نظرية المصادفة في التنمية، والبراجماتية الجديدة
تشبه المعرفة المتعلقة بالتنمية وصفة للحياة السعيدة؛ لا غنى عنها، لكنها غير كافية.
نحن بحاجة أيضًا للهروب من الانصياع للأيديولوجية وللسياسة. وهذه ليست مسألة بسيطة، خاصة عندما نتحدث عن التنمية، ونستمر في مواجهة إصدار القرارات الذاتية، فحيثما كانت هناك قيم سيكون هناك حتمًا فكر وسياسة. ولا ينبغي لنماذج التنمية — على عكس الفكر والسياسة — أن تكون يسارية أو يمينية، جماهيرية أو تحررية، مسيحية أو إسلامية، محافظة أو عمالية، أو ديمقراطية أو جمهورية. الأهم أن تكون قابلة للتطبيق، ومن ثمَّ معنية بطرح أسئلة محددة عن الواقع الاجتماعي الاقتصادي، لا باستعراض النزعات الأيديولوجية.
يطرح كل نوع من أنواع النشاط الاقتصادي نطاقًا كاملًا من المشكلات ينبغي حلها. وتنشأ الصعوبة الحقيقية — والجاذبية المفاهيمية أيضًا — من أن تعقيدات مجموعة من المشكلات تؤدي إلى ظهور مشكلات جديدة. وتلك مسألة أبدية شأنها شأن التاريخ. لا وقت للركون إلى أمجاد الماضي، فقد يجتاحك سيل من المشكلات الجديدة. وبدلًا من الانهماك في نزاعات سياسية وحروب أيديولوجية تكون غالبًا عقيمة ولا طائل منها، أنت بحاجة إلى تشخيص المشكلة بدقة والتوصل إلى حل. عبر دنج شياوبينج عن ذلك على أفضل نحو عندما استشهد بالمثل الصيني القديم الذي يقول إن كون القط أبيض أو أسود لا يهم؛ المهم أن يكون ماهرًا في صيد الفئران. إننا لا نزال نجهل لون قط دنج، لكننا نعرف كل شيء عن قدراته.
ومن الجدير أيضًا أن نتجنب الشمولية والنظريات التعميمية للنمو الاقتصادي، في الوقت الذي نستنكر فيه رغبتنا القوية في أن نكتب — أخيرًا — إن هناك نظرية واحدة عظمى توضح كل شيء، فنظرية كهذه — إذا كانت قابلة للتطبيق في جميع الحالات — ستكون بالضرورة تجريدية للغاية بما يجعلها تعميمية إلى حد تكون معه غير ذات قيمة في وصف الواقع الاقتصادي وتشكيله، فمثلًا، النموذج الذي يوضح أن زيادة الإنتاج تعتمد على زيادة التوظيف وزيادة إنتاجية العمالة صحيح عمومًا بقدر ما هو معمَّم على نحو مطلق، لأن القضية الحقيقية تكمن في كيفية زيادة التوظيف (إذا كان هناك من يمكن توظيفه)، والأهم من ذلك كيفية زيادة إنتاجية العمالة.
على النقيض لدينا تفسيرات لأحداث معينة أو عمليات مثل الحالة الكينزية تظهر أنه يمكن استخدام مُعجِّل الاستثمار من أجل زيادة القدرة الإنتاجية ومستوى الإنتاج، أو الحالة النقدية التي توضح بدقة الارتباط بين التغيرات في عرض النقود ومعدل التضخم. وفي كلتا الحالتين ينبغي أن نعي أن العمليات المطروحة باعتبارها متغيرات هي نفسها تعتمد على مجموعة من الدوافع الأخرى. ومؤيدو الكينزية والنظرية النقدية كلاهما على حق في هاتين الحالتين، لكننا لسنا في حاجة إلى الانضمام لإحدى المدرستين دون الأخرى؛ فالذكاء أن نعرف كيفية الاستفادة من كليهما معًا.
وهذا — أعني استنباط كل ما هو مفيد من النظريات الأخرى — ربما يعيدنا لوجهة النظر المطروحة على مدار هذا الكتاب، التي تؤكد على أن تصادف ظروف مختلفة يؤدي لنشوء ظاهرة ما، أو تحفيز عملية ما، فالظروف المتزامنة من مختلف الأنواع هي تحديدًا الأشياء التي تشكل الكتلة الحرجة التي تؤدي إلى نشوء هذه الظواهر والعمليات. وتمايز هذه الأنواع من الظروف من الأهمية بمكان، نظرًا لأن النظريات الأخرى دائمًا تعمد للتبسيط وكثيرًا ما تركز على الظروف المتماثلة. ونتيجة لذلك تميل إلى التغاضي عن التفاصيل الثقافية وتجاهل ظروف استثنائية كثيرة، وعوامل لم تظهر سوى مرة واحدة.
وهكذا يمكن بعد كل هذه الاعتبارات أن نفهم مقولتنا — بأن الأمور تحدث بالطريقة التي تحدث بها لأن الكثير منها يحدث في آن واحد — فهمًا مختلفًا وأكثر شمولًا، ففي آليات الاقتصاد الحقيقي نادرًا ما ينجم الإنتاج عن عامل سببي واحد. وحتى لو حددنا هذا العامل، فمن الواضح أنه يتصرف ضمن محيط واقعي. هناك عوامل أخرى أيضًا، لكننا لا ننسب دورًا سببيًّا إلا لبعض هذه العوامل، لأنها لم تكن لتلعب دورًا كهذا لولا وجود عوامل أخرى في نفس الوقت. إن امتزاج هذه العوامل — وليس حدث واحد بعينه — هو الذي يسبب الحركة.
وتكمن الصعوبة في تحديد هذا المزيج من العوامل كما ينبغي، ومعرفة أجزائه الأساسية. ومن الضروري أيضًا فهم طبيعة المجموعات الأخرى من الظروف التي ربما تربط بينها. وأقول «ربما» لأن هذه الأجزاء يمكن أن تحدث في مجموعات مشتركة أو مستقلة، أي بمعزل بعضها عن بعض.
ومن الضروري — كلما أمكن — تحديد مقدارها وقياسها. وهذا يتطلب إنشاء نماذج رياضية. وما من شك في إمكانية صياغة مثل هذه النماذج، وتحديد المتغيرات، وتقدير معاييرها وقياسها. لكن علينا أن نؤجل شرح ذلك لمناسبة أخرى. ولا أشك في أن هناك علماء سيقبلون على هذه المهمة بشغف.
•••
ترتبط نظرية المصادفة — مثلما هو الحال إلى حد ما مع التاريخ الاقتصادي الحديث أو المؤسساتية الجديدة — ارتباطًا وثيقًا مع الفروع المعرفية الأخرى وتستخدم تحليلاتها وتركيباتها. إن النهج متعدد التخصصات يثري مجال الملاحظة بدرجة كبيرة، ويبرز قيمًا جديدة للتحليل والتجميع، وللتناول الوصفي والمعياري. صحيح أن هذا قد يحد من وضوح الصورة للعين غير المدربة، لكنه يعني أن أولئك الذين سوف يمعنون النظر بانتباه لن يروا أكثر فحسب، بل سيرون الأمور على نحو أكثر وضوحًا، فمن دون التحليل التاريخي من المستحيل إدراك أهمية العوامل الثقافية للتنمية. ومن دون التحليل النفسي من المستحيل استنتاج أي شيء معقول عن التغيرات في طبيعة توقعات الأطراف الفاعلة للعبة الاقتصادية. ومن دون الدراسات الإدارية — فرع حديث لم يتفرع من علم الاقتصاد إلا مؤخرًا — من المستحيل دراسة التمايز الدولي في إنتاجية كلٍّ من رأس المال والأيدي العاملة. ومن دون الإقبال على الدراسات المستقبلية المبتكرة ما من طريقة لتطبيق النظرية الاقتصادية على نحو مبتكر بهدف صياغة المستقبل صياغة مؤثرة.
إن علم الاقتصاد المقارن مكوِّن منهجي ضروري في نظرية المصادفة في التنمية، فمن الممكن تقديم شرح منطقي يبين عدم وجود فارق محدد بين الاقتصاد والشركات، والظواهر والعمليات، أو بين الفئات والمؤسسات، ما دامت لم تخضع للمقارنة. لكن عند المقارنة وكشف التباين، وعلى ضوء هذه الخلفية، سنتمكن من رؤية الصورة الحقيقة للأمور. من لا يقارن لا يفهم؛ فالمقارنة أداة بحثية فائقة القيمة، لأنها تسمح بانتقاء العناصر الهامة — ضمن سلسلة كاملة من الظروف اللازمة للنمو والتنمية — التي تقرر نشوء ظاهرة أو عملية. ومن خلال هذا المنظور المنهجي نتفاجأ مرارًا لدى ملاحظتنا أنه يمكن حل المشكلة الفعلية بتحريك عامل إضافي واحد فقط يكون حيويًّا لمجمل الظروف المتصادفة.
وهذا يرتبط مع خاصية جوهرية أخرى لنظريتنا؛ إنها القدرة على التكيف في محيط معين متعدد الأبعاد. وهذه الأبعاد مادية، وتتنوع بين كونها تاريخية وجغرافية وثقافية ومؤسسية وسياسية واجتماعية وحقائق موضوعية. وقد سبق أن أوضحنا جيدًا أن قدرًا كبيرًا يعتمد على الثقافة، لكن الثقافة نفسها دائمًا تقع ضمن أكثر من بعد واحد. وهذا هو السبب في أن جميع القضايا تقريبًا يجب أن تخضع للنهج السليم عند تناولها، وتعريفها، وتحديد موقعها عند نقطة معينة في هذا الفضاء متعدد الأبعاد. ومن ثم، يصبح من غير الممكن الوقوع — على سبيل المثال — في فخ الفكرة الحمقاء التي تقول إن التغلب على التضخم لا يتطلب إلا قدرًا مناسبًا من تقليل عرض النقود (طبقا للنظرية النقدية ذات البعد الواحد، هذه الظاهرة لا يمكن أن تنطبق على أي شيء سوى النقود)، أو إن كل ما عليك القيام به لتحسين القدرة التنافسية للشركات هو القيام بخصخصتها بأسرع وقت ممكن، وسيقوم السوق ببقية المهمة (ترى مبادئ الكلاسيكية الجديدة أن هذا كاف بصرف النظر عن الخصائص المؤسسية).
وأخيرًا، هناك أمر آخر أكثر أهمية حتى قد لا يكون جديرًا بالذكر لأنه معروف، لولا أن النظريات الأخرى تجعله يختلط علينا، فمن الناحية النظرية، ومن الناحية العملية تحديدًا، من الضروري أن نميز بدقة بين غايات السياسة الاقتصادية وسبلها. هذا التمييز يكون أيسر عندما نتحدث عن النمو والتنمية، فعندما نتحدث على نطاق أوسع عن السياسة الاقتصادية — كما نفعل الآن — نلاحظ أن هناك حالات يجري فيها الخلط بين الوسائل والغايات، أو حتى يجري تشبيه بعضها ببعض. وهذا الخطأ البين هو إصرار الليبرالية الجديدة — دون اعتبار للتكاليف الاجتماعية — على توازن الموازنة (أو على الأقل عدم الوصول إلا إلى أدنى درجة ممكنة من العجز في الموازنة) أو انخفاض معدل التضخم، باعتبارهما غايتي السياسة الاقتصادية، في حين أن كليهما أدوات لتلك السياسة. هناك خطأ مماثل يتمثل في التناول الشعبي للتوسع في عمليات معينة لتحويلات الميزانية بوصفه غاية في حد ذاته، في حين أنه ليس إلا وسيلة للسياسة. وقد ارتُكبت أخطاء لا تُحصى من هذا النوع في مختلف النظم الاقتصادية على مر التاريخ. ومن الجدير أن نتذكر أنه حتى الرأسمالية الكلاسيكية اعتبرت تعظيم الربح غاية أو هدفًا للإنتاج. لكن غاية الاقتصاد الجزئي هذه لم تكن كافية لضمان تحقيق التنمية المتوازنة التي لا بد أن تكون هي الغاية الرئيسية للسياسة الاقتصادية.
وربما نلاحظ أن تطبيق قاعدة التمييز بين الغايات والوسائل أمر صعب للغاية حتى إن بعض نظريات التنمية تعتبر هذه المشكلة مستعصية إلى حد ما، لأن الأكسيولوجيا — أو نظريات القيم — تختلف بعضها عن بعض، والقيم هي الأخرى — ومن ثمَّ الغايات المستمدة منها — قد تختلف أيضًا. وهذا ينطبق أيضًا على القيم التي تقود سياسة التنمية. وإذا افترضنا أن الغاية هي السعادة، فإن التنمية الشاملة والمتوازنة اجتماعيًّا واقتصاديًّا ليست سوى وسيلة لتحقيق هذه الغاية. ومع ذلك إذا اعتبرنا أن التنمية هي الغاية، أو الهدف، فبلا شك سيكون نمو الإنتاج وسيلة أساسية لتحقيقها. لكن إذا اعتبرنا أن النمو هو الهدف، فلا بد أن ينظر لزيادة الإنتاجية باعتبارها وسيلة لتحقيق هذا الهدف. ولا بد أن تكون زيادة الإنتاجية هدفًا للسياسة الصناعية للدولة، أو لإدارة مؤسسة تعمل في أي سوق. وتكمن المهارة في تقدير العلاقات المتبادلة بين كل هذه العناصر، لا سيما على المدى القريب وعلى المدى البعيد، والتوصل للانسجام المناسب في السياسة الاقتصادية وفي إدارة العمل التجاري. إن غاية أي شخص هي في الوقت نفسه وسيلة شخص آخر، وما يعتبر وسيلة ضمن إطار زمني ما قد يعتبر غاية ضمن إطار زمني آخر. ومن ثمَّ يجب ألا يقتصر الحل الواقعي لمشاكل الاختيار التي تنشأ نتيجة لذلك — والتي تكون شديدة التعقيد — على المنطق القائم على التعريفات العلمية لمؤشرات التنمية، بل تُشتق أيضًا من التفضيلات الاجتماعية، وهو ما لا يمكن تحديده إلا عن طريق نقاش عام منظم تنظيمًا جيدًا. ومن الوهم أن نصدق أن السلطات المركزية وحدها يمكنها تقديم الإجابات الصحيحة عن هذه الأسئلة، إنما الوهم الآخر هو القناعة بأن التفاعل العادي الذي يحدث في السوق، والعلامات التي ترد منه، يمكن أن تقدم لنا الإجابة.
يتسم المنهج المميز لنظرية المصادفة في التنمية بأنه ابتداعي. ويمكننا أن نقول إنه ضد التقليدية، لأنه — على عكس سمة الانفراد بالرأي الواحد التي تهيمن على الاقتصاد التقليدي — يؤكد على دور شتى أنواع عوامل النمو، فهناك العديد من الأدراج في الخزانة تحوي هذه العوامل التي تتنوع بين الظروف الطبيعية (المناخ والموارد) والمؤسسية مرورًا بالظروف الثقافية والاجتماعية والسياسية، والتقنية والتكنولوجية، مع التركيز تحديدًا على الظروف المالية والاقتصادية.
تبحث نظرية المصادفة هذه الظروف ضمن الزمان والمكان، أي في مواقع مادية وتاريخية مختلفة، لأننا بتنا ندرك الآن أن العوامل التي تبدو متماثلة تتصرف على نحو مختلف، أو تصرفت على نحو مختلف باختلاف الأماكن والأوقات. هذا التناول يسهل البحث عن أكثر الحالات تشابهًا مع الحالات التي تكون المشكلة الاقتصادية فيها قيد النظر. ومع أنه يتعين غالبًا علينا حل المشكلة الاقتصادية في التو واللحظة، فإن الإلهام بالحل قد يوجد بعدئذ عند مواجهة مشكلة أخرى. وهذا عكس الفكر النموذجي لليبرالية الجديدة الذي يذهب إلى أن «مقاسًا واحدًا يناسب الجميع». كلا، إن مقاسًا واحدًا لا يناسب الجميع، لكن نموذجنا مناسب لنا، ما دمنا نستطيع أن نوفق التفسيرات أو السياسات الصحيحة مع المشكلة التي تناسبها.
- (١)
رفض الدوجماتية الفكرية باعتبارها قيدًا فكريًّا يحد بشدة من قدرة البحث عن إجابات لأسئلة محددة.
- (٢)
رفض الخضوع الأعمى لأي خط أيديولوجي أو سياسي، مع البحث عن الحقيقة المادية دون النظر للحكمة التقليدية، أو إجماع الآراء.
- (٣)
تثبيط محاولات التعميم الرامية إلى تقديم نظرية عامة وعالمية للنمو الاقتصادي، عن طريق التركيز على خصائص وظواهر وعمليات معينة لا تنفصل عن إعادة الإنتاج في الاقتصاد الكلي.
- (٤)
منهج متعدد التخصصات يثري الفكر الاقتصادي بحلول مستمدة من الفروع العلمية الأخرى، لا سيما التاريخ، ودراسات المستقبل، والجغرافيا، والقانون، وعلم الاجتماع، وعلم النفس، وعلم الإدارة، ودراسات شبكة المعلومات.
- (٥)
تطبيق واسع النطاق للأساليب المقارنة للتحليل الاقتصادي.
- (٦)
التحرك ضمن فضاء متعدد الأبعاد يشمل الواقع التاريخي والجغرافي والثقافي والمؤسسي والسياسي والاجتماعي والفكري.
- (٧)
التمييز بين غايات الفعل ووسائله.
- (٨)
مرونة أدائية منفتحة على البحث المتعدد الاتجاهات عن الوسائل المناسبة التي تلائم كل موقف على حدة.
لي تعليق على النقطة الأخيرة. أولًا، ينبغي أن نشدد على ضرورة المنهج البراجماتي باعتباره سمة غالبة تمامًا على نظرية المصادفة في التنمية. وهذا يفسر الحاجة إلى منهج لا يكون متعدد التخصصات فحسب — كما يُفترض أنه بات واضحًا للجميع الآن (وهذا لا يعني إطلاقًا أنه من السهل فهمه وتطبيقه) — بل يمتد أيضًا ليشمل نظريات متنوعة. وما دامت التفسيرات أو الحلول التي تقترحها هذه النظريات لا تتعارض بعضها مع بعض — (كأن تقترح على سبيل المثال رفع سعر الفائدة وتخفيضه في نفس الوقت وفي نفس المكان، أو تحرير التجارة الخارجية مع إخضاعها لإجراءات الحمائية) — ينبغي إذن أن ندمجها معًا، حتى إذا كان مؤيدوها المتعصبون يعارضون ذلك، فمن الممكن جدًّا استعارة عناصر شتى من اقتصادات جانب العرض ودمجها مع العناصر المناسبة في نظرية الطلب الخاصة بالمدرسة الكينزية الجديدة. لاحظ أننا كنا نستطيع القيام بذلك في بولندا حينما كنا نطبق استراتيجية بولندا، لكن ليس إبان تهدئة وتيرة الاقتصاد في السنوات اللاحقة التي كانت قائمة على أساس نماذج نظرية النقدية. وقد تستطيع البلدان الأخرى أيضًا إجراء هذا النوع من التغيير على نحو أفضل، لا لشيء سوى أنها ستفعل ذلك خلال فترة زمنية أطول، كما هو الحال في الصين وماليزيا وتشيلي، ومؤخرًا في البرازيل.
ويمكن أن أضيف هنا أنني عندما كنت أبحث عن أكثر استراتيجيات التنمية ملاءمة لواقع بولندا إبان مرحلة ما بعد الاشتراكية خلال التسعينيات من القرن العشرين، استعنت بطبيعة الحال بالقواعد المعترف بصحتها عالميًّا والمستمدة من الاقتصاد الكلاسيكي الجديد والكينزية الجديدة، لكن ألهمتني أيضًا الخبرات العملية المستخلصة من أماكن بعيدة تمامًا، على الرغم من أنها كانت قريبة للغاية من حيث العامل الزمني، فمن ناحية، كان من المفيد جدًّا النظر إلى التجارب السلبية لمحاولة تنفيذ الإصلاحات الهيكلية وسياسات الاستقرار التي اقترحها «توافق واشنطن» في أمريكا اللاتينية. ومن ناحية أخرى، كان هناك قدر كبير مما يمكن الاستفادة به من الخبرات الإيجابية للاقتصادات المتنامية على نحو سريع في جنوب شرق آسيا، لا سيما الخبرات التي تتعلق بدور الدولة في بناء مؤسسات اقتصاد السوق، وتوجيه السياستين الصناعية والتجارية.
إذن، البراجماتية مطلوبة على نطاق واسع من أجل مضمونها الجوهري لا من أجل أيديولوجيتها. أستطيع أن أتجاسر وأسميها «البراجماتية الجديدة»، نظرًا لأنها يجب أن تقوم على تناول جديد مستمد من الموقفين التحليلي والنظري، فضلًا عن كونها جديدة لأنها تأخذ في الحسبان على نحو شامل الأحوال الاقتصادية الجديدة التي تغيرت واستجدت نتيجة للعولمة. سوف تتضافر نظرية المصادفة الخاصة بالتنمية من ناحية — حالما يجري تفعيلها على نحو كامل — مع طريقة التعامل مع أنواع معينة من التحديات التي تواجه التنمية من ناحية أخرى، من أجل إيجاد درجة فائقة من فعالية العمل البراجماتي لحل العديد من المشاكل؛ لذلك البراجماتية الجديدة هي التحليل الذي يصاحب النظرية، لكنها تتعدى ذلك، لأنها تشكل جوهرًا لأحد مناهج استراتيجية التنمية، والسياسة الاقتصادية.
هناك أيضًا نتيجة منطقية أخرى لطريقة التفكير هذه؛ إنها الحاجة إلى منهج جديد لمسألة تدخل الدولة. لا يمكن أن يتشكل ذلك من التدخل في عمليات الإنتاج، لكن ينبغي بدلًا من ذلك أن يقتصر على معالجة ظروف الإنتاج ببراعة، فور تحديدها؛ لذلك لم أدرج سياسة التدخل الجديدة باعتبارها خاصية منفصلة، فهي تتداخل مع السمات الثمانية المذكورة سابقًا وتعتمد عليها.
لم يعد كافيًا أن يقتصر دور الدولة على الحرص على توازن الاقتصاد الكلي، والتوازن النسبي للموازنة، وانخفاض التضخم، واستقرار العملة. لم يعد كافيًا أيضًا الحرص على رأس المال الاجتماعي والبنية التحتية للدولة (بما في ذلك البيئة الطبيعية)؛ إذ لا بد أن تشارك الدولة في التنظيم الفعال لنشاط الكيانات الاقتصادية، من أجل تخفيف حدة الصراعات التي تنشأ بالضرورة بين هذه الكيانات، والأفضل من ذلك كله، أن تنشئ الدولة أطرًا مؤسسية تحول دون نشوء هذه الصراعات؛ لذلك تتطلب البراجماتية الجديدة تدخلًا جديدًا ذا غايات ووسائل تختلف عن سياسة التدخل الكينزية التي نشأت في أعقاب الكساد الكبير في الفترة من عام ١٩٢٩ إلى عام ١٩٣٣.
لا تعترف البراجماتية الجديدة بالمحظورات الأيديولوجية، ولا تخشى انعدام الصواب السياسي، فعندما كانت السياسة تبالي بشدة لهذه المحظورات تعارضت الدولانية والجماهيرية مع عقلانية الخصخصة في الاقتصاد الجزئي، وهي عقلانية لها ما يبررها. وعندما كانت السياسة تمنح تقديرًا زائدًا لليبرالية الجديدة، أدى الصياح المدفوع بدوافع أيديولوجية والداعي إلى تقليص دور الدولة، إلى زوال بعض التحويلات الاجتماعية التي تقتطع من الميزانية، مما أثر تأثيرًا ضارًّا على نوعية رأس المال الاجتماعي اللازم لتحقيق تنمية متوازنة. وعندما تخضع السياسة للدعوات القومية التي تنادي «بالوطنية الاقتصادية» ينفتح الباب مرة أخرى على مصراعيه أمام سياسة الحمائية التي تعوق النمو. لكن البراجماتية الجديدة ترفض أن تحاصر وسط جدالات عقيمة حول تفوق لون من ألوان الاقتصاد على آخر، ما دام القط ينجح في اصطياد الفئران. هناك فئران كثيرة لا بد من اصطيادها، ويتمثل هذا في صورة مشاكل كبرى وأخرى ثانوية تمامًا جميعها بحاجة إلى حل عاجل.
هذه المشاكل كثيرة في الوقت الحاضر، فمن السهل أن يتشاجر الاقتصاديون، لأنهم كثيرون. وعادة يشهدون أكبر عدد من المشاكل في أوطانهم. وهم يميلون إلى أن يقلل كلٌّ منهم من شأن إنجازات بلده وأن يبالغ في تقدير الصعوبات فيها، وفي نفس الوقت يبالغ في تقدير منجزات بلدان أخرى والتهوين من مشاكلها. وفي النهاية تختلف المشكلات تمامًا في تشاد والنرويج، كندا ومصر، إريتريا والبرتغال. والحواجز التي تعرقل النمو في المجر تختلف عن تلك التي تعرقل النمو في جورجيا، وقد تختلف المشكلة الرئيسية في فرنسا تمامًا عنها في الولايات المتحدة. وعندما لا يدرك الناس هذا الأمر يلجئون في بعض الأحيان إلى إرسال المستشارين والخبراء إلى البلدان الخطأ التي لا تتناسب مشورتها مع مشكلاتهم الوطنية. إذا سلم مكتب البريد العديد من الرسائل إلى العناوين الخاطئة فستعد هذه فضيحة.
لكن الذين يبعثون المستشارين إلى بلدان أخرى هم السياسيون ورجال الأعمال انطلاقًا من الحرص على المصلحة الشخصية، لا على تطبيق نظرية بعينها. وتتأرجح بعض هذه المصالح على جانبي الخط الفاصل بين التمويل المنظم والجريمة المنظمة. في مطلع تسعينيات القرن العشرين كان هناك مبعوثون غربيون لا يستطيعون التمييز بين بوخارست وبودابست أو بين لاتفيا وليتوانيا، لكنهم كانوا يعرفون من أين تؤكل الكتف. وحتى اليوم لا يزال بعضهم يخلط بين دول البلقان ودول البلطيق، وبين الفرس والعرب، أو بين الهند والصين، وبين الهند والصين والهند الصينية.
بكل جدية ينبغي أن نكون واقعيين ودقيقين. والغرض الوحيد من وراء تجميع التعقيدات الفكرية هو أن نكون قادرين بعد ذلك على اكتشافها والتخلص منها قدر الإمكان، مما يؤدي إلى ظهور اقتراحات معقولة، فنظرية المصادفة لا يمكن فهمها وتفسيرها من خلال التبسيط السطحي. بل علينا أن نواصل استخدام مختلف الأدوات اللازمة لدراسة مختلف الحالات، فعندما نعود للنظر مرة أخرى إلى ما يبدو وكأنه نفس الأمر، نرى أحيانًا أشياء مختلفة. وعندما نعود للقياس مرة أخرى باستخدام نفس المقياس نصل أحيانًا إلى نتيجة مختلفة، فاستخدام نفس الوسيلة في كل مرة يسفر بالضرورة عن موضوعات مختلفة، وأبعاد مختلفة، وإجابات مختلفة أيضًا.
احتاجت كلٌّ من تشيكوسلوفاكيا التي يسودها التأميم بدرجة كبيرة وبريطانيا المتطورة تطورًا كبيرًا إلى أساليب خصخصة مختلفة تمامًا بعضها عن بعض. وخطة خصخصة أحد البنوك في بلغاريا — حيث البنوك مملوكة للدولة بنسبة ١٠٠٪ — كانت مختلفة عن خطة الخصخصة في بيرو ذات الاقتصاد المختلط. واختلاف الظروف الثقافية والطبيعية أدى إلى تباين شكل التصنيع في كلٍّ من موريتانيا ونيكاراجوا.
أن تستفيد من عجز الموازنة في زيادة الاستثمار في التقدم التكنولوجي شيء، وأن تستخدم نفس هذا العجز في استيراد المعدات العسكرية شيء آخر. وينبغي أن يختلف رد فعلك في مواجهة موجة من الجفاف تؤدي إلى انخفاض إنتاجية المحاصيل التي تسفر بدورها عن قلة المعروض من المواد الغذائية مما يؤدي إلى ارتفاع مؤشر أسعار السلع الاستهلاكية، عن رد فعلك عندما يحدث ارتفاع مساوٍ للأسعار الاستهلاكية، لكنه هذه المرة ناتج عن ارتفاع الأجور بمعدل أسرع من معدل سرعة نمو الإنتاجية. فما يجدي نفعًا في أسواق الأوراق المالية المتطورة لاقتصادات الرأسمالية، لا يجدي نفعًا في الأسواق الناشئة نتيجة لأسباب مؤسسية. وتحرير الوصول إلى أسواقك المحلية عندما يكون شركاؤك على الساحة العالمية يفعلون الشيء نفسه يختلف عن فعل ذلك عندما يبدأ شركاؤك في الشعور بالرغبة في تطبيق سياسة الحمائية. وبدلًا من التدابير التي فرضها صندوق النقد الدولي على إندونيسيا في أواخر التسعينيات من القرن العشرين، كان ينبغي أن يلاحظ أن الميزانية كانت متوازنة، وبالتالي يدرك أن إنفاق الحكومة لم يكن هو المتسبب في اضطراب ميزان المدفوعات. أحيانًا يكون إغفال أحد عوامل المزيج كافيًا جدًّا لإبطال فعالية العلاج المقترح. وفي بعض الأحيان يكون العلاج هو العلاج الصحيح، لكنه يقدم لعلاج المرض الخطأ. البراجماتيون متفوقون على الممارسين العقائديين في تجنب مثل هذه الزلات.
وينبغي استخدام الأدوات المتاحة في السياسة الاقتصادية باعتدال وعلى نحو انتقائي. وتمتد هذه الملاحظة البسيطة وتنطبق على إدارة العمليات الاقتصادية على جميع مستوياتها، وأهمها المستوى الوطني حيث تؤثر القرارات على اقتصاد البلد كله. مع ذلك لا بد من التزام الحرص أيضًا على كلا المستويات العليا والدنيا. وتتمثل المستويات الدنيا في المستويين المحلي والحكومة المحلية، وتتمثل المستويات العليا في المنظمات التكاملية على مستوى الدول، وعلى الصعيد العالمي ككل. هناك حاجة إلى تنظيم مؤسسي مناسب لاقتصاد العالم. ونظرًا للبعد العالمي للاقتصاد الآن، تتطلب البراجماتية الجديدة نظامًا جديدًا من وضع الأنظمة يكون قادرًا على مواجهة تحديات التنمية. ويجب أن تلبي هذه الحلول الحاجات الفعلية العاجلة، لا أن تكون مجرد اختيار عشوائي من ترسانة التسويات التي وضعها بيروقراطيو المنظمات الدولية القديمة في الأزمنة المنصرمة.
لقد بات الاستخدام المرن للأدوات الاقتصادية من أجل حل مشاكل معينة أمرًا في غاية الأهمية، لأن ما لدينا من هذه الأدوات قليل جدًّا في الوقت الحاضر، في حين استجدت مشاكل لا نهاية لها. وعملية تحرير العلاقات الاقتصادية في الوقت الحاضر، والانفتاح المتبادل بين الاقتصادات الوطنية عن طريق زيادة مستويات التجارة والاستثمار، وتحقيق لامركزية الدولة، وازدهار القطاع الخاص، وانكماش القطاع العام؛ كل هذه تغييرات هيكلية منشودة إلى حد بعيد. وهي بالضرورة تشجع النمو والتنمية على المدى الطويل، وإن لم يكن بالقدر نفسه. وبعضها يحفز نمو الإنتاج، لكنه لا يحفز التنمية بالضرورة (أو تلقائيًّا). لكن النمو الكمي في الإنتاج والناجم عن هذه التغييرات من شأنه أن يؤدي إلى ارتفاعات في مستويات تفاوت الدخل — المرتفعة بالفعل الآن — أو إلى الإضرار بالبيئة الطبيعية.
وقد يتشجع أحد الاقتصاديين بفضل العدد القليل نسبيًّا من الأدوات المتاحة أمامه عند تنفيذ سياسة اقتصادية (في هذه الحالة قد تتسبب الحكومة بتدخلها الأخرق في ضرر أقل)، ويتخوف آخر من أنه ليس هناك إلا القليل جدًّا من هذه الأدوات (مع إن الحكومة قد تصلح أمورًا أكثر إذا توافرت لديها هذه الأدوات). يرى النهج البراجماتي أن محتوى صندوق أدوات السياسة ليس ثابتًا في كل الأوقات؛ إذ ينبغي التخلص من بعض هذه الأدوات، واستحداث أدوات أخرى. لا يهم كثرة هذه الأدوات أو قلتها؛ المهم أن تكون صالحة وملائمة لحل المشكلة؛ فمن ناحية رفضنا تمامًا مشاركة الدولة المباشرة في عمليات الإنتاج أو التحكم في الأسعار. ومن ناحية أخرى يزداد لجوءنا إلى الشراكة بين القطاع العام والخاص من أجل تنفيذ مشروعات البنية التحتية أو لتوفير خدمات معينة (المستشفيات والسجون مثلًا). لكن هذه الشراكة هي أفضل الأمثلة التي تعبر عن البراجماتية، نظرًا لأنها تساعد في حل المشاكل من دون إهدار الوقت في المناقشات العقيمة (مثلما لا يزال ذلك يحدث في بعض البلدان) حول ما إذا كان ينبغي تصنيع سلعة ما أو ما إذا كان ينبغي تقديم خدمة ما من قبل القطاع العام أم القطاع الخاص، من قبل الحكومة أم رجال الأعمال. إننا بحاجة إلى طرح بعض الأدوات جانبًا، ونستبدل بها أدوات أخرى أكثر ملاءمة.
وفي جميع الحالات التي تتضمن عوائق تحول دون تحقيق النمو الاقتصادي أو التي تتضمن ظروفًا تدعمه، يفرض النهج البراجماتي فحص الظروف المادية التي يتعين اتخاذ إجراء ما في ظلها. ولأننا نعرف أن المفتاح يكمن في المزج السليم بين العوامل كلها علينا محاولة توفير أي عنصر ناقص. أحيانًا نكون في حاجة لعدد قليل من العناصر لاستكمال هذا المزيج، لكن في أحيان أخرى لا نكون في حاجة إلا لعنصر واحد فقط للوصول إلى الكتلة الحرجة التي تحفز تحقيق الهدف المنشود.
تتجمع الظروف التي تعنينا بعضها مع بعض بطرق مختلفة، فوفقًا لاقتصاد السوق عادة تتجمع هذه الظروف على نحو مستقل وعفوي دون تدخل من أحد. وإذا تركناها على هذا الحال فسنشهد ذلك النوع من الفوضى الذي يصب في بعض الأحيان في مصلحة التنمية. لكن هناك حالات أخرى تتحول الفوضى فيها إلى ارتباك يعوق توسع الاقتصاد بتوجيه ضربة قاضية لتوازنه، أو باعتراض سبيل نشوء الظروف التي لا يمكن من دونها أن تتحرك السلسلة المطلوبة من المسببات والنتائج؛ لذلك من الضروري إجراء تدخلات انتقائية في تركيبة المزيج بما يساعد في استحداث أو تنشيط عامل ما لن يظهر من تلقاء نفسه.
•••
- (١)
الاستثمار.
- (٢)
الصادرات.
- (٣)
الناتج المحلي الإجمالي.
- (٤)
الاستهلاك من الدخل الشخصي (الذي يعرف بالاستهلاك الفردي).
- (٥)
إنتاجية العمالة.
- (٦)
مصادر ميزانية الدولة.
- (٧)
الاستهلاك الممول من الأموال العامة (الذي يعرف باسم الاستهلاك الجماعي).
- (٨)
نفقات الميزانية.
تتألف «السلسلة الذهبية» من معدلات النمو في هذه الفئات، متدرجة حسب ترتيب إدراجها في القائمة السابقة من الفئة الأولى إلى الأخيرة. ومن ثم، تكون أعلى نسبة نمو هي تلك التي تتحقق في مجال الاستثمار، يليها النمو في الصادرات (والواردات التي تمولها)، ووصولًا إلى النمو في كلٍّ من الاستهلاك الجماعي ونفقات الميزانية؛ إذ تنمو جميع هذه الفئات على مدى فترة تقدر بالسنوات، لكن بمقادير مختلفة. ومن ثم تتغير معدلات الاقتصاد ككل، إلا أنه في حالة «السلسلة الذهبية»، يكون هذا التغير خاضعًا لمصالح اجتماعية شاملة ووفق حتمية تحقيق تنمية متوازنة طويلة الأجل.
تشير «السلسلة الذهبية» إلى حدوث تحسن في فعالية الاقتصاد، وهو ما يظهر من خلال زيادة إنتاجية العمالة وارتفاع مستوى المعيشة. وهذا ينعكس في شكل زيادة في الاستهلاك، وفي تمويل ميزانية الدولة المخصصة للاستثمار في رأس المال البشري. وتشير أيضًا إلى إرساء أسس راسخة لتحقيق النمو الاقتصادي في المستقبل، وهذا يظهر من خلال نمو الاستثمار واختراق الأسواق الخارجية عن طريق زيادة الصادرات. إن ترتيب معدلات النمو على هذا النحو يساهم مساهمة إضافية في تحسين ظروف عمل المؤسسات، نتيجة لتقلص نطاق السياسات الضريبية، وهذا يرتبط أيضًا بانخفاض إعادة توزيع الميزانية، وبزيادة بنية النفقات العامة الحافزة للتنمية.
«السلسلة الذهبية» ظاهرة نادرة الحدوث في عمليات التنمية الواقعية، فالاقتراب من هذا الترتيب لمعايير الاقتصاد الكلي لا يحدث إلا لفترات قصيرة، لا سيما في أوقات الازدهار، وفي الدول التي تتميز بدرجة عالية من التلاحم الاجتماعي وبمستوى عالٍ من الثقافة السياسية. وهذا يظهر في أوضح صوره في دول الشمال الأوروبي. ويمكن ملاحظة بعض هذه المظاهر في دول أخرى تحاول تطبيق نظام اقتصاد السوق الاجتماعي. لكن هناك حالة فريدة تتمثل في بولندا التي انتهجت أسلوب «السلسلة الذهبية» عدة سنوات خلال فترة تطبيق استراتيجية بولندا في أعقاب إجراء تغييرات مهمة في معايير الاقتصاد الكلي، وإجراء تحول مؤسسي داعم للتنمية في عام ١٩٩٤. أعقب ذلك زيادة ملحوظة في معدل نمو الإنتاج، واتسمت الفترة من ١٩٩٥ إلى ١٩٩٧ بنمو ديناميكي متوازن على طول «السلسلة الذهبية»؛ إذ نمت الاستثمارات بنسبة ١٩٫٣٪ والصادرات ١٧٫٠٪ بمعدل يفوق نمو الناتج المحلي الإجمالي ٦٫٨٪ في المتوسط. في حين كان استهلاك الفرد وإنتاجية العمالة أقل بطئًا؛ ٦٫٧٪ و٤٫٧٪ على التوالي. وبلغ النمو في إيرادات الميزانية ٢٫٦٪ وفي الاستهلاك الجماعي ٢٫٧٪ بمعدلات مماثلة، في حين كانت نفقات الميزانية ١٫٢٪ الأقل بين كل هذه النسب.
يزداد معدل نمو الاستهلاك الفردي عن معدل نمو إنتاجية العمالة عندما تتوافر فرص عمل جديدة. وفي مثل هذه الأوقات فإن النمو في استهلاك الفرد — ممولًا من الدخل الشخصي — يكون ناجمًا إلى حد ما عن نمو النفقات الناتج عن نمو دخل الأسرة بفضل تغير الحالة الوظيفية للأفراد. وهذا يحدث لأن أحد أفراد الأسرة المتعطلين عن العمل وجد عملًا يدر عليه راتبًا. لكن في حالات أخرى يكون المبدأ الذي يدعو إلى أن تكون زيادة نمو إنتاجية العمالة أعلى من نمو الاستهلاك الفردي على حق، ففي الوقت الذي زاد فيه معدل التوظيف بمقدار ٦٫٤٪ أثناء فترة الأربع سنوات من ١٩٩٤ حتى عام ١٩٩٧ ضمنًا، كان نموه أثناء الفترة من عام ١٩٩٥ حتى عام ١٩٩٧ بمعدل سنوي بلغ ٢٫٣٪ فقط في المتوسط. وهذا يفسر تمامًا السبب في أن معدل النمو في الاستهلاك الممول من صافي دخل الأسرة القابل للتصرف كان أعلى من معدل النمو في إنتاجية العمالة. أما في حالة الاستقرار النسبي في مستوى التوظيف فتكون الأمور على العكس من ذلك تمامًا.
تتطلب التنمية دائمًا نوعًا من الحافز، كي تصل إلى مرحلة الكتلة الحرجة اللازمة لتحريك العمليات المنشودة. وعلى الرغم مما تزعمه النظريات التبسيطية، فليس هناك أي «حجر سحري»، وهو مفهوم يلائم الكيميائيين أكثر مما يلائم خبراء الاقتصاد. وإن كان هناك أي نوع من «السحر»، فهو يكمن في أسلوب التفكير في مزيج العوامل المختلفة المتعلقة بظروف مختلفة.
واعتمادًا على ظروف بعينها قد يتضح أن أي مجموعة من بين عدد كبير من الأدوات المتاحة لدينا هي المجموعة التي تعطينا مزيج العوامل اللازم لحفز العملية. وهذا يختلف من اقتصاد لآخر تبعًا لاختلاف المرحلة. وقد يبدو في بعض الأحيان أن للحظ دورًا في هذا، لكن التاريخ لا يعترف بالدور الذي يلعبه الحظ في مثل هذه المسائل الهامة، ففي نهاية المطاف يتعلق الأمر بالاختيار المدروس.
في إحدى الحالات ربما يكون تغيير طبيعة نظام ما هو العامل الحافز في عملية التنمية، فهو يحفز — أو ببساطة يحرر — إمكانات البشر أو الطبيعة أو الموارد الحقيقية. وفي حالة أخرى ربما يكون العامل الحافز هو سياسة الاقتصاد الكلي. وربما يتعلق الأمر بتكريس قدر كبير من الجهد لتشكيل الخصائص الثقافية المنشودة، مثل زيادة روح المبادرة التجارية، أو الحد من النفور من المخاطرة. وقد يتبين أن تدريب الإدارة هو ما يحدث الفرق، أو زيادة تمويل البحوث والتطوير، أو الإسكان المدعوم من الحكومة. وربما يكون الوصول للمزيج الصحيح عن طريق تخفيض معدلات الضرائب أو أسعار الفائدة. وربما ينبغي تخفيض التعريفات الجمركية على الواردات بالتزامن مع استغلال الأدوات النقدية للحيلولة دون تدهور قيمة العملة المحلية. ذاك هو حال الطب أيضًا، إذ تتطلب الحالات المختلفة علاجات مختلفة؛ ليست مختلفة اختلافًا جذريًّا، لكنها ليست متطابقة. ولا يدرك الكثير من الناس أنه في مجال الاقتصاد يكون التشخيص أكثر تنوعًا بكثير، وبالتالي يكون العلاج أصعب بكثير.
والبراجماتية الجديدة لا تنفر مطلقًا من سياسة التدخل المستنير للدولة، ففي السابق كان هناك مفهوم: دع ما لله لله وما لقيصر لقيصر. كان هذا بغرض الحفاظ على السِّلْم (وكان يمكن أن يكون هذا بغرض التنمية أيضًا، لكن هذه الأزمنة كانت تتسم بالركود). ويكمن نفس هذا التفكير وراء القبول بحتمية تدخل الدولة في الوقت الحاضر. أي دع ما للسوق للسوق، وما للجمهور ﻟ…؛ حسنًا، ذاك هو السؤال، دع ما للجمهور لمن؟ في الوقت الحاضر لا يكفي التدخل الذي يقتصر على الصعيد الوطني؛ فهو تدخل ناقص في زمن العولمة المتقدمة، نظرًا لأن هناك حاجة أيضًا للتدخل في عمل الكيانات الممتدة بين الدول وطريقة أداء الأطراف الدولية المشاركة في اللعبة الاقتصادية.
وعلى الرغم من التاريخ الذي يتفاوت بين الإنجازات والإخفاقات، فلا بد من تطبيق سياسة تدخل الدولة في المستقبل، وهذا يُعزَى تحديدًا لكون التاريخ مزيجًا بين النجاح والإخفاق. فقد كانت هناك فترات نجح فيها تدخل الدولة. وسوف ينجح نظام التدخل المستنير للدولة في الاختبار إذا جرى استخدامه على نحو براجماتي لا أيديولوجي، ولأغراض اقتصادية لا سياسية. ويجب أن يؤسس هذا التدخل على إدراك سليم لنظرية المصادفة في التنمية. ولا يمكن التدخل في الآلية الاجتماعية لإعادة الإنتاج في الاقتصاد الكلي إلا على نحو انتقائي ودقيق للغاية. و«انتقائي» تعني اختيار العناصر التي تحفز التنمية فقط والتي تحتاج إلى التدخل لكي تعمل من تلقاء نفسها. و«دقيق» تعني على نحو محدد للغاية، لا عشوائي، وهذا لتحاشي الآثار الجانبية السلبية التي لا يمكن التحكم فيها. في الواقع يمكن لكل واحدة من الأدوات التي في حوزتنا أن تعطي نتائج مختلفة، بما فيها النتائج غير المرغوب فيها. ويتضمن فن استخدام أدوات التدخل المحلية والإقليمية والعالمية فعل ذلك على نحو يُحدث الظواهر والعمليات المرغوبة، مع تحاشي غير المرغوب فيها. وعندما يستحيل هذا يجب على الأقل الحفاظ على التأثيرات غير المرغوب فيها عند أدنى حد ممكن.
البراجماتية الجديدة نظام تقدمي موجَّه نحو المضي قدمًا. وعلى الرغم من أن الماضي يسهم بدور كبير في إحراز التقدم، فإن التوجه الأساسي الآن نحو المستقبل. في السابق حُسم السؤال الخاص بمن يستطيع قيادة عملية التنمية التاريخية بالقدرة على إجراء التحول من التقدم التكنولوجي المدفوع في بعض الأحيان باكتشافات وليدة الصدفة، إلى التقدم المدفوع بالبحوث المنهجية القائمة على أسس نظرية متينة. وفي المستقبل — الذي بدأ بالفعل — لن يكون أولئك الذين يعيشون في الماضي القريب أو البعيد (بعض بلدان ما بعد الاشتراكية أو البلدان العربية على التوالي) هم من يأخذون زمام القيادة، بل أولئك القادرون على صياغة واقع قائم على أساس رؤية مستقبلية؛ فامتلاك رؤية قائمة على أساس علمي هي السبيل لتحقيق ذلك.
في الآليات الاجتماعية والاقتصادية الواقعية، التفاعل بين الماضي والمستقبل هو الذي يحدد شكل الحاضر. فحتى الآن ما زال الماضي يؤثر في حياتنا، ويحدد ما يجري من حولنا، لكن من الآن فصاعدًا، الرؤية الواقعية للمستقبل هي التي ستحدد على نحو متزايد شكل العالم الذي نعيش فيه. وهذا صحيح بالفعل إلى حد بعيد — كما نراه في فنلندا أكثر من بولندا، وفي أمريكا الشمالية أكثر من أمريكا الجنوبية — والأهم من ذلك أنه يحدث نتيجة لاعتبارات ثقافية.
ويكمن جوهر هذه المسألة في الطريقة التي تؤثر بها الرؤى والخطط المستقبلية الطموحة (إذا تمنينا تحقيق التنمية، ينبغي أن تكون خططنا لتحقيقها طموحة) على شكل المؤسسات التي تقام، والسياسة التي يجري انتهاجها في الوقت الراهن. في بعض الأحيان يكون هذا في أمور بسيطة عادية؛ كتحديد أسعار الفائدة على أساس التوقعات المستقبلية للأعمال التجارية لا على أساس محاكاة اتجاهات الماضي. وفي بعض الأحيان يكون في أمور عميقة؛ كبناء التعليم الجامعي على أساس تقدير حاجات المستقبل، لا على أساس الأعراف الاجتماعية القديمة، ولو حتى الأفضل منها.
أذكر أنني كنت مسافرًا إلى بوخارست عام ١٩٩٧ لإلقاء محاضرة عن التنمية في مؤتمر نظمته مجلة «إنترناشونال هيرالد تريبيون» للمستثمرين الدوليين (أو «الأجانب» كما كان يُطلق عليهم وقتئذ). شرَّف الرئيس الروماني إميل كونستانتينسكو هذا الجمع بحضوره، وشجع الحاضرين على النظر في إمكانية الاستثمار في بلاده لأسباب من بينها موقعها المميز للغاية؛ فهي تقع عند تقاطع طريق الحرير وطريق العنبر. وقد تستفيد أي دولة من هذه الميزة باعتبارها عامل جذب سياحي، والسياحة فرصة عظيمة لتنمية بعض المناطق التي لا تملك أي مميزات أخرى تخوض بها المنافسة. الآن هو الوقت المناسب لبناء القدرة التنافسية عن طريق تحويل الحاضر إلى مستقبل، بدلًا من الانشغال بالماضي. ولو كان الأمر عكس ذلك لكان الشرق الأوسط أكثر جذبًا للمستثمرين من أمريكا الشمالية.
وينبغي أن تكون الثمار التي يحملها النموذج الذي أقترحه — الذي يتحول من التركيز على المسببات إلى التركيز على المصادفات بين العوامل، وبناء استراتيجيات وسياسات تنموية فردية من خلال المعالجة البارعة لعنصر المصادفة بأقصى قدر ممكن — مادية وفكرية أيضًا. فالنموذج الجديد يفتح مجالات جديدة للملاحظة والتحليل، لكن الأهم من ذلك أنه يحدد نهجًا جديدًا للممارسة الاقتصادية في عصر تسوده العولمة وفي ظل الدور المتنامي للعوامل المعنوية الخاصة بعملية التنمية، لا سيما المعرفة أو الثقافة بوجه عام.
هناك بعض أوجه التشابه بين الاقتصاد والتكنولوجيا؛ عليك أن تستثمر في أشياء سوف تؤتي ثمارها في وقت لاحق. وأحيانًا يكون عليك أن تنتظر. وفي أثناء انتظارك عليك أن تواصل الكفاح لإثبات أنك كنت على حق، فقد امتلك جيمس وات بالفعل محركًا يعمل بالبخار قبل صدور كتاب آدم سميث «ثروة الأمم»، ومع ذلك كان عليه أن ينتظر وقتًا طويلًا قبل أن يشهد بدء الثورة الصناعية التي غيرت وجه العالم. لكن وات لم يجلس وينتظر فحسب؛ فمن المستحيل أن تنجز أي شيء بهذه الطريقة.
يجب أن تكون هناك جماعة ضغط مؤيدة للنمو من أجل مكافحة الركود والدفع نحو إحراز التنمية، لكن هذا النوع من جماعات المصالح لا يزال نادرًا. وجماعة الضغط التي تضم الليبراليين الجدد ورفاقهم الأيديولوجيين تسعى بالطبع لتحقيق النمو، على أن يكون نموًّا جزئيًّا وحسب، يعود بالفوائد على فئات محدودة على حساب عامة الناس. وفي البلدان ذات الثقافة الاقتصادية المتقدمة، والمؤسسات القوية، والديمقراطيات المزدهرة، تتوحد جهود جمعيات المستثمرين المحليين والمصنعين والممولين في بعض الأحيان لتحقيق النمو. لكن في معظم الحالات عادة تتوحد جهود كل هؤلاء لكن من أجل المصلحة الخاصة، حتى وهم يحاولون تمريرها باعتبارها من سياسات الاقتصاد الكلي وتهدف لتحقيق الصالح العام. وغالبًا تتحدث جماعات الضغط الأجنبية عن الاستثمار الضروري للنمو، لكن حرصهم الدائم ينصب على قيمة ممتلكاتهم الخاصة، لا على مستوى الإنتاج والرخاء في البلدان التي يستثمرون فيها. إن البيروقراطية الحكومية لا تستطيع على الإطلاق أن تتصرف كجماعة ضغط، لأن كل ما تريده هو أن تُترك في سلام، وهذا يعني أنها ضد التغيير الذي يشكل أساس تحقيق التنمية.
وجود جماعات الضغط أمر حتمي. ولا يمكن أن تقتصر على أي مجموعة اجتماعية مهنية وحدها، أو حتى على الرأسماليين المستنيرين (الذين يحبون أن يطلقوا على أنفسهم «أرباب العمل»، حتى في البلدان التي ترتفع فيها معدلات البطالة، أو تعاني عجزًا في التوظيف)، على الرغم من ضرورة أن يكون هؤلاء جزءًا من أي جماعة ضغط من هذا القبيل. ويجب أن تكون جماعة الضغط هذه متنوعة تمتد للكيانات والطبقات الاجتماعية التقليدية، وتضم الممارسين وأصحاب النظريات، الساسة والأكاديميين، الاقتصاديين والمحامين، وعددًا أكبر من أولئك الشباب الذين يتطلعون نحو المستقبل على نحو يفوق تطلع أولئك الأكبر سنًّا والمثقلين بأعباء الماضي. وبالطبع يجب أن يكونوا أكثر حرصًا على النمو الاقتصادي والتنمية من حرصهم على نمو ثرواتهم الخاصة. ومع أن الأمر الثاني يمكن أن ينجم عن الأول، فإنه لا بد من التمسك بالأولويات.
وجود جماعة ضغط تحفز النمو أمر جدير بالسعي نحو تحقيقه. المشكلة هي أن الذين يحتمل أن يشكلوا أعضاء هذه الجماعة يعملون في اتجاهات مختلفة غالبًا. وبذلك، يضيع الجهد الذي كان من الممكن أن يبذل في تشارك المفاهيم وتضافر القوى لتحقيق النمو، ويتبدد في خلافات ونزاعات سياسية. ويروق لوسائل الإعلام — التي يُفترض بها في أي عالم مثالي أن تكون ساحة نقاش لجماعة ضغط كهذه — تغطية هذه الخلافات. يمر الوقت، في حين يتحرك الاقتصاد ببطء شديد، وتظل المشاكل الملحة دون علاج.
من الواضح أن توقعات استخدام نظرية المصادفة في التنمية استخدامًا غير أيديولوجي وغير سياسي إنما هي توقعات ساذجة، فهذا لا يمكن أن يحدث إلا في المستقبل الذي سيكون قد تطهر من المجادلات الفكرية الكبرى، وهذا سيشكل خسارة كبيرة، ومن الصراعات السياسية والأيديولوجية التي لن تشكل خسارة بنفس القدر. سوف تتحقق هذه الأمور بعد المستقبل الذي يمكن التنبؤ به، مع أننا نستطيع أن نتمنى مستقبلًا أكثر سلامًا وأقل دموية من الماضي. إن التاريخ يعلمنا أن النظريات تُفسر بطرق مختلفة، وغالبًا يكون تفسيرها بعيدًا كل البعد عن نوايا من وضعوا هذه النظريات. صحيح أن الحقائق مهمة، لكن الكلمات التي تستخدم للتعبير عنها مهمة أيضًا. والأفكار الصحيحة جديرة بأن ندافع عنها بنفس قدر الحماس الذي يُروج به للأفكار الخاطئة. إن أيًّا من هذا لن يتغير في المستقبل، لأنه ما من طريقة للقضاء على الصراعات السياسية والاقتصادية. وربما يهدئ النهج الذي أدعو إليه من حدة هذه النزاعات ويشجع ظهور حلول دولية، لكنه غير قادر على القضاء عليها تمامًا، فهذا لا يمكن أن يحدث إلا في المدينة الفاضلة «اليوتوبيا»، وسنظل نرى نماذج جديدة لليوتوبيا، مثل «الاقتصاد الجديد» القائم على شبكة الإنترنت، ناهيك عن اشتراكية أمريكا اللاتينية في القرن الحادي والعشرين، أو النماذج التي يروج لها الباباوات والتي تصور عالمًا بلا صراعات. بالطبع يمكننا أن ندعو من أجل حدوث شيء من هذا القبيل، لكننا يجب ألا نتوقع تحققه.
من الواضح أيضًا أن البراجماتية الجديدة — بوصفها وسيلة لتحقيق تنمية طويلة الأجل ومتوازنة اقتصاديًّا واجتماعيًّا وبيئيًّا — لن تكون بمنأى عن المغريات الأيديولوجية والسياسية، فقد بدأ عدد لا بأس به من مدارس الفكر الاقتصادي رحلته بهدف تشكيل الواقع الذي يتضمن نمو الإنتاج، لكن بعد ذلك أسيء استغلالها فكريًّا، واستخدمتها السياسة وسيلة لتحقيق أغراض غالبًا تكون على العكس تمامًا مما كان يرمي إليه مؤسسو هذه المدارس الفكرية. وميزة البراجماتية الجديدة أنها واسعة النطاق للغاية بحيث يمكنها أن تعمل لتحقيق تنمية متوازنة في ظل ظروف متنوعة، وفي نفس الوقت، أن تقاوم محاولات استخدامها بطرق سبق أن أعلنا رفضها صراحة من خلال ما تقدم ذكره في هذا الكتاب.
ربما تزعم الأصولية الليبرالية ورد الفعل الجماهيري تجاهها أنهما نهجان عقلانيان وعمليان. وقد يكون هذا صحيحًا، لكن عقلانيتهما ليست من النوع الشامل أو البراجماتي الذي يأخذ في الاعتبار ظروف اقتصاد العولمة القائم بدرجة كبيرة على المعرفة. لكنها بالأحرى عقلانية مجموعة (يسميها الماركسيون عقلانية طبقة) تعمل من أجل تحقيق مصالح معينة. وهذه خصائص لا تتناسب مع الفئات التي تشكل أساس نظرية المصادفة في التنمية والبراجماتية الجديدة.
ومن الواضح أن القرن الحادي والعشرين والقرون التالية لن تجلب السلام للبشرية، أو تجنبنا الصراعات الأيديولوجية والسياسية. لقد تلاشت بالفعل بعض الصراعات والمشاكل القديمة التي صارت من الماضي — على الرغم من أننا لا نزال نتذكرها — ولا تزال أخرى في غفوة تنتظر النهوض والعودة إلى الساحة من جديد، بما فيها حتى الصراعات الجديرة بالازدراء، مثل العنصرية والتعصب الثقافي. وهناك أيضًا مشاكل أخرى لم تظهر بعد.
لن يقل تأثير هذه الصراعات على المستقبل عن التطلع إلى عقلانية شاملة تميز العلم الحقيقي والجانب التقدمي من المجتمع العالمي. إننا نود بالطبع أن يكون هذا المستقبل هادئًا ومبهجًا مثلما كان الريف في السابق، لكنه لن يكون كذلك. علينا أن نواصل التحرك، لأننا لا نستطيع أن نقف مكتوفي الأيدي، ونأمل فقط ألا نضل الطريق.
ليست هناك معجزات، لكن أحيانًا تكون هناك صدف سعيدة.