الفصل الثامن

الركود والتنمية: القوانين والسياسة والثقافة

عن قواعد اللعبة الاقتصادية، والسياسات الضارة والتقدمية، وأهمية الثقافة للتنمية

أولئك الذين يتعلمون بسرعة يتطورون أسرع ويستطيعون تعليم الآخرين.

الرأسمالية المعاصرة تجعل سرعة التعلم لزامًا علينا. والرأسمالية نظام بغيض لأنها تشق على الأفراد في العمل، لكنها أكثر عقلانية من أي نظام اقتصادي آخر. وهي لم تكن أبدًا تامة العقلانية. وربما تكون أقل معقولية الآن مما كانت في مراحل سابقة من تطورها. صحيح أنها في مرحلة معينة من مراحل تطور عوامل الإنتاج — عندما بدأت أخذ رأس المال البشري والتكنولوجيا في الحسبان — أصبحت أكثر عقلانية بكثير من الإقطاعية التي سبقتها، أو من الأنماط المستهدِفة من الاقتصاد الطبيعي الذي يصنِّع السلع لتلبية الحاجات المباشرة لمنتجيها، لا لتباع من خلال وساطة الأسواق والنقود. لكن الرأسمالية كانت أكثر عقلانية في بعض الأحيان وأقل عقلانية في أحيان أخرى في مواجهة النظام الاشتراكي المنافس، لكنها أبدًا لم تكن عقلانية فيما يتعلق بالجوانب المعنية عناية بحتة بالسلوك البشري. وبصرف النظر عن قصورها في التغلب — على المدى الطويل — على المشاكل المرتبطة باستغلال البيئة الطبيعية، يكفي أن نشير من جهة إلى النفقات الباهظة المبددة على الدعاية غير المثمرة التي تخلب لب المستهلكين أحيانًا، أو من الجهة الأخرى إلى عدم استفادتها من القدرة الإنتاجية المتاحة، وما يترتب على ذلك من بطالة هيكلية.

في المجال الاقتصادي تكمن لاعقلانية الاشتراكية الواقعية — في المقام الأول — في أنه لم تكن هناك أية مشاكل أبدًا في بيع أي شيء — حتى الخردة (بضاعة هزيلة كانت غير مقبولة في أسواق العالم الرأسمالي، لكنها تلقى إقبالًا كبيرًا في السوق المحلية باعتبارها «بواقي تصدير»، وكانت تعتبر بضاعة عالية الجودة) — في حين كان الشراء أمرًا بالغ الصعوبة. في الرأسمالية الواقعية تكاد تستطيع شراء كل شيء (ما دمت تمتلك المال اللازم لذلك)، لكن البيع هو المشكلة. بعض الناس لا يملكون ما يكفي من المال حتى لشراء السلع والخدمات الأساسية، وهناك كثيرون آخرون — يزداد عددهم طوال الوقت — يعملون في قطاعات التسويق، ويساورهم القلق بشأن كيفية عرض البضائع في سوق تتسم دائمًا بقلة في الطلب (أو بفائض في العرض). وعندما يصبح هذا السوق الذي يفيض بالسلع الاستهلاكية ليس إلا فرصة مناسبة أمام المستهلكين السياديين الذين يتمتعون بحرية الاختيار بما يتماشى مع تفضيلاتهم الشخصية، فما من داع للشكوى. وهذا عار تمامًا من الصحة. ومع ذلك لو أن هذا يعكس إفراطًا بالغًا في الإنتاج يؤدي إلى إهدار رأس المال — بما في ذلك المصاريف الهائلة التي تنفق على الترويج والدعاية والتسويق — فنحن إذن نواجه مشكلة.

وكما بينَّا سابقًا؛ تتسم الرأسمالية العالمية الناتجة عن المرحلة الراهنة للعولمة باللاعقلانية بوجه عام. ويمكن ملاحظة ذلك بجلاء في عدم وجود آليات تنظيم ذاتي عالمية من شأنها حماية النظام من تدمير نفسه. وسيظل ذلك خطرًا قائمًا ما دامت الآليات الملائمة لتنسيق السياسة الاقتصادية على نطاق عالمي غائبة. وينبغي الحد من نطاق اللاعقلانية العالمية عن طريق وضع نظام فعال لتسوية تضارب المصالح، وللاتفاق على أهداف التنمية. أهم الأشياء هنا هو ضرورة وضع سياسة مستنيرة، أو على الأقل منطقية. وهذا يتطلب الإطار القانوني السليم، فالقوانين — في سياق القيم المادية التي تطورت على مر التاريخ — هي التي تيسر تنفيذ السياسة وتحقيق الأهداف التنموية، أو تعرقلها.

إذا أردنا تحسين الوضع الاقتصادي فلن يكفي تغيير الآراء، أو حتى تغيير الأشخاص المعتنقين لهذه الآراء. من الضروري تغيير السياسات، وهذا في بعض الأحيان يتطلب تغيير القوانين أولًا، ففي الأيام التي سرعان ما صارت جزءًا من الماضي حيث النظامان الاقتصاديان المتنافسان — الاشتراكية الواقعية والرأسمالية الواقعية (للرأسمالية أيضًا صورة نموذجية وأخرى واقعية) — كانت هناك نقاط ضعف في كلا الجانبين؛ فالاشتراكية كانت تعني فائضًا في الطلب وعجزًا في السوق ذات الصلة، وكانت الرأسمالية تحاول السيطرة على الفائض المتزايد في البضائع التي لم يكن من الممكن بيعها، وأيضًا على الزيادة في الإنتاج. كنا قد اعتدنا أن نقول مازحين: «دعونا نتبادل خبراء الاقتصاد، فالخطأ خطؤهم وحدهم!» لكن ما كان لهذا التبادل أن يحل المشكلة؛ إذ كانت هناك حاجة إلى تعديل القوانين تعديلًا شاملًا.

إننا ننظر إلى القوانين باعتبارها مبادئ، فهي قواعد تحكم اللعبة الاقتصادية وما يرتبط بها من تفاعلات سياسية، لا سيما:
  • الإجراءات والقواعد التي يقرها القانون أو العرف.

  • اللوائح والقوانين الفعالة التي شُرعت لحماية المشاركين في السوق.

  • المنظمات والإدارات والكيانات السياسية التي تعمل على تلبية احتياجات المشاركين الفرديين في السوق.

سيسهل على غير المطلعين على النهج القانوني في علم الاقتصاد أو في العلوم الاجتماعية بوجه عام إدراك مغزى القوانين وجوهرها إذا قارنوها بقواعد الطريق. دعونا ننظر للموضوع نظرة تدريجية تبدأ من الشوارع التي نقود فيها سياراتنا، فقد وضعت القواعد المرورية وقننت، وأصبح كل مستخدمي الطريق على دراية بها، أو على الأقل ينبغي لهم ذلك، لأن هذا شأن عام. لسنا المستخدمين الوحيدين للطريق، إذ يوجد أيضًا أشخاص آخرون يقودون عليها أو يسيرون فيها. ولأن عدد الأشخاص الذين يقودون على الطريق يزداد أكثر فأكثر، تكاد هذه المسألة أن تتحول إلى شأن عام.

يتعين على مستخدمي الطريق اتباع القواعد حتى لو كانوا يفضلون عدم اتباعها انطلاقًا من وجهة نظر شخصية، فحدود السرعة والقيود التي فرضها القانون لتنظيم وقوف السيارات لا تكاد تحظى بأية شعبية بين مستخدمي الطريق، لكن الأمن العام والمشترك يجعلان هذه القيود أمرًا لازمًا، لذا فنحن نتكيف مع هذه القيود، ليس فقط في ضوء مصالحنا المفهومة جيدًا، بل أيضًا انطلاقا من احترام حقوق مستخدمي الطريق الآخرين، فالإجراءات والأدوات قائمة لفرض السلوك السليم على أولئك الذين لا يتبعون القواعد؛ أولًا هناك شرط للحصول على رخصة قيادة بعد اجتياز اختبار في القواعد الأساسية للطريق. وتمثل علامات الطريق دستورًا من التوجيهات والنواهي. وهناك غرامات، ودورية شرطة تجوب الطرق. وفي شوارع المناطق السكنية هناك مطبات صناعية تحسبًا لعدم إدراك أي شخص أنه ليس على الطريق العام السريع.

يتبع البعض القواعد لأنهم يفهمونها ويقبلونها ويحترمونها، ويتبعها آخرون بقوة القانون. وفي أي بلد متحضر — حيث يسود احترام للقوانين المعترف بها على نطاق مجتمعي — يتوقف المرء لدى رؤية الإشارة الحمراء حتى إذا كان الشارع يخلو من أي شخص في الساعة الثالثة صباحًا، وينتظر حتى تتحول الإشارة إلى اللون الأخضر. وفي أي بلد يقل فيه احترام القوانين وتنعدم فيه الثقافة يتجاوز السائقون الإشارة الحمراء ما داموا يعتقدون أنه ليس هناك أي شخص قادم، وأحيانًا يفعلون ذلك حتى إذا كان هناك شخص قادم، ويمكنك دومًا إطلاق نفير سيارتك لدفع الآخرين من طريقك. ولا مجال لمراعاة الآخرين إذا كان السائقون — لا القوانين — هم الذين يقررون قواعد الطريق. فالقوانين التي تتشابه من الناحية الرسمية في بنجلاديش وبريطانيا — على سبيل المثال — يمكن في واقع الأمر أن تسفر عن نوعين مختلفين تمامًا من استخدام الطريق، مع الأخذ في الاعتبار جميع عواقب ذلك على الفعالية والسلامة والكفاءة والآثار الجانبية كالضجيج والتلوث والاختناق المروري في المدن. وهكذا، على الرغم من تشابه القوانين في كلا البلدين من الناحية الرسمية، يتسم أحد المكانين بالارتباك والعدوانية وشيوع الفوضى، ويتميز الآخر بالانضباط والنظام والسيولة المرورية.

هناك العديد من أوجه التشابه بين الحياة الاقتصادية وحركة المرور على الطرق، بيد أن العمل التجاري أكثر ديناميكية وتعقيدًا وأصعب تنظيمًا على نحو أمثل، وأمثل هنا تعني الوصول إلى الحد الأقصى — في ظل الظروف القائمة — من تحقيق الهدف، والهدف في هذه الحالة هو تلبية الاحتياجات البشرية بتحقيق تنمية متوازنة اقتصاديًّا واجتماعيًّا وبيئيًّا. فمن ناحية، لدينا علامات طريق وإشارات مرور ولوائح تحدد حق الطريق وحدود السرعة المسموح بها، وقوانين تفرض السلوك المنشود من جانب المشاة وسائقي السيارات، وإجراءات متبعة تحكم التعاملات بين مستخدمي الطريق. ومن الناحية الأخرى، لدينا لوائح وإجراءات قانونية، وكيانات وروابط تنظيمية، وعادات وثقافات رجال الأعمال وموظفي الحكومة والمنتجين والمستهلكين. لكن حركة التدفقات والأرصدة الاقتصادية — المتمثلة في رأس المال البشري، والحقيقي، والمالي، وفي السلع والخدمات، وفي المعلومات والتكنولوجيا — مفعمة بدرجة غير محدودة من النشاط والتعقيد تفوق حركة المرور على الطرق، وتستمر على مدى ٢٤ ساعة في اليوم حتى ونحن نائمون. وهذا هو السبب في أن الجانب القانوني في غاية الأهمية فيما يتعلق بالإنتاج والتوزيع، والفعالية والمنافسة، والكفاءة والإنتاجية، والنمو والتنمية.

وهناك قوانين جيدة وأخرى سيئة؛ فالقوانين السيئة — التي تسبب الركود — تعترض سبيل المبادرة البشرية بتثبيط الهمم وروح المخاطرة اللذين لا بد أن يلازما العمل التجاري. البيروقراطية والإدارة المركزية للشركات الحكومية قوانين. المافيا والجريمة المنظمة قوانين. غسيل الأموال والفساد قوانين أيضًا، لكن هذه القوانين تعوق النمو وتدمر الكفاءة؛ لذا ينبغي التصدي لها والقضاء عليها. أما القوانين الجيدة — التي تشجع التنمية — فهي في المقام الأول تلك التي تكفل ضمان التعاملات وتشجع التقدم التقني والاجتماعي. والدول التي تحقق النجاح هي تلك القادرة على كفالة ترسيخ القانون، وفي الوقت نفسه ضمان المرونة التي تتيح التكيف على نحو سلس مع الظروف الطبيعية والثقافية المتغيرة. للأسف، هذه الدول قليلة العدد. لكن يمكن أن يزيد عددها إذا عملت كل نظرية معقدة من نظريات النمو وكل تنمية تمارس عمليًّا على مراعاة الجانبين اللذين يتعلقان بأداء الأمور على نحو فعال؛ تأمين التعاملات الاقتصادية والتقدم التقني.

هناك أيضًا قوانين يمكن أن تكون جيدة أو سيئة. وفي هذه الحالة أيضًا، تعتمد الأمور على ظروف أخرى تتعلق بالمحيط الذي يمارس فيه الناس أعمالهم. وقد يكون لهذا المحيط بعد ثقافي وتاريخي، فالمبارزة كانت قانونًا في الماضي. كم منا يا ترى كان سيفقد حياته لو استمر هذا القانون حتى يومنا هذا؟ ربما كان قانونًا جيدًا في نظر أولئك الذين نجوا بحياتهم، لكنه لم يكن كذلك لمن فقدوها. ويمكن أن ينطبق المبدأ نفسه على المحيط الاقتصادي التقليدي؛ ففي إحدى فترات العصور الوسطى كانت النقابات المهنية أداة تقدم، إذ ساهمت في نمو الإنتاج برفع مستوى مؤهلات أعضائها وضمان جودة السلع التي ينتجونها. لكن بمرور الوقت صارت النقابات محافظة وتحولت إلى معوقات قانونية تعترض سبيل التنمية؛ فثبطت روح التنافسية، وأعاقت التقدم التكنولوجي، واعترضت سبيل نشر المهارات العملية.

والوضع مشابه اليوم فيما يتعلق ببراءات الاختراع والعلامات التجارية التي ينظر إليها من وجهة النظر القانونية باعتبارها أسلحة ذات حدين، فهي من ناحية تحفز المبدعين — المكتشفين والمخترعين والمصممين والصانعين — من خلال حماية أفكارهم وتصميماتهم. ومن ناحية أخرى تقلل الإنتاج (مقارنة بما يمكن إنتاجه فعلًا)، ومن ثمَّ تقلل الاستهلاك. وقد نواجه أحيانًا موقفًا غريبًا لا تكون فيه المنتجات المتطابقة متطابقة بالفعل. قارن — على سبيل المثال — حقيبة تحمل ماركة جوتشي وصُنعت بموجب رخصة في مصنع يقع على مشارف هانوي بأخرى صُنعت في المكان نفسه. الفرق أن الأولى صنعت بما يتفق مع بنود الترخيص، ولم تكن الثانية كذلك. وبالرغم من أن المصمم الأصلي لم يستطع تمييز إحداهما عن الأخرى فهما «مختلفتان». وفي أحوال معينة تحد قوانين حقوق الطبع وبراءات الاختراع من الإنتاج. فلا يمكن لأحد أن يطالب دار «بالينسياجا» بنشر تصميم ثوب يُعد لحفل الأوسكار قبل موعد الحفل، أو إعداد نسخ متطابقة من نفس الثوب لعدة مرشحات.

ومع ذلك من غير المعقول أن تعترض براءات الاختراع سبيل إنتاج الفلاتر التي تحد من تلوث الهواء، أو تصنيع اللقاحات التي قد تكون فاصلًا بين حياة وموت آلاف الأطفال الذين تهددهم الفيروسات في البلدان الفقيرة. وسيكون من العار إجبار المزارعين في بلاد الرافدين — مهد الزراعة منذ قديم الأزل — على شراء البذور المعدلة وراثيًّا. لكن بعض التقارير ذكرت أن بول بريمر رئيس سلطة الائتلاف المؤقتة (هيئة احتلال كانت دولية من حيث الاسم فقط) قد أمر المزارعين العراقيين بذلك على اعتبار أنه جزء من عملية عُرفت باسم «آمبر ويفز». أُجبر المزارعون على استخدام بذور توردها شركات أمريكية، على الرغم من توافر مخزون كاف من البذور في بنك البذور العراقي الذي كان يقع في حلب بسوريا. وقد نص القانون رقم ٨١ الصادر من سلطة الائتلاف المؤقتة على «حظر إعادة استخدام هذه البذور، ليضطرهم إلى شراء تراخيص من مؤسسات معينة، للحصول على بذور جديدة كل عام.»1 هذا مثال على حقوق الملكية الفكرية عندما تكون في خدمة الإنسانية.

وهنا لا بد من كلمة تحذير: فالاقتصاد — ومن ثمَّ السياسة الاقتصادية — كثيرًا ما يقعان ضحايا للموضة السائدة. ولا ضير من أن تتحكم الموضة في طول الملابس النسائية، لكن النظريات الأكاديمية والقرارات السياسية مسألة أخرى. لك أن تستخف بتأثير الموضة على الاقتصاد لكن على مسئوليتك الخاصة. ففي أكثر من مناسبة كانت الموضة سببًا في تضليل نجوم علم الاقتصاد، ناهيك عن أولئك المتمرسين الذين يتبعون آخر الاتجاهات السائدة. لكن مسايرة النظرية للموضة لا يجعلها صحيحة بالضرورة.

في الوقت الحاضر أصبح التركيز على القوانين (التي كثيرًا ما كانت تلقى التجاهل في الماضي) الموضة السائدة، فممثلو المدارس الأخرى يستخدمون — ويسيئون استخدام — الترسانة المفاهيمية للاقتصاد المؤسساتي الجديد دون قيود، وبعضهم لا يدرك جوهر هذه الأفكار أو أهميتها، لا سيما فيما يتعلق باقتصادات ما بعد الاشتراكية والاقتصادات الناشئة، فقد أصبحت كلمة «قانون» المفتاح الرئيسي الذي بإمكانه أن يفتح الأقفال التي لن تستجيب لأي شيء آخر، أو بساطًا يمكن أن يخفي تحته الاقتصاديون (ناهيك عن علماء الاجتماع وعلماء السياسة) كل البقايا التي لا تتلاءم مع نماذج أخرى. ومثلما هو الحال مع أي مفهوم آخر، لا ينبغي الإفراط في استخدام القوانين أو تطبيقها في الأماكن التي لا تلائمها.

ودون الخوض في التفاصيل، يمكن أن نصنف القوانين إلى أنواع مختلفة أذكر منها ما يأتي:
  • التفسيرية.

  • الرقابية.

  • التعويضية.

  • القوانين الحافزة.

  • المكيَّفة.

القوانين التفسيرية هي التي تخبر المشاركين في السوق — ضمن نظام اجتماعي اقتصادي فاعل — بأطر صياغة الاتفاقات وقواعد تنفيذها (مثل قوانين التجارة أو معاهدة الاتحاد الأوروبي).

والقوانين الرقابية هي تلك التي ترصد سلوك المشاركين في السوق بصفة مستمرة، وتحيط الشركاء والجمهور علمًا بالتهديدات، أو بالانحراف عن القواعد المعمول بها (تشمل الأمثلة على ذلك: الهيئات التنظيمية المالية، والمحاكم).

والقوانين التعويضية تعمل على تصحيح قيم الأسهم وتدفقات رأس المال والبضائع بغرض الحفاظ على الاتزان بوصفه سبيلًا لضمان وجود ميل للتذبذب نحو حالة من توازن السوق (تشمل الأمثلة: قانون مكافحة الاحتكار، والمنظمات التي تُفعِّل هذا القانون، وأجهزة تنظيم أسعار صرف العملات).

والقوانين الحافزة تشجع تجميع وتخصيص رأس المال بأسلوب يشجع توسع النشاط الاقتصادي ويزيد القيمة المضافة للسلع والخدمات (تشمل الأمثلة: القوانين المفروضة على الاستثمار المصرفي وأسواق رأس المال).

والقوانين المكيَّفة هي تلك التي تصادق على أعمال شركاء السوق وتجبرهم على التصرف وفقًا للمصلحة العامة على المدى الطويل (تشمل الأمثلة: هيئات التحكيم، والمنظمات كمنظمة التجارة العالمية التي تسمح بدخول شركاء جدد في التجارة الحرة).

أشرت من قبل إلى أنه ينبغي ألا تقتصر حالة التوازن على التيارين المالي والاقتصادي والوضع الاجتماعي والسياسي والبيئة الطبيعية فحسب، بل ينبغي أن تمتد للقوانين أيضًا. لكن، ماذا يعني هذا؟ يعني ترتيب المنظومة بحيث يحظى أطراف اللعبة الاقتصادية بالحماية من تجاوزات السوق، بدلًا من فقدان التوازن. والتوازن القانوني يعني أن يُنسَّق السوق ويُنظَّم بحيث يعمل بسلاسة وينظم نفسه بنفسه، بدلًا من أن يترنح نحو الانهيار. والانسجام القانوني يقوي ثوابت المنظومة الاقتصادية عن طريق تشجيع توازن يتسم بالديناميكية. ولا بد أن تكون آليات الأمان القانونية جزءًا لا يتجزأ من النظام، لتصحح مساره إذا أخل بالتوازن، فعندما ينشأ قانون لمصلحة المشاريع الحرة ينبغي أن يوازَن ذلك بقوانين لحماية المستهلكين. وإذا كان هناك قانون لحرية تدفق رأس المال ينبغي أن يكون مصحوبًا بقانون لحرية هجرة الأيدي العاملة، وإذا كان هناك لصوص في السوق يجب أن تكون هناك شرطة.

وعلى المدى الطويل تمثل مراعاة القواعد الصحيحة في السوق مصدر النجاح الاقتصادي. وهذا يعني أن القوانين لا بد أن تحظى بالاحترام. ولكي يحدث ذلك يجب أن تكون مفهومة، فنحن لا نضع القوانين فحسب، بل نُعلِّمها للآخرين أيضًا. ذاك يشبه الحياة الواقعية، حيث تستطيع أن تتعلم من أخطائك، أو أن تلتحق بجامعة يشرح أساتذتها النظريات معتمدين على تحليل أخطاء الآخرين. والقوانين في حد ذاتها لا ترتكب الأخطاء، لأنها تحدد فقط الإطار الذي يعمل ضمنه الأشخاص ويتخذون قراراتهم. والمديرون التنفيذيون قد يرتكبون الأخطاء، وهذا هو السبب وراء الحاجة المتزايدة للإدارة الماهرة للأصول والشركات. والسياسيون قد يرتكبون الأخطاء، وكثيرًا ما يفعلون.

السياسة لعبة مصالح ناجمة عن النظام الاجتماعي القائم. وهناك تضارب في المصالح بين مختلف الفئات الاجتماعية. لكن يمكن أن يكون الجهد المبذول للتغلب على هذا التضارب دافعًا للتنمية، غير أن الجهود غير الفعالة من شأنها أن تزرع بذور الدمار. والسياسة سعي دائم لإيجاد جواب للسؤال عن كيفية تجنب المواقف التي تحول الصراعات المحتملة إلى صراعات اجتماعية لا تنتهي. وهناك الكثير من هذه الصراعات المحتملة، وتحويلها إلى دوافع للتنمية وهو فن السياسة الرفيع بحق.

والسياسة أيضًا هي فن المواءمة بين الممكن والضروري. وأسوأ كابوس هو الذي نعيشه حينما تكون الضروريات مستحيلة، لكن هذا ليس إلا تلاعبًا بالألفاظ. أما في الواقع، فلا يمكن تطبيق أي شيء يتسم بالعقلانية الاقتصادية في أي وقت نتيجة لاعتبارات سياسية. عندئذ، لا عليك سوى أن تفعل أفضل ما بوسعك وأن تنتظر تحسن الأمور، بدلًا من أن تفقد أعصابك وتستقيل من منصبك. تقوم الفكرة الرئيسية في عالم الواقع على تحويل الضروريات إلى ممكنات، أو إذا أردنا تحري الدقة العمل بأسرع ما يمكن على توفير الظروف التي تجعل الضروريات ممكنات. وهذا يحدث عندما تُجرَى التغييرات اللازمة التي يحب الساسة والاقتصاديون أن يطلقوا عليها اسم إصلاحات، وهم عادة يضيفون إلى هذا الاسم صفات من قبيل «جذرية»، أو «شاملة»، أو «كبرى». وهذا ما يحدث أيضًا حتى عندما لا يغيرون المسار الذي تسلكه العمليات الاقتصادية، فقلة من الإصلاحات هي التي تفعل ذلك، وهي ببساطة الإصلاحات التي عادة تتدخل في عمل بعض عناصر الاقتصاد الهامة.

تتطلب السياسة الناجحة الإبداع والمعرفة وحسن الحظ. ويرى البعض أن السياسة فن أكثر منها حرفة. لكن المهارة وحدها ليست كافية، فأنت بحاجة للموهبة أيضًا.

وفي عالم السياسة عادة لا تجري التغييرات العميقة والمؤثرة في الوقت المناسب، بل بعد فوات الأوان. وهذا يعني أن الأحوال السياسية المواتية لإجراء الإصلاحات اللازمة تنشأ بعد أن يكون الاقتصاد قد بات يعاني اختلالًا وظيفيًّا، وبعد أن يكون النمو قد تباطأ أو تحول إلى ركود. وهناك مثل بولندي قديم يؤكد على ميل أهل هذه البلاد إلى غلق أبواب الإسطبلات بعد فرار الخيول.

يمثل بعض هذه المقولات الشعبية مراقبة طويلة الأمد من الناس لسلوكهم وقيمهم وفلسفتهم في الحياة، فعلى سبيل المثال، هناك مثل متداول بين السلافيين في أوروبا الشرقية معناه أن «الرب يكافئ أولئك الذين يستيقظون في الصباح». بعبارة أخرى، هناك شيء ما يُعطى لهم (على الرغم من أنهم في الحقيقة لا بد أن يستيقظوا أولًا). على العكس من ذلك، تجزم الحكمة الشعبية بين الأنجلوساكسونيين الغربيين بأن «الطير الذي يبكر في البحث عن رزقه يفوز بالدودة»، وفي هذه الحالة عليهم أن يعملوا أولًا كي يفوزوا بأي شيء. وهكذا، نلاحظ تناقضًا بين الموقفين السلبي والإيجابي. جرب أن تسأل بولنديًّا يملك نشاطًا تجاريًّا مزدهرًا عن أحوال تجارته، ستجده يشتكي لك من أن كل شيء في انهيار، وجرب أن تسأل نفس السؤال لنظيره الغربي الذي أعلن إفلاسه للتو، ستسمعه يقول إن كل شيء على ما يرام. ومن ثم لا عجب على الإطلاق من أن مؤشر الثقة في قطاع الأعمال — كما يسميه خبراء الاقتصاد — طالما يختلف بين هاتين الفئتين الثقافيتين.

فيما يتعلق بالأشياء التي تحدث في الوقت المناسب مقابل تلك التي تحدث بعد فوات الأوان؛ نجد حتى أكثر الدول الغربية المتقدمة مؤسسيًّا والمتطورة سياسيًّا لم تعمل على إجراء إصلاحات جذرية إلا في أوقات الأزمات الخطيرة فقط، بدلًا من إجرائها في وقت مبكر بما فيه الكفاية لتفادي الأزمة بتطبيق المنطق الاقتصادي. «المنطق» السياسي أكثر أهمية، لكنه لا يكون منطقيًّا للغاية على الإطلاق، فبريطانيا لم تطبق الإصلاح إلا خلال أزمة عام ١٩٧٩، وطبقته هولندا عام ١٩٨٢، وأيرلندا عام ١٩٨٧، والدنمارك وفنلندا والسويد في مطلع التسعينيات من القرن العشرين. ولم تُطبَّق تغييرات جذرية مماثلة حتى الآن في ألمانيا أو فرنسا، ناهيك عن إيطاليا. بل يجري تأجيلها سنة بعد أخرى، ويمكننا أن نرى نتائج ذلك على الأداء الاقتصادي لتلك الدول.

والأمور أسوأ بكثير في البلدان التي توجد بها مؤسسات سوق ضعيفة، والأسوأ منها البلدان التي تفاقم ضعفها هذا باتباع الاستراتيجية التنموية الخاطئة، أو تلك التي لا تتبع أي استراتيجية على الإطلاق. وهذا ينطبق على كثير من البلدان الأقل نموًّا، لا سيما في أفريقيا والشرق الأوسط. لكن توجد أمثلة إيجابية على محاولات الإصلاح وتنويع الاقتصاد وتعزيز القدرة التنافسية على الصعيد الدولي، كما هو الحال في أوغندا أو السنغال أو الإمارات العربية المتحدة أو قطر. بيد أن هذه الأمثلة ليست كثيرة في تلك المناطق. فهناك بلدان أخرى لا تزال «تنتظر» وقوع أزمة كبرى أو انهيار ما، لأن أزماتها الحالية ليست كافية بعد لإلزامها بإجراء تغييرات هيكلية صعبة. لقد انتظرت الدول الاشتراكية طويلًا جدًّا حتى لم يعد أمامها ما تنتظره في النهاية، ووجدت نفسها تسلك مسارًا بعيدًا كل البعد عن مسار التنمية.

يحتاج كل هذا إلى تفكير أعمق. ولا بد أن يسأل سائل هذا السؤال البديهي: «انتظر لحظة، إذا كانت كل هذه «الإصلاحات الجذرية» ضرورية فعلًا، وتؤدي إلى تحسن الأمور كما يقول الاقتصاديون، فلم لا يريدها الناس إذن؟ لم لا يريدون التغيير الذي يُفترض أنه سيفيدهم؟ ولماذا تثير هذه التغييرات مثل هذه المعارضة الحازمة إلى حد أنها في بعض الأحيان لا يمكن التغلب عليها؟»

أبسط إجابة لهذا السؤال — وربما الأكثر شيوعًا بين خبراء الاقتصاد الذين يطلقون على أنفسهم إصلاحيين — هي أن الناس ببساطة لا يفهمون الإصلاحات. ربما يكون هذا صحيحًا، لكن مثلما هو المعتاد في أحوال كثيرة، لا تؤدي هذه الإصلاحات إلى تحسن الأمور فعلًا بالنسبة لمن يحتجون عليها. وحتى عندما تؤدي هذه الإصلاحات إلى تحسن الأمور بوجه عام، أو في المتوسط، تكون المشكلة تحديدًا هي أن هذا التحسن يكون «عامًّا» و«في المتوسط»؛ فإغلاق المصانع التي لا تحقق ربحًا من شأنه فعلًا أن يؤدي — بعد فترة من الوقت — إلى تحسن الأمور بوجه عام، لأن ذلك سيؤدي إلى توفير الخسائر التي يتكبدها مالك المصنع، وتوفير الإعانات التي تدفعها الحكومة، كتلك التي تُدفع لدعم أحواض بناء السفن في اسكتلندا، أو لمناجم الفحم في بولندا. لكن ذلك يجعل الأمور على الفور — وأحيانًا للأبد — أكثر سوءًا للأشخاص الذين كانوا يعملون في هذه المصانع ولأسرهم. فأصحاب العقلية الإصلاحية من رجال السياسة وخبراء الاقتصاد يدعمون هذه التغييرات لأنها تؤدي للاستفادة من التقدم التكنولوجي وتزيد الإنتاجية، لكن الأمور تبدو مختلفة قطعًا لضحايا إغلاق هذه المصانع، ومن هم مثلهم من المواطنين. إذن، فما الفائدة الكبرى من وراء هذا الوضع؟ إنها الإصلاحات. ينبغي إخضاع المصالح الفردية والجماعية للصالح العام، يليه فعل شيء من أجل أولئك الذين يخسرون بسبب إحداث التغييرات.

لكن في بعض الأحيان وخصوصًا في ممارسة الليبرالية الجديدة خلال السنوات الأخيرة، لم تكن «الإصلاحات التقدمية» سوى نوع من التمويه، ووسيلة ماكرة لإعادة توزيع جزء من الدخل وتحويله من فئة إلى أخرى. وكانت الآليات التي يجري بها ذلك في بعض الأحيان معقدة للغاية، إلى حد أن الناس الذين يخسرون جراء ذلك لم يكونوا حتى على وعي بما يحدث. وزوال الوهم الذي كان لدى الناس بشأن «الإصلاحات المستنيرة» السابقة من شأنه أن يجعلهم يرتابون في كل ما تفعله الحكومة بعد ذلك. وهذا يشجع المواقف المحافظة التي تقول: «رجاءً، لا تقوموا بتغييرات بعد الآن، فنحن نعلم إلام يئول الحال دائمًا»؛ إنه يئول إلى الأسوأ.

ولفقدان الثقة في السياسة ثمن غال، فالامتناع عن الخضوع للتغييرات التي لا تأتي بأي تحسن شامل يعني أن التغييرات سيجري عرقلتها دومًا وستواجه طريقًا مسدودًا حتى إذا كانت من النوع الذي يؤدي إلى تحسن الأمور. وهذا النوع من المقاومة يلاحظ في أوضح صوره على مستوى الاقتصاد الجزئي للأقاليم والدول، لكنه مؤخرًا بات ملحوظًا أيضًا على الصعيد الدولي، وهذا له علاقة بالعولمة.

وفوق كل ذلك هناك صراعات سياسية لا تنتهي؛ إذ تعمل المعارضة — التي لديها بالطبع إصلاحات خاصة بها تود تطبيقها — على منع الحزب الحاكم من تنفيذ تغييرات اقتصادية رشيدة. وهذا له مغزى سياسي، فدعم سياسات الحزب الحاكم من شأنه أن يؤدي إلى تحسينات، وهذا بدوره يرجح بقاء شاغلي المناصب الرفيعة فيها. وهذا يعني في نظر المعارضة أنه «كلما ساءت الأمور كان ذلك أفضل». إن «منطقًا» كهذا يسفر عن نوع من السياسة تهتم بمسائل مثل: من يفعل ماذا؟ ولمصلحة من؟ ومع من؟ ومقابل كم؟ أكثر من اهتمامها بالأمور التي ينبغي أن تهدف إليها السياسة: العمل العام من أجل تحسين أوضاع المجتمع ككل.

السياسة الاقتصادية المستنيرة البناءة هي الحل الفعال للمشاكل الاقتصادية والمالية المعقدة. لكن للأسف، في خضم اضطراب الحياة الواقعية التي لا تنتهي فيها المناوشات السياسية، لا بد من تقليل هذه الحلول إلى الحد الأدنى، فالدورة الانتخابية، والصورة المشوشة للتغطية الإعلامية للأحداث اليومية هما آليتا الحياة العامة، وهما السبب في بقاء الأوضاع الراهنة على ما هي عليه.

في الواقع، إنهما أكثر تعقيدًا من ذلك، لأننا نعتز بالديمقراطية، وهي قيمة في حد ذاتها. لكن هناك من لا يحبونها، لأن هناك مجتمعات ليست مؤهلة بعد لأن تحكم نفسها عن طريق مؤسسات ديمقراطية. على الأقل هذا هو الرأي المعلن على المستوى الرسمي؛ هذه الدول بحاجة إلى من يحكمها، وهذا بالطبع لمصلحتها.

وقد تكون هذه هي الحقيقة في بعض الأحيان، فعلى سبيل المثال، واجهت صعوبة حينما كنت لا أتفق مع يوري موسيفيني رئيس أوغندا حينما حاول إقناعي بأن الانتخابات الحرة في بلاده الجميلة الفقيرة لن تؤدي إلا لصراع عرقي. وهذا أمر نشهده باستمرار — بكل ما يترتب عليه من عواقب وخيمة — في أفريقيا. وفي أوغندا تبدو استراتيجية التنمية التي يجري تنفيذها في ظل موسيفيني (الذي جاء إلى السلطة بانقلاب عسكري، لا بانتخابات حرة) ناجحة، لكنها قائمة على التكامل القومي والاجتماعي. والصراعات العرقية التي ستثيرها الانتخابات الحرة ستؤدي حتمًا إلى زعزعة الاستقرار السياسي النسبي وعرقلة برنامج التنمية.

لكن في أكثر الأحيان، ليست هذه سوى أعذار كاذبة تبرر غياب الديمقراطية، مثلما كان الحال في أوغندا في ظل الحكم الديكتاتوري لعيدي أمين، ومثلما لا يزال الحال في كثير من الدول التي تقع خارج أمريكا الشمالية وأوروبا. وتكمن المشكلة — كما نعرف — في أنه لا يمكن فصل الديمقراطية عن سياقها التاريخي والحضاري، فكل شيء لا بد أن يستغرق وقتًا.

إننا نشترط أن يصل الأفراد إلى سن الرشد لكي نسمح لهم بالتصويت، والوصول لمرحلة البلوغ من الناحية الاجتماعية والقومية يستغرق وقتًا، لكن من الذي يملك الحق في تحديد وقت بلوغ هذه المرحلة؟ هل هم «البالغون» الآخرون؟

هذه قاعدة واهية، والصواب السياسي — أو الامتثال السياسي إن كنت تفضل تسميته كذلك — يزيد الأمور سوءًا. ومن الأفضل في هذه الحالة أن تتماشى مع المؤيدين بدلًا من أن تُتَّهم بالتطرف. لكن، ينبغي أن نستطيع مواجهة الحقائق، فبعض البلدان قادرة على حكم نفسها، لكن بلدانًا أخرى تفسد الأمور وتنحو إلى الفوضى. وفي بعض هذه البلدان لا تثار حتى الإشكالية المتعلقة بالديمقراطية في مواجهة الاستبداد، وفي بلدان أخرى تكون هذه القضية مسألة ملحة، خصوصًا عندما يكون الخيار بين الديمقراطية المتخبطة والاستبداد المستنير، مثلما كان الحال في أواخر القرن العشرين في بعض بلدان جنوب شرق آسيا التي كانت تشهد نموًّا سريع الوتيرة.

وتنشأ أسوأ المشاكل حينما يكون الاستبداد عقيمًا، وفي الوقت نفسه، لا تكون هناك فرصة لوجود ديمقراطية فعالة. لقد جربت أفريقيا أسوأ هذه الاحتمالات. والسؤال الذي يظل بلا إجابة هو: إلى أي درجة يمثل ذلك جزءًا من إرث ما بعد الاستعمار، وإلى أي مدى ينجم هذا عن الظروف الثقافية الأكثر عمقًا؟ هناك أمر واحد أكيد: إن الاستعمار لم يكن مدرسة للديمقراطية، بل كان ضدها بكل معاني الكلمة.

حتى يومنا هذا، هناك برج ساعة في الميدان الرئيسي في مدينة أروشا في تنزانيا التي كانت جزءًا من مستعمرة شرق أفريقيا الألماني. كان المستوطنون الألمان قد شيدوا هذا البرج قبل الحرب العالمية الأولى، فطبع في نفوس المواطنين إحساسًا بقيمة الوقت والانضباط، وهي خصلة جيدة ينبغي التزامها. وبدت الأمور مماثلة على الساحل الغربي للقارة في لومي عاصمة توجو، التي كانت تعرف من قبل باسم توجو الألمانية، وكذلك في مدينة آبيا عاصمة ساموا الواقعة جنوب المحيط الهادئ، التي كانت أيضًا في السابق مستعمرة ألمانية، وفي مادانج المطلة على بحر بسمارك في بابوا غينيا الجديدة التي لقيت نفس المصير خلال عصر الاستعمار. وربما بفضل هذا اعتاد الناس في هذه الأماكن احترام قيمة الوقت ومفهوم الالتزام بالمواعيد. رغم ذلك، لم يعلمهم أحد مبادئ الديمقراطية. ولم ينجز أي من خلفاء الألمان في الاستعمار — البريطانيون والفرنسيون والأمريكيون والأستراليون — أي شيء في هذا الصدد على مدى نصف قرن حتى سقط النظام الاستعماري.

وبعيدًا عن هذا الموضوع أعتقد أنه من الممكن أن يُعمل الفلاسفة وخبراء السياسة عقولهم ليعرفوا كيف تحولت الولايات المتحدة وبعض الدول الأخرى — خاصة بريطانيا العظمى — في هذه الفترة القصيرة (تاريخيًّا، بدأ ذلك منذ أكثر من عشر سنوات بقليل) إلى دعاة ذوي مبادئ ينادون بإقامة انتخابات الديمقراطية في جميع البلدان، حتى إنهم — منذ نهاية الحرب الباردة — يفرضون الديمقراطية بحماس حتى في بعض الحالات الميئوس منها مثل هاييتي أو باراجواي أو ليبيريا، ناهيك عن أفغانستان والعراق. والغريب، أنهم لم يكونوا في السابق مهمومين إلى هذا الحد بمشكلة الديمقراطية التي يعانيها الآخرون، بل إنهم في بعض الأحيان شاركوا بطرق عدة في تفاقمها. لا حدود للنفاق هنا. ومن الأفضل عدم التصريح بالمبدأ القائل إن «النظام المناسب هو النظام الذي يناسبنا نحن، لا الذي يكون مناسبًا بوجه عام»، والاكتفاء بتبنيه وتطبيقه على أرض الواقع. هكذا كان الأمر، وهكذا سيظل. وقد قال ألكسندر هيرزن — الفيلسوف والكاتب الروسي البارز الذي كان مواليًا للغرب أيضًا — إن من يجهلون الشعوب يستطيعون غزوها واضطهادها، لكن لا يستطيعون تحريرها.

وهكذا، اكتَشفت دولة قوية — ومعها عدة دول أخرى — فيما عُدَّ مفاجأة سارة لها أن إرسال الدعم المالي واللوجستي المناسب — بدلًا من إرسال سفينة مدفعية أو جنود بحرية — يمكِّن من إيجاد حكام جيدين عبر إجراءات ديمقراطية رسمية. و«حكام جيِّدون» تعني أولئك الذين سيضمنون المصالح الاستراتيجية السياسية والاقتصادية لهذه الدول الكبرى؛ لذلك، من الأفضل تصدير «القوة الناعمة» ممثلة في الدبلوماسيين، والمستشارين الاقتصاديين، والصحفيين، وخبراء من المنظمات غير الحكومية العديدة التي تحصل على المال طوعًا من الحكومات والشركات الكبرى التي تستغلها. وحينما لا يقوم هذا بالمهمة المنشودة يجب إرسال «القوة الخشنة»؛ أي الجيش.

ولنفس هذه الأسباب تحديدًا — الاهتمام الأناني بالمصالح الرئيسية الخاصة — لا نجد هذه الدول تحاول حتى الإشارة إلى تعزيز ديمقراطيتها النموذجية في الأماكن التي ترعى فيها الحكومات الاستبدادية المصالح الاستراتيجية لهذه الدول بالفعل. من الأمثلة على ذلك مصر والسعودية وباكستان، أو بلدان ما بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، مثل تركمانستان وأذربيجان التي لا تزال معايير الديمقراطية فيها متأخرة كثيرًا حتى عن المعايير الديمقراطية لبلدان ما بعد الاشتراكية في أوروبا الشرقية. فعلى الرغم من حديث النخبة الرسمية عن التحضر والتعددية، هناك ما لا يقل عن ٧٧٪ من مواطني الأردن لا يستطيعون انتقاد حكومتهم دون خوف من العقاب، و١٦٪ فقط هم من يشعرون بأن الأمر يستحق المخاطرة.2 فالديمقراطية تساوي الكثير، لكن المصالح الاستراتيجية العسكرية والاقتصادية تساوي أكثر من كل شيء، والمصالح المرتبطة بمصادر الطاقة أهم من ذلك كله؛ فلكل شيء مكانه.

الأهم من ذلك كله أن هناك دعمًا للديمقراطية في بعض البلدان، لأن هذه وسيلة فعالة لإخماد صوت الاحتجاجات، فحتى إذا كان الشعب مستاءً من بعض الأمور يكون عليه القبول بها لأن الديمقراطية تفرض ذلك؛ فمن حق المزارعين المعدمين أو من يعملون بالتمريض لقاء رواتب هزيلة أن يتظاهروا. وقد يغضب معارضو بعض أنواع الدروع الصاروخية أو القواعد البحرية من حكوماتهم، ولكن ماذا يقولون عندما يكون القرار الذي يحتجون ضده قد اتَّخَذته حكومة ديمقراطية؟

تنزع الديمقراطية سلاح البعض وتزود آخرين بحجج جديدة. ويمكنها أن تطلق عنان الأفراد، أو تنجح في تهدئتهم أفضل من أي شرطة. ويمكنها أن تلهمهم، لكنها أيضًا يمكن أن تجهز عليهم بلا رحمة. يمكنك أن تنتصر في الحرب وتخسر الانتخابات، مثلما تعلَّم تشرشل وآخرون غيره. فليس من السهل معارضة الحكام الديمقراطيين إلا من خلال محاولة الفوز عليهم بصناديق الاقتراع. هذه الطريقة فعالة للغاية، بصرف النظر عن حدوث بعض الأخطاء في عدة حالات، مثل بعض القرارات الخاطئة التي اتخذها الناخبون السياديون في الأرجنتين أو فنزويلا أو نيكاراجوا أو بيلاروس أو إيران.

قبل الجولة الثانية والحاسمة من الانتخابات الرئاسية البولندية، سألت السفير الأمريكي الجديد عما تمثله نتيجة الانتخابات من أهمية لبلاده، فأجاب إنها لا تمثل شيئًا على الإطلاق، ما دام كلا المرشحين سيرعيان المصالح الأمريكية بنفس الأسلوب، أما فيما عدا ذلك فهذا أمر ليس من شأن الأمريكيين. والسفراء الثلاثة السابقون لهذا السفير لم يكلفوا أنفسهم عناء إخفاء حقيقة أنهم كانوا يمثلون المستثمرين الأمريكيين والمجمع العسكري الصناعي، لا الشعب الأمريكي. هذه هي حقيقة الأمر. وفي الواقع، عادة يهتم المرء بمصلحته الخاصة لا بمصلحة الآخرين. عليك أن تنتبه لما تقول؛ فكما نعلم، الكلمات تعني أفعالًا. وهذا لا يقتصر على الدبلوماسية فحسب.

لكن، هل تشجع الديمقراطية المفروضة من الخارج — سواء عن طريق القوة الناعمة أو الخشنة — النمو الاقتصادي؟ على المدى القصير، يبدو هذا أمرًا مشكوكًا في صحته. لكن رغم كل شيء، من الضروري رفع إنتاجية العمل ورأس المال، أو — من وجهة نظر أخرى — زيادة أمن المعاملات زيادة ملحوظة، وتعزيز روح المبادرة لبدء مشاريع حرة. ولا يمكن لجميع هذه الأشياء أن تتحقق إلا ضمن أطر زمنية أحادية، وبإقامة مؤسسات تدعمها، وتطبيق سياسة اقتصاد كلي رشيدة. وفي كثير من الحالات تفشل الديمقراطيات الناشئة الشابة في تسويغ حواراتها الاقتصادية، وينتهي بها الأمر بالوقوع في فخ تعقيد إجراءات صنع القرار وإطالة مدتها بدلًا من تبسيطها.

ويمكننا أن نكتفي بالرأي السطحي الذي يذهب إلى أنه لا شيء يدعم التنمية على المدى الطويل كالديمقراطية. هذا صحيح، لكن «المدى الطويل» ليس إلا فترات قصيرة عديدة، وهو ما أعرفه بحكم خبرتي كعدَّاء في سباقات الماراثون. علاوة على أن العديد من الديمقراطيات — خاصة في دول أمريكا اللاتينية أو في الدول الأفريقية — ليست سوى ديمقراطيات اسمية وظاهرية فقط. صحيح أن هناك انتخابات، لكن لا يوجد اختيار حر. والإرادة الشعبية لا تحكم، فالديمقراطية هناك ليست سوى أداة تستغلها بمهارة النخب الحاكمة التي تمثل جماعات صغيرة تحكمها مصالحها. ومع أن جماعات المصالح هذه محلية، فعادة تتوافق مصالحها مع الأجانب الذين يكونون هم أنفسهم نخبويين للغاية عادة.

إن الدول التي نطلق عليها اليوم متقدمة مرت هي الأخرى بعملية بلوغ، بما في ذلك إدراك ماهية الاقتصاد وتحديد القواعد التي توجهه. وليس من قبيل المبالغة في الانتقاد أن نشير إلى أنه حتى مسألة أولية مثل حق المرأة في التصويت يعد ظاهرة حديثة جدًّا هناك، بل إن معظم الدول لم تقره إلا في القرن العشرين، بما فيها سويسرا معقل الديمقراطية الحقة، حيث لم تقره الاستفتاءات العديدة إلا عام ١٩٧١. ولم يكن في أي دولة من الدول التي تجسد اليوم ما يعرف بالثقافة الغربية حقوق انتخابية عامة حينما كانت في نفس مستوى تنمية أفريقيا في الوقت الراهن. ومن المثير للاهتمام أن نتخيل ما كان سيحدث لو أن دول أوروبا الغربية أقامت مؤسسات ديمقراطية على نحو مثالي منذ عدة مئات من السنين، عندما كانوا يعانون نفس المستوى المنخفض من الإنتاج ونفس المستوى المرتفع من الأمية (والجهل بالمسائل الاقتصادية) كما هو الحال في أشد البلدان فقرًا في يومنا هذا. كان هذا سيعني إجراء انتخابات حرة وعامة في أوروبا في القرون الوسطى. لكن لن نتمكن أبدًا من معرفة ما كان سيؤدي إليه هذا الأمر، لأن أحداث التاريخ قد حدثت بالفعل. لكن هذا يخبرنا أن التنمية تقدمت بخطى سريعة حيثما وجد الاستبداد المستنير. أما حيثما كان الجهل لم تقدم مسألة الانتخابات الكثير. لو لم يكن هذا صحيحًا لوجدنا بضعة أمثلة على الأقل نستشهد بها.

في الوقت الحاضر يعتبر الاعتراض على حقوق الديمقراطية المدنية دليلًا على انعدام الصواب السياسي كليًّا، لا سيما الحق في الانتخابات العامة التي لن يكون هناك أي حديث عن ديمقراطية بدونها، والتي — رغم ذلك — لا تشكل وحدها الديمقراطية. وينبغي ألا نخدع أنفسنا؛ فالمشكلة قائمة. تتخذ المجتمعات أحيانًا خيارات خاطئة نتيجة للتعقيدات التقنية المتعلقة بعمل الاقتصاد وتطويره، فهم لا يفهمون السبب الكامن وراء الجدل، أو ماهية الأمور التي على المحك، لأنهم لا يملكون ما يكفي من المعلومات حول كثير من الأمور؛ لذا تكون الخيارات التي يتخذونها سيئة لأنها تضرهم أنفسهم، فهم ينتخبون رجال السياسة الذين لا ينفذون برامج تخدم مصلحة الناخبين. فما العمل إذن؟

يمكنك الانتظار حتى يفهم الناس وينتخبوا في نهاية المطاف الأشخاص المناسبين (لكن هذا لن يحدث إلا بعد أن يكونوا قد أهدروا جزءًا من التنمية التي كان من الممكن تحقيقها)، لأن هذا للأسف قد يستغرق وقتًا طويلًا إلى درجة أن بعض البلدان تمضي قدمًا، في حين يضيع البعض الآخر الفرصة. وينبغي ألا نستهين أبدًا بالحكمة الشعبية القائلة: «الغرزة في وقتها توفر تسع غرز فيما بعد»، لكن يبدو أن السياسيين لا يعون هذه الحكمة جيدًا بالقدر الذي يعيها عامة الناس. إن أولئك البولنديين — الذين يصفون أنفسهم بأنهم يحكمون إغلاق باب الإسطبل بعد أن تكون الخيول قد هربت — يدركون أيضًا أنك لا تفتقد الشيء إلا بعد ضياعه.

تبدو الأمور أسوأ بكثير عندما لا تكون السياسة الاقتصادية خاطئة على المدى القصير فحسب، بل من الناحية التاريخية أيضًا. وقد تتفوق سياسات حمقاء لسنوات متتالية على اعتبار أنها سياسات رشيدة ويتم إعلاؤها من قبل بعض أشباه العلماء والجهلة، ومدارس الفكر والأحزاب ووسائل الإعلام والمنظمات غير الحكومية بما فيها المنظمات الدينية القوية والكنائس. كان الشاعر الروسي الكبير والكاتب والصحفي إيليا إيرنبرج (١٨٩١–١٩٦٧) يقول: إن الحماقة يمكن أن ترتكب في ظل أي نظام. ومع أنه كان يعني الحماقة التي شهدها في ظل الشيوعية السوفييتية — التي فشلت بالتأكيد في القضاء على حماقة النظام الذي حلت محله — فإنه كان محقًّا في التعميم. لكن لا الثورة التالية — الثورة الشيوعية — ولا نشوء الليبرالية الجديدة نجحا في القضاء على الحماقة. إنها حقًّا ظاهرة عالمية تعتمد على أمر يتجاوز مسألة النظام الاجتماعي السياسي. والنظام الذي يخلو من الحماقات تمامًا نظام مثالي، وسيظل دائمًا كذلك، وربما يكون من الأجدر التطلع إليه بدلًا من التطلع إلى اليوتوبيا الرامية إلى سعادة الجميع. لا السوق يكفل المصداقية، ولا الديمقراطية تضمن الحكمة.

وبما أن هذه هي الحال التي تَئول إليها الأمور في أغلب الأحيان، فإن السؤال المطروح يتعلق بما إذا كان لهذه الأمور أي أثر رجعي ملموس على ما يحدث لاحقًا. هل تؤثر حماقة السياسات الاقتصادية للمستعمرين في أفريقيا الاستوائية، أو أنظمة ما بعد الاستعمار في البلدان العربية، أو من يخططون اقتصاد الدول في آسيا الوسطى السوفييتية، أو صندوق النقد الدولي في جنوب شرق آسيا، أو المتعصبين لليبرالية الجديدة في وسط أوروبا على المستقبل؟ الإجابة: نعم، لأن آثار تلك السياسات باقية. لكن على الرغم من أنه لم يعد من الممكن إعادة عقارب الساعة إلى الوراء، ولا إعادة المد أيضًا للوراء، فمن الممكن أن نعكس — على نحو خلاق — أثر التأويل الاجتماعي لما حدث، وأن نستفيد بتأثيره على طرق التفكير في الحاضر والمستقبل، ومن ثمَّ على ما يمكن حدوثه وما نريد حدوثه.

إننا بحاجة للاستفادة من فترة الانتظار، إلى أن يمسك بزمام السلطة أولئك الذين يرغبون في تغيير الأمور إلى الأفضل، ويستطيعون القيام بذلك، ليس لأنفسهم أو لأصدقائهم المقربين فحسب، بل للمجتمع ككل. والشيء الوحيد الذي يمكن الاستفادة منه خلال هذه الفترة هو التثقيف الاقتصادي. ولهذا، تعني الكلمات أفعالًا، فهي وسيلة لتوصيل الأفكار؛ لذلك، نحن بحاجة للكفاح لكسب القلوب والعقول. أفضل الأشياء أن يدرك الناس بوجه عام جوهر عملية التنمية. من غير المعقول طبعًا أن نتوقع أن يصبح الجميع خبراء في الاقتصاد، فهذا سيميت الكثيرين من الملل. لكن من الواقعي والعملي أن نتطلع إلى أفضل قدر ممكن من شيوع اللغة الاقتصادية.

في منتصف التسعينيات من القرن العشرين كتب خبير اقتصادي بارز عن ولادة اقتصاد السوق في روسيا، وقال إنه قد ظهر إلى حيز الوجود، لكن الناس لم تفهمه.3 لكني أعترض على هذا الكلام على أساس أنه إذا كان الناس لا يفهمون هذا النظام، فلا يمكن اعتباره اقتصاد سوق حقيقيًّا، بل كيانًا عابرًا سريع الزوال يعوزه الأساسان الفكري والثقافي اللازمان للأداء الفعال وللتنمية. بالإضافة إلى أنه لا مجال لأن نتوقع دعم الناس لنظام كهذا، إذ كيف يمكنك أن تدعم نظامًا اقتصاديًّا لا تفهمه؟ أيكون ذلك بالإكراه؟ جُربت هذه الطريقة من قبل. أيكون ذلك دون وعي؟ هذا أيضًا لا يكفي لتحقيق التنمية، لأنه لا يحرك التفاعل الخلاق اللازم بين المجتمع والاقتصاد.
من ثم، من الجدير أن نبذل كل ما في وسعنا لجعل أكبر عدد ممكن من الناس يفهمون أكبر قدر ممكن من الحقائق عن المسائل الاقتصادية، فالسياسة الجيدة لا تتطلب فقط نظرية جيدة، بل تتطلب أيضا جمهورًا مثقفًا. وعند غياب الثقافة يتعذر التوفيق بين ثلاثة أشياء:
  • الحقيقة العلمية.

  • الديمقراطية الحقيقية.

  • السياسة الفعالة.

وهذا مصدر رزق وفير لدجالي الاقتصاد والديماجوجيين السياسيين وجحافل بأكملها من السياسيين التافهين. وفي مثل هذه الحالات لا تكون السياسة الاقتصادية قائمة على المعرفة، بل على:
  • الجعجعة الأيديولوجية.

  • الحماقة.

  • قصر النظر.

  • الطمع.

  • مصالح الأفراد، لا مصلحة المجتمع.

وليس من السهل التغلب على هذه العوامل، لأن هناك بعض الاقتصاديين والصحفيين يفعلون كل ما في وسعهم لتضليل الناس، والتلاعب بآرائهم من أجل أغراض أيديولوجية، واستدراجهم لاتخاذ خيارات انتخابية خاطئة. إذن، ماذا يمكننا أن نفعل؟ استمر في فعل الصواب؛ فهذا ما عليك القيام به دومًا، خاصة للآخرين.

وهذا يصعب الأمور على الاقتصاديين وصناع القرار صعوبة بالغة. والمعرفة — بما فيها علم الاقتصاد — مسألة بحث عن الحقيقة تتسم بالثبات والالتزام بالمبادئ، لكن السياسة هي الفن الصعب للإبحار بين الثبات والمرونة. إن السياسة الجيدة تعني إعطاء الناس ما يحتاجون. والسياسة السيئة تعني منحهم ما يريدون. أما السياسة الرائعة فهي التي تعطي الناس ما يريدونه وما يحتاجون إليه في آن واحد. وهذا شيء نادر، لكن مثل هذه المعجزات تحدث. وعندما تحدث ينتهي الركود وتزدهر التنمية.

•••

عندما نلقي نظرة عامة على تاريخ التنمية والركود نرى أن لدى التاريخ درسًا واحدًا وواضحًا ليعلمنا إياه وهو أن الثقافة مسألة حاسمة. وقد أدرك ماكس فيبر (١٨٦٤–١٩٢٠) هذا،4 ودلل القرن العشرون بأكمله على صحة كلامه. وليس لدي أدنى شك في أن القرون المقبلة — بدءا من القرن الثاني والعشرين فما يليه — سوف تثبت أن هذه مسألة محسومة لا جدال فيها.

لا يحب خبراء الاقتصاد سماع مثل هذه التصريحات، ليس فقط لأن الثقافة مفهوم رخو لا يمكن قياسه على نحو دقيق وواسع للغاية، إلى حد أنه يكاد يشمل أي شيء، بل ما هو أسوأ أن هذا الرأي يطرح حتمية مبالغًا فيها. من المؤكد أن الثقافة ليست ثابتة للأبد، بل هي طويلة الأجل. لكن إذا كانت الثقافة تصنع الفرق بين الركود والتنمية، فما الذي يمكننا أن نفعله؟ ليس الكثير. إن القيد الذي ورثناه من العهود السابقة لا يزال يكبلنا، فنحن نفكر ونتصرف تحت تأثير أفكار دينية وقومية وعرقية ونفسية بالية. أضف إلى ذلك أن هذه الموضوعات صعبة ولا يسهل الحديث عنها دومًا، خاصة عندما تكون هناك جموع غفيرة من المخدوعين يراقبون ما يدور ليتأكدوا من أننا ما زلنا على المسار السياسي الصحيح.

الاقتصاد هو علم التغيرات. حتى الاقتصاديون الليبراليون الراديكاليون يحبون التلاعب بالتغيرات، سواء على المدى القصير من خلال المعايير الاقتصادية كالفائدة والضرائب وأسعار صرف العملات، أو على المدى الطويل من خلال إصلاح المؤسسات لتدعم العمليات المنشودة وتمنع العمليات غير المرغوب فيها. لكن ليس من السهل التحكم بالثقافة باعتبارها بنية تاريخية، فهي تتطور ببطء، ولا يمكن تغييرها كثيرًا على نحو سريع.

والثقافة تتحكم بنا أكثر مما نتحكم بها. ويعتبر بعض علماء الأنثروبولوجيا أن هناك خصائص ثقافية معينة غير قابلة للتغيير بوجه عام، ويشير آخرون إلى الخصائص التي نستقيها منذ نعومة أظافرنا والتي تتوارثها الأجيال جيلًا بعد جيل، فالاستمرارية أكثر من التغيير. وإذا كانت الخصائص إيجابية فهذا أمر جيد؛ أما إذا كانت سلبية فهذا أمر سيئ.

إذا كانت المواءمة الثقافية هي التي تقودنا فكيف يمكن أن نؤثر في التنمية الاقتصادية؟ ربما تتبع التنمية ببساطة المسارات التي وضعتها الثقافة، وما من شيء يمكننا القيام به حيال ذلك. وربما تحدد الثقافة المتأصلة في التاريخ والتقاليد طريق التنمية وتفرض أطرًا على الأمم لا يمكن الخروج منها.

يسهل إدراك أهمية الثقافة في التنمية، إذا قارناها بدور الشخصية في تطور الأفراد، فشخصية قابيل كانت مختلفة عن شخصية هابيل، وشخصية الدكتور جيكل تختلف عن شخصية السيد هايد (بطلا الرواية الخالية للمؤلف روبرت لويس ستيفنسون في تصوير الصراع بين الخير والشر). واقتصاد السوق الاجتماعي في دول الشمال له طابع (أو ثقافة) يختلف عن طابع الاقتصاد الأنجلوساكسوني الرأسمالي الليبرالي الجديد، وينطبق الشيء نفسه على المجتمعات ونُخبتها.

عندما نتحدث عن الأمم أو المجتمعات فنحن نتحدث عن الناس. والناس مختلفون؛ فالبعض يحلو لهم قضاء الكثير من الوقت أمام التليفزيون أو تصفح الجرائد، ويفضل البعض الآخر قضاء وقتهم في الحياكة أو الاعتناء بالحدائق. البعض ينام في وقت متأخر من الليل، وآخرون يعملون حتى وقت متأخر. والبعض يحلو له التسكع حول مكاتبهم، وآخرون تحلو لهم جلسات القيل والقال. كل هذه السلوكيات تعكس توجهًا ثقافيًّا ولها تأثيرات اقتصادية، لا تشملها بالضرورة بيانات إحصاءات الدخل القومي، ولا يقتصر تأثيرها فقط على المستوى الحقيقي للاستهلاك، بل أيضًا على مستوى الشعور بالرضاء عن الحياة. البراجماتية والابتكار هما المفتاحان. وعندما يتوافر لديك المال تطلق العنان لخيالاتك. لكن إذا لم يكن لديك سوى الخيالات فسيكون من الصعب أن تحصل على المال.

وهكذا حال الشعوب أيضًا؛ فأمامها خيارات هي الأخرى. إننا ننسب خصائص بعينها للمجتمعات تمامًا كما ننسبها للأفراد، فنقول إن شعبًا ما دقيق ويعمل بجد، في حين أن شعبًا آخر كسول وأحمق. وننسب الحس التجاري النشط للبعض وننسب التغافل والبرود للبعض الآخر. ونعجب بالبعض لنظامهم وترتيبهم، ونشعر بالأسف الشديد من الطريقة الفوضوية التي يتصرف بها آخرون دائمًا. بعض الشعوب تتسم بحسن الضيافة، وقد تمر سنوات على آخرين دون دعوة أي شخص على الإطلاق. وهناك شعوب وجماعات عرقية تشتهر بالعدوانية، وهناك غيرها تفضل السلام والهدوء دائمًا. وقد اعتدنا أن نربط الاقتصاد في الإنفاق بالاسكتلنديين، والتبذير بالجورجيين. وننسب للألمان حسًّا عاليًا من الانضباط، إلى جانب افتقارهم التام لروح الدعابة، ونعتبر البولنديين عكس الألمان تمامًا. وهذا يفسر كيف أن بلدًا ما قد يكون به طرق رائعة، وبلد آخر يعرف شعبه دائمًا أفضل النكات. ومن الواضح أن هناك العديد من الصور النمطية هنا، لا سيما بين الجيران، ومن الشائع بين الشعوب المتجاورة أن يتهم بعضها بعضًا بالرذائل نفسها.

ومنذ فجر التاريخ ارتبطت الشعوب بروابط بين ثقافية، فالخروج من المنزل في حد ذاته يعد امتزاجًا ثقافيًّا، لأننا قد نلتقي مصادفة بأناس آخرين. وحس الترابط الثقافي له بعد صغير يبدأ عند ممتلكاتنا الخاصة، وبعد أكبر على مستوى المجتمعات والأمم والدول. وما من شيء يستطيع تغيير شخصيات الأفراد أو الفئات المجتمعية أو الأمم كالعلاقات بين الثقافية.

وتتكون الشخصية دائمًا من مجموعة متنوعة من السمات الإيجابية والسلبية، بعضها وراثي والآخر مكتسب، فنحن نعلم أن من أشبه أباه فما ظلم، لكننا نعلم أيضًا أن من شب على شيء شاب عليه. تتحدد نحو نصف سماتنا عن طريق الوراثة، ومن ثم تنتقل من جيل إلى جيل، ويتشكل النصف الآخر على مدى حياتنا، خاصة في مرحلة الطفولة.

نحن نتربى في المنزل ونتحرك بين أرجاء الحي والمدرسة والجامعة، ونتنقل بين الدوائر المهنية والسياسية والاجتماعية. ونكتسب العادات التي تعزز تطور الشخصية ونضوجها، مثلما نكتسب — للأسف — تلك التي تفسدها. ومن سيفوزون بجوائز نوبل خلال النصف الثاني من القرن الحالي يجلسون اليوم في المدرسة وروضة الأطفال، شأنهم في ذلك شأن خبراء الاقتصاد في المستقبل؛ لا يعرفون أنهم يومًا ما سيصبحون خبراء اقتصاد. وقد يتحول بعض هؤلاء الأطفال إلى مجرمين، حتى لو كانوا اليوم طلابًا مثاليين وأطفالًا مهذبين، فأفضل العمليات التعليمية تستطيع على الأرجح تحويل مجرمي المستقبل إلى فائزين بجوائز نوبل، لكنها بالتأكيد تستطيع تقديم الكثير من أجل زيادة عدد المثقفين الأمناء، لا الأغبياء الفاشلين، فالتعليم والتفاعل الاجتماعي — الذي بات يجري أكثر فأكثر الآن من خلال وسائل الإعلام وشبكة الإنترنت — من شأنهما أن يؤثرا فعلًا في شخصية الفرد. وهذا ما تحاول الأسر والمعلمون والأديان ووسائل الإعلام ومجموعة كبيرة من المنظمات فعله، على اختلاف النتائج.

الأمر نفسه ينطبق إلى حد ما على الاقتصادات؛ فلكل اقتصاد «شخصية» مختلفة، وسمات «وراثية» وأخرى «مكتسبة»، مع أننا لا نستطيع تحديد نسبة كل سمة من هذه السمات بالضبط. وفي الوقت الحاضر أشعر أن الصفات المكتسبة تصنع فرقًا أكبر، مع أن هذا يختلف من مجتمع لآخر. والمجتمعات كالأفراد؛ بعضها يكتسب الصفات بسرعة أكبر، والبعض الآخر يكتسبها ببطء. وبعض المجتمعات تتحول إلى مجتمعات تقدمية، في حين تميل مجتمعات أخرى للاحتفاظ بعاداتها الخاصة والبقاء على ثوابتها. والبعض محافظ للغاية حتى إنك لا تستطيع تعليمه أي شيء على مدى أجيال، أو قرون كاملة.

نستطيع عقد الكثير من المقارنات. ولنتحدث على سبيل المثال عن تشيلي والصين، فالمقارنة بينهما منذ ٢٥ عامًا كانت ستُظهر الكثير من الاختلافات الهامة. والآن، يمكننا أن نلحظ مزيدًا من أوجه التشابه والصفات المشتركة، لأن كلا البلدين تعلم الكثير عن كيفية التصرف بحكمة في ظل اقتصاد تحكمه العولمة. وينطبق الشيء نفسه على الأرجنتين والمجر، فالتغيير لم يستغرق سوى جيل واحد. هل تلك فترة طويلة أم قصيرة؟ منذ ربع قرن، كان هناك قدر كبير من الاختلاف بين نظام البلدين وثقافتهما الاقتصادية، واليوم يمكننا أن نلاحظ العديد من أوجه التشابه الهيكلية والمؤسسية. وهناك أوجه تشابه ظاهرية تُرى في الشوارع والحقول. وقد استغل المخرج البريطاني آلان باركر هذا الأمر عندما صور أحداث فيلم «إيفيتا»5 في كلٍّ من بوينس آيرس عاصمة الأرجنتين وبودابست عاصمة المجر؛ في سهول بامباس بالأرجنتين وفي بوستا بالمجر. وهناك أيضا أوجه تشابه داخلية بما فيها تلك التي تفسر الأسلوب الذي يعمل به الاقتصاد ويتطور.

الخصال الموروثة عبر الأجيال، وآلية الجمود المؤسسي، والعادات السيئة، أو التبعية تميل نحو الثبات. أحيانًا تستمر وقتا طويلًا وتسبب الضرر، لكن في أحيان أخرى تشجع التقدم العلمي والتقني وروح المبادرة التجارية. مثلًا، لاحظ أن توق الأرجنتين الشديد لظهور «إيفيتا جديدة» (إيفا بيرون زوجة الرئيس الأرجنتيني السابق خوان بيرون التي اعتُبرت معشوقة الفقراء والمساكين حتى إنهم أطلقوا عليها اسم «سانتا إيفيتا») يفوق توق أبناء المجر لعودة النظام الملكي حتى إن كريستينا فرنانديز دو كيرشنر فازت بكل سهولة ومن الجولة الأولى بالانتخابات الرئاسية في الأرجنتين عام ٢٠٠٧. المجتمعات — مثل الأفراد — لديها أمور تستهويها وأخرى تثير استياءها. وقد يستغرق التغلب على بعض هذه الأمور سنوات طويلة، حتى إذا كان من الواضح أنها سبب في إعاقة التنمية. وهذا يشبه إلى حد ما الإفراط في تناول الطعام؛ ينبغي أن تتوقف عن ذلك، لكن الكثير من الناس لا يستطيعون، أو ببساطة لا يريدون.

إنك تكتسب خصالًا جديدة عن طريق التعلم أثناء بناء مؤسسات جديدة نشطة، واتباع استراتيجيات وسياسات تنمية فعالة. وهناك الكثير مما يمكن تحقيقه عن طريق ذلك. ويمكنك غرس خصال مرغوبة اجتماعيًّا في نفوس الأفراد وتشكيل شخصياتهم، ويمكنك أيضًا أن تشكل سمات إيجابية في الاقتصاد بما يصب في مصلحة التنمية. وإذا اعترضت السمات الموروثة طريقك فعليك بذل أقصى ما يمكنك من جهد في تطوير التعليم، بدلًا من أن تشكو سوء الحظ أو سوء تربية الآباء والأمهات. وإذا لم يسعفك التراث الثقافي للتوسع الاقتصادي فعليك بذل مزيد من الجهد لتحفيز التقدم الاقتصادي، بدلًا من إلقاء كل اللوم على ما حدث في الماضي أو على الفريق الاقتصادي في الحكومة السابقة.

إذا كنت محظوظًا فلن يستغرق تحقيق التنمية أجيالًا بأكملها. وإذا كنت سيئ الحظ فسيستغرق كل هذا الزمن. فمن السهل جدًّا تفويت الفرصة لتطوير «شخصية» الاقتصاد، وإهدار سنوات كان من الممكن قضاؤها في إحداث التنمية. لاحظ بعض الثنائيات من البلدان المتجاورة مثل: تشيلي والأرجنتين، كوستاريكا وهندوراس، جمهورية الدومينيكان وهايتي، بتسوانا وزيمبابوي، السنغال وغينيا، بولندا وأوكرانيا، سلوفينيا وكرواتيا، قطر والبحرين، ماليزيا والفلبين، ساموا وفيجي. الظروف الطبيعية والجغرافية متشابهة في كل دولتين، لذا لا بد أن أمرًا آخر يفسر لنا السبب وراء تفوق التنمية في البلد الأول عنها في البلد الثاني على مدى ربع القرن الماضي.

والثقافة — مثل الشخصية — ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالإلهام والحافز. ثمة مثل روسي قديم يقول: «من قطعة الخشب نفسها يمكنك نحت قطعة فنية أو صنع هراوة.» أي إنك يمكن أن تبدأ بنفس المادة، لكنك تتلقى أنواعًا مختلفة من الإلهام والحوافز. وذلك هو الذي يحدد الناتج النهائي لعملك؛ هذا بالطبع على افتراض أن الجميع مؤهلون بنفس القدر لنحت قطعة فنية أو تشكيل هراوة، لكن هذا ليس صحيحًا. ومع ذلك لدى الناس مهارات متنوعة، وأي مجتمع لديه السبل اللازمة لإنتاج القطعة الفنية أو الهراوة، أو كليهما بنسب متفاوتة. وقد يتضح أن أولئك المؤهلين لصنع الهراوات يعتلون السلطة (ليس بالضرورة عن طريق استخدام هراواتهم، بل الانتخابات الحرة قد تسفر عن النتيجة ذاتها) ويقمعون أولئك القادرين على حمل رايات الإبداع. ونتيجة ذلك أننا سنجد الكثير من الهراوات والقليل من القطع الفنية، وهو ما يطلق عليه خبراء الاقتصاد خلل السوق الذي سرعان ما يؤدي بدوره إلى الخلل الاجتماعي والسياسي، وكلها تضر بالنمو الاقتصادي.

والدور الذي يلعبه الحافز دور رئيس، فأنت لا تستطيع فعل أي شيء — تبتكر أو تصمم أو تنظم أو تدير أو تنتج أو توزع أو تنقل أو تخزن أو تبيع أو تستهلك — إلا إذا كانت لديك الرغبة في ذلك. والنشاط الذي ينشأ من داخل الفرد أكثر تحفيزًا له من ذلك الذي يفرض عليه. وهناك ما يعرف بالإكراه الاقتصادي، لكن لهذا الأمر حدودًا. ومن الجدير التأكيد على أن النظرية الليبرالية للرأسمالية (وليس انحراف الليبرالية الجديدة) هي الأفضل من حيث صياغة قواعد اللعبة الاقتصادية، لأنها تناسب الطبيعة البشرية وتلائم آليات التحفيز النفسي لدى البشر أكثر من أي نظرية أخرى، إذ تستفيد هذه النظرية من تلك الآليات، فرأسمالية السوق الحرة لم تضل الطريق محاولةً استحداث «إنسان جديد» على غرار نماذج اليوتوبيا الأخرى مثل الشيوعية أو الإسلام أو التعاليم الاجتماعية للكنيسة الكاثوليكية. بدلًا من ذلك استفادت رأسمالية السوق الحرة من سمات الإنسان الفطرية، بما في ذلك أسوءُها مثل الأنانية، وحب التملك والعدوانية والطمع وقصر النظر، فضلا عن السمات المحمودة مثل: الطموح والجدية وسعة الحيلة والبصيرة والحذر والتضامن الجماعي.

أعظم الإنجازات والنجاحات في إدارة الاقتصاد الجزئي على مستوى الشركات، واستراتيجيات التنمية على مستوى الدول لم تأت من الفكر الاقتصادي الكلاسيكي، فهنري فورد — الذي أحدث ثورة صناعية عن طريق الإنتاج الكمي للسيارات — والزعيم الماليزي مهاتير محمد لم يكونا مدفوعين في أعمالهما بالمنافسة، بل برز الدافع من شخصيتيهما ومن الثقافة الاجتماعية المحيطة بكلٍّ منهما. ولعبت عوامل عديدة أخرى دورًا في هذا، لكن هذه العوامل لم تكن لتكفي لولا الدافع.

فمن دون الدافع ستختفي روح المغامرة التجارية والتصرف الرشيد. وهذا ينطبق على مجالات أخرى بعيدة عن الاقتصاد، ففي الفن والعلم يمكن أن ينبع الدافع من شعور ذاتي بالقيم أو من السعي وراء الجمال والحقيقة، لكن في مجال الاقتصاد ينبغي أن يرتبط الدافع بالحكمة ومبادئ السلوك. والثقافة وحدها ليست كافية، فالتاريخ يبين أنه من الضروري — في أي ثقافة — إصلاح القوانين والسياسات للخروج من الركود إلى التنمية، أو للإسراع من وتيرتها، أو على الأقل للحيلولة دون تباطئها. وقد شهدنا ذلك حديثًا في جنوب شرق آسيا، وفي بلدان ما بعد الاشتراكية في أوروبا الشرقية، وعلى نطاق أضيق في آسيا الوسطى بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، وفي أمريكا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي. وشهدنا ذلك أيضًا لكن في أقل مستوياته في الشرق الأوسط وأفريقيا وأوشيانيا. بالإضافة إلى الميول الفردية تعتمد روح المغامرة التجارية على العلم والتكنولوجيا والسياسة. والعامل الأخير (السياسة) بالغ الأهمية في تحفيز روح المغامرة، فهو من ناحية — كما رأيناه في جولتنا التاريخية السريعة — قد يضرها ويقمعها، فلا نحصد إلا الركود. ومن ناحية أخرى قد لا يكون العلم والتكنولوجيا قادرين على اختراق مجال الإنتاج وحدهما من دون دعم، فهما بحاجة للمساعدة. ولا توجد وسيلة لتحفيز روح المغامرة التجارية أفضل من تعزيز الدافع على نحو غير مباشر عن طريق أدوات السياسة الاقتصادية، فعندما تستغل هذه الأدوات استغلالًا صحيحًا يعود أي نشاط تجاري بالربح، مما سيشجع الأفراد على الإقبال على إقامة الأنشطة التجارية.

وروح المبادرة التجارية تجمع بين كونها سمة بشرية — على الرغم من أنها لم توهب لكل البشر — ومهارة أيضًا. ودائمًا تكون المواهب الفطرية مفيدة لأصحابها، لكن المهارات يمكن تدريسها وتعلمها. هذا صحيح إلى حد ما فيما يتعلق بروح المغامرة التجارية. مع ذلك تتسم هذه المهارة بأنها بالغة الخصوصية، إذ لا يمكن للدراسة حتى في أفضل كليات التجارة أن تضمن اكتساب المرء المهارات الاقتصادية. لا بد من تعلمها عن طريق الممارسة والتجربة العملية.

تلقي هذه المشكلة بظلالها على التفاعل بين الثقافة والقوانين والسياسات. وعندما ننظر إلى التنمية على مدى فترة زمنية طويلة جدًّا نرى أن الكفاح من أجل المستقبل يجري ضمن العلاقة بين تلك الفئات المهمة الثلاث. وفي حين تشجع الثقافة البروتستانتية لبلدان البينيلوكس أو سمات بلدان الشمال التنمية أكثر مما تفعل الثقافة الإسلامية للعرب أو لسكان الساحل الأفريقي — كما شهدنا على مدى القرون السابقة — فإننا نستطيع تصور استخدام القوانين والسياسات حتى في حالة بلدان الثقافة الإسلامية على نحو يجعل شعوب هذه المناطق تتطور بنجاح، وأن نشهد ما يترتب على ذلك من نتائج إيجابية يستفيد منها العالم واقتصاده. إننا رغم كل شيء نتأثر جميعًا بالوضع هناك مما ينعكس على أمور مثل الهجرة والأمن والنمو.

وقد تحققت إنجازات كبرى في بعض البلدان الإسلامية غير العربية — مثل إندونيسيا — وخاصة حيثما يوجد الثراء الثقافي مثلما هو الحال في ماليزيا، فهناك، تتعايش مختلف القوميات والديانات في سلام. وبجانب الماليزيين يعيش هناك أيضًا صينيون وهندوس وقلة من الأوروبيين. وبجانب الإسلام تتعايش المسيحية على نطاق واسع، وهناك أيضًا الطاوية والبوذية. إلا أن فلسفتي الديانتين الأخيرتين تحديدًا ملائمتان على نحو خاص للتنمية. وفي الجوار، في إقليم آتشيه الإندونيسي، لم يحقق مزيج مماثل من الأديان نفس القدر من النجاح. ويمزح الناس هناك بقولهم إن كلمة آتشيه بالإنجليزية تجمع الحروف الأولى من الكلمات «آسيوي، صيني، أوروبي، هندوسي». لكن على الرغم من تعزيز التعدد الثقافي للتنمية، فإنه أشعل فتيل صراعات لا حصر لها، بسبب غياب عوامل أساسية أخرى لازمة لتحقيق كتلة حرجة إيجابية، لا سيما السلام الدائم والقيادة السياسية التي تملك رؤى، لا أوهامًا. بعض الأماكن محظوظة بما فيه الكفاية وتتمتع بهذه العوامل، فالمسألة إلى حد بعيد مسألة مصادفات سعيدة.

وإذا نحينا تضارب المصالح جانبًا، قد تحكم ثقافة ما على شعبها بالركود الاقتصادي عندما تعوق عوامل تتعلق بالتعصب الثقافي بناء المؤسسات ذات التوجه التنموي، وتعترض سبيل تنفيذ أي سياسة رشيدة. وهذا جدير بأن ندركه، لكنه لا يعفينا من مسئولية الاستمرار في السعي للتوصل لنظرية تنمية بإمكانها المساعدة في التغلب على حالات العجز هذه، وعلى الخروج من حالة الركود على أساس عملي.

الثقافة في أشمل صورها نظام من القيم والسلوك البشري المترتب عليها. والثقافة وحدها لا تقرر مصير التنمية الاقتصادية، بل يشاركها في ذلك ما يحيط بها من الظروف المادية الطبيعية والاجتماعية والتكنولوجية التي يكون لها هي الأخرى أحيانًا مردود يؤثر على الثقافة نفسها. هذا ينطبق أكثر على الظروف الاجتماعية والتكنولوجية، لكنه لا ينطبق بنفس القدر على الظروف الطبيعية المحيطة. وهذه الظروف لا تعمل وحدها، بل بالتنسيق مع العديد من العوامل الأخرى المرتبة في مزيج مادي إما أن يشجع التنمية أو الركود. مع ذلك، فالثقافة هي التي تحدد — على المدى الطويل — من يفوز ومن يخسر، ومن سيصبح غنيًّا ومن سيعاني الفقر، ومن سيزدهر اقتصاده ومن سيواجه الركود، وأي البلدان ستنعم بالرخاء وأيها سيركن للبلادة والخمول. هذا لأن كل الظروف الأخرى ذات الأهمية لروح المغامرة لدى البشر وللإنتاجية تتجمع ضمن إطار الثقافة. وأحيانًا، تدعم الثقافة هذين الهدفين، وأحيانًا أخرى تعيقهما، لأن الثقافة نفسها متعددة الأوجه وتنشأ من كثير من العوامل الإضافية الأخرى.

يجب وضع الأحوال الثقافية العامة في الاعتبار عند التفكير في المستقبل وأساليب تشكيله على النحو المرغوب من الناحية الاقتصادية، لكن ينبغي أن نركز على المسائل المادية التي تكون أكثر ارتباطًا بالواقع، فدائمًا تحدث الأشياء ضمن محيط ثقافي، ودائمًا تتخذ القرارات ضمن سياق واقعي مادي واقتصادي، وهو الأمر الذي لا بد للنماذج النظرية أن تأخذه في الاعتبار على نحو واقعي. لكن على الرغم من الدراسات والخطوات التي لا تنتهي في الاتجاه الصحيح، فقد لا تكون جميع النظريات الحالية للنمو والتنمية بالكفاءة المنشودة؛ فهي لا تفسر كل جوانب الركود والتنمية. وعندما نقوم بتحليل بعض الحالات نواجه دائمًا صعوبات تفسيرية، أو نرى أن الواقع لا يتناسب مع ما هو موجود في النماذج، أو في بعض الأحيان يتناقض معها.6 فمثلًا، وفقًا للنموذج النظري ينبغي أن يتدفق شيء ما من البلدان الغنية نحو الدول الفقيرة، لكن ما يحدث في الواقع هو العكس. وكما يحدث في كثير من الحالات ينبغي ألا تأخذنا الأزمات على حين غرة، لكن هذا ما يحدث.

ما السبب في أن الوضع قائم على هذا النحو، وماذا يمكن أن نفعل؟ سنجد الإجابة في منهج التفسير النظري الذي سنقدمه الآن لعمليتي النمو الاجتماعي الاقتصادي والتنمية. لقد حان الوقت للتخلص من الأسطوانات القديمة للنظرية المثالية لليبرالية الجديدة، ولاقتراح نموذج جديد، فنحن في حاجة إلى نظرية مصادفة خاصة بالتنمية تتناول المستوى الوصفي للاقتصاد. نحن أيضا في حاجة إلى نهج براجماتي جديد قائم على هذه النظرية، على أن يتلاءم مع المستوى المعياري. وبالرجوع إلى الملاحظات المنهجية السابقة ستفسر لنا هذه النظرية — بالمعنى الوصفي — كيف تبدو الأشياء، وما الآليات التي تتحكم في ظهور العمليات الاقتصادية، وبالمعنى المعياري ستخبرنا بما يتعين القيام به لتحسين الأمور.

قبل كل شيء لا بد أن نحرر أنفسنا من الدوجماتية التي تعيق التفكير الإبداعي كما يفعل الجهل تمامًا، أو حتى بقدر أكبر في بعض الأحيان. دعونا نكرر أن الدوجماتية قد تكون أمرًا جيدًا في الدين، لكن ليس في العلم. والعوامل الأساسية هنا هي البعد عن التقليد، والاستمرار في المضي قدمًا، والأفكار التي تصلح للتعديل والإصلاح، لا الأفكار التقليدية والمحافظة.

الثقافة لا تُشترى، لكنها — بعيدًا عن قيمتها الفعلية — تعود علينا بالفائدة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤