الفقر السعيد
نشأتُ في أسرة تحت المتوسطة وفوق الفقيرة؛ فعشت لا فقيرًا ولا غنيًّا، ولكني كنت للفقر أقرب.
كان والدي شاويشًا في الجيش المصري في «فرقة البيادة» أي الفرقة العسكرية الموسيقية التي تتقدم صفوف الجيش، وكان يلعب «الترمبون» وهي آلة نفخ طويلة، تتغير نغماتها بضم المنفاخ نحو الفم أو إبعاده عنه.
كان مرتبه أقل من عشرة جنيهات شهريًّا، ونحن أسرةٌ مكونة من تسعة أفراد: الأب والأم، وولدان، وخمس بنات. وكانت والدتي تطلب منه أن يعزف بعد الظهر في فرقٍ خاصة في الأفراح والملاهي الليلية أسوةً بزملائه؛ كي يزداد دخلنا، وكان يرفض؛ لأن ذلك عيب لا يليق بموسيقي الجيش، ولا يستطيع أن يأخذ العدة الموسيقية من المعسكر إلى المنزل ثم يعيدها في الصباح، واغتنى زملاؤه من العزف ليلًا بآلات الجيش ليزداد دخلهم، إلا والدي الذي فضَّل أن يكون فقيرًا مكتفيًا بمرتبه على أن يترك أسرته صباحًا ومساءً.
وُلد والدي ووالدتي في بني سويف، وكان جدي والد الوالد تاجر دقيق، وله محلٌّ بجوار محطة القطار، ما زال موجودًا حتى الآن، ساعدتْه في العمل زوجته الثانية النشطة بعد وفاة زوجته الأولى، وكان الحاج حسنين جدي أحمر الوجه، وليس أسمرَ كباقي سكان المحافظة، فلما سألته عن السبب قال لأنه نازح من الأندلس بعد خروج العرب منها، فاستقر في المغرب العربي، ثم نزح إلى مصر وهو في طريقه إلى الحج، وسكن حي المغاربة بجوار جامع الشيخ في الإسكندرية، ذهب إلى الحج وعاد واستقر في بني سويف.
وُلدت شقيقتي الكبرى في بني سويف، وكان لجدتي أم أمي (الحاجة يامنة) أربعة منازلَ ريفيةٍ في وسط العاصمة، كل منزل من دورَين، تعيش من دخلهما، كما كان لها بنتان؛ والدتي وخالتي، وابن ثالث توفي في حادثة لا أذكر كيف، غرقًا أم انهيار منزل عليه.
ولما كبر والدي ووصل إلى سن الجندية أراد أن يزوجه والده قبل أن ينزح إلى القاهرة؛ فذهب إلى الحاجة يامنة وطلب منها ابنتها نبيهة لابنه. وكانت الطفلة نائمة، فكشفت جدتي الغطاء عن وجهها، ونظر إليها؛ فسألوه: هل تعجبك؟ قال: نعم. فاستيقظت أمي وكانت قد خطبت وتستعد للزواج.
وكانت منازل جدتي خلف المركز بجوار مدرسة زعزوع، وكان جدي والد والدي يقيم في آخر شارع الجبالي بالقرب من محطة القطار، وذلك قبل زواجهم.
أما خالتي فقد تزوجت عدة مرات ولكنها كانت عقيمًا، وكانت جدتي «يامنة» قد قسمت منازلها الأربعة على ابنتيها؛ نبيهة أمي، وخالتي أم عبد الله، وكانت خالتي تشتري بنصيبها أساور ذهبية ترتديها طوال الوقت؛ ولذلك طمع فيها الأزواج وهم يعلمون أنها عقيم ويتزوجونها طمعًا في مصاغها.
أما والدتي فكانت تأتي بنصيبها إلى القاهرة، تعين به والدي على الصرف، واحتياجات الأسرة.
وكان هناك رجلٌ طويل القامة، أحول العين، يضع طربوشًا مائلًا على رأسه كما يفعل الأفندية الكبار، كان زميلًا لشقيقتي الكبرى في دشنا بمحافظة قنا، أتى إلى القاهرة في الصيف؛ ليتعرف على أسرتنا قبل أن يطلب يدها للزواج، وكان كريمًا يحضر لنا الهدايا، خاصة الحلوى للصغار، واعترضت والدتي على هذا الزواج الذي يجعل ابنتها البكر تعيش بعيدًا عنها في أقصى الصعيد؛ فرفضت.
وكان لي أخٌ صغيرٌ توفي بعد ولادته، وليست لنا مقابر في القاهرة؛ فأخذته جارتنا، ودفنته في مقابر أسرتها، وبكت عليه بكاءً مصطنعًا. وكان زميل شقيقتي الكبرى حاضرًا في مراسم الدفن، ويبدو هو الآخر متأثرًا بما حدث، وكان اسم الطفل «علي».
كانت هذه الجارة تسكن في الطابق الأرضي، في غرفةٍ تقع على مدخل الباب الأيمن، مع أسرتها وبلا رجال، كانت الغرفة أقرب إلى الظلام منها إلى النور، يبدو أنها كانت غرفة لسكن البواب، ولكن لم يكن هناك بواب. ولما تعددت أفراد الأسرة أخذوا مكان تحت بير السلم وجعلوه غرفةً ثانية. وكان به دورة مياه، كنت أخاف ممن يسكن تحت بير السلم، فقد كانت الأساطير تقول يومئذٍ إن العفاريت يخرجون منه للقبض على من يصعد. فعجبت كيف يعيش هؤلاء وينامون في هذا المكان المسكون بالعفاريت!
ولما علمت والدتي أن جارتنا الأخرى قد حركت بلاطة من أرض الغرفة أو بلاطتَين كي تصطاد صفائح السمن من المخزن أسفل شقتها، وبعد أن عرف صاحب تجارة الجملة وأحضر الشرطة للتحقيق، فوجدوا أن البلاط قد خُلع من الشقة التي فوقها، ولما علمت والدتي بهذه الواقعة استخدمتها في مشاجراتها مع صاحبة الشقة، كما هي العادة في الأحياء الشعبية عندما يتشاجر النساء لأتفه الأسباب لكي تُبين كل واحدة مهارتها في السباب كما يُبين الرجال مهاراتهم في الضرب بالعصا.
وفي صبيحة يوم خرج والدي إلى الشارع كي يشتري شيئًا ما، وفي الوقت نفسه الذي خرج فيه زوج الجارة سارقة صفائح السمن من المخزن، خافت والدتي أن يصطدم الرجلان، وقفت تنتظر وتنظر من الشباك عودة والدي، وبالفعل كان والدي ضخم الجثة لكنه طيب القلب، لا يعرف متى يتشاجر؟ ومتى يبتعد عن المشاجرة؟ ولما رأى والدي زوج المرأة السارقة يتقدم إليه ليعاتبه على هذه المشاجرة وكان الزوج قويًّا يعمل بمعسكر الإنجليز قال لوالدي: «أنتَ مجرد عنزة» فاضطرب ولم يكن ينتظر مثل هذا القول. وعاد إلى المنزل، وفرحت والدتي بعودته سالمًا تمامًا؛ إذ إنه شعر بالإهانة وهو الشاويش بالجيش، له زملاء وطلبة كثيرون علَّمهم العزف على «الترمبون» ومنهم «علي إسماعيل». فشعرت أنا أيضًا بالإهانة لأنني كنت أحترم والدي، وأكره الجارة السارقة بالرغم من جمالها وبياض بشرتها.
وفي مرة من المرات في حوش المنزل رأيت عدة دجاجات تلتقط حبات الذرة الكثيرة والمفروشة على الأرض؛ فرشت جلبابي وأخذت ما تبقى من حبات الذرة كي نطبخها ونأكلها. رأتني صاحبة الدجاجات التي تسكن بالغرفة الأرضية وقالت لي: «عيب يا ابن الباش شاويش» فألقيت بحبات الذرة التي كانت في جلبابي، وصعدت إلى أعلى حيث نسكن في الطابق الأول وأنا أشعر بالحزن لما فعلت. فهل أنافس الدجاجات في حبات ذرتها وأنا أكثر منها قدرة على جلب الطعام لنفسي؟
وكان والدي لا يترك شقيقاتي الصغيرات يذهبن إلى دور السينما بمفردهن، فيطلب مني أن أصاحبهن؛ فتفرح البنات، ويلبسن أجمل ما عندهن، ويتزينَّ ويفرحن لرؤية الشارع والخروج. كنا بمجرد خروجنا من باب المنزل يرفعن التنورات ويربطنها بالحزام حتى يقصرن من طولها، ويرقصن على السلم طربًا وفرحًا يهتفن «هانروح السينما.» وفي سينما مصر بشارع العباسية كان الزحام أمام شباك الرجال أكثر من شباك النساء اللاتي كن يدخلن من باب السينما، ويقطعن التذاكر بعد الدخول حرصًا عليهن من زحمة الرجال. ولما نقرت على الباب وفتح لي المسئول ورأى رجلًا وأنا مجرد صبي. قلت له «معي نساء» وأشرت إلى شقيقاتي، فأدخلنا من باب النساء، واشترينا بطاقات الدخول للسينما، وسعدنا بالفيلم، وكان عرضًا صباحيًّا.
وأثناء العودة يفك شقيقاتي الأحزمة فتطول التنورات من جديد، وندخل المنزل وكأن لم يحدث شيء قبل دخولنا، وينشرح وجه والدي؛ لأننا عدنا بسلام.
وكان ابن الفران غير موفَّق في دراسته ويرسب باستمرار على العكس منَّا، وذات مرة ضربه والده فأحس بالإهانة، وسكب الجاز على نفسه وأشعل النار؛ فأسرعت الأسرة بإطفاء النيران، ولكنها كانت قد تمكنت منه فاحترق ساعداه ووجهه، أخذوه إلى صيدلية الحارة، عالجوه بالزيت، ونصحوه بألا يُعرِّض نفسه للمياه، وهم يربطون ساعديه، ويضعون القطن والشاش على وجهه، أقسم الابن ألا يعود للمنزل من جديد، وكانت له عمات أو خالات يسكنَّ في شارع البنهاوي على مدخل الحارة، فقمنا بزيارته هناك، أكد لنا على عدم عودته بسبب الإهانة التي تلقَّاها من والده، أجبناه أن الثمن الذي دفعه كان غاليًا.
كانت له شقيقةٌ جميلة سمراء ذات صدر بارز، تبدو عليها الجدية، كنت أود أن أقبَّلها ولكني لم أستطع ولم أعرف كيف.
كان لي صديق عزيز، لا يعرف شيئًا في العلم، وكان يأتيني؛ لكي أشرح له الدروس التي نأخذها في الجامعة، فكنت أفعل ذلك، وشعرت أمه بالجميل فكانت تردُّه إلينا بإرسال بعض المأكولات، كانت امرأةً سمينة على عكس زوجها، وكان الصديق سمينًا مثل أمه، ولما رأت الأم أن والدتي حزينة في إحدى زياراتها لنا لأنني نويت السفر إلى فرنسا ولا تدري كيف سأعيش هناك؛ أرادت أم صديقي أن تخفف عن أمي، وأخذتْ حقيبة السفر التي أعددتها وخرجت بها من المنزل، وذهبت بها إلى منزلها في محاولة منها لمنعي من السفر، ذهبت إليها شارحًا لها ضرورة الذهاب إلى فرنسا؛ لأنه لا مستقبل لي هنا في مصر؛ فلست معيدًا في الجامعة بعد اضطهاد الأساتذة لي، ولا أرغب أن أكون مدرس ثانويٍّ لتدريس الفلسفة للطلبة في المدارس، بعد أن وصلني بالفعل خطاب تعيين بإحدى مدارس بنها الثانوية.
وشرحت لها أنني أريد مواصلة تعليمي هناك، والحصول على أعلى الشهادات، وأنني أريد أن أجرب حظي، وأنه لا خوف من عدم وجود المال اللازم؛ فأنا قادر على اكتسابه هناك عن طريق تدريس اللغات العربية والإنجليزية والفرنسية لإجادتي إياها. خجلت أم صديقي من نفسها، وأعجبت بطموحي؛ لأنها ترى أن ابنها غير موفَّق في دراسته وأنه لولا مساعدتي له في المذاكرة لما استطاع أن يتخرج من الجامعة.
ولما انتقلت شقيقتي الكبرى الابنة البكر لأمي من دشنا في محافظة قنا بعد خطبتها من أحد أقاربنا، انتقلتْ إلى مدرسة شبرا بجوار سكنها الجديد. وكانت والدتي تنتظر أن تساعد الأسرة بجزء من مرتبها؛ لأن مرتب والدي كان لا يكفي، ولكن شقيقتي الكبرى لم تفعل، فذهبت والدتي إلى باب المدرسة، وانتظرتها حين الخروج، وكما تقول الرواية دفعتها من صدرها وقالت لها شيئًا يبين عدم وفاء الشقيقة/الابنة لأسرتها الأولى، والتضحية لصالح أسرتها الثانية.
فعادت الشقيقة الكبرى إلى منزلها وقصت ما حدث على حماتها التي كانت تسكن معها في منزلها الجديد، قالت الحماة: «إذا كنا نريد جنيهًا أو اثنين من مرتبك فيكون ذلك بالتراضي.» فازداد حزن أمي من هذه الكلمة واعتبرتها إهانة لها؛ فالأم ليست شحاذة، بل تريد أن تشارك الابنة الكبرى في تربية إخوتها الأصغر وخاصةً أن مرتب والدي يكاد أن يكون أقل من مرتب الشقيقة الكبرى.
فأرسلوني إليها وقابلتني بالبكاء قائلة: «تلوموني بدلًا من أن تهنئوني بالانتقال من دشنا إلى القاهرة!» ولم أعرف من منا على حق، ولكني أدركت أن الإخلاص للأسرة الجديدة أقوى من الوفاء للأسرة القديمة، فلم أعرف ماذا أفعل! وإلى أي جانب أنضم! ولكن الواقع فرض نفسه، فقد كان مرتب زوج شقيقتي الكبرى لا يكفي بمفرده لإعالة أسرته الكبيرة؛ أسرة بها والدته وزوجته وأطفاله القادمون.
وأدركت أن الأسرة القديمة، أسرتي التي أعيش بينها تستطيع حل مشكلتها بالذهاب إلى بني سويف، وطلب العون من جدتي أو خالتي، فانتهى الأمر على خير، وعاد الوفاق بين الأسرة الجديدة والأسرة القديمة.
كنا نذهب إلى بني سويف في الصيف ونحن صغار، وكان وقت الحرب العالمية الثانية، خوفًا من الغارات الجوية التي كان يقوم بها الألمان ضد معسكرات الإنجليز في مصر، مع أن الفكرة الشائعة كانت أن الألمان يحبون المصريين، ولا يقوم بالغارات الجوية إلا الإنجليز المستعمرون. وكانت الكشافات الضوئية تبرق في ظلمة السماء، تبحث عن الطائرات الألمانية، وصحيح أن المجتمع المدني المصري لم يُصب بأي سوء وقتها. وسمعت أن المصريين كانوا يهتفون أثناء معركة العلمين في غرب مصر «إلى الأمام يا روميل». وكان عزيز المصري وصحبه في مثل هذا الموقف المتعاطف مع الألمان ضد الإنجليز، وهو قائدٌ عسكري في الجيش المصري.
ونحن في بني سويف كنا نلعب مع أطفال الشارع؛ شارع أبو عزيزة بمياه صنبور مطفأة الحريق الموجود وسط الشارع، كما كنا نلعب بأقفال شبابيك مدرسة زعزوع، حيث كنا نتخيل أنها رجال صغار وهي في مكانها، دون أن نخلعها، فكنا نحركها من أسفل إلى أعلى أو من أعلى إلى أسفل، وكأنها لعبة للأطفال.
وكنت أسير في شارع الجبالي إلى آخره كي أجلس مع جدي في دكان الدقيق الذي كان يتاجر فيه. وبعد أن توفي، رفض والدي تقسيم هذا الدكان لمن يستحقون الإرث، وأعطاه بكامله إلى زوجة جدي الجديدة؛ لأنها كانت ساعده الأيمن في العمل، وكان لي عمات في الجهة المقابلة للشارع، لم نكن نذهب إليهن كثيرًا بسبب عدم وجود أطفال. وفي منزل جدتي أي «ستي» وخالتي كنت أصعد على الفرن المبني من الطين لأجلب لها فروع قصب السكر الخضراء لكي تشعل بها الفرن بالإضافة إلى «قوالح الذرة». وكانت خالتي التي تخبز الخبز (الأرغفة) وتسويها. وأنا أنظر إلى الفرن والنار المشتعلة داخله وأتذكر ما يقوله الشيخ عن النار الحارقة يوم القيامة.
كانت جدتي بين الحين والآخر تعطيني سرًّا قرشًا أو قرشَين؛ لأشتري ما أريد وكذلك كانت تُعطي لأخي، وكانت خالتي غير متزوجة بعد، وكانت عرجاء بسبب وقوعها من على السطح، ولم يحسن علاجها، فكان لها ساقٌ طويلة والأخرى قصيرة، وكانت الخالة بأموالها من جدتي تشتري المصوغات والأساور الذهبية تلتف حول ذراعَيها، وليس لها عائلة تنفق عليها، كان الرجال يطمحون للزواج منها ليس لشخصها ولكن لذهبها، ومرة تزوجها رجلٌ، رأيتها بعد الزواج وهو لا يأتي المنزل ولا ينام عندها، فكانت تحزن، وكانت تغلف السرير بقماشٍ أبيض مثل الشاش، تضع عليه كراتٍ زجاجية ملونة بالأحمر والأخضر والأزرق تضعه حول القماش الأبيض. فكان مشهدًا مبهجًا لي، وحسدت زوجها لتمتعه بهذا السرير الأبيض ذي الكرات الملونة والذي لا يراه أحد غيرهم. وأحيانًا يأتي لزيارتها، وتنفرج أساريرها. فينظر لأساورها، يطلب أن تعطيه إحداها لحاجته إليها تساعده في عمله، وكانت حائرة بين طاعة الزوج وبين تسليمه مصاغها.
نبهتها جدتي إلى ذلك، كما نبهتها أمي، ولكن يبدو أن خالتي كانت امرأةً ضعيفة أمام الرجل، فضَّلت أن يبقى بجوارها ويأخذ مصاغها على أن تعيش وحيدة والمصاغ في ذراعيها.
أخذت أفكر في ذلك، وفي المثل الشعبي عندنا «الرجال ولا المال».
وكان أمامنا منزل به حاج وعلى واجهة المنزل وحوائطه طُبعت كفوف بأصابعها الخمس الواضحة، طبعت بدم الذبيحة والتي كانت تُذبح احتفالًا بعودته من الحج، كانوا يغمرون يدهم بالدم ويطبعون بكفوفهم على الجدار، ويكتبون «حج مبرور وذنب مغفور» بجوار الكف ذي الأصابع الحمراء، وكان الاعتقاد الشعبي أن هذه الكفوف الحمراء تقي من الحسد وتبعد شروره، وكان هذا الحاج من طبقةٍ اجتماعية أعلى منا، فكنا نلجأ إليه إذا ما ساءت العلاقة بيننا وبين رجال الحي؛ فمثلًا كان بيت جدتي نصفه مع نظام الشارع، والنصف الآخر بارزًا يحتل نصفه، فكان عقبة أمام مرور عربات الكارو أمام الشارع الذي أصبح أضيق من تلك المنطقة البارزة والتي كانت أشبه بعنق الزجاجة، يصطدم به من يمر به، ذهبنا إلى الحاج نطلب منه التدخل لدى رجال الحي بعدم هدم هذا المنزل، لكنه لم يستطع فعل شيء. وهُدم نصف المنزل البارز في الشارع.
وبعد نزوح والدي إلى القاهرة بسبب الجهادية أي التجنيد العسكري، سكن أولًا في حي السيدة زينب، وبعد ذلك انتقل إلى حي باب الشعرية دون أن أعلم السبب، وسكنَّا في شارع البنهاوي المتفرع من شارع الجيش بالعباسية. وهو الشارع الذي ينتهي بميدان باب الفتوح من ناحية سور صلاح الدين، وقبل آخره بقليل كانت هناك حارة درب الشرفا التي تخرج فيها عطفة العيساوي. وأول منزل على اليسار فيها رقمه «٤» وهو المنزل الذي ولدت فيه وفي الطابق الأول منه، وكان على يساره مخازن السحار تاجر الجملة للمواد الغذائية.
وكان سطحنا هو نفسه سطح المخازن، وكنا نلعب فيه بلعبة مشهورة «العوامة»، التي كنا نصنعها بأيدينا بعد أن نشتري عجل الرولمان بلي الصغير؛ اثنان على القاعدة يمينًا ويسارًا، وواحدًا في المقدمة، تحت المفصلة التي تربط العمود بالقاعدة فتتحرك العوامة بفضله يمينًا ويسارًا. وكنت آخذ الخشب من «الجملون» الذي يدخل الضوء على مخازن السحار، وكانت عليه ثلاثة قوائم خشبية، وكنت أنزع القائمة الوسطى، وكان لونها أسود فكنت أحك الطلاء بالسكين حتى يظهر الخشب بلونه الطبيعي، وكنا نلعب «بالعوامة» في الصباح الباكر قبل الفجر والشوارع ما زالت فارغة، ولكن المقاهي كانت مفتوحة، ويجلس عليها المدخنون للشيشة. وفي صباح باكر كنت ألعب ﺑ «العوامة» في الشارع، وأمام جامع البنهاوي على اليمين ودرب البزازرة على اليسار، قام شيخ من على مقعده رفع العوامة وهوى بها على الأرض لتنزل محطمة وهو يقول «بلاش دوشة على الصبح»؛ فحزنت، وكرهت هذا الشيخ الذي لم يقدر لعب الأطفال، لملمت عوامتي المكسورة إلى البيت ثم إلى السطح حتى أستطيع إصلاحها وألملم خشبها المتكسر.
وكنا نلعب أيضًا بالكرة الشراب في الحارة مع باقي الأطفال، وكان غيرنا يلعبون «السيكا» بعدما يخططون على الأرض مربعات بالطباشير. ويضعون حجرًا ويقفزون عليه، ويدفعونه إلى المربع التالي، وكانت البنات تشارك في هذه اللعبة.
وكان يأتينا «جمال إسماعيل» قريبنا والطالب بمدرسة الخديوي إسماعيل في حي باب الخلق. وكان يلعب معنا فوق السطح، يركب فوق ظهري؛ إذ تستطيع «العوامة» أن تحمل شخصَين.
وكنا نذهب إلى المركز الثقافي الأمريكي بميدان قصر الدوبارة الذي يقع في أول منطقة جاردن سيتي، كنا نأخذ المجلات التي تبدو كدعاية لأمريكا في مجالات العمارة، والصناعة، والتجارة. وكانت المجلات ذات ورقٍ فخم ومُلون ولامع، وكان الهدف منها دعاية لأمريكا عند الشباب، أما نحن فكنا نأخذ هذه المجلات والتي توزع مجانًا؛ لنعطيها لبائع الكبدة والكرشة يستخدمها في لف المأكولات التي يبيعها، وكان يفضلها على ورق الجرائد التي ينشع منها الزيت، يزنها ليقدر ثمنها، ويعطينا ما نريد من مأكولات مقابل ثمن ورق المجلات، نأكل قبل الصعود إلى المنزل؛ لأن الوالدة ترفض أن نأكل خارج المنزل وخاصةً هؤلاء الباعة الذين كانت تظن أنهم يخلطون أحشاء القطط والكلاب بمأكولاتهم، وكنا لا نهتم ولا نسأل عن المصدر.
ولم نكن جوعى، وكانت ماهية الوالد تكفي لإطعام الأسرة الكبيرة على الرغم من قلَّتها، كنا نشتري الدقيق من السحار؛ أي البقال على ناصية الحارة «شُكك»؛ أي نأخذ الدقيق وندفع آجلًا، ويكتب السحار في كراسة عدد المرات وحساب كل مرة، ثم يعطيه الوالد حسابه في أول كل شهر. ثم لاحظت الوالدة يومًا زيادة مرة لم تأخذها، فقد كانت نسبة المرات هي مرة كل أسبوع أي أربع مرات كل شهر، ورأينا هذا الشهر أن الكراسة بها ست مرات، فذهب والدي إلى السحار ليحيطه علمًا بالأمر، فاقتنع الرجل وقال: «علشان خاطرك يا عم حنفي.»
وكانت الوالدة تقوم بالعجين في الصباح الباكر في الماجور، تأخذ العجين وترفعه وتخفضه عدة مرات حتى يصبح كالمطاط بعد أن تضع فيه الخميرة، وتترك العجين داخل الماجور حتى يصعد وينتفخ ويصير كالقبة. فتعرف حينها أن العجين قد اختمر؛ فتطلب «الطوالي» من الفرن أي الطاولات الخشبية، فترشُّ الوالدة بعض الدقيق على سطحها، ثم تُقرِّص العجين إلى قطعٍ متساوية، وتضغطه لكي تكون القطع رقيقة، ثم تضعه على سطح الطوالي، وترصُّ عليها الأرغفة بنظام، ويأتي صبي فران ليحملها على رأسه إلى الفرن لخبزها. حيث يدخله الفرن ويخرجه، حيث يرصُّه على أقفاص من الجريد لتوصيله إلينا، حيث نتناوله، وكان من حق صاحب الفرن أن يأخذ رغيفًا من كل خبزة وهذا غير الأجرة. وكنت أقوم بعَدِّ الأرغفة التي يحصل عليها الفران كل يوم آخر النهار، فكنت أجد أنه يتناول الخبز هو وأسرته مجانًا.
وكانت والدتي تقوم بعمل قراقيش وتضعها في «صاجات» حيث يأخذها صبي الفران أيضًا، وبعد خروجه من الفرن يأخذ صاحب الفرن من كل صاجٍ قرقوشة بالإضافة إلى أجره، ومرة أخطأت الوالدة في عدد القراقيش في كل صاج، وظنت أن صاحب الفرن أخذ أكثر مما يستحق؛ فأرسلتني إليه لكي أبلغه، ففتح درج المكتب الذي يجلس عليه، ورأيت فيه عددًا قليلًا من القراقيش بدلًا من النقود تساوي ثمنه، ودفع به على الأرض، كي يقول لصبيه عدُّوا معه؛ فأُحرجت، وأُحرجت والدتي، خاصة أن صاحب الفرن كان جارًا لنا، يسكن في الطابق الأعلى، وكان ابنه صديقًا لي، وبناته صديقات لأخواتي.
كنا نلبس الطربوش كالعادة في هذا الزمان، فنحن أفندية «صغار»، وعندما لا نجد كرة نلعب بها، كنا نلعب بالطربوش، نقذفه بأرجلنا ككرة قدم فيهترئ، وينكسر الخوص الذي بداخله، ونعود إلى المنزل خائفين، وكان الوالدان لا يستطيعان أن يشتريا طربوشًا جديدًا. فكانوا يأخذون القديم إلى دكان «مكوى» الطرابيش ليصححه قدر الإمكان، وينذرني الوالدان بأن هذه آخر مرة يقومون بكيِّ الطربوش الذي كان يكلفهم أموالًا. فكنت أمتنع عن اللعب به حتى لا أدخل المدرسة بغير طربوش كما هددوني بذلك.
ولما كثرت علينا المصاريف خاصة ونحن في المدرسة أو في الجامعة كانت والدتي تذهب إلى بني سويف حيث تغمزها جدتي ببعض المال. وتحزن خالتي لأن جدتي تفضل أمي عليها وتعطيها أكثر منها. كانت جدتي تقول لها: «أختك صاحبة عيال ولكن أنت لا تحتاجين.» وعلى مدى أربع سنوات، خاصة ونحن في الجامعة، كانت والدتي تذهب كل عام إلى بني سويف، كي تبيع منزلًا من منازلها بمبلغ أربعمائة جنيه. وتأتي بالأموال كي نشتري البدلة والحذاء والحقيبة المدرسية الجديدة. كما كنا نطلي منزلنا من الداخل بالجير، ونشتري ما نحتاج إليه والذي لم نكن نستطيع الحصول عليه بمرتب الوالد القليل.
وبعد أن باعت والدتي منازلها كلها، طلبت جدتي من «خالتي أم عبد الله» أن تبيع منازلها وتعطي ثمنها لوالدتي لأنها أكثر احتياجًا، وبالرغم من أن اسم خالتي «أم عبد الله» كانت عادة في الريف قديمًا، يطلقون اللقب على السيدة التي لم تتزوج ولم تنجب حتى لا تحزن وتشعر بالدونية تجاه الأم الولود.
وكانت خالتي تبيع منزلًا كل عام وتعطي ثمنه لوالدتي، ولما توفيت جدتي وباعت خالتي منازلها إلا منزل جدتي عاشت فيه أولًا بمفردها والمصاغ في يدها، خشينا عليها من الاعتداء والسرقة، وطلبنا منها أن تعيش معنا في القاهرة، مع أختها — والدتي — وفي حماية زوج أختها، ووسطنا. فرفضت في البداية ولكنها بعد ذلك وافقت، وأتت إلى القاهرة، وعاشت معنا في نفس المنزل في غرفةٍ خاصة نخدمها، ونعتني بها ونسلِّيها، فإذا غضبت منا يومًا قالت: «ياللي بَيَّعتوني بيوتي». وكان والدي يمزح معها، ويخطف طبق طعامها، وكانت هي تبصق في الطبق حتى لا يستطيع أحد أن يأكل منه بعدها.
ولما توفيت دُفنت في مقبرة العائلة التي كان اشتراها والدي في منطقة البساتين وكانت خالتي أول من دخلها.
وكانت خالتي دائمًا ما تُتَّهم بأنها تُفضلني على أخي، وأنها تُعطيني، سرًّا، بعض المال ولا تعطيه هو. ولما عاتبها والدي ووالدتي قالت: «أتيت للقاهرة لأكون بجوار أختي التي أوشكت على الولادة، ولما تأخرت عدت إلى بني سويف وبمجرد أن دخلت إلى المنزل وجدت خبرًا؛ تعالي بسرعة أختك بتولد؛ فركبت القطار من جديد وعدت إلى القاهرة.» وكانت بجوار أمي وهي تلدني، لذلك سموني «حسن». فكانت خالتي تشعر دائمًا بأنني ولدها وأن لا ولد لها غيري.
فكانت والدتي حين تشعر بضيق ذات اليد وليس هناك إمكانية الذهاب إلى بني سويف، وكان لها خال والدتها، تاجر جلود في «الصنادقية» وهو شارع متفرع من آخر شارع المعز لدين الله الفاطمي، بالقرب من جامع ابن طولون؛ كانت ترسلني إليه لنقترض منه بعض الجنيهات لا أظنها كانت تزيد عن الاثنين أو الثلاثة جنيهات، فكنت أذهب إليه في محله وهو جالس ينتظر الزبائن من تجار الأحذية والصناعات الجلدية الأخرى. وكانت شخصيته جادة أقرب إلى العبوس منه إلى الابتسام، وكنت أسأله ما كلفتني به الوالدة، فكان يُدخل يده في جيبه ويُعطيني ما أطلب، ولما تكرر الاقتراض منه مع أننا كنا نُرجع ما اقترضناه في ظرف شهر على الأكثر عندما يستلم والدي مرتبه؛ كان يعطيني ويقول لي أو في نفسه «دي فلوس ناس» أي رأس المال الذي يتاجر به حيث يبيع الجلود وبثمنها يشتري أخرى جديدة، والفرق بين البيع والشراء كان ضئيلًا يكفيه بالكاد هو وأسرته، وكانت له بنتان جميلتان على «وِش جواز».
وكانت والدتي لا تقترض أبدًا من الجيران؛ حفاظًا على كرامتها وكرامتنا. مع أنهم كانوا ميسوري الحال. ومع ذلك كان لدينا مصروفٌ يومي وهو أجرة الأتوبيس للجامعة ذهابًا وإيابًا، وكان المبنى الثاني للكلية الذي به قسم التاريخ الآن وقسم اللغة الإنجليزية، كان بوفيه للطلاب، والذي كان ثمن الوجبات زهيدًا فيه، الوجبة بسبعة قروش ونصف، وتسمى «وجبة العميد». والمشروب كان بقرشٍ واحد، وبعد تحول هذا المبنى إلى قاعات للدرس لقسمي اللغة الإنجليزية والتاريخ، تحول البوفيه إلى عرباتٍ للمأكولات والمشروبات حول مباني الكلية وطرقاتها.
ولما كانت الوالدة تذهب إلى بني سويف كي تزور جدتي وخالتي، وكانت شقيقاتي يدرسن بمدارس المعلمات، وكان والدي يعمل في الجيش، كان أخي الكبير يقوم بدوره في رعايتنا وأثناء سفر أمي.
وفى يوم من الأيام ملأ أخي صفيحة الماء إلى آخرها، وقام بوضعها على وابور الجاز لاستعمالها في الغسيل، ولما بدأت المياه بالصفيحة في الغليان، رفعها من على النار، فانبعجت الصفيحة لرقة حوافها وسخونة المياه؛ فانسكب الماء المغلي على ساعده، أسرعنا به إلى الصيدلية، فأعطوه علاجًا بالزيت، وربطوها له، وأدركت مسئولية الأخ الكبير أو الأخت الكبيرة، وهي مسئوليةٌ صعبة وشاقة تصل لدرجة التضحية بالنفس في سبيل رعاية الأشقاء.
وفى يوم طلب مني أستاذي أحمد فؤاد الأهواني أن أقابل عبد الفتاح الديدي لمساعدتي في السفر، والذي عاد من فرنسا بعد عشر سنوات دون أن يحصل على شهادة الدكتوراه، وهو يعمل الآن مديرًا لتحرير مجلة «المجلة» التي كان يرأسها الأديب الكبير يحيى حقي. وكان مقرها ملاصقًا لسور قصر عابدين من ناحية باب اللوق، فكتب لي خطابًا أقدم به نفسي إلى مديرة المكتب الطلابي في السفارة المصرية في باريس «مدام راتمباك». ولما وصلت باريس قدمت الخطاب لها وفتحته وعرفت المطلوب وهو مساعدتي، طأطأت رأسها إلى الأرض، وفهمت أنها لن تستطيع مساعدتي؛ فقد قُطعت العلاقات بين مصر وفرنسا وبداية الاستعداد للعدوان على مصر أكتوبر ١٩٥٦م، أي بعد وصولي إلى باريس بأقلَّ من شهرين.
وحين غادرت إلى فرنسا عام ١٩٥٦م وهو عام التخرج بدأ الفقر يظهر بشدة، من أين لي بتذكرة الباخرة إلى فرنسا لاستكمال الدراسة؟ وكيف سأعيش هناك بدون منحةٍ دراسية لا من مصر ولا من فرنسا؟ ومع ذلك أخذت الباخرة وكان ثمن البطاقة عشرة جنيهات فوق السطح ودون غرفة نوم، وكانت لي توصية أن أنام في غرفة الطعام بعد فرش ملاءة على إحدى أرائكها. وأخذت معي حقيبة بها عددٌ من الأرغفة الجافة وعلبة جبن أصفر كانت توزع مجانًا من المعونة الأمريكية. وكانت الرحلة من ميناء الإسكندرية إلى مارسيليا تستغرق ستة أيام. وكانت الباخرة تتوقف ليلةً واحدة في ميناء بيريه بجوار أثينا، وكان السؤال: وما العمل في كيفية الذهاب من مارسيليا إلى باريس؟
وعلى ظهر الباخرة تعرفتُ يومًا على سيدةٍ فرنسية، ولما رأت طيبة الوجه باديةً على ملامحي، وسلامة القلب، وإخبارها بمشكلتي؛ تعاطفتْ معي وأقرضتني مائة فرنك لأشتري تذكرة القطار من مارسيليا إلى باريس على أن أردَّها إليها بعد الوصول، وأعطتني عنوانها في باريس، ولما وصلت إلى باريس وجدت رجلًا طويل القامة حسن الهندام واقفًا على المحطة وقال لي: «أتريد غرفة يا أستاذ؟» قلت له: نعم. فقال أنا عندي غرفة بشقتي، وصحبني إليها. كانت غرفةً صغيرة بها مكتب وسرير وكنت لا أطلب أكثر من ذلك، وقال لي إيجارها في الليلة عشرة فرنكات، فوافقت. وظللت بملابسي أستخرج الأوراق التي سأكتب فيها خطة البحث الذي سأقدمه للأساتذة للموافقة عليه لنيل درجة الدكتوراه ووجدت الباب ينفتح ويأتي الرجل وبيده طبقًا من شوربة الخضار الساخنة يقدمها لي؛ فشكرته وكانت خير جزاء لي بعد مغادرتي الباخرة والقطار. إلا أنني لم أقضِ فيها غير ليلةٍ واحدة؛ لأنني لا أملك المال فذهبت في الصباح التالي إلى السفارة المصرية، ذهبت إلى السفارة المصرية لأسكن مع البواب الذي أخبرني بأن هذا لا يجوز؛ لأن السفارة مبنًى دبلوماسي؛ لا يجوز لأحد أن يسكن فيه إلا موظفوه، وطلب أن أذهب لمنزل السفير المجاور حيث ذهبت إليه ولكني وجدته مغلقًا بالكامل لا أحد فيه. حيث كان ذلك بسبب تأميم قناة السويس في يوليو ١٩٥٦م وسحب السفير المصري وقطع العلاقات مع فرنسا، فذهبت إلى مسجد باريس لكي أقضي به ليلتي طبقًا للعادات القديمة، ولكن إمام المسجد اعترض وأخبرني بأن هذا لا يجوز؛ لأن المسجد له تصريحٌ خاص بأسماء موظفيه. وسلَّمني الإمام لأحد الجزائريين لكي يعتني بي. أخذني الجزائري وكان وجهه مملوءًا بحب الشباب، وصحبني إلى الفندق الذي يقيم فيه في الحي السادس عشر شمال باريس كي أنام معه في غرفته؛ فذهبت وكانت الغرفة بها ستة جزائريين آخرين ينامون متعامدين، ثلاثة يمينًا وثلاثة يسارًا. وكان في وسط الغرفة مدفأة من الفحم. قضيت فيها ما يقرب من شهر، وكان صاحب المقهى تحت غرفتي في الفندق ينظر إليَّ صباحًا ومساءً حين أغادر وأعود دون أن يستنفع مني بشيء. فشربت فنجان قهوة في الصباح التالي وأنا لا أملك ثمنه إلا بصعوبة؛ وأذهب إلى منزل الخدمات الطلابية في الجامعة والذي لديه كشف بأسماء الغرف الخالية، وهي على أنواع: غرفة مجانية في مقابل إعطاء دروس لابن صاحب الشقة ومساعدته في المذاكرة، وكانت الغرفة فوق السطح مخصصة للشغالات، وغرفة أخرى إيجارها قليل لكرم صاحب الشقة أو لضيقها أو لبعدها من الجامعة. وكنا كطلبة نذهب منذ الصباح الباكر حتى نكون أول الواقفين في الطابور لنحظى بما نريد من الغرف، وبطبيعة الحال كنت أبحث عن الغرفة المجانية؛ فأخذت مرة عنوان غرفة وذهبت لمقابلة صاحب الشقة الذي يملكها، فلما رأى هيئتي وأنني أجنبي اعتذر، وقال لي صراحة: «شكلك سيضايق ابني.»
وفى مرةٍ أخرى ذهبتُ لمكانٍ آخر أبحث عن غرفة في مقابل إعطاء دروس لطفلهم الصغير، ولما رآني صاحب الشقة اعتذر أيضًا دون إبداء السبب؛ فقررت أن أختار غرفة بأجرٍ زهيد وهو النوع الثاني من الغرف التي يؤجرها أصحابها، وكانت قريبة من الجامعة، فقَبِل صاحبها أن يؤجرها لي، وكانت غرفة في السطح، فسررت. وبعد عدة أيام ذهبت للغرفة كعادتي فوجدتها مغلقة ومفتاحها لا يفتح وورقة على الباب تقول: «أغراضك التي في الغرفة أخذناها، وحجزنا لك غرفة في فندق قريب.» فذهبت لصاحب الشقة وسألته: «لماذا فعل ذلك؟ فقال: بأن أخاه كان موظفًا في شركة قناة السويس وبعد تأميمها أخرجوه بحقيبة ملابسه من مصر وعاد إلى فرنسا.» وسألني: «هل تقبل أن أقبل بمصري يسكن في غرفة سطحي وأخي مطرود من مصر؟»
وبينما أنا في الطريق للذهاب من السفارة المصرية إلى مسجد باريس، قابلني شرطي أمن وطلب مني أوراقي الثبوتية إذ كان يبدو عليَّ الإرهاق والتعب والبهدلة، فلما أعطيته جواز سفري وثبتت له صحة ما فيه وتحقق من شخصيتي قال لي مقارنًا وجهى بالصورة التي في جواز السفر: «وجهك نحيف، ألا تأكل؟» فأجبت: «عن قريب.» قال ذلك لأني نحفت كثيرًا خلال تلك الفترة القصيرة.
وذهبت إلى الجامعة في اليوم التالي إلى مكتب الخدمات الطلابية؛ كي أجد غرفةً زهيدة الثمن حتى لو كانت بعيدة عن الجامعة؛ فوجدت عنوان غرفة كانت بعيدة عن الجامعة في الحي السادس عشر وهو حي «الأغنياء». وبدلًا من أن تكون في السطح كانت في الطابق الأرضي. وبجوارها مخزن فحم تستعمله العمارة للتدفئة، وكانت الغرفة ليس بها نوافذ، بها فقط سرير ومكتب، وكانت الحوائط دافئة، فقبلتها ومكثت فيها حوالي سنة وأنا أكتب وأقرأ وأدرس فيها متمتعًا بالدفء والسكون. وفي نفس الوقت كنت قد قدمت طلبًا للمدينة الجامعية؛ كي أحصل على غرفة بأحد منازلها؛ فوجدت غرفةً مزدوجة في منزل الولايات المتحدة الأمريكية مع طالبٍ أمريكيٍّ شاب. والمنزل يطل على الشارع الرئيسي حول طريق باريس الرئيسي، تمرُّ به الناقلات الضخمة ليل نهار، وأمام محطة مترو المدينة الجامعية. مكثت فيها سنة أيضًا، وأنا لا أستطيع النوم ليلًا من ضجيج الطريق وهدير عربات النقل الثقيل، وسألت الأمريكي: «كيف تنام في هذه الضجة؟» فقال إن منزله في شيكاغو فوق محطة قطار حيث اعتاد على الضجيج.
وكان هناك منزل للطلبة المصريين داخل المدينة ولكنه يُسمى منزل الطلبة الأرمن عندما كان نوبار باشا وزيرًا للتعليم، فرُفض الطلب. قدمت طلبًا إلى المنزل الألماني لأني أدرس الفلسفة الألمانية «الظاهريات» وأتكلم الألمانية وأريد أن أزيد فيها بالتحدث مع الطلبة الألمان، فوافق مدير المنزل؛ وانتقلت إلى غرفةٍ مفردةٍ حديثة، حوائطها من الزجاج الشفاف، تدخل منه الشمس، وفي الصباح يصير سريري أريكة أفتحها، وفي المساء أفرد الأريكة فتصير سريرًا أنام عليه. وعشت في هذا المنزل ثلاث سنوات إذ يحق للطالب أن يسكن ويقيم في المدينة الجامعية لمدة أربع سنوات.
بعدها انتقلت إلى منزل الطلبة الرياضيين في بور رويال في غرفةٍ مزدوجة مع أحد الطلاب المصريين الذين يدرسون الحقوق، والذي أصبح الآن أستاذًا بجامعة عين شمس ومحاميًا مشهورًا. ووضعنا ستارًا لقسمة الغرفة إلى اثنين. مكثت في هذا المنزل عامين، وتجاوزت المدة المقررة؛ فبحثت عن غرفةٍ أخرى تكون قريبة من الجامعة في منطقة «دانفير روشيرو». وفي الميدان تمثال الأسد الكبير كالذي على واجهة كوبري قصر النيل، والذي بني في عصر الخديوي إسماعيل؛ فالنحات واحد، وكانت غرفتي فوق السطح ودورة المياه خارجها، وكان فيها المكتب والسرير، وصممت لها رفوفًا من الحديد لكي أرتب كتبي، وما زال اسمي حتى الآن موجودًا على اللوحة الخارجية للعمارة، قضيت فيها السنة الأخيرة من وجودي في باريس وقبل العودة إلى القاهرة.
وبعد العودة من فرنسا عشت مع الوالد والوالدة والشقيقة الصغرى من ١٩٦٦–١٩٧٠م حيث كان دخل الأسرة حينها معاش الوالد الذي يبلغ أربعة جنيهات في ذلك الوقت، وعلى عمل شقيقتي في البنك حيث يبلغ عشرة جنيهات، وبمساعدة أخي الأكبر بحوالي خمسة عشر جنيهًا.
لم يكن لي دخل؛ لأنني لم أُعيَّن بعدُ في الجامعة، وحدث ذلك بعد عامٍ كامل؛ فاضطررت أن أقترض مبلغ مائة جنيه من صديق لي أستاذ في دار العلوم كان يدرس في إسبانيا وتعرَّفت إليه في باريس حيث زارني. وأعدتها إليه بعد عامين، واضطررت أن أكتب عدة مقالات في المجلات الثقافية التي كانت تصدر في ذلك العصر؛ مجلة الفكر المعاصر، المجلة، الكاتب، والطليعة.
وكان دخلي من مقال المجلة الأولى اثني عشر جنيهًا، ومن الثانية عشرة جنيهات، ومن الثالثة ستة جنيهات، ومن الرابعة أربعة جنيهات. وكان دخلي الشهري ما يعادل مرتبي لو كنت عُينت بالجامعة.
وخشي عليَّ أحد الأساتذة أن أتحول إلى صحفي وأترك الجامعة كما حدث لأحد مشاهير الصحافة؛ فبددتُ خشيته بأن ذلك النشاط مؤقت حتى أستطيع أن أعيش، فقرر أن يعينني بالجامعة بلا إعلان، وكانت العادة الإعلان في الصحافة عن المنصب فيتقدم إليه الكثيرون، ثم تختار الجامعة الأفضل، ولكن الإدارة الجامعية رفضت؛ لأن ذلك ضد القانون. لم تكن هناك درجةٌ خالية بالقسم، ولا بد من نقلي لدرجة خالية من قسمٍ آخر، ثم موافقة مجلس الكلية، ثم مجلس الجامعة، ثم وزير المالية، وقد تأخذ تلك الموافقات عامًا بأكمله، والآن يتم نقل درجة من قسم لآخر بموافقة مجلس الكلية فقط دون هذا الطريق الإداري الطويل.
وقد جُمعت هذه المقالات فيما بعدُ في جزأين من كتاب «قضايا معاصرة»؛ الجزء الأول، في فكرنا العربي المعاصر، والثاني، في الفكر الغربي المعاصر.
وطلبت من أخي أن يوقف إعانته للوالدين بعد تعييني بالجامعة وأنني سوف أتكفل بجهاز شقيقتي الصغرى بعد أن تكفل هو بتجهيز شقيقاتي الثلاث الأكبر منها.
كان مرتبي ثلاثين جنيهًا، أعطي نصفها لوالدي ووالدتي؛ لأنني أقيم معهما، والنصف الآخر قسط لجهاز شقيقتي الصغرى، وكنت أعيش من دخلي الآخر من كتابة المقالات، وظللت على ذلك الحال حوالي أربع سنوات من ١٩٦٦–١٩٧٠م.
وبمجرد انتهاء القسط الأخير لجهاز شقيقتي الصغرى، سمع أهل خطيبتي بوجود شقة للإيجار في شارع الحجاز بمصر الجديدة، تطل على الميدان؛ فذهبت وأجَّرتها حيث كان أجرها زهيدًا؛ أحد عشر جنيهًا في الشهر. ولما علم صاحب الشقة أن العروسين شابان في أول حياتهما لم يطلب «خلو رجل» بل ترك لنا أسبوعين مجانًا إذا ما احتاجت الشقة إلى طلاءٍ جديد أو إعداد، وكانت شقةً واسعةً جميلة.
في يوم استدعاني مالك العمارة وطلب النصح فرحبت بذلك، عرض عليَّ أن أخاه قد قتل غيلةً في شبرا البلد وأن عائلته تطالبه بالثأر والقصاص، بأن يقتل قاتل أخيه وإلا كان جبانًا. وسألني: «فما العمل؟» نصحته بألا يفعل ذلك؛ فهناك قانون يأخذ حق القتيل بمحاكمة القاتل، والحكم عليه بالسجن المؤبد على الأقل. فاتَّهمتْه أسرته وأهل قريته بالجُبن والخوف، وكان محاصرًا بين رأي أهل القرية فيه والنصيحة التي قدمتُها له واتبعها. فمات كمدًا بعد شهرَين، فحفظت للرجل جميله، وعندما تركت الشقة بعد ربع قرن من إقامتي فيها وكانت الخلوات قد زادت بعشرات الآلاف رفضت أن أستلم أي خلو من عائلته تقديرًا له وعرفانًا بجميله.
وعندما تعرفت على زوجتي الحبيبة أردت أن أتقدم لأهلها لخطبتها والزواج منها، كنت مطالبًا بالشبكة والمهر، وأنا لا أملك شيئًا؛ فترجمت كتابًا ﻟ «اسبينوزا»، «رسالة في اللاهوت والسياسة»، وراجعه صديقي فؤاد زكريا، ثم ذهبت إلى الهيئة العامة للكتاب حيث قابلني رئيسها محمود الشنيطي وأبلغته أن أجر هذا الكتاب هو مهر زواجي، وكان يعرف زوجتي من الجامعة الأمريكية حيث كانت تعمل أمينة لمكتبة الخدمة العامة، وكان هو المشرف على المكتبة، ورجوته أن يعطيني الأجر بسرعة قدر الإمكان؛ فأعطاني أربعمائة جنيه قبل إصدار الكتاب، وقدمته كله مهرًا لخطيبتي، أما الشبكة وكانت دبلتَين من الذهب الأصفر المقلَّد وكان ثمنها ثلاثة جنيهات، وأقمنا حفلًا بسيطًا في منزلها، حضره أساتذة قسم اللغة العربية حيث تخرجت، وحضره أهلي بالطبع، وتعرفوا على خطيبتي لأول مرة، وبعد الحفل كان عليَّ أن آخذ خطيبتي للسهر في مكانٍ ما لدعوتها للعشاء، ولم يكن في جيبي مليمٌ واحد؛ فأخذت من زوج شقيقتي دكتور العظام ما معه، وكانت خمسة جنيهات لم أردها حتى الآن. وسهرنا أنا وخطيبتي ليلتها في كازينو بارزيانا في أول شارع الهرم، وكان عشاءً راقصًا.
وكان علينا أن نُعدَّ الجهاز استعدادًا للزواج بهذا المبلغ الضئيل الذي معنا؛ فاشترينا «أنتريه» من شارع النزهة بحوالي مائة جنيه، وصالونًا من شارع رمسيس بحوالي مائة جنيه أخرى، وغرفة نوم بحوالي مائتي جنيه من شارع محمد محمود أمام الجامعة الأمريكية وسط البلد، وأصرَّ صاحب المحل على أن ثمنها مائتا وعشرون جنيهًا. وظلت المفاوضات لمدة شهر تقريبًا حتى استطعنا شراءها بمبلغ مائتي وعشرة جنيهات. وتزوجنا دون غرفة طعام، وظلت الغرفة فارغة لمدة عامٍ كامل، حتى استطعنا تدبير مبلغٍ بسيط يعادل المهر تقريبًا. وكانت زوجتي الحبيبة في فترة راحتها من عملها بالجامعة الأمريكية تسير في شارع سليمان باشا وتنظر في واجهات محلات الأثاث حتى وجدت غرفة طعام جميلة مذهبة بمبلغ ثلاثمائة وخمسين جنيهًا. فدخلت وحاولت المفاوضة والفصال وخفض الثمن، ولكن صاحب المحل رفض، فأخذناها، فاكتمل جهاز المنزل.
وفى ليلة الزفاف الذي عُقد بنادي التوفيقية بمدينة الأوقاف، وكان لأساتذة جامعة القاهرة حق الاشتراك في النادي بقيمة خمسة جنيهات سنويًّا. اشترى لنا يومها أخي «تورتة» متعددة الطوابق، وكان يُدرِّس لابنة الفنانة مها صبري؛ فجاءت لتهنئته والغناء في فرحي كمجاملةٍ منها لأخي، وكان الفنان المصري محمد العزبي زميلًا لنا في مدرسة خليل أغا الثانوية. وكان يعرفنا جيدًا ونعرفه، قابلته مرة مصادفة، وأبلغته بحفل زفافي؛ فأصرَّ على أن يغني في حفل زفافي، وأتى وكان بجيبي خمسة جنيهات. وتساءلت: «هل أعطيها له فيصبح جيبي فارغًا؟ أم أعطيه ثلاثة جنيهات، وأستبقى جنيهَين؟» ففضلت الحل الثاني، ولم يعترض هو.
وبعد انتهاء حفل الزفاف حاوطني عمال النادي لأخذ البقشيش؛ فأعطيتهم الجنيهين المتبقيين، ودخلت منزلي بعد العرس مباشرة وجيبي فارغ تمامًا.
وصاحبنا مصور ليأخذ لنا صورًا تذكارية، وهي الصور التقليدية التي يحمل فيها العريس عروسه بين ذراعَيه. كان المصور نفسه هدية أرسلها صديق زوجتي والذي كان يعمل بالهيئة العامة للكتاب، ورفض المصور أن يأخذ أي إكرامية مع أني لم أكن أملك مالًا أعطيه له، فكانت «عزومة مراكبية».
وفى صبيحة اليوم التالي أتى الأهل من العروسين لمجاملتنا، وأعطونا «النقطة». وكانت كثيرة بما سمح لنا أن نعيش شهر العسل منها، وعشت عامنا الأول من الزواج بأقل دخل ممكن، بضعة جنيهات في الأسبوع، طعامنا ومواصلاتنا وحليب طفلنا، وكنت أساهم في مصاريف الوالد والوالدة، كما كنت أفعل قبل الزواج، وكانت زوجتي الحبيبة تساهم هي أيضًا في مصاريف أهلها، فقد توفي والدها ولم يبقَ لها إلا أمها وشقيقتها الوحيدة وأطفال شقيقتها، حيث كانت هي من تقوم بالصرف عليهم.
وكان هذا العام أصعب عام في حياتنا ولكننا كنا سعداء؛ فالحب يملأ القلب، والطموح يملأ العقل، والمستقبل واعد وموعود.
وظل الفقر السعيد يلازمنا خاصةً بعد إنجاب طفلنا الأول، وكانت الجامعة تقدم لنا بطاقات للعلاج، تساهم الجامعة بالنصيب الأكبر منها، فكان الطبيب يشرف على زوجتي الحبيبة، ويتابع حملها مرة كل شهر، وكانت عيادته بميدان التحرير، ولكنه قام بتوليدها بمستشفى الدقي، ورزقنا بطفلنا الأول في مارس ١٩٧١م. وجاءتني دعوة من جامعة تمبل بفيلادلفيا ولاية بنسلفانيا لأكون أستاذًا زائرًا هناك للفلسفة الإسلامية مع إسماعيل الفاروقي والذي انتقل إليها من جامعة سيراكيوز. وأبلغني رئيس الجامعة بأنه لا بد من قبول الدعوة والاختفاء بعيدًا عن مصر؛ لأن محاضراتي مسجلة لدى الشرطة في قسم الدقي القريب من الجامعة، خاصةً بعد النكسة والهزيمة في ١٩٦٧م. وهو لا يستطيع أن يحميني إذا ما أنقضَّت عليَّ أجهزة الأمن؛ فشكرته، وقبلت الدعوة.
أرسلت لي الجامعة بطاقة السفر، واقترضت لشراء بطاقة سفر لزوجتي الحبيبة من زوج أختي الكبيرة، أما ابني فكان ما يزال طفلًا صغيرًا.
ووجدت الصديق إسماعيل ينتظرني في مطار فيلادلفيا، ويأخذني إلى سكن الطلاب في مُجمع يورك تاون، ثم انتقلت بعدها بعدة أشهر لمجمَّع الأساتذة بجواره في «كونى هول» حيث أقمت في الطابق الثاني، وكانت شقة واسعة بها غرفتان للنوم، وصالةٌ متسعة، حوائطها زجاجيةٌ شفافة تطل على الفناء والحديقة أمامي، وكانت الأرضية خشبية. كان طفلي يضرب عليها بما يستطيع من أوانٍ معدنية، فاشتكى الجيران من الضجة.
ولم يتوقف الفقر السعيد إلا بعد رجوعنا من الولايات المتحدة الأمريكية بعد أربع سنوات كاملة حيث كوَّنت رصيدًا يسمح بشراء سيارة، وكانت ماركة «نصر» بأربعة آلاف جنيه.