المواهب الثلاث
لم أكتشف مواهبي في الكُتَّاب؛ «كُتَّاب الشيخ سيد» ولا في المدرسة الأولية؛ مدرسة سليمان جاويش، ولا في المدرسة الابتدائية؛ مدرسة السلحدار، بل اكتشفت مواهبي في المدرسة الثانوية؛ مدرسة خليل أغا في فِرق النشاط المدرسي.
وفي كُتاب الشيخ سيد، كنا نحفظ القرآن، نحضر للشيخ طبق سلطة كل يوم أو مبلغ قرشٍ واحد ندفعه له، وكنت أتساءل: «كيف يمكن حفظ القرآن في هذه السن الصغيرة؟ وما الفائدة من حفظ شيء لا نفهمه؟ ولماذا نُعاقَب من الشيخ بالضرب بالعصا إذا ما نسينا؟»
وكان الشيخ يجلس على الأرض مربِّعًا أي واضعًا ساقًا فوق الأخرى، كنا نرتدي الجلاليب مقلِّدين إياه في جلسته، لا يستطيع أحدٌ منا أن يأتي متأخرًا وإلا ضربه الشيخ بالعصا.
وكانت الأمهات سعيدات بإرسال أطفالهن إلى الكُتاب حتى يتفرغن لشئون المنزل.
وفي المدرسة الأولية كنا نلعب في فناء المدرسة، وفي الفسحة كنا نخرج ونقف على باب المدرسة لشراء «السميط» وهو خبز يُعجَن على شكل حلقةٍ مستديرة يُنثَر عليها السمسم، وكان ثمنها نصف قرش، وكان البائع يجلس على الأرض يضع صاج «السميط» أمامه، ويفرد جلبابه أمامه؛ ليضع الأطفال القروش عليه، كان الزحام عليه شديدًا، وكان اسمه «صبحي». فيأخذ الطالب «السميط» بيسراه ويدفع نصف القرش بيمناه. وتقع في حجره، ولم يكن معي نصف قرش فكنت آخذ السميطة وأقول له: «السميط أهو يا صبحي.» وكان لا يعرف كيف يسيطر على الزحام فلا يرد، ولا ينتبه، ولا يطالبني بالنصف قرش، فكنت آخذه وآكله أثناء الفسحة ولكنني كنت أعرف أنني أعمل عملًا غير صحيح، فكنت بعد أن آكل السميط في الفسحة أشعر بالألم، ويتجهَّم وجهي، وليس لي الرغبة في اللعب.
وفي المدرسة الابتدائية كنا نلعب كثيرًا لكبر واتساع فناء المدرسة المحاط بالأحجار والتماثيل التي تتساقط من سور صلاح الدين، وكان يتسع للجري واللعب والاختباء وراء العواميد المهدمة.
بدأت بالفرق الرياضية، القسم المخصوص، وهي مجرد ألعابٍ سويدية لتحريك وتسخين عضلات الجسد، ثم «العُقلة والمتوازيين» لتقوية المهارة الجسدية، حيث نتشعلق في العقلة ونلتفُّ حولها، والوقوف على اليدين في المتوازيين، وتغيير الوضع لتقوية عضلات الذراعين، ولعبت كرة السَّلة قليلًا، ولم تستهوني كرة القدم، ثم انضممت لفرقة الرسم بالأقلام السوداء والملوَّنة. وذات مرة جمعنا مدرس الرسم وطلب منا رسم فكرة لغلاف كتيب عن الصحة المدرسية؛ فأسرعت بالاقتراح لرسم ممرضة، ترتدي الأبيض وتحمل إبرة محقن كبيرة، وهي تسير على ساق واحدة وترفع الأخرى. أعجب المدرس بالفكرة ونفَّذها مباشرةً. وكانت الألوان بأبيض وأسود وأحمر.
ومع ذلك تركتُ فرقة الرسم إلى فرقة الموسيقى، ولم تكن هناك آلاتٌ موسيقية إلا البيانو والأكورديون والكمان والطبلة، وكلها ملك للمدرسة. أعجبني الكمان وتمرنت عليه بمساعدة مدرس الموسيقى. أعجبني الكمان إذ كان يُصدِر منه لحنًا غنائيًّا متصلًا، حادًّا وغليظا، وكان له رنينٌ عاطفيٌّ رومانسي. أما البيانو فكان متقطع اللحن، وقد يتميز البيانو عن الكمان بأن أصواته مضبوطة في التون والنصف تون. في حين أن الكمان أصواته غير مضبوطة؛ لأنها تصدر عند تثبيت الأصابع فوق الوتر في مكانٍ مخصص وإلا صدر الصوت نشازًا. فرجعتُ إلى المنزل وأنا في حيرةٍ بين الرسم والموسيقى، ولكني جمعت بينهما في رسم الشخصيات الموسيقية، فكنت آخذ صورةً صغيرة لكبار الموسيقيين، وأقسمها مربعاتٍ صغيرة لا تتجاوز الملليمتر. ثم آتي بلوحةٍ كبيرة وأقسِّمها بدورها إلى مربعات، فيُكبَّر المربع الصغير الأول إلى سنتيمتر أو اثنين طبقًا لحجم اللوحة البيضاء، وأرسم مربعًا مربعًا فتخرج الصورة مكبرة طبق الأصل، وهو ما تفعله أجهزة التصوير حاليًّا، وتلك كانت طريقتي في الرسم. وكنت أيضًا أرسم باستخدام الفحم الأسود، وكنت أجلس ساعاتٍ طوال على المنضدة، والوالد ينظر إلى ما أفعل. رسمتُ شخصياتٍ عالمية: بيتهوفن أشعث الشعر، وشوبرت بهندامه الأنيق، وشوبان بوجهه المتألم، ثم حافظ إبراهيم شاعر النيل، وأحمد شوقي أمير الشعراء. وعلقت هذه اللوحات على جدران غرفتي، حيث كنت أقطن فيها مع أخي. ولم أدرِ ماذا أفعل بها عند مغادرتي إلى فرنسا؟ خشيت عليها، وأنزلتها، ولففتها جيدًا ووضعتها على سطح الجمالون فوق مخازن السحار. ولا أدري أين هي الآن؟ هل طارت في الهواء أم أتلفها المطر؟
أما عزف الموسيقى فيحتاج إلى شراء آلة الكمان التي كنت أحبها، وكانت أسرتي لا تملك الثمن، ومهما أضربتُ عن الطعام أو اعتصمتُ في المنزل في زاوية لا أتحرك بالساعات الطوال إلا أنني لم أستطع الحصول عليها. وكانوا يطلقون عليَّ اسم «غاندي» لأنه كان معروفًا بإضرابه عن الطعام حتى الموت لإجبار بريطانيا على الانسحاب من الهند. فنالت الهند استقلالها، ولم أنل أنا الكمان.
وكان والدي يصاحبني معه في الحفلات الموسيقية التي تُدعى لها الفرقة الموسيقية بأكملها، وذلك كان في الحفلة الختامية لمدرسة الجيزويت الثانوية في أول شارع رمسيس من ناحية محطة مصر. لم أكن أفهم شيئًا من خطب الترحيب والكلمات الرسمية للناظر والمدرسين والطلبة الأوائل. وما إن ترتفع الآلات النحاسية والتي كانت تمثل جوهر الفرقة بموسيقاها، ويرتفع معها والدي ﺑ «الترمبون» وأسمع الأصوات الموسيقية وهي تصدح بأنغام الفرح بتخرُّج الطلاب في الفرقة النهائية حتى تنفرج أساريري وأرى الأضواء تنعكس على آلات النفخ النحاسية فيزداد فرحي بالموسيقى، وتتألق مواهبي الموسيقية، وأقول في نفسي ليتني أكبر، وأصبح موسيقيًّا مثل هؤلاء الموسيقيين! وبينما أنا أتأمل هذا الفرح أجد طبقًا من الطعام المزخرف بالألوان قد وُضع على فخذي من جرسون المدرسة مقدِّمًا إياه لي قبل الموسيقيين وهو يبتسم لهذا الصبي الذي لم يتجاوز عشر سنوات بصحبة الموسيقيين رغبةً في سماع الموسيقى. وأشار إليَّ والدي وهو يعزف أن آكل؛ لأن الموسيقيين سيأكلون في فترة الاستراحة، فقد كنت في حيرة بين هذا الطعام الذي لم أرَ في جماله كما رأيت قبل اليوم، والاستماع إلى الموسيقى الفَرِحة التي أدخلت في قلبي السرور، وتمنيات المستقبل.
وظللت أفعل ذلك حتى الثانوية العامة. ودخلت مسابقة التوجيهية في الفلسفة، وكانت التوجيهية يومئذٍ إما علوم، وإما أدبي رياضة، وإما أدبي فلسفة. وكنت الأول على القطر المصري كله في مادة الفلسفة. ووُضع اسمي على لوحة الشرف بجوار حجرة الناظر، وكانت الجائزة عشرين جنيهًا. ودعا ناظر المدرسة يومها الملك فاروق لحضور حفل توزيع الجوائز، وحضر الملك وأعطاني محفظةً جلدية. فقدمتها لوالدي هدية حيث كان حاضرًا للحفل، وقسمت العشرين جنيهًا أربعة أقسام: خمسة جنيهات لإصلاح أسناني، وخمسة لشقيقاتي البنات، وخمسة اشتريت بها ساعة، وكانت أول ساعة أشتريها وأرتديها، وخمسة اشتريت بها الكمان. وبدأت أعزف عليه في فرقة المدرسة. ثم دخلت معهد شفيق للموسيقى، والذي كان قريبًا من سور قصر عابدين بباب الخلق.
وبعد الحصول على الشهادة الابتدائية، وبعد اكتشاف موهبة الرسم؛ رسم الشخصيات الشعرية والموسيقية، بدأت في رسم الخرائط؛ خرائط القارات الخمس وتكبيرها، وكنت أنظر للعلاقة بين البر والبحر، وأتأمل تداخل المياه في الأرض فتكون الأنهار والبحيرات، وكنت أتأمل موقع مصر بين القارات الثلاث؛ أفريقيا وآسيا وأوروبا. ولم تكن أمريكا اللاتينية قد برزت بعدُ إلى الوجود الثقافي كما هو الحال الآن، وكنت أندهش لاتساع قارة آسيا مقارنةً بقارة أوروبا وصغرها جغرافيًّا مع أنها أنشط وأقوى حضاريًّا. وكنت أنظر إلى أفريقيا الممتدة جنوبًا وأندهش من خط الاستواء الذي يقسم القارة لشمال وجنوب.
وكان زوج شقيقتي الكبرى يعمل بمصلحة المساحة، فكنت أذهب لهناك. كانت المصلحة قريبة من الجامعة، أستعين بخطاط المساحة للكتابة بالخط الثُّلث العريض اسم القارة على ورقةٍ ألصقها على أسفل الخريطة التي قمت برسمها، وكأن سياحتي حول العالم فيما بعدُ بدأت بالسياحة على الورق وفي الخيال.
وتقدمت بطلب للالتحاق بمعهد الموسيقى العربية، والذي كان يُسمى حينئذٍ معهد فؤاد، وكان المعهد يتطلب الحضور يوميًّا ليس فقط لتعلُّم العزف، ولكن لدراسة العلوم الموسيقية الأخرى مثل: الصولفيج، وتاريخ الموسيقى إلى آخر المواد التي تدرس في المعهد. وكنت طالبًا في كلية الآداب في قسم الفلسفة، فكيف أحضر وأوفق بين دراسة المعهد والكلية، وكيف أجمع بينهما؟ وبالرغم من أن أبي كان موسيقيًّا يعزف «الترمبون»، وكان علي إسماعيل قريب والدتي موسيقيًّا أيضًا يعزف الكلارنيت في النوادي الليلية بعد أن ترك الجيش، فكان والدي يقول لي: «أتريد أن تُصبح مثل علي إسماعيل عازفًا للراقصات في الملاهي الليلية؟» فلم يشجعني على مواصلة دراسة الموسيقى، ولم يتبقَّ لي إلا أن أواصل دراستي في قسم الفلسفة بكلية الآداب بجامعة القاهرة، وكنت الأول على الدفعة في كلية الآداب قسم الفلسفة طوال الأربع سنوات مدة دراستي الجامعية، وكنت أتوق لأن أصبح معيدًا بالقسم ثم أستاذًا بالكلية.
وتكررت لحظات الاختيار بين الموسيقى والفلسفة عندما وصلت إلى باريس، وسجلت بجامعة السوربون ومعهد الكونسرفتوار، كنت أحضر محاضرات الفلسفة صباحًا في السوربون، وبعد الظهر أحضر دروس الموسيقى في الكونسرفتوار، وفي المساء أقرأ نصوص الفلسفة في نصفه الأول، وأعزف على الكمان الذي أحضرته معي من القاهرة في النصف الثاني. وظللت على ذلك سنتَين، آكل مرةً واحدة في اليوم بسعرٍ مخفض في مطاعم الجامعة نظرًا لقلة مواردي. وبعد أن علمت المشرفة الاجتماعية بمركز خدمات الطلاب حالتي، ومرة لم أستطع صعود السلم الصغير في المنزل الجامعي، وكنت أشعر بالإرهاق؛ فذهبت للعيادة الطبية التابعة للمدينة الجامعة، وكشفوا على صدري بالأشعة، فوجدوا بداية تجلط في الرئة اليمنى، وأخبرني الطبيب وقال لي لا بد أن أمكث في العيادة عدة أيام لاستكمال الفحوصات الطبية؛ ففعلت، ثم جاء الطبيب بطبيبةٍ ما زالت أذكر اسمها «بون فونت» وسألتني كيف أعيش؟ فقلت: في الصباح في السوربون وبعد الظهر في الكونسرفتوار، وفي المساء أقرأ في النصف الأول وأعزف في النصف الثاني. وآكل مرةً واحدة في اليوم.
ولم أكن أنا فقط الذي يشتري فيها الطالب دفاتر المطعم بأجورٍ مخفضة. أستعمل واحدة ظهرًا، وأبيع الثانية في المساء بسعرٍ كامل، وإهانتي من أحد الطلاب الفرنسيين بقوله إنني تاجرٌ جيد، ولكن كان مدير المطعم الفرنسي يفعل ذلك أيضًا وهو ليس فقيرًا؛ كان يأخذ تذكرة المطعم بالسعر الكامل وهو سبعة فرنكات ونصف، ويشبك التذكرة في عمودٍ معدنيٍّ رفيع يخرق التذكرة، ولا يقطعها، ثم يأخذ هذه التذاكر إلى المنزل قبل تسليمها إلى الجامعة ويرشُّ مكان الخرم بالماء ثم يكويها فتعود صالحة للاستعمال مرة ثانية، ويبيعها للطلاب الفقراء مثلي بأجرٍ مخفض؛ لأنه لم يدفع فيها شيئًا، ويبيعها الطلاب الفقراء على باب الدخول للمطعم بثمنٍ مخفض ويُعطى الثمن لمدير المطعم بعد أن يضع عليها نسبته، ولم يتهمه أحدٌ من الأجانب أو الفرنسيين بأنه تاجرٌ جيد.
وكان مطعم كلية الطب مجاورًا لمكتبة مدرسة اللغات الشرقية الحية التي كنت أقرأ فيها أحيانًا، وكنت أتناول وجبة الغداء فيه، وبعد الغداء وقبل أن يغادر الطلاب المطعم وبعد غلق شبابيك الخدمة، وكان يوم أحد، يتبارى الطلاب والطالبات في رفع سلطانية الشوربة إلى أعلى وإسقاطها على الأرض، فإذا وقفت على قعرها ولم تنكسر صفق الطلبة وضحكوا إعجابًا بالمباراة، أما إذا سقطت على جانبها فإنها سرعان ما تنكسر ويهلل الطلاب بالفشل وعدم المهارة، وكانت عاملات النظافة تنتظر لكي تلم قطع البلاستيك المتناثرة من أثر انكسار سلطانيات الشوربة، ويضحكن على الطلبة، ولا يهددن بنداء المدير بهذا التخريب القصدي كما نفعل في بلادنا، وكانت الطالبات يسقطنها بين أفخاذهن لضبط اتجاه الوقعة من القعر إلى الأرض، وكنت أهتم برؤية الفخذَين أكثر من اهتمامي برؤية السلطانية وهي تقع سليمة أو منكسرة.
وفى فترة الغداء يخرج الطلبة والطالبات من المكتبة الوطنية يتناولون الغداء في أحد المطاعم الجامعية القريبة، ثم يذهب الجميع إلى المقاهي المتناثرة حول المكتبة. يشربون القهوة قبل العودة للدراسة أو القراءة في المكتبة، وكنت أرى من خلال زجاج واجهة المقهى، ومن الرصيف الطالب يحتضن الطالبة ولا ينظر أحد إليهما إلا أنا، فدخلت مرةً أحد المقاهي كي أشرب القهوة، وكنت بمفردي، فجاءتني طالبة كانت تجلس بجواري، وحدثتني وقالت: «هاللو!» فكنت أخجل وأدعوها إلى فنجان من القهوة، فكانت تقترب مني أكثر وأكثر كما هو الحال في فيلم الخطايا. وكانت العادة أن يتقابلا في المساء بعد الانتهاء من القراءة وإغلاق المكتبة عند السادسة مساءً. وكانت العادة أن أدعوها إلى العشاء في أي مقهًى مجاور ونتحادث، ويشعر كلٌّ منا برغبة في الآخر، وكنت إذا دعوتها إلى شرب القهوة في الظهر فكيف لي أن أدعوها إلى العشاء مساءً وأنا لا أملك من المال شيئًا يُذكر؟ فلم أذهب إلى المقهى في المساء وغادرت المكتبة مسرعًا إلى الغرفة التي أسكن فيها على السطح وعيناي تدمعان؛ إما لفقري أو لطيبتي.
وكان الطلبة الأفارقة يتظاهرون بالمرض كي يأخذوا التذاكر المخفَّضة لدخول مطعم المرضى الذي لا توجد به عاملات للخدمة، بل يذهب الطلبة إلى المنصة ويخدمون أنفسهم بأنفسهم، ويشربون اللبن بدلًا من الماء، ولا يتكلمون مع أحد، بل يستمرون في تناول الطعام حتى ساعة غلق المطعم، وكانوا يأكلون بنفس الطريقة التي يأكلون بها في أفريقيا، فضخمتُ وبدنتُ و«كرَّشتُ». وكان مدير المطعم لكثرة ترددنا عليه لا ينظر إلى بطاقاتنا وتذاكر الدخول ولا تذاكر الطعام، ويرحب بنا منحنيًا مادًّا ذراعه إلى الأمام.
وكانوا قد أخبروني في العيادة أن رئتي اليمنى مصابة بالدرن وهي أول مرحلة في السل، ولا بد أن أمكث في العيادة الطبية عدة أشهر حتى أعالَج من هذا المرض القاتل، عن طريق إدخال محاليلَ لازمة عن طريق الأوردة والشرايين؛ ففعلت. فقالوا لي بعد مدة إني أحتاج إلى ثلاثة أو أربعة أشهر أخرى للعلاج حتى يختفي الدرن. فقلت: وماذا عن غرفتي بالمنزل الألماني؟ قالوا: ندفع نحن أجرتها. قلت: وماذا عن كتبي التي اشتريتها ولم أدفع ثمنها بعدُ وموجودة في المكتبة؟ قالوا: نشتريها لك؛ فشكرتهم على هذه التسهيلات. ومكثت في العيادة الطبية لمدة أربعة أشهر. كنت آكل أربع مرات في اليوم، وأذهب للنوم مبكرًا. فتحسنتْ صحتي، بل وبدنتُ. وحين حان وقت الخروج أخبروني بأنني لن أستطيع أن أعود لأعيش بالأسلوب الذي مضى. وعليَّ أن أختار بين دراسة الفلسفة أو الموسيقى؛ لأنني لن أستطيع الجمع بينهما وإلا قضيت على نفسي بنفسي، وإن لم أفعل سيضطرون إلى إرسالي لمصحة الجامعة فوق جبال الألب؛ لأستنشق هواء الجبل النظيف، ولكني سوف أفقد الفلسفة والموسيقى معًا. وكانت لحظةً صعبة؛ لحظة الاختيار بين حبيبَين، بين طفلَين. ولكن أصرَّ الأطباء على حسم قراري. وتوقيع شهادة أوافق فيها على شطب اسمي من الكونسرفتوار وأبقى في السوربون، أو أن أوقع شهادة شطب اسمي في السوربون وأبقى في الكونسرفتوار. تصورت نفسي مؤلِّفًا موسيقيًّا مثل بيتهوفن وسيد درويش، أو عازف موسيقى في أوركسترا غربي أو شرقي. وتساءلت ماذا قدمت إلى العزف مع جماعة عازفين بألحان غيري؟ ثم تصورت نفسي مفكرًا، أعطي للناس مناهجَ للتفكير وسبلًا للحياة. وأني مؤثر في الحركة الاجتماعية والسياسية والثقافية للبلاد، وأن أكوِّن جيلًا جديدًا من المفكرين والباحثين يستطيعون إكمال الرسالة من بعدي، كما فعل الأفغاني ومحمد عبده وطه حسين.
فاخترتُ الفلسفة وأنا أُغنِّيها، وفضَّلت الفكر وأنا أصدحُ به، واخترت الثقافة وأنا أُلحِّنها، واخترت الجامعة وأنا أعزف لها؛ تركت موهبة الرسم لصالح الموسيقى، ثم تركت الموسيقى لصالح الفلسفة، وما زلت حتى الآن عندما أسمع بيتهوفن أو سيد درويش تدمع عيناي تأثرًا بفراق صديقَين قديمَين ما زالا يعيشان في الذاكرة.
جذبني إلى بيتهوفن إمكانية قراءة فلسفة موسيقاه والتي تقوم عليها سيمفونياته التسع؛ فالسيمفونيتان الأولى والثانية كانتا أقرب إلى موزار. ولم تظهر شخصية بيتهوفن إلا في السيمفونية الثالثة؛ سيمفونية «البطولة»، وكان قد أهداها إلى نابليون. ولما كان قد وجد أنه نصَّب نفسه إمبراطورًا على فرنسا بعد الثورة الفرنسية فلم يعد هناك فرق بينه وبين لويس السادس عشر الذي طارت رقبته تحت المقصلة.
وكانت الحركة الثالثة في هذه السيمفونية تمثل بطلًا يعيش بين جنوده؛ وهو ما جعل بعض النقاد العرب يقولون إن محمد عبد الوهاب قد قلَّدها في إحدى أغنياته.
وبعد أن استراح بيتهوفن في السيمفونية الرابعة، عاد وانتفض في السيمفونية الخامسة «القدر»؛ فافتتاح السيمفونية في الحركة الأولى هي دقات القدر. ويُقال إن محمد عبد الوهاب قلَّدها أيضًا في افتتاح أغنية «عاشق الروح» في آخر فيلم «غزل البنات».
وبعد أن استراح بيتهوفين في السيمفونية السادسة، ألَّف السابعة يغني فيها للريف وجماله لدرجة أنها سُميت سيمفونية الريف «الباستورال». وبعد أن استراح بيتهوفين في السيمفونية الثامنة، ألَّف التاسعة عن «الفرح». وختمها بأنشودة الفرح للشاعر «شيلر».
فسيمفونيات بيتهوفن مؤلفاتٌ فلسفية، وبالمثل يُقال على فلسفة هيجل التي كانت أشبه بسيمفونيات بيتهوفن وقد كانا متعاصرَين. فكتاب «ظاهريات الروح» سيمفونية الوعي الإنساني الذي يتطور من الحس إلى العقل إلى القلب إلى الروح المطلق.
وأظن أنني قد أحسنت الاختيار؛ فمشروع «التراث والتجديد» الفلسفي يملأ الآفاق في مصر، والوطن العربي، والعالم الإسلامي، بل وفي الغرب والشرق على السواء. تمت ترجمة أجزاء منه إلى كثير من اللغات خاصة التركية، والفارسية، والماليزية، والإندونيسية. وكُتبت الدراسات عنه، وأُلِّفت الكتب حوله، واختير موضوعًا لكثيرٍ من الرسائل الجامعية، وأشعر بالراحة النفسية عندما أسمع عنه وهو موضوع للمناقشة بين العلماء خاصة. وقد كتبته على ثلاثة مستويات؛ المستوى العلمي للمتخصصين، والمستوى الثقافي للمثقفين، والمستوى السياسي للجماهير.
وقد يكون أثره الآن محدودًا، ولكن سيكون له أبلغ الأثر في المستقبل وعلى مجرى التاريخ، فإذا كان تاريخ الحضارة الإسلامية في مرحلتها الأولى يؤرَّخ بمقدمة ابن خلدون وهو يصف نشأة الحضارة الإسلامية وتطورها وانهيارها. فإن تاريخ الحضارة الإسلامية في مرحلتها الثانية يؤرَّخ بمشروع «التراث والتجديد»، بدايةً بعصر النهضة والإصلاح الديني، ثم بالثورات العسكرية، ثم بالثورات الشعبية. ومن يدري متى تكون ثورة المجتمع المدني؟
وكتاب «علم المنطق» لهيجل وتقسيماته الثلاثية تعبيرٌ عن الجدل مثل: «الوجود والماهية والصيرورة» أشبه بسيمفونية الصراع بين الخير والشر وتحولهما للمحبة والديمومة، وهكذا فعل في باقي مؤلفاته.
وكما جعل بيتهوفن الشعر موسيقى الكلمة، فقد كان صديقًا لجوته، كذلك جعل هيجل الموسيقى أرفع أنواع الشعر، وجعل الأوبرا أرفع أنواع الفنون كلها بعد أن جعل الفنون السمعية أرقى من الفنون البصرية.
كنت عندما أسمع «نشيد الفرح» في آخر السيمفونية التاسعة لبيتهوفن وتكاد تصل متعتي للسماء. لم أكن أعرف أن هذا السمو والاستمتاع والرقي بسبب الموسيقى، أم الشعر أم الفلسفة؟ فلقد عزفت الفنون الثلاثة الفرح. وهو موضوع يجمع بين الموسيقى والشعر في الفلسفة. وكذلك فعل فاجنر في أوبريتاته التي تجمع بين الموسيقى والشعر والفلسفة في «تريستان وإيزولدا». وكما فعل فيردي في «أوبرا عايدة» في مارش «البطولة». وراداميس عائدًا منتصرًا.
أما الموسيقى الكلاسيكية عند باخ فتشبه فلسفة توما الأكويني في «الخلاصة اللاهوتية». وكما فعل بيزيه في أوبرا «كارمن» عن الحب والتضحية؛ فالموسيقى شعر، والشعر موسيقى. ومعجزة القرآن الكريم في الجمع بين الموسيقى والشعر والفلسفة.
وعندما استُعملت الأوتار كآلاتٍ إيقاعية ولم تعد تغنَّى الألحان المتصلة مثل «تقديس الربيع» لسترافنسكي تقطعت الفلسفة في «التفكيكية» في الفلسفة المعاصرة، ولم تعد الفلسفة لحنًا غنائيًّا طويلًا كما هو عند ديكارت في منهجه، وشيلينج في الوحدة بين الروح والطبيعة، وفشته في خطابه إلى الأمة الألمانية.
فيمكن قراءة الموسيقى كفلسفة مثل: موسيقى باخ كفلسفةٍ مدرسية، وموسيقى بيتهوفن كالفلسفة الرومانسية، وبوليرو رافيل كفلسفة ما بعد الحداثة التي تفكك كل شيء.