ضرورات الجسد
تناوبت الصحة والمرض عليَّ منذ الشباب وحتى الكهولة، فمنذ الطفولة وأنا ألعب لعبة من يرفع الصفيحة إلى أعلى، ويمسكها بيديه يكون أبوه ملكًا. وبطبيعة الحال كنت أريد أن يصبح أبي ملكًا؛ فرفعتُ الصفيحة إلى أعلى وبدلًا من أن أمسكها جيدًا، وقعتُ على رقبتي، وكادت أن تشقها بجوار العنق. فأسرعتْ والدتي بي إلى المستشفى، وعالجتني، وضمتني إلى صدرها، وسألتني: «هل كان من الضروري أن يصير أبوك ملكًا؟ وماذا أكسب أنا لو فقدتك وأصبح أبوك ملكًا؟»
ومرةً ثانية كنت في السطح أقف بجوار طاولةٍ ثقيلة من الخشب ويبدو أنها كانت جزءًا من سرير، وقعتْ على قصبة ساقي فكسرته وحملتني أمي إلى برسوم المجبراتي بميدان محطة مصر، وجبَّرني، وظللت مدةً طويلة لا أستطيع السير على ساقي.
ومرةً ثالثة عندما أجروا عليَّ عملية الطهارة، وربطوني بالشاش والقطن، وكان يأتينا زائر، قريب أو صديق لا أذكر، كنت أرفع الجلباب وأقول له «بص اتطهرت.» فتقول لي والدتي: «عيب يا ولد!»
ولما لاحظتْ أسرتي أن نظري ضعيف، ذهبتُ إلى عيادة العيون. كشف عليَّ الطبيب، وأعطاني نظارة، فكنت أرى بطريقةٍ أفضل. ولما كنت ألعب في الحارة بالكرة كانت الكرة تُقذف في وجهي فكُسرت النظارة، وكانت في ذلك الوقت عدساتها من الزجاج، فتتكسر باستمرار لكثرة لعبي في الحارة، ووقوعي على الأرض، وكانت والدتي تقول: «من أين سنأتي لك بالمال في كل مرة تكسر فيها نظارتك؟»
وبعد ذهابي إلى فرنسا، وتناول الطعام مرةً واحدة في اليوم، كنت أجهد نفسي بين دراسة الفلسفة في السوربون صباحًا، والموسيقى في الكونسرفتوار بعد الظهر، والقراءة وعزف الكمان مساءً. تعبت وأحسست بالإرهاق، فذهبت للكشف بعيادة المدينة الجامعية، كانت وجبة الطعام بسبعة فرنكات ونصف، وكنا نستحق وجبتَين، وكانت تخفض للطلاب دون مِنح إلى خمسة فرنكات ونصف، ثم تخفض مرةً ثانية للطلاب الأكثر فقرًا مثلي إلى ثلاثة فرنكات ونصف، وبما أنني كنت أتناول الطعام مرةً واحدة فقط في اليوم، كنت أبيع بطاقة الوجبة الثانية بمبلغ سبعة فرنكات ونصف؛ فكنت أكسب أربعة فرنكات في الوجبة. وفي مرةٍ وجَّه لي أحد الطلبة الفرنسيين الإهانة لأنه اشترى البطاقة بسبعة فرنكات ونصف؛ فوصفني بأنني تاجر جشع ولكن ماهر؛ حيث أشتري البطاقة بثلاثة فرنكات ونصف وأبيعها بسبعة ونصف. حزنت للإهانة وقلت في نفسي يا ليته كان يعلم السبب. فاكتشف الأطباء أنني مصاب في الرئة اليمنى بمرض الدرن أي السُّل. حجزوني مدة أربعة أشهر للعلاج بمادة تنقط عن طريق الوريد مرتين يوميًّا. وطلبوا مني أن أعيش كما يعيش باقي البشر، أن آكل لأعمل، وإلا قضيت على حياتي بنفسي.
وبعد عودتي إلى مصر كنت في منزل أخي. اكتشفتْ بنت أختي الطبيبة أن لون بشرتي أصفر. وكنت أنهج عند صعودي السلم؛ فأخذتني بالضرورة إلى مستشفى القصر العيني، فوجدوا أن أربعة شرايين في القلب مسدودة، وأنني أعيش بشريانٍ واحد. فأشاروا عليَّ بضرورة إجراء عملية للقلب المفتوح، وعلى يد أفضل جراح، ولكنه يجري العمليات بمستشفى السلام الدولي وليس بالقصر العيني؛ لأنها كانت أفضل. مكثت أسبوعًا بالمستشفى، وبعدها خرجت محاولًا ألا أجهد نفسي في العمل.
وفى مرةٍ أخرى اكتشف الأطباء وجود حصواتٍ صغيرة بالمرارة؛ فخشوا أن تكبر وتسد قناة المرارة؛ وطلبوا إجراء عمليةٍ جراحية لاستخراج الحصوات ولاستئصال المرارة، ثم وجدوا التهابًا «بالبروستاتا» فطلبوا استئصالها أيضًا.
ولما أُصبت بداء السكري وبدأت جروحه تظهر على قدمي، طلب الأطباء مداواة الجروح وهو الأمر الذي استغرق مني عدة سنوات بعد أن عرضتُ الأمر على أكثر من طبيب، ثم وجدوا السكر قد امتد لقدمي ووصل الالتهاب لقدمي؛ فطلبوا استئصال الإبهام خشية وصول الالتهاب لكل القدم.
وبعد أن طال المرض وطالت رقدتي على الفراش عدة شهور متواصلة، ظهرت قروح الفراش، أسفل الظهر، وعالجتها بصعوبةٍ بالغة. ومنعني الأطباء من الجلوس على مكتبي؛ فالساقان لا بد أن تكونا مرتفعتين إلى أعلى، حتى لا يتدفق الدم والماء إلى القدمين فيتورَّمان.
ثم مرةً أخرى أخذوا عينات من تحت إبطي لتحليلها، وجاءت النتيجة سلبية. وكانت نتيجة تحليل الدم تُظهر احتياجي للبلازما.
وبدأ نظري يضعف أكثر فحاولت علاجه بقطرات العين الدائمة صباحًا ومساءً، ولكني ما زلت غير قادر على القراءة والكتابة؛ ولذلك أجريت عمليتَي المياه الزرقاء والبيضاء، وحقن الأطباء عينيَّ ثلاث مرات بعلاجٍ يساعد على تحسُّن النظر، ولكن لم يقوَ بصري.
ثم لاحظ الأطباء عند تحليل الدم بأن نسبة البلازما قليلة، أقل من المتوسط، نتيجة لالتهاب بالدم؛ فدخلت المستشفى عدة مرات لإجراء عمليات نقل الدم.
ثم أصبت بهبوط ضغط الدم؛ فأوصى الأطباء بعلاج لتنظيم الضغط.
ومرة وقعت على الأرض كنت بغرفة النوم، فتعثرت بطرف سجادة فانكسر الحوض بسبب الوقوع، فأُجريتْ لي عملية لتركيب مفصلٍ صناعي معدني بدلًا من الذي انكسر. رقدتُ بعدها على الفراش عدة أشهر وأنا غير قادر على الحركة. لم أستطع حتى إجراء جلسات العلاج الطبيعي.
ثم زاد تدهور نظري إلى حد لم أستطع الرؤية سواء للقراءة أو الكتابة ولا حتى النظر للشاشة الضوئية. فاستعنتُ بجليستي ومعاونتي على القراءة والكتابة.
وما إن الْتأمت جروح السكر حتى استعنتُ بالعلاج الطبيعي لمساعدتي على النهوض والجلوس والسير بمساعدة المشاية ولو لخطواتٍ قليلة.
وبعد أن كنت أملأ العالم سياحة وحضورًا للمؤتمرات والندوات في مصر والخارج، استلقيتُ راقدًا على الفراش شبه ضرير وشبه عاجز. فإذا قمت فإنني أستعين بكرسيٍّ متحرك يدفعه مرافقي الممرض والمقيم عندي منذ خمس سنوات. أنفعل عليه وينفعل عليَّ ولكني لا أستطيع العيش بدونه. يرافقني في كل مكان، في المستشفيات، وفي السفر إلى المؤتمرات بالخارج؛ فهو خير رفيق وممرض، يعاونني على حياتي الخاصة، أتعب وأحزن لغيابه أثناء الإجازات حيث يعيش بقرية الصفط بمحافظة المنيا، يغيب أسبوعًا، أو أكثر، وأستعين ببديلٍ أقل خبرة ولكني أتحمل حتى يعود مرافقي وممرضي الأول. وهو على مستوًى عالٍ من الثقافة والفن؛ يضحكني بالنكات، ويسرني بالغناء لي، ويُطلعني على أهم الأخبار في مصر والعالم، وآخرها تشبُّث الرئيس الأمريكي بالبيت الأبيض، ورفضه تسليم الرئاسة لخليفته، وقيام أنصاره بالهجوم على مبنى الكونجرس، وتحطيم زجاجه دون أن يقول آخر: «العنف في أمريكا» كما يُقال عن العنف عندنا في الوطن العربي والعالم الإسلامي. وكان يحضر لي المراجع المطلوبة على رفوف مكتبتي ويرجعها بعد أن عجزتُ عن النزول للمكتبة؛ وذلك لأن السلالم مرهقة نزولًا وصعودًا. يتحمل عناء الأتربة نظرًا لهجران المكتبة فتراتٍ طويلة، ولأنني كنت أستخدم مكتبي بالطابق العلوي فلا أضطر للنزول والصعود. كان يعرف أماكن الكتب وموضوعاتها، كان يكفيني أن أشير إلى الدولاب ورقم الرف المطلوب ومن بين مئات الكتب وعشرات الدواليب يحضر المطلوب بشكلٍ دقيق، يعرف النسخ المطلوبة، وعناوين موضوعاتها الملصقة على كل رف كما هو الحال في المكتبات العامة الضخمة، لم يكن يخطئ، ويحضر لي المطلوب فورًا، فساعدني ذلك كثيرًا.
أدركتُ قيمة الصحة وقيمة الجسد، وندمتُ على إهماله، وكيف فرض عليَّ نفسه عندما أصبحتُ شيخًا كبيرًا. وماذا كنت أفعل وأنا في سن الشباب وكلي حركة وحماس ونشاط للعمل، وكأن روحي لا جسد لها. وكنت أسخر من الفلاسفة المعاصرين الذين يجعلون الجسد مركزًا للكون؛ يتحرك في المكان، ويتكلم، ويجادل، ويصارع، بل ويحب، وأتهمهم كما يفعل السلفيون حاليًّا بأنهم ماديون. وعرفت بعد ذلك أن الجسد هو الذي يحمل العقل والروح، فبدون الجسد يختفي العقل، وتختفي الروح، والجسد هو حاوي القلب، والقلب هو الذي يمد الجسد بحرارته، كما قال عمر الخيام:
ومن أجل العلاج والعمليات الجراحية كنتُ نزيلًا دائمًا بالمستشفيات. وأدركت الفرق بين المستشفى الخاص والمستشفى الجامعي؛ فالمستشفى الخاص أقرب إلى التجارة وليس إلى علاج للمرضى، يريدون منه المكسب أكثر مما يعطونه من العلاج. كنت في أحد المستشفيات التي أخذت اسمًا إسلاميًّا للتغطية على الكسب من المرض، والتجارة بالمريض. مكثتُ ليلةً واحدة فيه، وكان ثمنها ثلاثة آلاف جنيه؛ فعجبت من الثمن المرتفع. وطلب مني أحد الأطباء أن أنتظر ليلةً أخرى حتى يسأل الإخصائي أو الاستشاري عن إمكانية المغادرة، فسألته عن سبب ارتفاع ثمن الليلة بالمستشفى؟ فأعطاني كشف المصروفات، ورأيت أن علبة الزبادي الصغيرة التي أبتاعها من محل البقالة بحوالي جنيهٍ واحد ثمنها في المستشفى خمسة وسبعون جنيهًا؛ فقررت الخروج بعد أن دفعتُ ثمن الليلة، وعدت إلى المنزل وأنا أفكر كيف أصبحت تجارةً كبيرة؟!
وفي مرةٍ أخرى كنت في حاجة إلى نقل دم؛ فذهبتُ إلى مستشفًى خاصٍّ قريب في قسم الطوارئ. رأيت طابورًا من المرضى وكان ترتيبي العشرين. فعجبت من الانتظار حتى في قسم الطوارئ والذي من المفترض يعتمد على السرعة! وطلبت ما جئت من أجله؛ نقل الدم لقلة البلازما، فطلبوا أن أدخل المستشفى حتى يقوموا بهذا الإجراء. وفي المستشفى رأيتهم يُجرون كل التحليلات الممكنة وغير الممكنة، وكشوف الأشعة الممكنة وغير الممكنة. ومرت الليلة الأولى دون نقل الدم، وانتظرت الليلة التالية، فقالوا إن التحليلات لم تكتمل بعدُ، وأجروا أيضًا التحليلات الضرورية وغير الضرورية. وعندما حلَّ الليل سألت: «أين نقل الدم؟» قالوا: «إن الدم يأتي من مستشفًى آخر قريب وأنه لم يصل بعدُ.» فقلت: «إن نقله لا يستغرق أكثر من ساعة، وأرجو إعطاء الدم الليلة فأنا لا أستطيع الانتظار أكثر من ذلك.» ومرت الليلة الثانية ولم يصل الدم بعدُ، فصرخت فيهم: «أريد الخروج!» قالوا: «انتظر، فالدم قادم.» قلت: «لا أريد دمًا بل أريد الخروج.» وصرخت فيهم عدة صرخات بأنهم تجار وليسوا أطباء، وأن هذا المستشفى بقالةٌ كبيرة للتكسب، وليس مستشفى للعلاج؛ فأحضروا الدم بسرعة، ونقلوه عن طريق ساعدي. وقالوا: «انتظر حتى نحلل الدم، ونعرف هل تريد كميةً أخرى أم أن نسبة البلازما قد وصلت إلى المستوى المطلوب أو ما يقرب منها!» فانتظرت الليلة الثالثة. وقلت لهم في الصباح أن يحضروا كشف الحساب لأنني سوف أخرج مهما كانت نتيجة التحاليل. كانت نتيجة التحليل قد قاربت المتوسط، فأردت الخروج، وكان الحساب تسعة آلاف جنيه، دفعتها في مقابل كيسٍ واحدٍ من الدم، يأخذون بدلًا منه من أحد زوار المريض إجباريًّا ومجانًا لإعطائه لمريضٍ آخر بآلاف الجنيهات، بالإضافة إلى إقامة ثلاث ليال دون داعٍ. عرفت أن المستشفيات الخاصة تجارة، لا يدخلها إلا التجار، ورجال الأعمال، وسكان التجمعات والمدن الجديدة. كنت قد دفعت ثمانية آلاف جنيه عند الدخول، وأعطيتهم ألفًا أخرى حين الخروج، وتساءلت: «وماذا يفعل الفقراء؟!»
وذهبت مرةً أخرى إلى مستشفى القصر العيني والمعروف بالفرنساوي؛ لأن فرنسا هي التي أنشأته، وهو مبنًى مجاور لكلية طب جامعة القاهرة وتابعٌ لها، وعندي بطاقة علاجٍ مجانية فيه، ولكني كنت سأدفع مقابل تكاليف إقامة المرافق. قضيت فيه يومًا واحدًا، ودفعت فيه خمسمائة جنيه تكاليف إقامة مرافقي تحت الحساب. ولما غادرت اليوم الثاني كان حسابه أربعمائة جنيه. وتعجبت لأنهم وعدوا بإرجاع باقي المبلغ بعد شهرين، ولم أستلم شيئًا حتى الآن!
وعندما أُغلق المستشفى بعد زيادة أعداد مرضى الكورونا، حولوني إلى مستشفيين آخرين لاختيار أحدهما، اخترتُ الأول القريب من مستشفى القصر العيني، وانتظرت مدة ساعتين عند المدخل؛ لأن مدير المستشفى كان يمر على المرضى، وأبلغوني أنه سيأتي عن قريب، ولما لم يأتِ أحد بدأت في رفع صوتي عاليًا؛ فطلبوا أن أذهب لمدير المستشفى، قلت: «الحمد لله أن أحدًا سيستقبلني.» وصعدت إلى أعلى، قالوا: «انتظر قليلا حتى يأتي الطبيب المختص؛ لأنه يجرى الآن عملية جراحية.» فانتظرتُ ساعةً أخرى بجوار المصعد الكهربائي، ولما لم يأتِ أحدٌ رفعتُ صوتي مجددًا عاليًا غاضبا: ثلاث ساعات وأنا أنتظر! وخرجت من المستشفى غاضبًا، وأنا أفكر كيف يعالَج المرضى في بلادنا؟ وكيف يستقبلونهم؟!
وفي مرةٍ أخرى دخلتُ مستشفى القصر العيني الفرنساوي، وبدءوا في إعطائي محاليل كنت أحتاجها بالتنقيط عن طريق الوريد. وبعد مدةٍ قصيرة قالوا إن الأدوية انتهت من المستشفى وإن عليَّ شراءها على حسابي؛ أرسلتُ مرافقي الممرض لشرائها من صيدلية خارج المستشفى. وتكرر نفس الشيء عندما كنت أحتاج لحقن العين، فقالوا لا توجد إلا حقنةٌ واحدة بالمستشفى كله، وكنت أحتاج إلى ثلاث، وكان ثمن الواحدة خمسمائة جنيه، وكان عليَّ أن أشتري حقنتين بمبلغ ألف جنيه من حسابي الخاص.
وحضر طبيب العيون، وكان صديقي، وأعطاني الحقنتَين قائلًا: «هذا نوع من الفساد في المستشفى، يأخذون الأدوية مجانًا، ويبيعونها، ويطالبون المريض بشرائها، بدعوى عدم وجودها لديهم.»
وذهبت إلى مستشفًى آخر، وأظهرت لهم بطاقة العلاج الجامعي المجاني فأجلسوني على مقعد، وأتأنى مساعد طبيب يعرض عليَّ بضاعته وكأنه تاجر قائلًا لي: «ثمن هذه الغرفة كذا، وثمن هذه الغرفة الثانية كذا.» قلت لهم: «إنني أريد غرفةً مزدوجة؛ لأن ممرضي معي.» قالوا: «لا، هو في غرفة، وأنت في غرفة أخرى.» قلت: «لا، سأغادر.» وكان معي صديقي طبيب العيون من القصر العيني، قال: «لا تغضب.» وذهب وتحدث مع مكتب الاستقبال حتى وافقوا على ما أطلب، غرفةٌ واحدةٌ مزدوجة.
كان المطلوب وقتها إجراء جراحةٍ صغيرة لاستئصال جزء من إصبع قدمي خوفًا من انتشار الالتهاب في باقي الأصابع، ثم القدم، ثم الجسم كله.
أتى الجراح في اليوم التالي، ونزلتُ إلى غرفة العمليات، وبعد إجراء الجراحة طلبوا الانتظار ليلةً واحدة ثم الخروج في اليوم التالي، قالوا في اليوم التالي قبل الخروج إني أحتاج إلى تحليلات كذا وكذا، وأحتاج إلى أشعة كذا وكذا، وأحتاج أشعةً مقطعية وأخرى صوتية. فقلت: «وما الحاجة لهذا كله؟ لقد أجريت العملية الجراحية وسأخرج اليوم أو غدًا.» قالوا: «لا، سيأتي طبيب أشعة خاص ينقل جهازه حتى عندك في غرفتك لفحص الساقين؛ ليطمئنوا على نجاح العملية، ثم سيأتي طبيبٌ آخر ليفحصك الفحص النهائي ليلًا.» جاء طبيب المستشفى ليلًا ومعه جهاز الأشعة، وآلمني للغاية. ثم قالوا: «الإخصائي سيأتي غدًا ظهرًا.» وإنه يجب أن أقضي ليلةً أخرى في المستشفى. قلت لهم: «فلماذا يأتي الإخصائي وقد تم إجراء الأشعة المطلوبة في المستشفى؟» قالوا: «هو أدق.» ثم قلت: «وكيف يستعملون جهازًا غير دقيق في المرة الأولى، وتؤلمونني مرتين؟ مرة بجهاز المستشفى ومرة بجهاز الإخصائي؟» وصممتُ على الخروج دون انتظار الإخصائي؛ لأنه سيقوم بعمل تم عمله بالمستشفى ولا حاجة لتكرار الأشعة مرةً أخرى، كما أنه لا حاجة لدفع الثمن مرتين. وأصررت على الخروج في نفس الليلة، وقلت: «لن أمكث دقيقةً واحدة؛ لأنكم تجار تتاجرون بالمريض، وتجعلونه ضحية لكم ولتجارتكم، وسأقدم شكوى إلى الجامعة؛ فرئيس الجامعة أحد تلاميذي. احسبوا التكاليف المطلوبة الليلة وقدموها لي.» طلبوا يومها أربعة آلاف جنيه كانت مصاريف إقامة ممرضي ومرافقي، فدفعنا المبلغ المطلوب، وعدنا إلى المنزل فرحين بعد أن ابتعدنا عن التجارة بالمرضى في المستشفيات الخاصة.
وفى أثناء إقامتي بالمستشفى الجامعي كانت كل ممرضة تدخل غرفتي، إما تعطي حقنة، أو تقيس ضغطًا، أو نسبة السكر، كانت تنظر إلينا ضاحكة، وتطمئن هل فهمنا الدعاء؟ ثم تخرج، ثم تأتي عاملة النظافة مرة كل ساعة على الأقل، تحمل أدوات النظافة، المكنسة والجردل تحوم حول سرير المريض، تتظاهر بأنها تنظف أرضية الغرفة ذهابًا وإيابًا، وتتمنى لنا الشفاء، ولا تخرج من الغرفة إلا بعد أن تأخذ القسمة والنصيب.
وبعدها بساعة تأتي عاملة نظافة أخرى لتقوم بنفس العمل وتقول نفس الكلام، وتنتظر نفس القسمة والنصيب. ثم تقول إن العاملة السابقة نسيت تنظيف الحمام، وإنها قامت بذلك على الوجه الأكمل. تصل إلى باب الغرفة وقبل أن تذهب تعود وتتمنى لنا الشفاء العاجل، فكنت أعطيها ما فيه القسمة والنصيب مرتين، وكنت أتساءل كل مرة بيني وبين نفسي: هل الفقر؟ هل الجشع؟ هل غلاء المعيشة؟ هل قلة الرواتب؟ هل كل ذلك معًا؟
وكنت في مرةٍ أخرى بغرفتي في المستشفى، وكان التليفزيون لا يعمل. فسألنا: «ما السبب؟» فقالوا إن جهاز التحكم لتشغيل التليفزيون (الريموت كنترول) موجود في غرفة التمريض، ولا يعطى للمريض إلا إذا ترك بطاقته الشخصية في مقابله، فإذا أتت الممرضة ومعها الجهاز تعطيه لنا وتنتظر، وقد نسينا موضوع البطاقة الشخصية؛ تنتظر أن نعطيها ما فيه القسمة والنصيب لتسلمنا «الريموت كنترول»، ثم تخرج دون البطاقة. يكفيها ما أخذته من القسمة والنصيب.
بل إنه حتى عامل المصعد إذا دخل مريض المصعد تمنى له الشفاء، ويقول له إن المصعد عطلان، لا يتوقف عند الدور الذي طلبه المريض، ولكنه سيوقفه من أجله على وجه الخصوص؛ طمعًا في القسمة والنصيب.
وقد أسفر هذا التعامل التجاري وحتى في المستشفيات الإسلامية والتي تحولت إلى مستشفياتٍ خاصة بعد أزمة الحركات الإسلامية وتضييق الحكومة عليها؛ فكانت الممرضات وعاملات النظافة وعامل المصعد أكثر استحياءً خاصةً في المستشفيات الإسلامية خاصةً وصوت القرآن يرتفع في المصعد عند استعماله، وكان الاستحياء ليس من الطلب المباشر بل كان عن طريق النظرات حيث يفهم المريض المطلوب.
وبعد هذه التجارب المتكررة والكثيرة أصبحتُ لا أحب الذهاب للمستشفى، وأفضِّل أن يأتيني الطبيب لفحصي بالمنزل إذا كان الأمر لا يقتضي الذهاب للمستشفى، كنت أفضل ذلك؛ لراحتي وللثمن الأقل من المكوث في المستشفى لعدة أيام والانتظار لساعاتٍ في غرف الاستقبال.
كما اتبعت الصيدليات نظام توصيل الأدوية للمنازل مثل المطاعم ومحلات البقالة؛ لراحة المريض وللعائد المادي الذي يحصل عليه عامل توصيل الطلبات، ليواجه ضرورات الحياة. كانت بعض العائلات تبخل بهذا المبلغ البسيط فأصبحت «فاتورة» التوصيل إجبارية.
أما محصل الكهرباء والغاز فيكتفي بأخذ الفاتورة ولا يطلب أكثر. ويظل السؤال: هل هو الفقر والبيئة الاجتماعية أم الجشع والأخلاق أم تحويل الشعب كله إلى شحاذين يحتاجون للمساعدة؟ ولا تخجل الحكومة أن تفعل نفس الشيء عن طريق ضريبة المبيعات وضريبة الإيجارات وضريبة عبور الطرق السريعة وكافة أنواع الضرائب التي حكمت المحكمة الدستورية ببطلانها.