود أقدم تدوينات التقويمات المؤقتة إلى ٣٠ ألف سنة مضت، مما يظهر قدرة البشر على ملاحظة الدورة القمرية. لقد أراد البشر أن يعلموا الكيفية التي يمر بها الوقت. ربما كان لهذا تأثيره على موقفهم تجاه صراع البقاء، الذي تحول إلى نشاط اقتصادي خلال القرون اللاحقة.

تطورت الحياة المستقرة نتيجة لما يعرف بثورة العصر الحجري الحديث منذ ١٢ إلى ١٤ ألف سنة مضت. حدث هذا أولًا في واديي دجلة والفرات؛ حيث يعلم الأمريكيون العراقيين الديمقراطية في الوقت الحاضر. في تلك الأيام قبل ظهور فرقتا السنة والشيعة، وتطور الاقتصاد، سكن النطوفيون أرض العراق (أطلق عليهم هذا الاسم نسبةً للحفائر التي عثر عليها في كهف شُقبة بوادي النَّطوف). وكان النطوفيون (الذين يعرفون وفقًا للمصطلح التاريخي بمجتمع الميزونيوليثيك، أو مجتمع الإبيباليوليثيك) هم أول من استأنس أنواعًا معينة من الحيوانات. وهذه كانت نقطة تحول من القنص إلى تربية الماعز والأغنام. في ذلك الوقت أيضًا، استأنس الإنسان الكلب — كان ذلك على الأرجح في شمال أوروبا وفي الشرق الأوسط الأدنى على وجه الخصوص — وكانت تلك إحدى أفضل الأفكار عبر التاريخ.

وجرب إنسان هومو سابيان زراعة النباتات. حدث هذا لأول مرة في الأراضي شبه القاحلة في بلاد ما بين النهرين منذ نحو ١٠ آلاف سنة. ثم أدى ظهور الري إلى تحول الإنسان جذريًّا من جمع الثمار والنباتات إلى زراعة القمح والشعير. وفي جنوب شرق آسيا، ظهرت الفلاحة منذ ٨٥٠٠ سنة تقريبًا حين أصبح الإنسان قادرًا على زراعة الأرز. وفي أمريكا الوسطى، ظهرت بقاع زراعية صغيرة لزراعة الذرة والقرع منذ نحو ٧ إلى ١٠ آلاف عام. ومن المثير أنه من بين ٤٥٠ ألف نوع تقريبًا من أنواع النباتات الموجودة في الطبيعة؛ لا يزرع الإنسان سوى ٢٠٠ نوع منها فقط لأغراض الغذاء، ويأتي الجزء الأساسي من غذائنا من ٢٠ محصولًا تنتمي إلى ثماني فصائل نباتية فقط. ومن المفارقات، أن بعض هذه المحاصيل، بعد مرور عدة آلاف من السنين، يجري تعديلها وراثيًّا، بل وستجري معالجة تشكيلة من البذور التي تعود أصولها إلى بلاد ما بين النهرين لأغراض تجارية وقانونية.

وفيما بعد، منذ ما لا يزيد عن ٦٥٠٠ سنة مضت، نشأت أقدم المدن. وظهرت مساكن ومقابر مبنية من الحجر. واستمر القنص وجمع الثمار طوال ذلك الوقت في مناطق أخرى أقل سكانًا. ولا يزال هذا سائدًا في بعض الأماكن في الوقت الحاضر، على سبيل المثال في بعض الوديان الجبلية في غينيا الجديدة، وفي جنوب شرق ناميبيا، وفي جزء من غرب بتسوانا يقطن فيه شعب سان، الذين يعرفون باسم البوشمن (أي رجال الأدغال).

يعتقد المؤرخون أن اثنين على الأقل من العمليات الاقتصادية هما التجارة والادخار نتجا عن النشاط الاقتصادي الذكي الذي مارسته البشرية قديمًا. وتعود آثار هاتين العمليتين إلى ثورة العصر الحجري القديم العلوي، التي سبقت العصر الحجري الحديث بنحو ٢٠ إلى ٣٠ ألف سنة. كانت التجارة هي أول علامة تشير إلى نشوء أسلوب تقسيم العمل وأول نتيجة له. وفيما بعد ظهر شيء ما سيُعرَّف بعد مرور آلاف السنين بأنه: التخصص. لكنه كان من البساطة بحيث لم يؤثر كثيرًا في كفاءة العمل. لعصور بأكملها، عملت البشرية أساسًا ضمن إطار إعادة الإنتاج البسيطة، التي تنطوي على تكرار دورة الإنتاج الثابتة وإعادة أنماطها بمستوى ثابت لا يتغير. كان هذا ركودًا، ومع ذلك حتى الركود تطلب تجميع الإمدادات والمؤن. وهذا أذن بظهور الادخار، الذي قاد بدوره إلى التخطيط لدورة الإنتاج، وإرجاء استهلاك بعض نواتج الإنتاج — لا سيما المحاصيل الزراعية — للمستقبل. وعندما تبين فيما بعد أن الفائض يتبقى؛ طرأت فكرة لامعة؛ هي إمكانية تبادله مع فائض إنتاج آخرين. ثم تزايدت عملية التبادل، التي اتخذت في بادئ الأمر شكلًا من أشكال المقايضة، أي مبادلة سلع مقابل أخرى، ولم تظهر المكافِئات المشتركة — أو النقود — إلا فيما بعد. وكان هذا هو رابع أعظم «اختراع» عرفته البشرية؛ بعد الوقوف على اثنين لا أربع، واستخدام النار، ثم العجلة. وقد وضعت كلمة «اختراع» بين علامتي تنصيص لأن النقود — شأنها شأن العولمة المعاصرة — لم يبتكرها أي شخص؛ بل نشأت من تلقاء نفسها في سياق عملية طويلة من تطور التبادل، وهكذا ولدت التجارة.

ويرتبط ظهور النقود على مستوى العالم — في وقت ما خلال القرن السابع قبل الميلاد — بالنشاط الاقتصادي للفينيقيين؛ الذين ساهم حراكهم التجاري واسع النطاق بالكثير في تحقيق التنمية الاقتصادية، غالبًا من خلال التوسع التجاري، الذي حققوا فيه زعامة عالمية في زمنهم. وبهذه الطريقة، ألهم الفينيقيون البشر في مناطق هامة أسلوب تقسيم العمل، مما جعله أكثر فعالية. وأدت زيادة الارتحال والتجارة إلى نشر المعرفة والتكنولوجيا، وكان هذا بلا جدال حافزًا للنمو الاقتصادي. لقد مارس الفينيقيون التجارة من مدنهم، جبيل وصيدا وصور وأوغاريت — التي كانت مدنًا عامرة منذ ٣٥٠٠ سنة — مع كل مناطق العالم المعروفة لهم ولمعاصريهم. وبهذا، دفعوا عجلة تنمية الاقتصاد القائم على السلع والنقود، التي لم يتمكن أحد منذ ذلك الوقت من إيقافها (بالرغم من محاولة البعض فعل ذلك، منذ أمد ليس بعيدًا جدًّا).

ووسط كل هذا، ظهرت النقود على نحو مستقل في أنحاء مختلفة من الأرض لم تكن بالضرورة على صلة فيما بينها. وفي بعض المناطق، صارت البضائع التي يمكن تقسيمها وإحصاؤها نقودًا. وفي حالات محدودة، شمل هذا الماشية؛ التي كان يسهل عدُّها لكن يصعب تقسيمها. وكانت المعادن أكثر شيوعًا، البرونز أولًا، ثم الفضة والذهب وأنواع مختلفة من السبائك. وشاع استخدام الأصداف أيضًا في مناطق قاصية جدًّا مثل جزر ميكرونيزيا أو أرخبيل البيساغوس قبالة ساحل غينيا بيساو اليوم. والحياة اليوم على جزيرة إلها دي روبان، أو إلها دي جوا فييرا لا تزال على حالها مثلما كانت منذ آلاف السنين، ولا يزال السكان يستخدمون بلح البحر — إلى جانب المقايضة — في المعاملات التي تتضمن تبادل أسماك الأطلنطي الأزرق الطازجة مقابل ثمار جوز الهند المجففة. وهم يستخدمون أيضًا العملة المحلية، الفرنك الأفريقي، في تواصلهم مع العالم الخارجي إذا دعت الحاجة، ولا يعيرون اهتمامًا للدولار أو اليورو.

على مدى آلاف السنين، عندما كان البشر يجولون الأرض، لم يحدث تطور كبير من منظور التنمية. فقد توسع الهومو سابيان ببطء انطلاقًا مما يعرف اليوم بقارة أفريقيا وجنوب غرب آسيا نحو أوروبا وبقية أجزاء آسيا، ومن هناك اتجهوا إلى الشمال الشرقي باتجاه أمريكا، وإلى الأوقيانوس — قارة أستراليا — في الجنوب الشرقي. ظل عدد البشر ثابتًا نسبيًّا. وكلما كان يزداد قليلًا؛ كانت الصراعات القبلية والحروب والأوبئة والمجاعات تعمل على تقليله ثانيةً. وبمرور الوقت، بدأت حضارات مختلفة تظهر وتتطور وتنمو. لكن في أغلب الحالات لم تعلم أي من هذه الحضارات بوجود الأخرى. وسار التقدم التكنولوجي بوتيرة تعادل تقريبًا خمسة إلى عشرة كيلومترات في العام. هذا يعني أن أساليب الري المتبعة في مكان ما أو أدوات التصنيع التي تستخدم فيه كانت تستغرق مائة أو مائتي سنة كي تنتشر في مسافة نطاقها ألف كيلومتر في الأراضي المجاورة.

في غضون ذلك، خلال الألفيات القليلة التي سبقت عصرنا هذا، نشأت عدة حضارات عظيمة وانهارت، وحتى اليوم لا تزال آثارها الباقية موضع إعجابنا، لا سيما روائع مثل: معبد حتشبسوت وأهرامات الجيزة في مصر، ومدينة برسيبوليس — أو مدينة الفرس — وسور الصين العظيم، ومعبد الأكروبوليس في أثينا، وبيرغامون في طروادة على الساحل الغربي لتركيا، والمنتدى الروماني، والقدس. لكن للأسف زالت روائع أخرى مثل تمثال رودس، وكذا بقية العجائب الخمس للعالم القديم كلها ولم يبق سوى الأهرامات المصرية. وأقيمت أول دورة ألعاب أوليمبية في أوليمبوس باليونان عام ٧٧٦ قبل الميلاد. وكان اقتصاد الصين والهند وحضارتهما يزدهران ازدهارًا ملحوظًا بين نهاية القرن السادس وبداية القرن الخامس قبل الميلاد؛ تمامًا كما حدث ويحدث في نهاية القرن العشرين وبداية القرن الحادي والعشرين من عصرنا هذا، إذ يبهر هذان البلدان بقية دول العالم إبهارًا شديدًا. ومنذ ألفين وخمسمائة عام ظهر بوذا (٥٦٣–٤٨٣ قبل الميلاد)، تلاه ظهور فلاسفة اليونان العظماء بعد قرنين ونصف القرن. ولا نزال نستقي من هؤلاء إنجازاتهم الفكرية حتى اليوم، مثلما يستقي الصينيون حكمتهم اليوم من تعاليم معاصر بوذا، الحكيم كونفوشيوس (٥٥١–٤٧٩ قبل الميلاد). وفي نفس هذا الزمن أيضًا عاش داريوس الأول حاكم أخمنيد في الإمبراطورية الفارسية الذي بدأ عام ٥١٨ قبل الميلاد في إنشاء مدينة بارس العريقة، التي عرفت فيما بعد باسم برسيبوليس أو تخت جمشيد. وفي الأجزاء الحدودية في الشمال الشرقي لما يطلق عليهما حاليًّا إيران وتركمانستان، أرسى زرادشت إحدى أقدم الديانات التوحيدية، ولا ندري ما إذا كان قد عاش في الفترة ما بين ٦٦٠ و٥٨٣ قبل الميلاد، كما يعتقد بعض الباحثين مستندين في ذلك إلى تفسيرات من أعماله الخالدة، كتراتيل الغاثا (وهي جزء من كتاب الأفيستا المقدس)، أم أنه عاش قبل ذلك بعدة قرون، في الفترة الواقعة بين نهاية القرن الحادي عشر قبل الميلاد وأوائل القرن العاشر قبل الميلاد.

ومع الأسف، لا نعلم أيضًا سوى القليل عن آليات الإنتاج في الألفية الأولى التي تسبق العصر الحديث، لكنها كانت أكثر تطورًا مما كانت عليه في الألفية الأولى من عصرنا. وخلال القرون التي سبقت عصرنا، كانت أحداث كثيرة تقع في منطقة البحر الأبيض المتوسط، وفي الشرق الأوسط، وفي الإقليم الذي بات يعرف حاليًّا بالهند وباكستان والصين، بينما لم تحدث سوى القليل من التطورات في المناطق النائية قليلة السكان في أمريكا وأفريقيا. وظلت أغلب أراضي أستراليا غير مأهولة بالسكان. إجمالًا، كان يوجد نمو اقتصادي، أو بمعنى أدق، تطور، نظرًا لأن ذلك النمو كان مرتبطًا بالتغيرات الهيكلية والاجتماعية، التي شكلت خلفية لازدهار الثقافة أيضًا.

في بداية العصر الحديث، عندما ظهرت المسيحية ودمر جيش الإمبراطور الروماني تيتوس مدينة القدس عام ٧٠م، كان يوجد ٣٠٠ مليون شخص على أقصى تقدير يعيشون على الأرض؛ وهذا العدد يقل عن عدد سكان الولايات المتحدة الآن، أو يساوي ثمانية أضعاف سكان بولندا في الوقت الحاضر. لم يكن كل سكان الأرض في ذلك الزمن ينتجون سوى جزء صغير فقط مما نستطيع إنتاجه اليوم. قد يصعب تصديق هذا؛ لكن وفقًا لاعتبارات القيمة، لم ينتج العالم بأسره في ذلك الوقت سوى ثلث ما ينتجه البولنديون اليوم. وكان إنتاجهم يختلف كل الاختلاف من الناحية المادية عن الإنتاج في الوقت الحاضر. ويمكننا أن نقدر أن قيمة حصة الفرد من السلع والخدمات في أكثر مناطق العالم القديم تطورًا لم تتجاوز ٨٠٠ دولار بحسب مقاييس الوقت الراهن.7 وهذا يساوي حصة الفرد في أفقر بلدان العالم اليوم. ومن المؤكد أن حصة الفرد كانت تقل عن ذلك في المناطق التي تقع خارج نطاق حوض البحر المتوسط، وخارج بعض حضارات آسيا الأكثر تطورًا؛ بما فيها أجزاء من الهند والصين.

كان التفاوت في الدخل أقل مما هو عليه الآن. وإذا قارنا متوسط مستويات الدخل عبر أقاليم شاسعة، فسيتبين لنا أن الاختلافات كانت ضئيلة جدًّا. بلغ أعلى مستويات الدخل في المناطق المعروفة اليوم بأوروبا الغربية وآسيا — عدا اليابان — ٤٥٠ دولارًا بحسب قيمة النقود عام ١٩٩٠، أو ٨٠٠ دولار تقريبًا بحسب قيمة النقود حاليًّا. وتفوقت أفريقيا على أمريكا وأوروبا الشرقية والمناطق المعروفة اليوم باسم دول الاتحاد السوفييتي السابق، إذ بلغ متوسط الدخل في أفريقيا ٤٢٥ دولارًا (ما يعادل ٧٥٥ وفقًا لقيمة النقود حاليًّا). وكان متوسط دخل الفرد بالنسبة لسكان العالم ككل في ذلك الزمن ٤٥٥ دولارًا (٧٩٠ دولارًا اليوم). وبينما كان الدخل منخفضًا بوجه عام في أمريكا الشمالية وفي أفريقيا على حد سواء في بداية عصرنا الحديث (ويقل عن الدخل في أوروبا الغربية وفي مناطق قارة آسيا الأكثر تطورًا اقتصاديًّا)، بلغ دخل الفرد في أمريكا اليوم ٢٠ ضعف دخل الفرد في أفريقيا.

كانت الدخول والممتلكات أكثر تفاوتًا نسبيًّا في أكثر الحضارات المتوسطية تطورًا. كانت التفاوتات وعدم المساواة كبيرة هناك، على الأقل لأن الطبقة الأرستقراطية المحدودة كانت تحتكر في ذلك الوقت ملكية الكثير من الممتلكات، بينما لم يمتلك العبيد، الأكثر عددًا، أي شيء. وفي مناطق أخرى — قاصية وليس للإمبراطورية الرومانية أي صلات معها — انتشرت مجتمعات بدائية في أغلب الأحيان وعاشت في مستوى منخفض من الإنتاج والاستهلاك. واختلفت الأمور في الصين عن بقية العالم (كما هي الحال الآن): فقد كان سكانها يشبهون الرومان في بعض الجوانب، ويشبهون الجماعات البدائية في جوانب أخرى، لكن في ظل تفاوت دخل أقل من تفاوت الدخل في وقتنا الحاضر.

في غضون الألف سنة التالية لم يتغير الكثير، ولم يحدث تغير أعمق إلا في نهاية القرن الخامس وأوائل القرن السادس، عندما سقطت الإمبراطورية الرومانية. كان هذا تغيرًا كاسحًا، بينما اتخذت التغيرات الأخرى مسار تطور هادئ مستقر. كان التقدم التكنولوجي طفيفًا، وكانت الثقافة منخفضة المستوى، وتواصلت الحروب، فعانى الاقتصاد الركود.

وعلى مدى عشرات من الأجيال المتعاقبة، ظل عدد البشر يماثل تقريبًا نفس عددهم وقت ظهور المسيح، حينما كانت الإسكندرية هي أروع المراكز الحضارية في العالم في ظل وجود منارتها الشهيرة، التي هي واحدة من عجائب الدنيا السبع القديمة في العمارة. وفي عام ١٠٠٠م، كانت قرطبة بجامعاتها وعشرات المكتبات العامة بها مركز الإشعاع الثقافي في العالم. كان عدد سكان العالم يبلغ ٣١٠ ملايين نسمة تقريبًا وقتئذ، وبعد ألف سنة أخرى، صار عدد سكان العالم ٦ مليارات ونصف المليار، وأصبحت نيويورك تتمتع بتمركز غير مسبوق لرءوس الأموال وللفكر، حائزة بذلك المكانة التي احتلتها كلٌّ من الإسكندرية وقرطبة في أزمان مضت. ترى، أي مدينة سيشار إليها بأنها أكثر المدن روعة في عام ٣٠٠٠؟ ربما لم تظهر هذه المدينة إلى حيز الوجود بعد. وربما يحين دور آسيا بعد أن مر تباعًا على أفريقيا وأوروبا وأمريكا. يمكننا أن نرسم خطًّا متعرجًا يمثل هذا ويبدأ من الإسكندرية فيمر بقرطبة وصولًا إلى نيويورك. وإذا مددناه نحو الشمال الغربي فسنصل إلى مكان ما في الشمال الشرقي لسيبيريا.

في عام ١٠٠٠م، كان حجم إنتاج البشرية كلها يبلغ نفس حجم إنتاجها قبل ألف سنة من ذلك الزمن. ونظرًا لأن النمو في عدد السكان كان بطيئًا، لم يقل دخل الفرد كثيرًا. ولم يكن الجزء الغربي من أوروبا — غرب جبال الألب — الذي يضم أيضًا أوروبا الجنوبية (وهو جزء من القارة يعتبر شاملًا للأراضي التشيكية ولكنه لا يشمل المجر) أغنى بكثير من جزئها الشرقي، فقد بلغ دخل الفرد في جزأي أوروبا الشرقي والغربي على حد سواء حوالي ٤٠٠ دولار تقريبًا (بما يعادل ٧١٠ دولارات اليوم). كان هذا الرقم يقل عن مثيله في أفريقيا؛ التي كان متوسط دخل الفرد فيها ٤١٥ دولارًا بما يعادل (٧٤٠ دولارًا اليوم)، وتعزى هذه الزيادة إلى ارتفاع مستوى المعيشة نسبيًّا في شمال أفريقيا، التي كانت تحت حكم الحضارة الإسلامية بالغة التطور، على عكس بقية أفريقيا في منطقة الصحراء الجنوبية الكبرى التي كانت أقل تطورًا وأقل سكانًا. وكانت المناطق الواقعة على طول الشريط الساحلي للبحر المتوسط — التي ضمت عناصر قوية من الاقتصادات الحضرية والثقافات — متطورة تطورًا مميزًا. وكانت أكثر المناطق رخاء في أوروبا هي منطقة جبال الأبينيني في إيطاليا، والبلدان المتحدثة بالفرنسية، ولومبارديا، وجاليسيا، وكانت بيزنطة غنية أيضًا، بينما كانت الدول الاسكندنافية تعاني الفقر. ولو كان الاتحاد الأوروبي موجودًا في ذلك الزمن؛ لكانت تركيا ضمن الأعضاء بلا منازع، لأن بيزنطة والأقاليم التابعة لها كانت ستُعتبر من مفاخر الاتحاد الأوروبي، وكانت محاولات انضمام دول شمال أوروبا الفقيرة ستقابل بمعارضة قوية.

على الأرجح، لم تكن البشرية جمعاء — وفيها الطبقات الغنية التي يطلق عليها الآن اسم النخبة — تدرك أنها ظلت تعاني الركود على مدى الألفية الأولى، لا سيما خلال النصف الثاني منها بعد القرن الخامس، فقد ساد الركود؛ لا التنمية. لكن الناس كانوا على وعي تام بأن هناك سنوات كانت أقل رخاءً (أو بالأحرى أكثر فقرًا) من أخرى سبقتها. وكانت فكرة الحكام عن الموقف الاقتصادي فكرة سطحية، فقد كانوا يدركون أن خزانة الدولة أقل امتلاء، ولا تحوي ما يكفي لخوض الحرب. إلا أنهم رغم ذلك لم يدركوا أن هناك حاجة لتحفيز النمو الاقتصادي أو لمكافحة الركود على نحو مدروس. وكانت الصلوات من أجل زيادة المحاصيل أكثر من محاولات التفكير في سبل لزيادتها زيادة مضطردة. وكانت الخزانات الخاوية دافعًا لشن غارات نهب جديدة، لا دليلًا على وجود حاجة ملحة لتحقيق نمو في الإنتاج، فساد الجمود. كانت أزمات الركود تشحذ الفكر الموجه نحو التنمية، إلا أن وتيرة هذا الفكر كانت أبطأ من أن تكون لها الغلبة على إغراءات الطمع وحب التملك. وكان ظهور الفكر الاقتصادي الخلاق وانتشاره أكثر بطئًا من وتيرة التقدم التكنولوجي.

•••

يمكننا أن نلاحظ أنه بالرغم من حدوث الكثير من الأحداث عبر التاريخ، لم يحدث إلا القليل في ميادين التنمية الاقتصادية لألفيات وقرون كاملة. كان التغيير طفيفًا أو معدومًا في بعض الأحيان. وأثر الركود في أعداد السكان وفي مقدار الإنتاج على حد سواء نظرًا لارتباط كل منهما بالآخر ارتباطًا واضحًا. فزيادة عدد السكان تتطلب منهم أن يكونوا على دراية بكيفية تحقيق إنتاج أكبر؛ يكون من أولوياته توفير الغذاء إلى جانب المنتجات الأخرى الضرورية للبقاء والتناسل. ولقد أدى غياب التغيرات الإيجابية في أساليب الإنتاج إلى الحيلولة دون تحقيق ذلك خلال أغلب تاريخ بقائنا على الأرض. وبخلاف الفترات الرائعة من العصور القديمة (التي لم تكن رائعة للجميع؛ لا سيما العبيد والمصارعين)، لم يظهر التغيير الكامل سوى مع مستهل العصر الحديث. صحيح أن التغيير لم يتحول إلى قوة دافعة للتقدم إلا خلال عصر النهضة، لكن الكثير من عناصر التطور بدأت في الظهور تباعًا في النصف الأول من الألفية السابقة؛ إذ كان هناك تعديل ملحوظ لتقنيات الزراعة ناحية شرق منطقة الألب وشمال منطقة الكاربات بين عامي ١٠٠٠ و١٥٠٠. وتطور التخطيط العمراني الحضري، وتطورت شبكات الطرق كثيرًا خلال تلك القرون، وتحسن مستوى التعليم، فيما يتعلق بالقدرة على القراءة والكتابة، وأنشئت أولى الجامعات، وظهرت أوائل البنوك، وأول «عملة» أوروبية، وازدهر الفن القوطي الذي أبدع تحفًا معمارية رائعة كان إنشاؤها يتطلب قدرًا كبيرًا من المعرفة إلى جانب الدراية بتقنيات البناء الحديثة.

لكن التغيرات الاقتصادية لم تكتسب ديناميكية كافية تتيح النمو السريع في الإنتاج وعدد السكان إلا في الآونة الأخيرة. فحتى منذ مائتي سنة، كان عدد سكان الأرض أقل من مليار نسمة؛ وهو أقل من عدد طائفة الهندوس اليوم.8 وبعد مرور قرن آخر، صار عدد البشر ١٫٦٥ مليار نسمة، ثم بعد ذلك بنصف قرن وصل عدد السكان إلى ٢٫٥ مليار نسمة. واستغرق بلوغ عدد السكان ٦ مليارات ٥٠ سنة أخرى. وفي عام ٢٠٥٠، سيبلغ العدد نحو ٩ مليارات نسمة؛ هذا العدد أكبر بعشر مرات من عدد السكان في زمن الثورة الفرنسية، أو في وقت التقسيم الأخير لبولندا. فكم يا ترى سيصبح عددنا في عام ٣٠٠٠؛ أكثر أم أقل؟ الأرجح أن عددنا سيكون أقل …
بناءً على ما سبق، نستنتج أنه بينما كانت الزيادة في عدد سكان العالم ضئيلة جدًّا خلال الألفية الأولى من عصرنا،9 زاد هذا العدد بمقدار ٢٠ ضعفًا منذ ذلك الوقت حتى الآن. وبينما لم يطرأ تغير يذكر على نصيب الفرد من الدخل خلال الألفية الأولى — بل ربما انخفض قليلًا — فإنه زاد إلى مستوى أعلى ﺑ ١٣ ضعفًا في الألفية التالية. ونتيجة لذلك، تضاعف الناتج المحلي الإجمالي العالمي الآن بمقدار ٣٠٠ ضعف عما كان عليه منذ ألف سنة. كان الإنتاج ينمو بسرعة السلحفاة في الفترة بين عام ١٠٠٠ وعام ١٨٢٠؛ بمتوسط ضئيل مقداره نصف بالمائة سنويًّا، مما جعله غير محسوس بالمرة على مدى عدة أجيال. وعلى مدى ٨٠٠ عام، زاد نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي العالمي بنسبة ضئيلة تبلغ ٥٠٪؛ وهي نفس نسبة الزيادة في الصين، لكن خلال السنوات الخمس الأخيرة فحسب!
ولم تبدأ فورة نمو الاقتصاد العالمي إلا بعد عام ١٨٢٠؛ حينما كان أجداد أجداد أجداد أجداد أجدادنا على قيد الحياة.10 وفي غضون أقل من قرنين من الزمان، ارتفع نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي بمقدار ٨ أضعاف، بينما ارتفع عدد السكان بمقدار يفوق خمسة أضعاف. وهذا تحول جذري إذا ما قورن بتاريخ البشرية السابق. ومن المفهوم أن النمو خلال تلك الفترة سلك مسارات متنوعة في مناطق شتى من العالم، وأفضى هذا إلى اختلافات أكبر في المستوى المادي لسكانه. ففي عام ١٨٢٠ كان دخل الفرد في غرب أوروبا وأمريكا الشمالية واليابان وأستراليا ونيوزيلندا يساوي ضعفي دخل الفرد في بقية مناطق العالم؛ والآن بلغت النسبة بين دخل الفرد في تلك الدول وبقية سكان العالم ٧ إلى ١.

غلب الركود أيضًا على هيكل العمالة ومقدار الإنتاج قرونًا كاملة، ولم تحدث التحولات الملموسة إلا خلال القرنين الأخيرين. تُبين لنا بيانات من الولايات المتحدة صورة واضحة تمامًا عن هذا الأمر. فمنذ مائتي عام عمل ٨٥٪ من الأمريكيين في مجالي الزراعة وأعمال المناجم (عملت الأغلبية بالزراعة)، بينما بلغت نسبة من يمارسون العمل بالقطاع الخدمي ٤٪. وحاليًّا، اختلفت النسبتان تمامًا، إذ يعمل ٣٪ فقط من الأمريكيين في المجالين الأولين، بينما يعمل ٧٩٪ منهم في القطاع الخدمي (وتعمل نسبة ١٨٪ المتبقية في قطاع التصنيع الأعلى إنتاجيةً على مستوى العالم).

وفي ضوء المستوى المتدني العام للتنمية والافتقار إلى الخدمات الصحية البدائية على مستوى العالم؛ كان متوسط عمر الفرد في عام ١٠٠٠م مروعًا، إذ لم يتجاوز ٢٤ عامًا. وكان الارتفاع الهائل في معدل وفيات الرضع سمة رئيسية في ذلك الزمان؛ حتى إن رضيعًا واحدًا فقط من بين كل ثلاثة رضع كان يظل على قيد الحياة بعد عامه الأول. وكانت المجاعات والأوبئة أمرًا مألوفًا، وظل تحسن الأوضاع طفيفًا طوال الفترة التي سبقت نهاية القرن الثامن عشر ومطلع القرن التاسع عشر. وتشير التقديرات المستندة إلى مصادر الإحصاء المتناثرة التي كانت متاحة في ذلك الوقت إلى أن متوسط العمر المتوقع للفرد منذ الولادة في إنجلترا عند بداية القرن الرابع عشر كان لا يزال ٢٤ عامًا، بالرغم من صعوبة تصديق هذا الرقم. وبعد هذا التاريخ بثلاثمائة عام، زاد هذا الرقم إلى نحو ٤١ عامًا، وقارب ٣٩ عامًا في فرنسا. وقبل مائتي عام — في زمن بايرون وستاندال — بلغت نسبة وفيات الرضع في كلٍّ من إنجلترا وفرنسا على التوالي ١٤٤ و١٨١ لكل ألف مولود حي. هذه النسبة تماثل النسب المعاصرة في أفقر بلدان أفريقيا، التي تعاني نكبة أخرى ببلوغها أعلى نسبة إصابة بفيروس نقص المناعة البشرية/الإيدز. هل تبدو مائتا عام فترة زمنية أطول، أم أقصر مما كان يمكن أن يتوقعه المرء؟

بعد ذلك، حدثت تحولات شاملة. فاليوم بمقدور أي مولود في العالم — وفقًا للإحصاءات — أن يتوقع العيش حتى عمر السادسة والستين. ويتباين هذا المقياس في حالات معينة تباينًا ليس هينًا؛ فيزيد بمقدار ١٥ عامًا في المجتمعات الغنية مثل اليابان أو كندا، ويقل بمقدار ٣٠ عامًا في المجتمعات الفقيرة، مثل سوازيلاند أو تنزانيا.

•••

على الرغم من استخدامي كلمة «ثورة» عدة مرات هنا، فإن أحد أهم الدروس الواضحة التي يمكن استخلاصها من هذه اللمحة التاريخية — والتي تؤثر بقدر ليس بقليل على استشراف المستقبل — هي أن التغيرات التي تحدث على مدى تاريخ البشرية وتاريخ الحضارة تتسم بتنوع هائل. وهذا لا هو النمطية الروتينية التي تميز التغيرات الطفيفة التي قد تفضي إلى تغير ملموس عندما «يصير الكم كيفًا»، ولا هو (مع استثناءات معينة) تعاقب فترات ركود تام وقفزات مثيرة ذات طبيعة ثورية. فالتغيرات تتجمع وتتراكم وتتداخل — تمامًا كسقوط الشلال — فتدفع عجلة التاريخ في الطريق الوعر، دفعًا يزداد سرعة في بعض الأحيان، ويزداد بطئًا في بعض الأحيان، ويكون تراكميًّا — عندما نرى التغيير بالغ الوضوح — في أحيان أخرى. وكذلك ستكون الحال في المستقبل أيضًا. إنها كذلك الآن بالفعل، بما أننا قضينا حياتنا في التباحث حول مجموعة من هذه الشلالات.

وتبين رحلة موجزة عبر الزمن أنه لا سبيل لإحراز التقدم في غياب النقد، وهذا ينطبق أيضًا على التنمية الاقتصادية. وهذا هو ثاني أوضح الدروس التي يمكن استخلاصها. فالقدرة على إجراء تقييم نقدي للموقف الاقتصادي شرط ضروري لتشخيص الحال التي عليها الأمور، وشرط لا غنى عنه لتحديد الإجراء التصحيحي السليم. بعد سقوط الحضارة القديمة انعدمت تقريبًا القدرة على التفكير النقدي، وهذا أفضى إلى عشرة قرون من العصور الوسطى. وخلال تلك الحقبة — الواقعة بين سقوط الإمبراطورية الرومانية في القرن الخامس وحتى بدء عصر النهضة في القرن الرابع عشر — شجع مفكرون إسلاميون بارزون — بطريقة أو بأخرى — فكرًا نقديًّا، واستأنفوا النهج الفلسفي لمرحلة ما بعد الكلاسيكية. وأدى هذا إلى ظروف مختلفة في حضارتين متجاورتين. فقد زالت الحضارة من المنطقة التي كانت فيما مضى أكثر مناطق العالم تطورًا، ودخل الاقتصاد مرحلة من الركود نتيجة للضعف المؤسسي وتعدد الصراعات وقصر نظر الحكام وغبائهم، والتعفن الفكري والرجعية الناجمة عن هيمنة عقائد الدين المسيحي على الفكر. لقد تطورت الحاجة إلى الفكر النقدي حيثما ازدهرت التجارة والمهارة الحرفية؛ وحدث هذا تحديدًا عند العرب والفرس. وبتحديد أكثر، ظهرت آلية للنقد والتقييم في تلك الأراضي كما يلي: حفز الاقتصاد النابض وجود التفكير الإبداعي، الذي استنهض بدوره النشاط الاقتصادي. وكانت إعاقة الدين لعملية النقل الإبداعي للأفكار أقل على نحو ربما يفوق إعاقته للفكر الإبداعي حاليًّا في بعض مناطق الثقافة الإسلامية.

وقد وقعت الأحداث كما يلي: عندما سادت العقيدة الدينية التي تخنق حب المعرفة والرغبة في البحث عن الحقيقة العلمية الموضوعية التي تقود إلى أفكار جديدة في العالم المسيحي، كان من حسن الطالع أن الحال على عكس ذلك في العالم الإسلامي. كان هناك ركود في ناحية، وتنمية في ناحية أخرى من العالم؛ في الجزء الذي كان خاضعًا لحكام مستنيرين لم يتحاشوا العلم والفن، ولم يسمحوا بهيمنة العقيدة الدينية على الحياة. فقد أخمد تعصب المسيحية في القرون الوسطى الحاجة إلى القدرة على التفكير والتصرف على نحو خلاق. وكان الناس في العالم المسيحي — وفيهم الحكام — يمتلكون القليل، وكان كل ما لديهم من الناحيتين الثقافية والاقتصادية آت من عند الرب وحده. وفي نفس الوقت، في الأوساط الإسلامية، عمل الفكر النقدي والإبداعي، والاهتمام بالرياضيات والفلك والاحتفاء بهما على ازدهار الفيزياء ضمن سلسلة علومهم، فأسفر ذلك عن إنقاذ بعض المنجزات الفكرية للحضارات القديمة من الضياع في طي النسيان ونقلها إلى العصر الحديث. فمنذ وقت مبكر جدًّا يرجع إلى القرن الأول قبل الميلاد كان الإغريقيون قد اخترعوا آلة الأنتيكيثيرا بالغة التعقيد وذات الدقة المتناهية، التي يعتبرها البعض أول جهاز كمبيوتر، وكانت عبارة عن آلة معقدة لقياس الزمن الكوني والأرضي. وظهرت آلة مماثلة في القرن السادس ثم — على الأقل بحسب ما نعلم اليوم — ظهرت أخرى في القرن الثالث عشر في شبه جزيرة أيبيريا التي كانت وقتها لا تزال مزدهرة بفضل تأثير الحضارة الإسلامية.

أوجدت الحاجة إلى التفكير النقدي والإبداعي زادًا للتقدم. وكانت التفاعلات المادية بين الثقافة والاقتصاد ضرورية لاستمرار الاتجاهات التنموية. فارتفع إلى القمة أولئك الذين استطاعوا المساهمة في ذلك. وبعد مرور فترة من الزمن، بدءًا من القرن الثالث عشر، انقلب الحال تارة أخرى نتيجة لامتزاج ظروف إيجابية وأخرى سلبية على مدى ألف سنة سبقت ذلك الوقت؛ فبزغ فجر عصر الإصلاح في أوروبا، وأدى تراخي التشدد الديني إلى إطلاق الرغبة في البحث عن أشياء جديدة من خلال العلم لا الإيمان. ولكن قبل حدوث ذلك، كان العرب والفرس قد أنقذوا الحضارة البشرية؛ ليس فقط حينما عبَّر حافظ الشيرازي — الشاعر الفارسي العظيم الذي عاش في القرن الرابع عشر، والذي لا يزال يحظى بالتبجيل حتى اليوم في إيران — تعبيرًا رائعًا عن حب طائر طنان لزهرة، ولكن السبب الأهم هو أن الفرس والعرب اضطلعوا بحماية القدرة على التفكير النقدي على مدى القرون الطويلة التي سبقت عصر النهضة.

لعدة قرون تجاوز فكر المسلمين من فلاسفة وعلماء وفنانين وسياسيين قدرات المفكرين المسيحيين في ذلك الزمان. وترك كثير من هؤلاء المفكرين علامات لا تمحى بمر العصور. وهنا تجدر الإشارة إلى ابن سينا (٩٨٠–١٠٣٧) وابن رشد (١١٢٦–١١٩٨). الأول كان عالمًا عظيمًا وفيلسوفًا وطبيبًا فارسيًّا ويشتهر في العالم الغربي باسم «أفيسينا»، ولا يزال مفخرة للإيرانيين حتى اليوم. أما الثاني فيشتهر في الغرب باسم «أفيرويس»، وكان فيلسوفًا وطبيبًا عربيًّا. ومن اللافت للنظر أن كثيرًا من المفكرين البارزين في ذلك الزمان كانوا أطباء، لكن المفكرين البارزين اليوم خبراء اقتصاد أو علماء في أي فرع آخر من فروع علم الاجتماع. كانت شروحات هذين الرجلين — ابن سينا في بلاد فارس، وابن رشد في الأندلس — لمؤلفات أرسطو (٣٨٤–٣٢٢ قبل الميلاد) هي السبب في إنقاذ الفلسفة اليونانية من الضياع إلى الأبد خلال العصور الوسطى في أوروبا.

وبالنظر إلى كل ذلك، لا بد أن نُشكك في صحة الانقسام الثقافي والسياسي المعاصر الذي أطلق عليه البعض اسم «صدام الحضارات». أصبحت هذه العبارة شائعة في عام ١٩٩٣، عندما نشر صامويل هنتنجتون مقالًا بنفس العنوان في مجلة فورين أفيرز، كان المقال ردًّا موجزًا على كتاب فرانسيس فوكوياما «نهاية التاريخ»، الذي صدر قبل سنة من نشر هذا المقال. وفي عام ١٩٩٨، استفاض هنتنجتون في شرح فرضيته في كتاب يزعم فيه أن السياسات العالمية ستتشكل بالمواجهة والعداء بين الحضارات الكبرى في العالم المعاصر.11 إن الصراعات الدولية لن تنشأ من تضارب المصالح الاقتصادية، بل بسبب الاختلافات الثقافية، لا سيما تلك القائمة على أساس ديني. ومما له دلالته أن غلاف النسخة الأصلية لكتاب بهذا العنوان حمل صورة لبهوين جميلين ذَوَيْ أعمدة، مختلفين لكن يكمل أحدهما الآخر، أحدهما عربي والآخر إغريقي. لكن عندما صدرت النسخة البولندية من هذا الكتاب، كان الغلاف يصور محاربين — ينتمي كلٌّ منهما إلى حضارة مختلفة، كما يفترض أن نفهم — يحاول كلٌّ منهما التغلب على الآخر. وينبغي أن نضيف أن مصطلح «صدام الحضارات» حمل مضامين ازدرائية، وهذا مثال آخر على الهراء، نظرًا لأنه يحمل مبالغة واضحة. ويبدو أن القصد من ورائه هو إحداث النزاعات، على الرغم من أنه لا حاجة لأن يكون المرء خبيرًا ماهرًا ليدرك أن الانسجام بين الحضارات هو الخيار البناء.

لذا، بينما كانت الاختلافات بين مستويات التنمية ضئيلة، وكان مستوى التنمية منخفضًا بوجه عام منذ ألف أو ألفي سنة ماضية، أدت زيادة الاختلاف بين مستويات التنمية إلى وضع أصبح فيه متوسط نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي في أمريكا الشمالية يفوق المعدل العالمي بأربعة أضعاف، بينما يبلغ نفس المتوسط في أفريقيا أقل من ربع المعدل العالمي. وبين هذين النقيضين يقع متوسط نصيب الفرد في بقية العالم. وقد زادت هذه الاختلافات زيادة ملحوظة خلال القرنين الماضيين؛ فقد زاد نصيب الفرد (محسوبًا بمنهج مقارنة الأحوال المعيشية، أو تعادل القدرة الشرائية) في العالم الغربي من الناتج المحلي الإجمالي في الفترة بين ١٨٢٠–٢٠٠٠ بنسبة سنوية بلغت ١٫٥١٪ في المتوسط. وحققت اليابان أسرع معدلات النمو، بمعدل سنوي قدره ١٫٩٣٪، بينما وصل المعدل إلى ١٫٧٥٪ في أمريكا الشمالية، و١٫٥١٪ في أوروبا الغربية. وخلال نفس الفترة، كان المعدل يتزايد سنويًّا في دول أمريكا اللاتينية بنسبة ١٫٢٢٪، وفي بقية دول أوروبا بنسبة ١٫٠٦٪، وفي الصين بنسبة ٠٫٨٦٪، وفي أفريقيا بنسبة ٠٫٦٧٪، وفي بقية دول آسيا بنسبة ٠٫٩٢٪.

من منظور الوقت الحاضر، تبدو هذه النسب عادية، ولا تشكل الفروق الطفيفة فيما بينها أهمية. وهذا وهم كبير، لأن النسب تنطبق على نطاق سنة واحدة. أما إذا حسبناها على مدى الفترة كلها وبفائدة مركبة، سيتبين أن مستوى الإنتاج في اليابان زاد بنسبة ٣٫٠٢٢٪، بينما زاد في أفريقيا بنسبة بلغت ٢٣٣٪ فقط؛ إنه فارق شاسع! وهذا هو الفارق بين النمو والركود. وحتى الاختلاف الطفيف بين أوروبا الغربية وأمريكا الشمالية (٠٫٢٤٪ سنويًّا) سيتراكم في غضون ستة أجيال وسيصل إلى ٧٨٦٪، نظرًا لأن معدل ارتفاع الدخل يبلغ ١٫٣٨٥٪ في أوروبا الغربية و٢٫١٧١٪ في أمريكا. توضح هذه الحسبة البسيطة قوة النمو الاقتصادي، الذي دائمًا يشكل أساس التنمية الاجتماعية على المدى البعيد. في بعض الأحيان، قد يجد الفنانون العظماء في البؤس والشقاء إلهامًا لروائعهم. لكن كي ترتفع روح المجتمع وتزدهر ثقافته، هناك حاجة إلى الأساس المادي القوي، الذي لا يمكن كفالته على المدى البعيد إلا من خلال النمو الاقتصادي. وهذا هو الدرس المهم الثاني الذي يمكن استخلاصه من موجزنا التاريخي.

ويجب أن نضيف أن السنوات القليلة الأخيرة تجاوزت تقديرات ماديسون الشائقة، وأنها اتسمت بحراك أكبر بكثير. فقد بلغ متوسط نسبة نمو الناتج المحلي الإجمالي العالمي (وفقًا للقيمة الحقيقية، وحسب معدلات القدرة الشرائية، مع حذف نتائج التضخم) ٣٫٥٪ خلال العقد من ١٩٩٨ إلى ٢٠٠٧. وإذا طرحنا نسبة نمو عدد السكان البالغة ١٫٣٪، فستظل نسبة نصيب الفرد ٢٫٢٪. وهذا يساوي ضعف النسبة خلال المائة والثمانين عامًا السابقة. تنمو دول آسيوية عديدة بمعدل أعلى بكثير يصل إلى أكثر من ٦٪ سنويًّا. وينمو الناتج المحلي الإجمالي في جنوب أوروبا الشرقية بوتيرة أسرع من المتوسط، وبنسبة تصل إلى ٣٫٦٪.12 وينمو الناتج في أفريقيا بنسبة ٢٫١٪، وهذه نسبة قريبة من المعدل العالمي. وفي أكثر اقتصادات العالم تقدمًا — ومنها الولايات المتحدة — تهبط النسبة قليلًا إلى ٢٫٠٪، أما في اليابان فالنسبة أبطأ من ذلك بكثير وتبلغ ١٫٢٪.
لكن هذه السنوات العشر لا تشكل إلا ثلث جيل، ومع ذلك من الجدير أن نتذكر أنه إذا حافظت أفريقيا على وتيرة نموها الحالي، وإذا استمرت زيادة الناتج في أوروبا الغربية13 خلال المائة والثمانين عامًا المقبلة بنفس وتيرة زيادتها خلال السنوات العشر الماضية — ١٫٨٪ — فسيكون نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي بحلول عام ٢١٨٧ قد تضاعف عن المعدل الحالي في أفريقيا بمقدار ٤٫٢١٣٪، وفي أوروبا بمقدار ٢٫٤٨١٪. لقد كانت أوروبا تنمو بسرعة السلحفاة خلال السنوات الخمس الأخيرة بنسبة سنوية بلغت ١٫٢٨٪، بينما كانت أفريقيا تنمو بوتيرة أسرع بنسبة سنوية بلغت ٣٫٣٨٪. وإذا حسبنا هذه النسب على مدى زمني طويل؛ فسيتضاعف كل عُشر نقطة مئوية عدة مرات، وبالتالي، ستؤدي نسبة نمو قدرها ١٫٣٪ سنويًّا إلى مضاعفة دخل الفرد في غضون ٥٤ عامًا، وإذا كانت النسبة السنوية قدرها ١٫٨٪ فسيتضاعف الدخل خلال ٣٩ عامًا، وإذا كانت ٣٫٤٪ فسيتضاعف خلال ٢١ عامًا، وإذا كانت ٨٫٥٪ فسيتضاعف خلال ثماني سنوات ونصف. وإذا ثبتت النسبتان ١٫٣٪ و٣٫٤٪ لمدى زمني طويل، وإذا افترضنا أن الفرد العادي في أفريقيا الآن يتقاضى حوالي ٣٠٠٠ دولار سنويًّا، وأن نظيره الأوروبي يتقاضى حوالي ٣٢٠٠٠ دولار سنويًّا، فسيصل نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي في أوروبا بعد ستة أجيال من الآن (حينما يكون أحفاد أحفاد أحفاد أحفاد أحفادنا يعيشون في العالم) إلى ٢١٩٠٠٠٠ دولار، وهذا يعد مبلغًا خياليًّا اليوم، بينما سيتقاضى الفرد الأفريقي العادي ٣١٦٠٠٠ دولار «فقط» سنويًّا. فهل سيكون هذا هو «الفردوس الأفريقي»؟

سيكون من السخف أن تكون الأمور على خلاف ذلك لأن هذه هي سنة التاريخ في سير الأحداث، فالأشياء التي كانت في يوم ما ممكنة في مناطق بعينها، والتي لا تزال تحدث اليوم بكثرة في الصين وفي حالات قليلة أخرى، لن تكون ممكنة في مناطق أخرى مستقبلًا. والأشياء التي تزامن حدوثها في الماضي في دول توصف اليوم بأنها ثرية، والأشياء التي تحدث الآن في الصين، لن تحدث في تلك المناطق الأخرى. ففي الصين — التي يشكل سكانها خُمس عدد البشر — تضاعف الناتج المحلي الإجمالي كل ثماني سنوات ونصف على مدى العقود الثلاثة الأخيرة. وتجاوز نصيب الفرد ٨٣٠٠ دولار في عام ٢٠٠٧، وهذا أعلى باثني عشر ضعفًا من نصيب الفرد الصيني في عام ١٩٧٧، على الرغم من الزيادة الكبيرة في عدد السكان.

في هذه المرحلة، نحن بحاجة إلى أن نفكر في موقعنا من رحلتنا عبر الزمان والمكان. فمنذ ٣٥ عامًا، بعد وفاة المتشدد ماو تسي تونغ عام ١٩٧٦، تولى الإصلاحي العظيم دينغ شياو بينغ السلطة بعد سنة واحدة، وكان نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي في الصين، وفقًا لقيمة النقود اليوم، نحو ٧٠٠ دولار. هذا يساوي نصيب الفرد الآن في أفقر بلدان العالم (ملاوي وبوروندي). وفي الوقت نفسه، يساوي متوسط الدخل في العالم ككل منذ ألف أو ألفي سنة مضت. فطالما انتقلنا بالحديث إلى مكان آخر من العالم يمكننا أيضًا أن ننتقل إلى زمان آخر. إن المقارنات مهمة. وإذا نظرنا إلى إنتاجية العمالة، وفعالية الإنتاج، ومستوى المعيشة في تلك الدول الأفريقية، يمكننا أن نرى كيف تبدو الأوضاع هناك شبيهة بالأوضاع منذ جيل واحد فقط في الصين التي تتقدم حاليًّا، أو شبيهة بالأحوال منذ ألف سنة في أوروبا التي صارت ثرية في الوقت الحاضر.

في مقارنتنا السابقة بين مستويات الدخل، تناولنا جزأي أوروبا الغربي والجنوبي، اللذين كانا — ولا يزالان إلى الآن — أغنى بكثير من جزئها الشرقي. فلما كانت أوروبا الغربية مثل بوروندي في الوقت الحالي أو مثل الصين وقت تولي دينغ خلفًا لماو تسي تونغ، كانت أوروبا الشرقية في مستوى أفقر الأفراد في أفقر البلدان في يومنا هذا. وعندما كنا نذهب إلى الصين منذ ثلاثين سنة، كانت هذه طريقة جيدة لأخذ فكرة عن شكل حياتنا في بولندا في زمن بوليسلاف الشجاع منذ نحو ألف عام. لكن الذين لم يتمكنوا من ذلك لا يزال باستطاعتهم أن يذهبوا إلى مالاوي أو بوروندي، أو حتى إلى أرض دوجون رائعة الجمال في مالي حيث يمكن العودة إلى الوراء عبر الزمن ألف سنة أو ألفين. ولكي نرى الحال التي كانت عليها بولندا بدقة، سنتخيل الخنازير والأبقار بدلًا من الماعز والأغنام، والشعير بدلًا من الدخن. أما بالنسبة للدجاج فالمشهد واحد، هذا إن كان بمقدور القرويين تحمل كلفة تربية أي منها من الأساس.

اليوم يبلغ متوسط دخل الفرد الصيني نصف متوسط الدخل في بولندا، أو خُمس متوسط الدخل في أمريكا. وإذا واصلت الصين نموها خلال السنوات الثلاثين القادمة بنفس نسبة نموها خلال الفترة السابقة؛ فسيكون الناتج المحلي الإجمالي هناك بعد ثلاثين سنة من الآن قد تضاعف بنحو ١٢ ضعفًا مرة أخرى. وتبين المقارنات البسيطة أن مستوى الصين في عام ٢٠٣٧ سيكون مذهلًا لأنه سيتضاعف عن مستواه في عام ١٩٧٧ مائة وأربعين ضعفًا. ومن ناحية أخرى، إذا بلغ نصيب الفرد نحو ٩٧٠٠٠ دولار، فسيكون هذا أعلى بنسبة ٣٥٪ من أعلى الدخول في العالم اليوم، التي توجد في لوكسمبورج الصغيرة (البالغ عدد سكانها ٤٨٠ ألف نسمة، وهذا العدد يقل عن عدد سكان الصين بمقدار ٢٧٥٠ مرة).

إن الصين دولة استثنائية على مر العصور، وليس في الوقت الحاضر فحسب. قليلون فقط هم من يعرفون أن مكانة الصين في الاقتصاد العالمي كانت يومًا ما أقوى بكثير مما هي الآن. فعندما كانت أوروبا تنهض نفسها ببطء متحررة من ركود القرون الوسطى وتعود إلى الحياة خلال عصر النهضة، كانت الحضارة الصينية وكذلك الإسهامات الاقتصادية للصين في إنتاج العالم أكثر إثارة للإعجاب من يومنا هذا. ففي عام ١٦٠٠م، كانت مساهمة الصين في إنتاج العالم تشكل ٢٩٪. وبعد مائة سنة، انخفضت هذه النسبة إلى ٢٢٪ نتيجة للمركزية التي أبطأت التوسع الاقتصادي، وتحفظ الحكام المستبدين (هذا ما نسميه اليوم: موقف «مناهض للإصلاح») وبيروقراطيتهم. ولاحقًا، قفزت النسبة بمقدار عشر درجات وبلغت نحو ثلث إنتاج العالم في عام ١٨٢٠، كان هذا نتيجة للانفتاح والنهج الداعم للإصلاح الذي انتهجه البلاط وحكومته في بكين.

في ذلك الوقت كانت أوروبا وأمريكا تشقان طريقيهما، بينما تباطأت الصين تباطؤًا مذهلًا، وللمرة الثانية كان ذلك نتيجة للحكم المركزي، وقلة التواصل مع العالم الخارجي. وبعد نحو ٦٠ عامًا، انخفض نصيب الفرد الصيني من الناتج المحلي الإجمالي العالمي إلى ١٨٪ في عام ١٨٧٠، ثم بلغت النسبة ٩٪ فقط قبيل اندلاع الحرب العالمية الأولى، ثم انخفضت إلى نصف هذه النسبة عند قيام جمهورية الصين الشعبية في عام ١٩٤٩. واستمرت هذه المساهمة الهزيلة، التي تقل عن ٥٪، من إنتاج العالم بوجه عام طوال فترة حكم ماو تسي تونغ، إذ كان معدل زيادة الإنتاج يكاد يماثل معدل الزيادة العالمي. وفي الوقت الحاضر، عادت مساهمة الصين في الناتج المحلي الإجمالي العالمي مرة أخرى إلى نسبة ١٦٪، مثلما كانت منذ ١٤٠ عامًا. في ذلك الزمن، كانت أوروبا الغربية وأمريكا الشمالية واليابان تحديدًا تسرع الخطى نحو النمو، بينما كانت الصين تتباطأ. لماذا؟ وهل يمكن أن يتكرر ذلك ثانيةً في المستقبل؟

لن يحدث ثانية أبدًا أن يسحب أي أحد قدر ما تسحبه الصين الآن من موارد العالم، هذه آخر عملية بهذه الضخامة. يفضل الكثيرون عدم استخدام عبارات مثل «ثانية أبدًا» أو «أي أحد»، لكنني سأكررها: لن يكرر أي أحد ما حدث ثانية أبدًا، لأن الأرض لن تسمح بحدوث بذلك؛ لا في أفريقيا ولا في أمريكا اللاتينية، ولا في دول ما بعد الشيوعية في أوروبا الشرقية وآسيا. ربما لا يزال هذا ممكنًا لمرة واحدة أو مرتين في الاقتصادات الصغيرة أو متوسطة الحجم، لكنه لن يكون بهذا المستوى الهائل أو حتى العالمي؛ إلا إذا حل عهد تاريخي جديد غير مسبوق على الإطلاق في أعقاب فوضى وتقهقر كبير لا يمكن أن يسفر إلا عن تسارع متجدد نحو الأمام؛ تمامًا مثلما أفسح العالم القديم الطريق لركود القرون الوسطى المظلمة، قبل بزوغ عصر النهضة، ووقوع مثل هذه الأحداث لا يمكن استبعاده تمامًا.

نعلم أن الأشياء تحدث على النحو الذي تحدث به لأن أشياء كثيرةً أخرى تقع في الوقت نفسه. ومع أن العبارة صيغت في زمن المضارع؛ فإن التوكيد الذي تحمله يجعلها بطبيعة الحال تنطبق على الزمن الماضي أيضًا. ومن ثم سنتساءل: ما الذي حدث خلال فترات تاريخية متعددة فجعل العمليات الاقتصادية تجري بالطريقة التي جرت بها، وليس بأي طريقة أخرى؟ إن التراكم التاريخي للتغيرات، الذي كان في بعض الأحيان يدوم عشر سنوات أو أكثر، أو قرنًا كاملًا أو قرنين في أحيان أخرى — نجم إلى حد بعيد عن وقوع مصادفات، فقد سادت الأحداث العرضية إلى حد بعيد. ومع ذلك استطاع نبراس الفكر الإنساني والاستراتيجيات المدروسة بعناية — في خضم الفوضى السائدة14 — توجيه مسار الأحداث، وتحويل مسارها إلى الاتجاه العكسي في بعض الأحيان. لكن للأسف، على نفس المنوال، كان الفكر الجهول وغياب الاستراتيجية قادرَين على إحداث استسلام تام للفوضى التي غالبًا تحل في ظل ظروف غير ملائمة للتنمية. لقد امتزجت القوى الجاذبة والطاردة، وحدد نتاج تفاعلاتهما صياغة نظم وترتيبات ثقافية واقتصادية وسياسية جديدة، ونتج عن ذلك إما الركود أو التنمية.
وقد تحققت التنمية الاقتصادية طويلة المدى عندما اجتمعت عوامل خمسة هي:
  • (١)

    التقدم التكنولوجي.

  • (٢)

    سيادة الفكر النقدي والإبداع على الجزم المتشدد في الثقافة والاقتصاد.

  • (٣)

    الوعي الاقتصادي والقدرة على تنظيم عملية توسع الإنتاج والتبادل.

  • (٤)

    الإرادة السياسية من جانب الحكام لتنفيذ إصلاحات مؤسسية ضرورية تحرر طاقة البشر وروح المبادرة للعمل الحر وتوجههم صوب الابتكار.

  • (٥)

    وأخيرًا، الانفتاح على العلاقات الخارجية مما يتيح ممارسة تبادل أوسع نطاقًا لا يقتصر على تبادل السلع فحسب، بل يشمل تبادل المعرفة والمعلومات والثقافة أيضًا.

عندما كان يغيب أي من هذه العوامل، كان الاقتصاد ينمو ببطء شديد أو لا ينمُو على الإطلاق. فقد تخلفت أوروبا خلال القرون الوسطى — على صعيد كل هذه العوامل — عن الدول الإسلامية — العرب والفرس — والصين أيضًا. لكن فيما بعد، أدى النهج المحافظ الرجعي لحكام الصين وعزلها عن العالم إلى إحالة المملكة الوسطى سريعًا إلى مؤخرة الأمم. وكان من الممكن أن تجري الأمور بالعكس، مثلما حدث عندما دفعت الإصلاحات التي طبقها ميجي بعد عام ١٨٦٨ باليابان إلى الأمام في نفس الوقت الذي كانت فيه الهند تنفتح وتتحول نحو التكامل. وطبعًا من الممكن دائمًا أن نجد استثناءات؛ فقد تحققت التنمية على الرغم من غياب أحد هذه العوامل. على سبيل المثال: أثناء حكم سلالة تشو — السلالة الصينية الأطول حكمًا ١١٢٢–٢١٦ قبل الميلاد — ازدهرت الإقطاعية، وتطورت البلاد بوتيرة أسرع بكثير من تطور اليونان؛ على الرغم من أن الصين كانت مغلقة تمامًا أمام التواصل الخارجي مع العالم وغير مستعدة لتقبل الانتقاد في ظل البيروقراطية المتزمتة والالتزام الحرفي بالقوانين. وكانت هذه الحالة هي الاستثناء الذي يثبت القاعدة.

والأكثر من ذلك أن التراجع الاقتصادي دائمًا كان ممكنًا، سواء خلال موجات تاريخية طويلة أو في غضون عقود حديثة. فعلى مدى جيل واحد على الأقل، لم يحدث هذا في اقتصاد العالم بأسره، لكن عدة دول منفردة مرت بانخفاض في مستوى الإنتاج المطلق، وفي بعض الأحيان كان الانخفاض حادًّا إلى درجة أن هذه الدول لم تتمكن حتى اليوم من العودة إلى أقصى مستوى دخل قومي استطاعت تحقيقه فيما سبق. ويمكن أن نشير إلى أربع مجموعات من الدول التي سقطت فريسة لأربع نكبات مختلفة:
  • الدول التي تمر بمرحلة تحول شامل من الاقتصاد الاشتراكي المخطط مركزيًّا إلى اقتصاد السوق المفتوح.

  • دول ما بعد مرحلة الاستعمار، في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى.

  • دول أمريكا اللاتينية التي تكابد عواقب الصراعات المحلية، وانهيار الاقتصاد الكلي، والأزمات المالية.

  • الدول ذات الثقافة الاقتصادية الأحادية، لا سيما تلك التي تعتمد على صادرات النفط فقط.

الحالة الأولى مثيرة للجدل إلى درجة أن التراجع في مستوى الإنتاج في دول ما بعد الاشتراكية لا يمكن التسليم بأنه كارثة. فمقدار الانخفاض في الإنتاج — لا سيما في أكثر الدول تضررًا — كان كارثيًّا، لكن هذا لا ينطبق بالضرورة على الظاهرة ككل. فمن ناحية، لم يكن تحاشي الركود المصاحب لعملية التحول ممكنًا، لكن من ناحية أخرى، كان للتحول تأثير تطهيري في بعض المجالات، كتنظيف الاقتصاد من الكيانات الهيكلية غير الفعالة التي شكلت عبئًا أكثر من كونها موردًا ذا قيمة. لكن حجم الركود المصاحب لعملية التحول كان أكبر بكثير مما كان ينبغي. وتفاقم الركود بسبب السياسات الاقتصادية الخاطئة. ولم يكن هذا قدرًا محتومًا، بل نتيجة لخيارات البشر.

نتيجة لذلك، استغرقت دول ما بعد الاشتراكية التسع والعشرون كلهم — الواقعة في شرق أوروبا الوسطى وفي آسيا، بما فيها جميع جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابق ومنغوليا — ١٨ عامًا، حتى عام ٢٠٠٧، كي تعود جميعها إلى سابق مستوى الإنتاج الذي حققته في عام ١٩٨٩. إن كلمة «مستوى» هنا ذات دلالة مهمة، لأن البنية الآن مختلفة تمامًا، وأكثر عصرية واستجابة لطلب المستهلكين. فهي تقدم الجودة التي تمكنها في كثير من الأحيان من المنافسة في السوق العالمية. ولم تتمكن أذربيجان وبلغاريا وليتوانيا من العودة إلى أقصى مستوى إنتاج حققته في السابق إلا في الوقت الحالي. وفي الدول التسع التالية: (البوسنة والهرسك، والجبل الأسود، وجورجيا، وكازاخستان، ومقدونيا، ومولدوفا، وصربيا، وطاجيكستان، وأوكرانيا) لا يزال مستوى الإنتاج أدنى من مستويات الإنتاج القصوى التي تحققت فيها في الفترة من ١٩٨٨ إلى ١٩٩٠. وفي أسوأ حالتين، أوكرانيا ومولدوفا، ستستغرق العودة إلى أقصى مستوى إنتاج حققته كلٌّ منهما مدة تصل إلى عام ٢٠١٧ تقريبًا، وسيكون هذا نفس ميعاد الاحتفال بالذكرى المئوية لثورة أكتوبر الاشتراكية العظمى.

والوضع في كثير من الدول الأفريقية أكثر مأساوية وإحباطًا بكثير، حتى إننا نسمع أصواتًا كثيرة تذكر أن الاستعمار لم يكن بهذا السوء على أي حال (وفي رأيي، كانت الأوضاع بوجه عام أسوأ بكثير أثناء الاستعمار). ومع ذلك من الثابت أنه نتيجة للأسباب التالية: الصراعات العرقية طويلة الأمد، وتكرار الحروب المحلية، وسوء الإدارة البالغ، والسياسات الاقتصادية القاصرة، وضعف الاستثمار في رأس المال البشري، والبنية التحتية التي تعرضت للتدمير أو لم تكن موجودة من الأساس، وتدمير البيئة، وتكرار الكوارث الطبيعية بدءًا بالجفاف مرورًا باجتياح أسراب الجراد وانتهاءً بالفيضانات؛ تجد عشر دول أو أكثر نفسها في نهاية العقد الأول من القرن الحادي والعشرين عند نفس المستوى الذي كانت عليه في السبعينيات من حيث نصيب الفرد من الناتج. فقد سجلت جنوب أفريقيا ذروة إنتاجها في عام ١٩٨١، وتوجو وناميبيا في عام ١٩٨٠، ونيجيريا وملاوي في عام ١٩٧٩، والجابون والسنغال وزامبيا في عام ١٩٧٦، وجمهورية الكونغو الديمقراطية ومدغشقر في عام ١٩٧٥.

ويبدو الوضع في أفقر دول أمريكا اللاتينية بنفس السوء تقريبًا. فالصراعات المسلحة، وأنظمة الحكم الديكتاتورية المتعثرة، والتعرض للاستغلال من الخارج يفسر السبب وراء استمرار انخفاض نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي في باراجواي وبيرو إلى مستوى يقل عما كان عليه في عام ١٩٨١. ويقل المستوى في هندوراس أيضًا عما كان عليه في عام ١٩٧٩، وفي السلفادور يقل عما كان عليه في عام ١٩٧٨، وفي بوليفيا ونيكاراجوا يقل عما كان عليه في عام ١٩٧٧. ووفقا لمعايير التنمية، أُهدِر ما لا يقل عن عقود بأكملها مؤخرًا في عدة دول أكبر وأكثر تقدمًا في أمريكا اللاتينية؛ إذ لا يزال الإنتاج في الأرجنتين وأوروجواي — بلد مجاور للأرجنتين وبينهما روابط اقتصادية وثيقة — أقل من مستواه السابق منذ عام ١٩٩٨، حينما واجه هجومًا مباشرًا تمثل في مديونية وعملة وأزمة مالية أحدثت في أعقابها أزمة إنتاج. ولم تبلغ المكسيك أيضًا نفس النسب التي حققتها في عام ٢٠٠٠. وفنزويلا في وضع أسوأ بكثير؛ فهي تجمع أسوأ سمات أمريكا اللاتينية — التي تتمثل في عدم استقرار سياسي، وحركة شعبية قوية، وإدارة ضعيفة للاقتصاد الكلي — بالإضافة إلى أسوأ سمات الدول المنتجة للنفط.

والدول المنتجة للنفط هي المجموعة الرابعة، قد يبدو لنا أنها ينبغي أن تكون ماضية للأمام، نظرًا للهبة السخية التي وهبتها إياها الطبيعة. لكن هبات الطبيعة تلك قد لا تشمل بالضرورة ثقافة سياسية ونزعة وثابة إلى العمل الحر. فعلى الرغم من الموارد القيمة الضخمة التي تملكها هذه الدول؛ فإنها عاجزة عن الحفاظ على مسار مطَّرد للنمو الاقتصادي. فإنتاجها يتزايد سريعًا حينما يكون سعر البترول الذي تبيعه مرتفعًا؛ بينما حدوث ثبات أو انخفاض في السعر — وهذا هو أسوأ الأمور لهذه الدول — يهوي بهم إلى كساد هيكلي وركود طويل الأجل. وقد مرت تلك الدول بازدهار اقتصادي عندما حدثت أزمة البترول في السبعينيات (بالطبع لم تكن أزمة لهم على الإطلاق)، لكن كثيرًا من هذه الدول لم تتمكن من العودة إلى أعلى مستويات الإنتاج التي حققتها في السابق، على الرغم من عودة أسعار البترول للارتفاع خلال العقد الحالي. ولا يزال مستوى الإنتاج الحالي في المملكة العربية السعودية يقل عن مستواه في عام ١٩٧٨، وبالمثل في كلٍّ من الكويت والإمارات العربية المتحدة، حيث لا يزال الإنتاج يقل عن مستواه في عام ١٩٧٧. وهذا هو ما يحدث عندما تجتمع عدة ظروف كالتالية في نفس الوقت: الثقافة الأحادية، وتأخر قطاع الخدمات، واعتماد الدخل على السعر العالمي لسلعة واحدة فقط، وغياب استراتيجية شاملة لتحقيق التنمية، وقلة الاعتماد على المذهب العملي. وثمن هذه الخطايا هو التراجع عن مستويات الإنتاج المرتفعة التي تحققت في عقود مضت.

وينبغي التوكيد على تعقيد محددات النمو طويل الأجل، نظرًا لأنها ليست تكاملية فحسب، بل أيضًا يعزز بعضها بعضًا. فغياب التقدم التكنولوجي لن يحمل أبدًا ثمرة النمو المتواصل للإنتاج؛ حتى إذا توافرت أحسن النوايا لدى الحكام. لكن هذا التقدم في حد ذاته لن يتمكن من إحداث النمو في ظل غياب الدعم المناسب من جانب الدولة. وحتى إذا اجتمع هذان العاملان معًا، فلن يدفعا عجلة الاقتصاد إلا إذا تضافرا مع التقدم في مجالي العلوم والثقافة، اللذين بدورهما لن يتمكنا وحدهما من الحفاظ على نمو طويل الأجل. فالرياضيات والطب، والموسيقى والشعر يمكن أن تزدهر من خلال ومضات ذكية عابرة، لكن الاقتصاد لا يزدهر بهذه الطريقة. الأمر يتطلب تضافر كل هذه العوامل، مصحوبة بانفتاح على العلاقات الخارجية، وتراكم الخبرة الاقتصادية والمعرفة من أجل ضمان نتائج باهرة. وهذا ما شهدناه في أوروبا في القرن الخامس عشر، وفي أوروبا الغربية في القرن التاسع عشر، ونشهده يتكرر فيها في النصف الثاني من القرن العشرين أيضًا. وقد يظن المعاصرون للأحداث أن الأمور منذ الآن فصاعدًا ستظل على هذه الحال. ربما ستظل كذلك، لكن ليس بالضرورة، فقد يتغير مسارها إذا غابت إحدى حلقات التسلسل.

لا شك في أن التقدم التكنولوجي كان القوة الرئيسية الدافعة لنمو الإنتاج على مر التاريخ. واليوم، لا ينقطع الحديث عن «الاقتصاد القائم على المعرفة» الذي يرمي إلى التأكيد على الدور الاستثنائي للفكر في خلق قيمة جديدة. ومع ذلك عندما نلقي نظرة فاحصة على التاريخ؛ نلاحظ أن كل الفترات التي شهدت نموًّا اقتصاديًّا كبيرًا كانت قائمة على المعرفة. ولم يكن التقدم دائمًا، وفي كل مكان، قائمًا بالضرورة على الاختراعات. بل كان من الممكن أن يقوم على الابتكار والتقليد كما كان الحال فترة طويلة في اليابان، وكما هو الحال الآن في الصين. لقد تقدم الاقتصاد إلى الأمام بسرعة عندما اجتمعت العوامل الأربعة الأخرى مع التقدم التكنولوجي. وهذا التلاقي المتزامن هو أفضل تفسير لدينا لتبرير ازدهار التنمية في مكان ما في نفس وقت حدوث ركود طويل الأجل في مكان آخر؛ اختلاف الحال بين أوروبا الغربية وأوروبا الشرقية على سبيل المثال.15 ويبين هذا التلاقي أيضًا السبب في رؤيتنا لنتائج مختلفة اختلافًا جذريًّا في نفس المكان خلال عصور مختلفة؛ مثلما حدث في الدول الإسلامية أو في أمريكا الشمالية.

إن اكتشاف الموارد الضخمة — المعادن الخام أو البترول — عمل على تسريع وتيرة عمليات التقدم أكثر فأكثر، بينما أثبتت الحروب أنها قادرة على القضاء عليها تمامًا. وبالرغم من أن التالي صعب التصديق اليوم؛ فإن مدينة بوتوسي في بوليفيا كانت تضم ٢٠٠ ألف نسمة (و٨٠ كنيسة) في الفترة بين نهاية القرن السابع عشر وأوائل القرن الثامن عشر، وكانت واحدة من أغنى المدن في العالم شأنها في ذلك شأن نيويورك وباريس اليوم؛ وذلك بفضل ثروة هائلة من معدن الفضة الذي كان يستخرج من منجم سيرو ريكو. وإلى الآن، لا يزال السكان الذين يتحدثون الإسبانية يتحدثون عن «كنز بوتوسي»، الذي يساوي ثروة. لكن ظهور الثروة الطبيعية تسبب في إعاقة التنمية في بعض الحالات، مثلما نرى اليوم في كثير من الدول المصدرة للنفط في الشرق الأوسط أو أفريقيا. لا شك أنه أمر حسن أن تمتلك الدول احتياطيًّا كبيرًا من النفط — أو من أي مواد خام أخرى دائمًا يكون الطلب عليها كبيرًا — حينما يكون سعره مرتفعًا أو مستمرًّا في الارتفاع، لكنه ليس حسنًا جدًّا عندما يكون سعر النفط منخفضًا ويواصل الانخفاض. وهذا لأن هذه الدول غير قادرة — لأسباب سياسية وثقافية — على استغلال المهلة الزمنية التي منحتها إياها الطبيعة في إجراء إصلاحات مؤسسية ضرورية، وفي إحراز تقدم تكنولوجي واقتصادي. ويمكن رؤية هذا بوضوح في نيجيريا؛ أكثر دول أفريقيا سكانًا، التي يبلغ عدد سكانها ١٤٠ مليون نسمة، وهي واحدة من أكبر الدول المنتجة للنفط في العالم (تاسع أكبر بلد منتج للنفط وسادس أكبر بلد مصدر له)، ومع ذلك فإن نيجيريا إحدى أشد دول العالم فقرًا، إذ يبلغ نصيب الفرد من الناتج المحلي فيها ١٤٠٠ دولار.

كانت هناك أيضًا حالات ساعدت الحرب فيها على تحقيق التنمية والازدهار الاقتصادي، أولًا، في الدول التي تنتصر في الحروب، كما في حالتي بريطانيا العظمى خلال الحرب العالمية الأولى، والولايات المتحدة خلال الحرب العالمية الثانية، وثانيًا، في الدول التي تخسر الحروب، كما في حالة ألمانيا بعد كلتا الحربين العالميتين الأولي والثانية. ومع ذلك لم تكن الحرب أبدًا آلية كافية بذاتها، بل دائمًا كانت بحاجة إلى تضافر تلك العوامل الخمسة الحيوية معها من أجل تحقيق التنمية.

ليس من المستغرب أنه كلما زاد عددنا في العالم وكلما ارتفعت مستويات الإنتاج والتجارة؛ زاد التعقيد والتنوع في كلٍّ من الزمان والمكان، اللذين يرتبط كلٌّ منهما بالآخر بالرغم من كل شيء. وإذا قصرنا رؤيتنا للعالم على التقسيم الاعتيادي إلى قارات، فسنجد أن القارات تظهر اختلافات بالغة الدلالة في نشاط الإنتاج حتى في غضون نفس الإطار التاريخي. علاوة على اختلاف أحوال كل واحدة من القارات عن الأخرى عبر مرور الزمن. فنحن لم نشهد تزامن المراحل الاقتصادية بين القارات إلا في الآونة الأخيرة، وعلى نطاق محدود. وفي ضوء هذا، عندما نتعامل مع نفس مؤشرات معدلات النمو للعالم على مر عقود أو قرون، فنحن في الحقيقة نرى متوسط معدلات تسارع النمو في بعض المناطق ومعدلات تباطؤه في مناطق أخرى. ففي الوقت الراهن مثلًا؛ لنقل على مدى العشرين سنة الأخيرة، كان اقتصاد العالم، النشط بوجه عام، ينطوي على تسارع في الصين بالتزامن مع تباطؤ في أوروبا.

وفي هذا الصدد تحديدًا، لم تكن سنوات القرن العشرين متماثلة على الإطلاق. فمن حيث التقويم، بدأ القرن العشرون في عام ١٩٠١ (وليس عام ١٩٠٠، كما يقال دائمًا على نحو خاطئ)، مع أن البعض دائمًا يقولون إن القرن التاسع عشر لم ينته من الناحيتين السياسية والثقافية إلا في عام ١٩١٣؛ فهذه السنوات الثلاث عشرة الأولى من القرن العشرين اشتركت مع القرن السابق، أكثر من اشتراكها مع القرن الجديد، في كثير من السمات من النواحي السياسية والثقافية والاقتصادية. وشهدت هذه السنوات (من ١٩٠٠ إلى ١٩١٣) توسعًا كبيرًا في اقتصاد العالم، اتسم بتوسع الأسواق ونمو الترابط الدولي. وكان نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي ينمو سنويًّا بمتوسط ١٫٥٪، بينما كان ينمو بمتوسط ٠٫٩٪ فقط خلال السبع والثلاثين سنة المظلمة الواقعة في فترة نشوب الحربين العالميتين والكساد الكبير.

ولم تكن سنوات النصف الثاني من القرن العشرين متجانسة هي الأخرى، لا سيما سنة ١٩٧٣ المميزة. فقد تضاعف سعر البترول أربع مرات في أعقاب الصراع في الشرق الأوسط والأزمة هناك، وما ترتب على ذلك من تأثيرات على الربحية وسرعة وتيرة النمو. وأهم ما في الأمر أن هذه الأزمة جعلت تنفيذ الإصلاحات الهيكلية الداعمة للإنتاجية أمرًا حتميًّا. وقد طُبقت هذه الإصلاحات غالبًا في اقتصادات السوق في الدول المتقدمة، على الرغم من أن هذه الدول أيضًا عانت بسبب تلاشي الازدهار الاقتصادي الذي حدث بعد الحرب وقل معدل النمو فيها خلال الربع الأخير من القرن العشرين. فقد كان معدل نمو نصيب الفرد في العالم ككل خلال الفترة من عام ١٩٥١ إلى عام ١٩٧٣ لا يقل عن ٢٫٩٪ سنويًّا، في حين انخفض في الفترة بين عامي ١٩٧٤ حتى ٢٠٠٠ إلى ١٫٤٪ سنويًّا فقط، وهذا أبطأ مما كان عليه في بداية القرن العشرين. لكنه كان لا يزال أعلى بكثير من المعدل خلال مجمل الألفية التي كانت تقترب عندئذ من نهايتها. وكان النمو طفيفًا خلال ركود القرون الوسطى خلال القرون الخمسة الأولى من هذه الألفية، بمعدل بلغ ٠٫٠٥٪ فقط، لكن كما نعلم، بلغ المعدل خلال المائتي سنة الأخيرة ١٫١٧٪ سنويًّا. وبذلك يكون متوسط النمو السنوي للألفية السابقة كلها ٠٫٢٦٪. وبناء على ذلك، تعتبر الفترة بين عامي ١٩٥١ و١٩٧٣ ازدهارًا اقتصاديًّا حقيقيًّا، وكذلك كانت السنوات اللاحقة.

ولأغراض التحليل الإحصائي والمقارنة، يمكن تقسيم السكان إلى مجموعات متساوية من الناحية الكمية. فواحد على أربعة من عدد السكان هو الربع. وبعبارة أخرى، الربع هو ٢٥٪ من مجموع السكان. وإذا رتبناهم طبقًا لمتوسط مستوى الدخل، نحصل على مجموعة دخول مقسمة إلى أربعة أرباع، مرتبة من الدخول الأدنى إلى الدخول الأعلى. سنجد أن متوسط الدخل السنوي لأفقر ٢٥٪ من سكان العالم عند نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين (عندما كان عدد الأشخاص في كل ربع يساوي ٤٠٠ مليون شخص) كان أعلى من ٧٠٠ دولار بقليل؛ وهذا مثل متوسط العالم بأسره منذ ٩٠٠ سنة ومنذ ١٩٠٠ سنة مضت. ثم ارتفعت هذه النسبة نحو نهاية القرن العشرين وبداية القرن الحادي والعشرين إلى ٣١٠٠ دولار.16 وبالنسبة لأعلى ربع، زاد الدخل السنوي من ٦٣٠٠ دولار إلى ٣٢٠٠٠ دولار تقريبًا. لكن مبلغ ٣١٠٠ دولار، الذي هو متوسط دخل ١٫٦ مليار من البشر في عام ٢٠٠٠، كان يزيد بمقدار الثلث تقريبًا عن دخل أفراد الربع الثالث — الأشخاص الذين كانوا يعتبرون ميسوري الحال إلى حد ما — منذ مائة سنة. وهذا يوضح حجم التقدم الهائل الذي حدث.

فإذا افترضنا مثلًا أن امرأة كانت تعد غنية منذ مائة عام استطاعت أن تزور، في زمننا هذا، حفيدها الذي تراجع مستواه بعد كل تقلبات القرن العشرين فصار ينتمي إلى الطبقة المتوسطة أو ربما حتى إلى الطبقة المتوسطة الدنيا؛ فسوف تصاب هذه المرأة بالصدمة لدى رؤية هذا المستوى المعيشي المرتفع الذي ينعم به أحفادها؛ مقارنة بزمانها. فهي لن ترى فقط أشياء كانت غير موجودة في بيتها، بل أشياء لم تكن موجودة في زمانها أصلًا، مثل الثلاجة والغسالة والراديو والتليفزيون والكمبيوتر والهاتف المحمول، ومجموعة من الأجهزة المعقدة الأخرى التي ربما ظهر بعضها في زمانها، لكنها كانت نادرة جدًّا بحيث لم يمتلكها إلا القليلون. وأشياء لم يحظ برؤيتها معظم معاصريها، على الرغم من أنهم ربما قد سمعوا بها.

ولا بد أنها ستندهش لرؤية سهولة تأدية المهام في المطبخ والحمام، في ظل وجود كل الأجهزة ووسائل الراحة المتوافرة فيهما. وستبدي إعجابها بمجموعة الكتب التي تماثل في وفرة عددها ما كان يمتلكه قس أو حاخام في زمانها، لكن ماذا سيكون رأيها في شاشة السينما المنزلية؟ ولا بد أنها لن يسعها إلا الاندهاش لرؤية كمية الأدوية التي يلقى بها في بالوعة الحمام، فكل مَن حولها وافر الصحة طويل العمر. وسترى الشباب يثيرون جلبة في أنحاء المنزل بينما أداة ما موصولة بآذانهم وموصلة بصندوق صغير في حجم علبة النشوق يصدر ما يتناهى إلى سمعها كنشاز موسيقي؛ هل سيقولون لها إن الموسيقى صادرة من أجهزة الإم بي ثري (؟) ثم يخبرونها بأن تذكرة الطيران الإلكترونية (؟) وصلت بالبريد الإلكتروني (؟) لأنهم يعتزمون السفر بالطائرة (؟) لتمضية عطلة خططوا خلالها أن يمارسوا السباحة الهوائية (؟) على طول الشريط الساحلي لجزيرة رودس اليونانية، وهو ما كانوا يحلمون بفعله طوال حياتهم المترفة، لكي يتمكنوا من رؤية المكان الذي كان يقف فيه تمثال رودس العملاق، لكنهم لم تكن لديهم القدرة المادية على تحمل نفقات ذلك قبل الآن. إن ما كان يومًا ما بعيدًا جدًّا ومن نصيب النخبة القليلة فقط، صار الآن رخيصًا وفي متناول يد الكثيرين.

وسيتبادر إلى ذهن ضيفتنا أن حفيد حفيدها هبطت عليه ثروة وأنه بالتأكيد شخص ذو نفوذ، إلا أنها ستتساءل لم اختار أن يعيش في شقة صغيرة كهذه، أو حتى بيت، بينما امتلكت هي في زمانها بيتًا أكبر؟ لكنها بالتأكيد ستندهش من طريقة تأثيثه وتزويده بمختلف وسائل الراحة التي يعتبرها سكان البيت عادية تمامًا ولا تلفت الانتباه.

من الممكن أيضًا أن تجري الأمور في الاتجاه العكسي. فمثلًا، إذا استطاع شخص من العالم المعاصر من الطبقة الوسطى أن يصفي أصول ممتلكاته ويسافر عبر الزمن مائة عام إلى الماضي، فسيجد أنه يستطيع أن يتحول سريعًا إلى رجل ثري. البعض سيحاول تغريمه قدرًا من الضرائب، وآخرون سيحاولون سرقته، لكن الجميع سيحسدونه. والسؤال المثير هو: هل سيشعر هو نفسه أنه غني بالفعل؟ بالطبع لا؛ بل على العكس، سيصاب بالصدمة، إذ كيف يمكن أن يواصل حياته في هذا المستوى المنخفض، وكيف يمكن أن يحيا من دون راديو وتليفزيون وسيارة وبطاقة ائتمان وهاتف محمول، وأهم من هذا كله، كيف يمكن أن يحيا من دون الإنترنت، سابع أعظم اختراع في تاريخ البشرية.

هذه ثمرة التنمية الاقتصادية. فالمستوى المعيشي لأفراد الطبقة المتوسطة في مطلع القرن الحادي والعشرين أعلى بكثير في المطلق من المستوى المعيشي لأغنياء مطلع القرن العشرين. بل إن هناك دولًا استغرق فيها تحقيق هذه القفزة الحضارية أقل من قرن بكثير. وفي بعض المناطق، كانت عدة عشرات من السنين كافية جدًّا لكي يتمكن شخص كبير السن — الآن — من بلوغ المستوى الذي كان يعتبره مستوى الثراء حينما كان طفلًا.

ولسنا بحاجة إلى أن نعود بالذاكرة بعيدًا إلى الماضي لنجد أمثلة؛ فأنا أتذكر جيدًا، أثناء تمضية الإجازات في طفولتي، كيف ذهبت في نزهات مع أمي إلى قرية بالقرب من بوري تاكولسكي؛ باعتبارها جزءًا حيويًّا من أوروبا الوسطى في ذلك الوقت. وبينما كنا نترجرج داخل عربة الخيل ذات السلم التي كانت تقلنا من جريدك إلى كرابلويس، كنت أصيح: «انظري! بيت من الطوب!» والآن، بينما أقود سيارتي على الطريق الممتد بطول ضواحي وارسو النائية نفسها في طريقي إلى عملي في الجامعة، أقول لابنتي متعجبًا «انظري! كوخ من الخشب!» لقد رأيت أول بيت مبني بالطوب عندما كان ذلك شيئًا جديدًا مثلما رأيت آخر كوخ خشبي بعدما صارت الأكواخ الخشبية تحفة نادرة. لقد تغير الزمن، مع أنه يتراءى لنا وكأنه لم يتغير على الإطلاق، وذلك لأنه زمننا نحن. كم منا ممن يعيشون في دول متوسطة أو بالغة التقدم في شتى أنحاء العالم شهد تغيرات مثل تلك التي شهدناها، حتى إذا كنا لا ندركها؛ أو لا نرغب في ذلك؟

في الوقت الحاضر، حيث المستوى المعيشي أكثر ارتفاعًا بكثير من الماضي، لا يشعر الأشخاص الذين ينبغي لهم أن يشعروا بالسعادة بأنهم أغنياء على الإطلاق. ولا يعزى هذا إلى ارتفاع مستويات طموحاتهم فقط، بل إلى ازدياد الثروات أيضًا. فاليوم ينظر المرء إلى ثروته بوصفها ثروة تقربه فقط من المستوى المعيشي المطلوب، ولا ينظر إليها بوصفها ثروة كبرى تنأى به بعيدًا عن المستوى المعيشي المنخفض — والمنخفض جدًّا في بعض الأحيان — الذي كان موجودًا في الماضي.

لقد ازداد الفقر أيضًا، حتى في أغنى دول العالم، مثل بريطانيا العظمى وأستراليا، إذ لا يزال مستوى الاستهلاك عند نفس مستوى الاستهلاك الذي كان يعد مرتفعًا في الماضي. وبالمثل، إذا تخيلنا أن الفقر الحالي في أوروبا الشرقية استطاع الانتقال بآلة الزمن أو من خلال ذكريات كبار السن إلى الفترة الواقعة بين الحربين العالميتين الأولى والثانية؛ فسيصيب بعض أبناء ذلك الزمن بالذهول، باعتباره مستوى متوسطًا ميسورًا، بل وسيعتبره البعض الآخر مستوى ثراء.

إن الشعور بالغنى أو بالفقر مثلان رئيسيان على المفاهيم النسبية، وهما يختلفان عن الشعور بالفقر المطلق، الذي لم يتغير معناه اليوم عن معناه في أي وقت في الماضي، حتى من ناحية القيم المطلقة لقياس الفقر. فغالبًا لا يختلف شكل الفقر الآن في مناطق أمريكا اللاتينية أو في المقاطعات الريفية الأفريقية عن شكله منذ عقود أو قرون مضت، لكن شكل الفقر الحضري الآن يختلف؛ نظرًا لأنه لم يكن معروفًا في السابق قبل ظهور العشوائيات البائسة في المدن اليوم. فمعاناة البؤساء التي وصفها ديكنز أو هوجو تختلف كل الاختلاف عن شكل الفقر الحالي في أمريكا الشمالية أو أوروبا.

من يتُقْ إلى معرفة كيف كانت أحوال الطبقات الإنجليزية العاملة، التي وصفها إنجلز منذ ١٦٠ سنة في كتاب يحمل نفس العنوان، يمكنه أن يسافر إلى أحد الأحياء الفقيرة في كالكتا، يطلق عليه من قبيل المفارقة «مدينة الفرح»،17 بل من الأفضل أن يعيش هناك فترة ويتأمل المكان جيدًا. أحد الأمور التي يمكن ملاحظتها، هو كم الأشخاص الذين يشعرون بالسعادة، من بين جميع من يعيشون في هذا الفقر المدقع هناك. يكمن سبب ذلك في أن سعادة الإنسان — لحسن الحظ — لا تتأتى من الظروف الاقتصادية الجيدة فحسب.

فأينما يحدث تقدم اقتصادي كبير، وأينما يبدُ أن مستوى الرضا الاجتماعي المصاحب للارتفاع غير المسبوق في الإنتاج قد ارتفع، فإننا نظل نتذمر، وقد نتذمر بشدة أحيانًا. ونظل مهمومين بعدة أمور من بينها كيفية تغطية نفقات معيشتنا، حتى إذا كانت هذه النفقات أعلى كثيرًا جدًّا من الحد الذي كان يعد يومًا ما مرضيًا، ونلقي باللوم على أنفسنا أو على الآخرين، ونلجأ إلى كسب المزيد من المال، لكن هل هذا هو الحل الصحيح؟ هذا يعتمد على وجهة النظر، وعلى قصر نظرنا الملحوظ عند إصدار أحكام تقديرية على الأمور في الماضي والحاضر على حد سواء.

قد يكون التذمر جزءًا من الطبيعة البشرية، لكن لا ينبغي أبدًا الخلط بينه وبين التوجه النقدي، الذي يعد توجهًا جديرًا بالتشجيع. فأنت بحاجة لأن تستند إلى أساس ما لكي يكون انتقادك أمينًا، بينما في حالة التذمر، يمكنك أن تتذمر دون أدنى سبب يبرر ذلك. إنه تذمر فحسب، أو كما يوصف أحيانًا في السياسة، ما هو إلا حاجة إلى تعزيز موقف المرء عن طريق محاولة إضعاف موقف الطرف المعارض. وهذا هو السبب وراء تذمر الحزب المعارض دائمًا وفي أي بلد من أي قرار تتخذه الحكومة، إلى أن يتبادلا المواقع، ثم يغير كل طرف عندئذ منظوره للأمور. وهذا بالضبط مثلما يحدث عندما يلعب الأطفال لعبة العسكر واللصوص، إلا أن هذا يحدث في الواقع، ويحمل عواقب أكثر أهمية بكثير. فعندما تتبدل المواقع؛ سرعان ما يشرع أولئك الذين تولوا السلطة في الثناء على الأوضاع وإرجاع الفضل إلى أنفسهم في كل الإيجابيات، التي يكتشفون منها المزيد والمزيد. وسرعان ما يتحول الذين يتبوءون موقع المعارضين إلى التذمر من الأوضاع، حتى لو كان كثير من السلبيات القائمة ناجم عن قراراتهم التي اتخذوها عندما كانوا في السلطة. وعندما نتحدث على مستوى دول بأسرها، فسنرى أن الغنية منها تميل إلى إرجاع الفضل في ازدهارها في المقام الأول إلى حكمتها ومهارتها واجتهادها، بينما تميل الدول المتخلفة إلى إلقاء اللوم على الآخرين، أو على القوى الخارجية باعتبار هؤلاء السبب في فقرها. وهذه الدول تلوم الأثرياء الأجانب على وجه الخصوص.

•••

بناءً على لمحتنا المختصرة عن تاريخ العالم، يجب أن نذكر خلاصة هامة هي أن ثلاث من فرضيات علم الاقتصاد الأساسية مبسطة تبسيطًا مفرطًا. وبعبارة أخرى، هذه الفرضيات تعبر عن أمنياتنا بوصفنا خبراء اقتصاد أكثر مما تعبر عن واقع الأمور. هذه الفرضيات الأساسية الثلاث هي:
  • نموذج تعظيم الثروة؛ باعتباره القوة المحركة للاقتصاد.

  • مقولة إن العقلانية هي أساس اتخاذ القرارات الاقتصادية.

  • والاعتقاد أن السوق — وآلياته — هو في حد ذاته ضمان للإدارة الفعالة.

أولًا: من قبيل التبسيط المفرط أن نحكم حكمًا مطلقًا بأن سعي الأمم وراء الثروة هو القوة المحركة للتاريخ، ومن ثم، الباعث على التنمية. وقبول هذا النموذج يقوم على قواعد علم الاقتصاد التقليدي، وعلى تحول الأسئلة المتعلقة بمصادر الثروة وسبل زيادتها إلى اهتمامات رئيسة للاقتصاد بوصفه علمًا.18 لكن على أرض الواقع، كثيرًا ما لا تكون الرغبة في التنمية هي السبب وراء الإجراءات واتخاذ القرارات، بل الرغبة في السيطرة، التي يمكن الوصول إليها أيضًا من خلال تدمير الآخرين. ويوجد مسائل أخرى مرتبطة بالتعارض بين القيم الروحية والأيدولوجيات المخالفة لها، أو يمكن أن نصفها بأنها المسائل المرتبطة بمواقف عقائدية. وحتى إذا كانت الرغبة في الثروة هي هدف نشاط الاقتصاد الجزئي (أي الاقتصاد على مستوى الشركات والأسر والأفراد)، فالأمر ليس كذلك بالضرورة على مستوى الاقتصاد الكلي (الاقتصاد على مستوى الدول والأمم، لا سيما على مستوى الاقتصاد العالمي بأسره)؛ فلو كان كذلك، لصرنا جميعًا أغنياء.

ثانيًا: الفرض الأساسي الثاني من فرضيات علم الاقتصاد — العقلانية أساس صنع القرار — لا بد أن يكون محفوفًا بالعديد من التحفظات. فقد يكون هذا المبدأ صحيحًا على مستوى الاقتصاد الجزئي، على الرغم من غياب العقلانية غالبًا حتى في الاقتصاد الجزئي، كما يتضح من تكرار حالات الإفلاس. فكثيرًا جدًّا ما تكون القرارات التي تتخذ في الشركات غير عقلانية، ليس فقط نتيجة لما يحدث دائمًا من تعتيم الحقائق وتزييفها، بل أيضًا نتيجة لقصر النظر والجشع والجهل. وفي السياسة الاقتصادية — التي تشكل إلى جانب روح المبادرة للعمل الحر أعظم محددات التنمية — لا يمكن وصف العديد من القرارات — من وجهة نظر عمليات إعادة الإنتاج — بأنها قرارات مثلى. فقرارات الاقتصاد الكلي غالبًا تنشأ من منطق سياسي خاص لا من عقلانية اقتصادية بحتة. بينما غالبًا تنشأ القرارات السياسية من الأيديولوجيات السائدة، أو من المصالح الخاصة بمجموعة مهيمنة، أكثر مما تنشأ من منطق عملي. فإذا كانت الأيديولوجية ذات توجه تقدمي، وطموحة، فمن المحتمل أن تمثل رؤية للعالم تستند إلى منطق عملي براجماتي. وهذه هي الحال في بعض الأحيان، لكن ليس دائمًا أو في كل مكان. وأينما كان من الممكن الجمع بين المنطق البراجماتي وبين العقلانية في أي بلد خلال أي وقت من الأوقات، كان مستوى النمو الاقتصادي والتقدم الاجتماعي يرتفع على الفور. ومع الأسف، عندما ننظر عن كثب إلى التاريخ — القديم جدًّا والحديث على حد سواء — تصدمنا على الفور حقيقة أن اللاعقلانية لم تكن أمرًا استثنائيًّا على الإطلاق؛ بل كانت سائدة بوضوح في بعض الأحيان. هناك من ينتفع من وراء اللاعقلانية ويؤيدها؛ لذا نجدها توصف أحيانًا بأنها العقلانية.

التحفظ الثالث يتعلق بالافتراض الثالث، المسلَّم بصحته دومًا دون جدال، بأن اتجاهات الأسواق آليات فعالة دائمًا. إنها ليست كذلك، بالرغم من أنها من الممكن أن تكون كذلك. فهذا يحدث للأسواق بكثرة وبسهولة عندما تتعهدها دولة تقدمية بالتنظيم وتزودها بضمانات مؤسسية. أما الأسواق في حد ذاتها، فلا توفر ضمانات تلقائية لتحقيق الفعالية والتوازن، ناهيك عن الانسجام. ولمحتنا التاريخية الموجزة تبين هذا بوضوح. ومن اللافت للنظر أن آدم سميث نفسه (١٧٢٣–١٧٩٠) بين هذا الأمر. واليوم لا بد أنه سيتقلب في مقبرته الصغيرة بإدنبرة لو علم بما تحويه مؤلفات الليبرالية الجديدة، البعيدة كل البعد عن روح ونص تعاليمه، والتي تحاول إقناع الناس بأن الخيار الأفضل هو ترك كل شيء — أو تقريبًا كل شيء — لرأس المال الخاص واليد الخفية للسوق. لكن التاريخ انتصر لأولئك الذين لم يلجئوا إلى السوق إلا بمقدار ما دعت الحاجة — لا أكثر ولا أقل — سواء عندما كانت الاقتصادات وطنية ومؤممة، أو حتى عندما انفتحت أكثر على المؤثرات العالمية.

وأخيرًا، تقدم لنا هذه النبذة التاريخية الموجزة المدهشة درسًا عامًّا مفاده أنه على المدى البعيد، لا يمكن أن نعرف يقينًا من الذي «سيعتلي القمة» بعد ذلك. يشدد المؤرخون على أن فرص هيمنة أوروبا على العالم منذ ألف سنة كانت تقترب من الصفر.19 ثم صارت متوسطة بعد خمسة قرون، ثم سرعان ما تحولت هذه الفرص إلى أمر واقع. ومنذ ألف سنة، كانت فرص توسع الحضارتين الصينية والإسلامية أفضل بكثير. لكن الأحداث اتخذت مسارًا مختلفًا، واليوم، بتنا نعلم كيف حدث هذا، ونفهم سبب حدوثه فهمًا أفضل بكثير. أما كيف ستسير أمور هاتين الحضارتين مستقبلًا فنحن لا ندري. لكن ما نعلمه حقًّا هو أن التاريخ — شأنه شأن الزمن — يسير في اتجاه واحد، نحو الأمام. ونعلم كذلك أن الأمر نفسه ينطبق على اتجاه مسار التاريخ الاقتصادي، لكن ذلك التاريخ الاقتصادي مثل الزمن الفيزيائي، لا يمضي على نمط واحد أو في خط مستقيم دائمًا. فقد تزامن حدوث التسارع والتباطؤ، والارتفاعات والانخفاضات، والتنمية والركود على حد سواء في الماضي، وسيظل هذا التزامن قائمًا في المستقبل أيضًا. والأهم أن العمليات لم تتواصل في مسار متسق عبر الزمان والمكان. وهكذا سيظل الحال في المستقبل.

في الوقت الراهن، تقترب فرص هيمنة أفريقيا على العالم من الصفر، وهكذا ستظل هذه الفرص، ضمن إطار المستقبل القريب أو حتى المستقبل الذي يمكن توقعه. ومع ذلك لن يبق الحال بالضرورة كذلك دائمًا. فمنذ فترة ليست بالبعيدة، كانت احتمالات فقدان أمريكا الشمالية مكانتها المهيمنة احتمالات ضعيفة. أما اليوم، فتكاد هذه الاحتمالات تكون مؤكدة. كما تتزايد احتمالات هيمنة آسيا على العالم، أو تحديدًا، هيمنة جزء منها على العالم، مثلما كانت احتمالات هيمنة أجزاء من أوروبا أو أمريكا تتزايد من قبل. ومع كل هذا، لا يتعاقب النمو والركود على القارات المتجاورة. هذا سيظل قائمًا في المستقبل.

هناك سبب آخر وراء هذا هو أن التغيرات المناخية عبر الزمن — وعلى المدى الطويل جدًّا — ستلعب دورًا حاسمًا في التقليل من شأن بعض الدول، مثلما فعلت الظروف الجغرافية على مدى الألف سنة الماضية. لكن، وللمرة الثانية؛ ما كان في يوم ما مستحيلًا، سيصبح ممكنًا في وقت ما في المستقبل.

وحتى عندما تبدو الأمور واضحة، من الأفضل أن نتأكد من أنها كذلك بالفعل. المهم هو أن هذه الرحلة التاريخية كان ينبغي أن تبدأ — وربما تنتهي أيضًا — بالتأكيد على الأهمية الجوهرية للأحوال المناخية في تحقيق النمو والازدهار. فوادي السليكون لم يكن ليزدهر لو كان في الصحراء الكبرى أو في جزيرة سبيتسبيرغن، ولم تكن صناعة الجبن والساعات السويسرية لتصبح متاحة هناك أيضًا، ناهيك عن إمكانية إقامة البنوك. فتلك أماكن جميلة، ربما هي الأجمل في العالم، لكن المنتجات الزراعية اللازمة لإعاشة السكان لم تتسنى زراعتها هناك، ولا كانت المصانع التي توظف العمال لتتمكن من العمل هناك، ولا كان اقتصاد ما بعد التصنيع القائم على تبادل الخدمات ليزدهر هناك.

دائمًا كانت فروع معينة من الإنتاج والخدمات تنشأ حيثما دعت الحاجة إليها، ولم تنشأ إلا حيث وجدت هذه الحاجة. وفي الوقت نفسه، لم تُنشأ هذه المنتجات إلا حيث كان من الممكن إقامتها من الناحيتين الطبيعية والمناخية. لكن التكنولوجيا تعمل على تغيير ذلك. فبينما ظهرت البنوك في المنطقة العربية لأول مرة لهذين السببين بالتحديد — ثم ظهرت لاحقًا في المدن الإيطالية — استطاعت البنوك أيضًا أن تتكيف حاليًّا، بحيث باتت تدير أعمالها في سيبيريا. والآن، تقدم البنوك المعاملات والخدمات في جميع أنحاء العالم. وحتى الصناعات الإلكترونية الدقيقة التي نشأت في أوروبا وأمريكا الشمالية، أصبح امتدادها الآن ينمو في شكل منتجات إلكترونيات — بنوعيها: الأجهزة والبرمجيات — في أجزاء من جنوب الهند كانت يومًا ما «غير صالحة للعيش».

كان من الضروري أن يظهر كل هذا ويكتمل ضمن عملية طويلة الأمد في المناطق التي سمحت فيها الظروف الطبيعية بذلك (وحيث وجدت عوامل مواتية أخرى أيضًا). فإذا افترضنا أننا من الممكن أن نبادل المواقع، بحيث يسكن الألمان مكان سكان مستعمرتهم القديمة تنجانيقا (التي عمل الألمان على «تمدينها»، ولكن كيف؟ هذا هو المهم!)، فسندرك سريعًا أن الألمان ما كانوا ليتمكنوا من إقامة مناطق الرور وسارلاند الصناعية في الأراضي الأفريقية، لكن إذا نظرنا لهذا التبادل من المنظور الآخر، فسندرك، وبنفس السرعة، أن التغيير من ظرف مناخي إلى آخر من الظروف التي تمكن البشر من العمل بجهد أكبر لا يزال غير كافٍ وحده لتحقيق التوسع الاقتصادي. ولو استطعنا مثلًا إحلال قبائل الهوتو والتوتسي والتوا من رواندا وبوروندي في الفلاندر ووالونيا، ما كانت بلجيكا لتصبح دولة بالغة التطور. وما كان البلجيكيون سيتمكنون من إقامة اقتصاد مزدهر على ضفاف بحيرتي كيفو وتنجانيقا. ولنفس هذه النوعية من الأسباب، حقق البوير (الذين يعود أصلهم إلى هولندا، لكن منهم من أتى من منطقة الفلاندرز المجاورة أيضًا) نجاحًا في الظروف المناخية التي كانت أكثر موائمة في جنوب أفريقيا.

يستحيل أن تعمل بكفاءة تحت تأثير ظروف مناخية قاسية. فإلى اليوم، لا تزال اللعنات تنصب على أولئك الذين قرروا تأسيس مدينة فينكس — والتي سميت تيمنًا باسم طائر العنقاء الذي يبعث من الرماد في الأساطير القديمة — في الصحراء، فحكموا على أجيال المستقبل بالعيش هناك، وكأنه لم تكن هناك مناطق بديلة متاحة في — ما كانت حينئذ — المساحات اللانهائية من أمريكا. وإلى هذا اليوم، من المستحيل ألا تندهش من قدرة مدينة تمبكتو المالية على الازدهار في موقعها هذا؛ ربما كان هناك نهر بالقرب منها، لكنها لا تزال في قلب الصحراء القاحلة. إن كلتا هاتين الحالتين الاستثنائيتين تبينان لنا إمكانية تجاوز الصعوبات المناخية الهائلة في بعض الأحيان، لكن في بعض الأحيان فقط، وإلى حد ما فقط، وبكلفة باهظة، طالما أن هذا سيعود بالنفع الذي يعوض هذه الكلفة في وقت ما في المستقبل.

في أغلب الأحوال لا تكون إقامة هذه المدن أمرًا عديم الجدوى فحسب، بل مستحيلًا تمامًا. فالأرض مخلوقة بحيث لا يتسنى للبشر أن يعيشوا ويعملوا إلا في المناطق التي تتمتع بمناخ «بشري». لكن مستويات التكنولوجيا المتقدمة عملت بوجه عام على زيادة رقعة هذه المناطق على مر التاريخ. أقول «بوجه عام» لأن تأثير النشاط الاقتصادي البشري المدمر للبيئة الطبيعية حَوَّلَ بعض المناطق التي كانت سابقًا قابلة للسكنى إلى مناطق لا تطاق، ولم يقتصر حدوث ذلك على المناطق التي شهدت ازدهار بعض الحضارات القديمة — مثل الحضارة السومرية — فحسب؛ بل امتد إلى المناطق التي مارس فيها الناس الحرف والتجارة على نطاق واسع منذ عقود قليلة مضت، أو أقل من ذلك، كالمنطقة المجاورة لبحر الآرال المختفي، الذي يقع على حدود أوزباكستان وكازاخستان، أو في تخوم الساحل الأفريقي التي تشهد حاليًّا تصحرًا سريعًا. وبالمثل أدى الإنهاك الجائر لعدة رقع من الأراضي إلى تآكل مساحات من التربة الصالحة للزراعة في منطقة الأمازون التي لم نكد نقتطعها من الأدغال الاستوائية إلا منذ عهد قريب.

وحتى في الوقت الحاضر، من المستحيل أن تعمل جيدًا، ومن الصعب أن تعيش، فوق أغلب مساحة سطح كوكب الأرض. وقد كان الوضع كذلك وأكثر في الماضي، حينما كان هناك قدر أقل من رأس المال والتكنولوجيا، وعندما كانت استراتيجيات التكيف مع البيئة محدودة أيضًا؛ لذلك، ينبغي ألا نتوقع حدوث طفرات اقتصادية حيث لا يمكن حدوثها أبدًا. وينبغي أن يملأنا الإعجاب من قوة تحمل أجساد وأرواح الأفارقة من قبيلة الحمر، الذين يعيشون على مدار العام في وادي أومو القائظ بجنوب إثيوبيا، أو الهنود الحمر (الأورو) الذين يعيشون فوق الجزر العائمة في بحيرة تيتيكاكا في منطقة الإنديز، وكذلك أهل إقليم التبت الذين يعيشون ويعملون على مدار العام عند مستوى أربعة آلاف متر فوق سطح البحر، أو الإنويت (المعروفون أيضًا باسم الإسكيمو) الذين يعيشون طوال نحو نصف أيام السنة في ظلمة الليل القطبي في أقصى شمال ألاسكا. يستطيع الإنسان أن يحيا في سعادة غامرة في أي مكان على سطح الأرض، هذا ما جربته أنا شخصيًّا عندما عشت فترات قصيرة في تلك المناطق. ومع ذلك كان من المستحيل — ولا يزال من غير المجدي — إقامة النشاط الاقتصادي في تلك المناطق بنفس الطرق التي تكون متاحة في مناطق أخرى تختلف فيها الظروف الطبيعية.

لقد ازدهرت الزراعة المنتجة التي توفر الأسس لإقامة التصنيع والتعمير، في أزمان غابرة في ظل مناخ أوروبا المعتدل، لكن ليس في أجزاء أفريقيا التي تتشابك فيها الأدغال بغزارة، أو في آسيا أو أمريكا الجنوبية الاستوائيتين. فمدينة مانهاتن مثلًا لم تكن لتقام لو كانت تقع في صحراء جوبي أو في جرينلاند، الجزيرة المكسوة بالجليد والثلج في القطب الشمالي، والتي أطلق عليها إريك الأحمر — محارب الفايكينج الظريف ومؤسس أول مستعمرة اسكندنافية — اسم «الخضراء» منذ ألف سنة. لكن كان من الممكن أن تقام نيويورك مثلًا عند مصب نهر بليت؛ الذي اكتفى بمدينتي بيونس آيرس ومونتيفيديو، أو على الجانب الأقصى من العالم، حيث أقيمت سيدني لاحقًا. إن موقع نيويورك الحالي لم يتحدد إلا بفعل المناخ، والرياح التي هبت على سفن المغامرين الأوروبيين فألقت بهم هناك بالتحديد، وفي ذلك الزمن بالضبط، الذي كان بمثابة توقيت مناسب.

على الرغم من أن الزمن الفيزيائي يمضي بنفس الطريقة التي كان يمضي بها منذ ألف أو عشرة آلاف سنة مضت، فإن وقع دقات الساعة الاقتصادية صارت أسرع مما كانت عليه منذ قرن، أو حتى منذ عقد واحد مضى.

إن الوقت يتبخر سريعًا في ظل الاقتصاد المعولم. لقد تغير الزمن.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤