مثوًى أخير أم بدايةٌ جديدة؟
كل بداية لها نهاية، وكل نهاية لها بداية، ولا تسمى النهاية الأخيرة في هذه الذكريات بالنهاية السعيدة كما بدأت بالفقر السعيد، ولكنها تنتهي بتفكير في المثوى الأخير أي في نهاية الإنسان، وقبلها في وجوده في هذا العالم، وأداء رسالته فيه. ولا تعني الأخير الآخرة، أتى وترك الدنيا إلى عالمٍ آخر، بل تعني آلام الدنيا التي يبتعد الإنسان عنها. يعني المثوى الأخير: هل حققت رسالتي في الدنيا قبل أن أغادر إلى العالم الآخر؟ هل حققت ما تمنيته من «المنهج الإسلامي العام»؟ وهل حققت رسالة جيلي، فلكل جيل رسالة في عصره؟ وماذا بعد أداء الرسالة، هل أستمع إليها في «ذكريات» أم أصحح نفسي بنفسي؟ أم تنبت في ذهني شجرةٌ أخرى ولو على ضفاف النهر، تحمل فاكهةً جديدة لم تكن في ذهني من قبلُ؟ هل أترك هذا العالم إلى عالمٍ آخر ابتداءً من حياة القبر، نعيمًا أو عذابًا حتى البعث الجديد، حتى يوم الحساب؟
وإذا حاسبتُ نفسي ابتداءً من حياة القبر وشريط الذكريات حتى الحياة الأخرى التي يتم فيها الحساب فأنجح أم أرسب؟ أُثاب أم أُعاقب؟
المثوى الأخير ويقظة الضمير تحت الأرض استعدادًا ليوم حساب خارج الأرض، فالغيبيات التي بعدتُ عنها في الدنيا، وتفضيل المشاهدات عليها ها هي تحضر أمامي بكل ثقة ليسمع الناس جوابي في الآخرة كما سُمعتُ في الدنيا. فالبعث بعد الموت حياة الضمير وشريط الذكريات حتى يعرف الإنسان ماذا فعل، ويتذكر ما نسيه بفعل الزمن، وانتظر ساعة الحساب مع غيره.
المثوى الأخير افتراض أتحقق منه وأجيب عنه، هناك تدوين للأفعال، يسارًا ويمينًا، فأصعد إلى أعلى فأجد حسابي على مائدة القضاة، الذي قد يطابق أو لا يطابق شريط الذكريات. سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى. فالقراءة المستنيرة ضد النسيان. والنسيان والرد إذ لا تستطيع الذاكرة أن تتذكر كل شيء. قد تُخطئ في التاريخ الموضوعي؛ لأنه من الصعب تذكر الموضوعات التي لا تترك في الوعي تجارب حية. فيكون ذلك فوق الاستطاعة. رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ. أليس أداء الرسالة في الحياة بصدقٍ وإخلاص فيه نجاةٌ؟ أليس قضاء الإنسان عمره في البحث والتقصِّي، في العلم والتعلم مثل الصلاة وباقي الأركان الخمسة؟ أليس العمل من أجل تحقيق غايةٍ نبيلة، تحرُّر أرض، أو تحرير بشر أو تحقيق عدالة ومساواة، أو قضاء على ظلم وطغيان، أو قطع لدابر الاستبداد، أليس في كل ذلك ما يثقل الميزان؟ فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ * نَارٌ حَامِيَةٌ.
الأفعال الطيبة تجعل الإنسان في مثواه الأخير في راحة واطمئنان، وكأنه أدَّى الشعائر كلها منذ الصبا وحتى الممات. والعلم جهاد، والتعلم مقاومة للأعداء «العلماء ورثة الأنبياء.» العالِم قبل أن يكشف عنه الحجاب فهو في ظلامٌ، ولا يهم العالِمَ في أي أرض يموت وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ.
والتفكير في أين يبقى الجسد؟ مع الأهل والأصدقاء؟ وإذا امتلأ المكان الأول فهل يجوز للزوجة الحبيبة والأبناء الأعزاء الحصول على أرضٍ جديدة لمثوى الأبناء والأحفاد؟ أم أن الأرض تتسع لكل من أتاها ليستقر فيها، ولا ترفض أحدًا، فلم يبقَ من الجسد إلا العظم، ولا يعرف الإنسان بأي أرضٍ يموت؟
وعندما يحين المثوى الأخير لا يستطيع الإنسان أن يعود إلى الوراء من جديد ليحسن أفعاله، وينقِّي ضميره، وتصدق نياته؛ فالزمان يتقدم ولا يتأخر، والندم لا يجدي لأنه استرجاع للماضي الذي ولَّى. والندم لا يفيد لأنه تحسر على ما مضى، وحزن على ما فات. يود الإنسان أن يعود ليفعل صالحًا، وقد كان العمر متسعًا أمامه، ولكن الزمن لا يعود إلى الوراء. والنهاية لا تكون بداية، والبداية الثانية لا تكون إلا في الحياة بعد التوبة، والاستغفار لا يفيد، فلقد تم الفعل وانتهى؛ فالمولود لا يعود إلى رحم أمه. والرحمة الإلهية مشروطة بفعل التوبة في الحياة، وليس كما يقول عمر الخيام: «… إن لم أكن أخلصت في طاعتك … فإنني أطمع في رحمتك».
فالفعل السيئ في الدنيا لا تتبعه رحمة في الآخرة، ولا يعني أن الله يغفر الذنوب جميعًا إلا الشرك، أن الشرك هو مجرد حكمٍ عددي بأن الله واحد لا شريك له؛ فالتوحيد في الدنيا بين القول والعمل، بين الظاهر والباطن، بين الفكر والوجدان، حتى لا يكون الإنسان منافقًا، يقول ما لا يفعل، ويفكر في شيء لا يشعر به؛ فالتوحيد هو وحدة القول والعمل، والفكر والوجدان، فخالد بن الوليد شعر وهو في المثوى الأخير أنه لا يوجد في جسده موضع ليس به ضربة سيف أو طعنة رمح، وهو يموت كما تموت النعاج. فالفعل الموحد هو أساس التوحيد، والتوحيد باللسان ليس توحيدًا بالأفعال؛ فالتوحيد شهادة على العصر وليس هروبًا خارج الأوطان.
ويعني المثوى الأخير الفعل الممتد من المولد حتى الممات، وهو شريط الذكريات الذي يمرُّ في ذهن الإنسان في اللحظة الأخيرة، يرى مسار حياته، ولا يندم عليها، فإذا ندم توقف الشريط، فلم تعد هناك جدوى لرؤياه نظرًا للحظات المأساة فيها.
يهتم الإنسان بتراثه قبل المثوى الأخير. وليس التراث هو المال والذهب والفضة والأرض والمصنع، بل هو ما يتركه في ذهن وفكر أقرانه، وفي سجل التاريخ، يصنعون له سيرةً أخرى مُدوَّنة، كما يدون التاريخ تراثه في الأذهان والعقول وفي القلوب وفي الأنفس، نارٌ جديدة تشتعل في قلوب الأجيال القادمة، حتى وإن احترقت مؤلفاته تبقى.
«الذكريات» حركة في التاريخ وجزء من لهيب الوطن، تحرق من يعتدي عليه، وتُدفئ من يبرد بسبب هجرة الأوطان.
و«الذكريات» حياة لمن يحياها، ونورٌ لمن لم يحجب نوره.
و«الذكريات» حقيقة الخلود لصاحبها في الأرض قبل السماء، تحرك الناس، وتشعل القلوب إذا ماتت النفوس، وتحمل الوجدان.
لا تحتاج «الذكريات» إلى نصبٍ تذكاريٍّ حجري أو معدني ثابت كتمثال الشرك، بل تحتاج إلى قراءةٍ مستمرة لأقوال، ومشاهدات لأفعال.
«الذكريات» طينةٌ حية وليست حجرًا ميتًا، تُحفظ في القلوب، وتتحول إلى أمثلةٍ شعبية، وأغنياتٍ بلدية مثل مذكرات أحمد عرابي.
وعندما يبلغ الإنسان من العمر عتيًّا تفرض اللحظات الأخيرة نفسها عليه، وتجعله يتساءل: يا ترى هل مرَّ زمنٌ لم أفعل فيه شيئًا؟ هل تركتُ الزمن يفلت من بين أصابعي ولم أقم فيه بعملي نحو المجتمع والوطن؟ هل وأنا في المثوى الأخير أو قاربت منه على علم بما أنجزته في الماضي؟ وإلى أي حد كان نافعًا للناس؟ هل أنا مستعد لحكم التاريخ عليَّ في المستقبل؟ وقادر على الدفاع عن نفسي، دون طلب للمغفرة والرحمة؟ هل التفكير في اللحظات الأخيرة وأنا ما زلت حيًّا يمنعني من أن أكون سعيدًا أو أن أكون قادرًا على الاستمرار في العطاء والعمل؟ أكتب هذه الذكريات وأنا طريح الفراش، تساعدني قارئة الفنجان، أسمع منها، وتكتب لي وأنا أتألم من لهيب آلام الأعصاب، لا أخاف من المستقبل إذا كنت قد أديت واجبي في الماضي، وما زلت أؤديه في الحاضر.
ومع ذلك أحزن لتركي الحياة ومغادرتها دون أن أدري ماذا حققتُ؟ وقيمة ما حققت؟ لا أحب الشفاعة في الدنيا ولا في الآخرة؛ فأعمالي تشفع لي. وصدقي يدافع عني، وإخلاصي يمحو أخطائي الصغيرة التي يخشى منها بعض المؤمنين. هم يخشون من الصغائر، ومستقبلي مرهون بفعل الكبائر التي تبقى في الذكريات، في حين تُنسى الصغائر، وهي ما سماه القرآن الكريم «اللمم».
أفكر في الموت دون أن أخشاه إحساسًا مني بأنني أديت رسالتي حتى النهاية، حتى وأنا على فراش المرض كنت أعمل بفضل مساعدة القارئة، وكنت أنهي كتابي الأخير «الفكر الوطني في العالم الثالث، أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية». كنت أتصوره جزءًا واحدًا، ولما عزَّ عليَّ أن أساوي مصر والوطن العربي بباقي دول العالم الثالث، أفردت لهما جزءًا ثانيًا «مصر والوطن العربي والعالم الإسلامي». ولما انتهى هذا الجزء ورأيت أن الفصل الأول «نمو الوعي الوطني في مصر» والثاني «مصر المعاصرة» ورأيت الفصل الثاني قد انقسم إلى الوطن العربي، والعروبة، والإسلام، والإسلام والعروبة. أصبح هذا هو الجزء الثاني، ثم اضطررت لعمل جزءٍ ثالث يضم الإصلاح والنهضة، والصحوة الأسيوية والثورة الإسلامية.
ولما تباطأت السكرتارية بتحويل المخطوط اليدوي إلى نصٍّ مطبوع، بدأت في الجزء الثاني من «ذكريات» عن طريق الموضوعات وليس عن طريق المراحل العمرية.
وقبل أن أختتم الجزء الثالث من كتابي الأخير، والجزء الثاني من «ذكريات» برز أمامي موضوع آخر وهو «التفسير الشعوري للقرآن الكريم». ورأيت أن «التفسير الموضوعي» يقوم على تحليل المضمون والمعجم المفهرس، والبناء العقلي للموضوعات التي تهمنا مثل: الفقر والظلم والفساد. في حين أن التفسير الشعوري يقوم على الإحساس بالآيات كتجاربَ حية تُطابق التجارب الحية التي عشتها، ويستعمل تحليل الخبرات الشعورية في النص وفي الحياة، وقد يكون هذا آخر ما يتفرع في عقلي وفكري وذهني وقلبي من موضوعات إذا ما طال بي العمر وامتد الزمن.
ويبدو أن الأرض الطيبة، والرعاية السليمة بالمياه تُنبت زرعًا لا أتوقعه، كما حدث وأنا أصحح هذا الجزء الثاني من «الذكريات». برزت في ذهني دراسةٌ أخرى عن «الثقافة الشعبية في الأغاني والأزجال والأمثال العامية» للعام القادم ٢٠٢٢م. فلا يوجد مثوًى أخير ولا نهاية للبداية، وإنما توجد باستمرار بدايةٌ جديدة للنهاية؛ فالمثوى لا تعني بالضرورة الموت، بل قد تعني تجدد الحياة، والأخير أشبه بالطريق المستقيم الذي لا نهاية له إلا في الأفق، وعلى ضفتَيه تنبت الأشجار والنخيل الذي لا تنتهي ثماره ونتاجه، وهذه حقيقة وليست مُزحة أضحك بها كما كنت مع ابنتي الصغرى ونحن نسير في الطريق العام، عندما كنا في الأندلس وتملُّ من ركوب السيارة، وتسأل: «متى سنصل؟» وكنت أقول لها: «عند هذه الشجرة الأخيرة.» ولا تأتي شجرة أخيرة؛ فالأشجار تتوالى باستمرار ولا نهاية لها، فتعبير «المثوى الأخير» لا يعني الرقدة تحت التراب كما يُنادي عبد الوهاب في أغنيته «أيها الراقدون تحت التراب» بل يعني استراحة المحارب الذي تتجدد ميادين القتال أمامه، وهو ما زال قادرًا على النزال. ولا يعني هذا التعبير أي إحساس بقرب النهاية الأخيرة، بل ببدايةٍ جديدة. ولا يعني الموت النهائي، بل الحياة المتجددة. ولا يعني التشاؤم والحزن على فراق من أُحب بل الأمل في المستقبل الذي لا يتحول إلى ماضٍ أبدًا، بل يُصبح مستقبل المستقبل؛ فتعبير «المثوى الأخير» لا يعني نهاية الحياة بالموت ولكنه يعني بداية الحياة بالأمل.
إذا كانت البداية لها نهاية فإن النهاية قد تكون بدايةً جديدة؛ فالإبداع الفكري بدايات لا نهايات؛ لأن الإبداع لا ينتهي؛ فبمجرد ظهور النهايات في «المثوى الأخير» انبثقت بداياتٌ جديدة بالرغم من ضعف الجسد. ويبدو أن ضعف الجسد يوازي قوة العقل كما لاحظ ابن سينا في البراهين على خلود النفس، فالزمان لا يتوقف؛ إن بدأ فإنه لا ينتهي. والمهم أن يشعر الوجود الزماني بمساره وتجدده وبداياته الجديدة كلما قارب على الانتهاء؛ فالزمان مسارٌ متصل والجسد هو الذي يقطعه.
فإذا استمر الزمان عندي لكان في استطاعتي كتابة «الثقافة الشعبية في الأغاني والأزجال والأمثال العامية» لأبين أنه لا فرق بين الوحي النازل من السماء والإبداع الأدبي الصاعد من الأرض. وربما كتبت أيضًا «صورة المرأة في القرآن الكريم».
الأولى: المرأة المغوية «حواء»، الثانية: المرأة الغائبة «امرأة نوح»، الثالثة: المرأة الشاذة «امرأة لوط»، الرابعة: المرأة المضحِّية «سارة زوجة إبراهيم» ضحَّت لتزوجه هاجر، الخامسة: المرأة الجميلة «بلقيس ملكة اليمن»، السادسة: المرأة المفتونة «امرأة العزيز» التي افتُتنت بيوسف، السابعة: المرأة الأم «أم موسى» التي وضعت ابنها في النهر، الثامنة: المرأة المستحية «الفتاة المستحية التي استسقت موسى ليسقي لها»، التاسعة: المرأة المؤمنة «مريم أم عيسى المسيح»، العاشرة: المرأة المحبة «خديجة زوجة الرسول»، الحادية عشرة: المرأة المحبوبة «عائشة بنت أبي بكر»، الثانية عشرة: المرأة الزوجة الفاتنة «زينب».
ويتضمن الجزء الثاني أحكام الزواج والطلاق، والمهر، والخصام، وتعدد الزوجات، وملك اليمين، والسبايا والجواري والإماء، والإرث، والشهادة، واللباس وغطاء الجسد.
وإن امتد الزمان كتبتُ عن الجدل القرآني بين المصدق واللامصدق سواء كان ذلك في الدنيا أو فيما بعدها، وهزيمة حجج اللامصدق وانتصار حجج المصدق. الأول: انتصار الإيمان على العقل. والثاني: انتصار العقل على الإيمان.