الحب العذري
وصلت إلى مرحلة البلوغ وأنا في المدرسة الثانوية، لا أذكر في الصف الثاني أم الثالث. وعندما وصلت إلى السنة الخامسة «التوجيهية» جلست في المنزل؛ لأستعد لامتحان الثانوية العامة بعد أن بدأ الحضور يتناقص داخل حجرات الدراسة والفصول لنفس السبب، ولكي أستعد أيضًا لامتحان المسابقة في الفلسفة والذي كان يُقام كل عام. وكانت مكافأته بالإضافة إلى العشرين جنيهًا، الدخول للجامعة مجانًا، فقد كانت مجانية طه حسين في التعليم العام، ثم عممتها الثورة في ١٩٥٢م إلى التعليم الجامعي؛ فدخلتُ الجامعة مجانًا لثلاثة أسباب: الأول؛ حصولي على الثانوية العامة بدرجة ٧٧٫٥٪. والثاني؛ حصولي على المرتبة الأولى في امتحان المسابقة العامة في الفلسفة. والثالث؛ قرار مجانية التعليم العالي بعد الثورة.
وكنت أمكث في المنزل ساعاتٍ طويلة بمفردي؛ فأخواتي البنات كن يذهبن إلى المدارس، وشقيقي الأكبر في الجامعة، وأبي في عمله؛ موسيقى الجيش، وأمي تزور أمها وأختها في بني سويف.
وكان لجارتنا ابنة أراها من الشباك الملاصق، كانت بيضاء، جميلة، مبتسمة، نشطة. كلها حياة. وكانت تمازحني، وهي صفات كنت أحبها. فكنا نتكلم من خلال النوافذ المفتوحة على الحارة دون أن نشعر بأن أهالي الحارة يراقبوننا وفي مقدمتهم الفرَّان الذي كان يسكن في الطابق العلوي. يرانا وهو جالس أمام الفرن، ويتطلع إلينا، وكان هناك نافذة خاصة في أعلى الحائط المشترك بين شقتنا وشقتها، فكنت أحضر كرسيًّا أصعد عليه؛ لأجلس على حافة النافذة. وهي تجلس على الحافة الأخرى نتناجى. ولم أكن أشعر أن الصاعد أو النازل على سلم المنزل يرانا؛ فأصبحنا حديث المنزل والحارة. فأول حبٍّ عذري كان حب بنت الجيران، كما هو الحال في الأفلام المصرية. لا تفكير عندي في زواج ولا صداقة إنما هو اكتشاف الحديث ومتعته مع الجنس الآخر.
ومرة تشجعتُ وخرجنا معًا إلى ميدان العتبة، أنا أفندي يرتدي البدلة وهي فتاة بالملاية اللفِّ، ذهبنا إلى محل تصوير، الذي أخذ لنا صورة معًا. وعدنا إلى باب الشعرية. فكان هذا أقصى طموح لنا. ونحن عائدان كانت تنظر إلى الأرض وأنا أكلمها دون أن أراها. وسمعت أحد المارة من أولاد البلد يقول مُشاكسًا: «مش كدا يا واد» فقلت في نفسي: وماذا فعلت؟ وبماذا أجرمت؟
فعلم الوالد بالحبيب الصغير؛ فنهرني وقال: «إنني أخاف على أخوتك البنات منك!» ولم أفهم ماذا يعني بقوله! ولكنه خاصمني، وأنا شعرت بالخجل.
كان أبوها جزارًا يقلي الكبدة في مدخل درب الشُّرفا، الناحية الأخرى من شارع البنهاوي. فكانت الحبيبة تدُقُّ الثوم في فناء المنزل وتغْلي الكبدة ويأخذها الصبي من البيت إلى المحل.
وجاءها عريس ذات يوم فقبلت به عائلتها، ويوم الفراق عندما غادرت إلى منزل زوجها كانت تغني: «على عيني فايتاك». وكان الجيران يقولون: «كفاية دق بالهون بكرة عريسك يدقك بالهون.» ولم أفهم كل ذلك؛ لأن الحزن والشقاء كانا يخيمان عليَّ، وما زلت أذكرها حتى الآن بأنها أول حبٍّ عذري عشته بعد مرحلة البلوغ. وأتساءل: أين هي الآن؟ هل ما زالت شابة أم أصبحت عجوزًا؟ هل هي أم فقط أم أصبحت جدة أيضًا؟ وقد بدأ هذا الحب العذري عام ١٩٥٢م وكان عمري وقتها سبعة عشر عامًا. وانقضى حوالي سبعون عامًا وأنا ما زلت أذكرها؛ لأنها هي التي عرَّفتني بجمال المرأة، وبعد أن غادرت إلى منزل زوجها كنت أرى وجهها في كل امرأة حولي من الجيران.
وأنا صغير قبل أن أنام كنت أسمع والدي يقول لوالدتي قومي أطفئي الأنوار، فكانت تفهم ما يُريد. ولم تكن هناك أنوار أصلًا كي تطفئها. وكان يقوم وراءها في الغرفة الصماء بلا نوافذ، ويدخل الغرفة وكان هناك «ماجوران» ومقلوبان على الوجه نضع فراشًا على قاعدته. ويبدو أنهما كانا يفعلان شيئًا ما، كنت أشعر بذلك. وبعد مدة قصيرة أسمع صوت صنبور المياه يتدفق للاغتسال. حيث كانت شقتنا تتكون من صالة وأمامها الغرفة المصمتة، ثم يليها الغرفة التي تطل على السطح ويسارها الغرفة المطلة على الشارع.
وكانت هناك امرأةٌ أخرى مطلقة تسكن في أعلى المنزل، جميلة ذات أنوثةٍ فيَّاضة، جسمها بضٌّ أبيض، تخرج في الصباح، وتعود في المساء؛ فقد كانت تعمل لتعول نفسها وأسرتها. وكان ابن الفرَّان أكثر جرأة مني. ينتظرها في الصباح وهي ذاهبة لعملها تحت بير السلم، أو عند عودتها من العمل. ينتظرها تحت بير السلم كي يقبلها. وأنا أيضًا معجب بها ولا أعرف كيف أحيطها علمًا بإعجابي. فوقفتُ أراقبها من النافذة وهي ذاهبة لعملها، فصببت عليها كوبًا من الماء. فرفعت رأسها إلى أعلى تتعجب من هذا الحبيب الساذج، ثم وقفتْ على ساقٍ واحدة لكي تمسح الماء من على الساق الأخرى. ولم أجرؤ بعد ذلك على فعل أي شيء تجاهها، سمعتها مرة وهي تقول في حفل زفاف شقيقها، وكانت واقفة على السلم «على سنجة عشرة» قائلة: «اللي يقولي تعالي دلوقتي مش هاقوله لا.» فرحتُ بهذه الكلمات، ولكني كنت لا أجرؤ أن أقول تعالي دلوقتي. فأين ومتى وماذا أفعل معها؟ كل ذلك حرَّك في ذهني حاجات المرأة، وخيبة الرجل. ومرةً ثالثة كانت هناك امرأةٌ أرملة تسكن فوقنا، وجاءت عندنا لتأخذ شيئًا من السطوح، فوقفتُ جانبها لتصعد على الكرسي ومنه إلى السطح، فكادت أن تقع، فأمسكتُها. وكانت هذه أول مرة أشعر بصدر امرأة بالرغم من أنها كانت ترتدي جلبابًا أسودًا فضفاضًا.
وفي الجامعة في السنة الأولى التي كانت تضم أقسام علم النفس والفلسفة والاجتماع معًا، وحتى السنة الثانية، ولا تفترق الأقسام إلا في السنتَين الأخيرتَين؛ الثالثة والرابعة. ففي السنة الأولى رأيت طالبة لها نفس المواصفات التي أحببتُها في بنت الجيران؛ الجمال والرشاقة مع بعض السمنة، والوجه الصبوح، والصدر البارز. كنت أجلس في الصف الأول من المدرج الكبير، وكانت هي تجلس في الصفوف البعيدة الخلفية. كانت فلسطينية اللهجة، وكان يأتيها شاب من كلية الحقوق ليصحبها، وكنت لا أدري إن كان حبيبها أو خطيبها أو قريبها أو صديقها أو جارها. لم تحن الظروف كي أبادر وأكلمها مطلقًا، وعرفت فيما بعدُ أنها مسيحية، وكان العقاد في ذلك الوقت قد نشر «عبقرية المسيح»، فاشتريت نسخة، وأهديتها لها واضعًا إياها على مكان جلوسها، وبعد وقتٍ قصير رأيت النسخة قد انتقلت إلى مكان جلوسي والإهداء منتزع من الصفحة الأولى. فحزنت، وقلت لنفسي: «حتى العلاقات الثقافية هي لا تريدها!»
وكان لها ابنة عم أجمل منها بابتسامتها الساحرة، وصدرها البارز. وكان أستاذ علم الاجتماع يغازلها «من تحت لتحت». وكانت ترد عليه بدلال وخفة دم. وأتساءل: «فلماذا حبيبتي قاسية القلب هكذا؟» وكنت بعد ذلك في عمان بما يزيد على خمسين عامًا. وعلمت صديقتي الأردنية بأن حبيبتي كانت وما زالت حبيبتي أيضًا أيام الدراسة. فاتصلت بها وجاءت ونحن في المقهى أو في الفندق لا أذكر. ولم تسلم عليَّ ولا كلمتني، وكان معها ذلك الشاب الذي كان يقابلها ويصحبها أيام الدراسة، وفكرت ربما كان زوجها! وحزنت أكثر لأن نصف قرن لم يغيروا طبعها. وغادرت دون أن تنظر في وجهي. وأنا أتعجب من قدرة «ذكريات» على تحريك العواطف، وهي سعادةٌ كبيرة عندما يلتقي شخصان بعد نصف قرن على مرور أيام الدراسة، ولا أعرف كيف لا يحنُّ أحدهما للآخر! صورتها ما زالت في ذهني، وخيالها ما زال في ذاكرتي، لم يمحُها النسيان.
وأثناء البحث عن غرفةٍ على التبادل أي مجانية في مقابل مساعدة ابن صاحب المنزل في أداء واجباته المدرسية. وكانت لا توجد أي غرفة عند سؤال مكتب الخدمات الطلابية «الكوبار»، بل غرفةٌ أخرى تقع في وسط الحي اللاتيني في «سان جيرمان» وكانت ذات أجرٍ زهيد، حوالي مائة فرنك شهريًّا. فذهبت لمقابلة صاحب الغرفة فقابلتني طالبةٌ فرنسية في غاية الجمال، وأخبرتني أنها المسئولة عن تأجير هذه الغرفة ولا شأن لصاحبها بها والذي كان يسكن في الشقة المجاورة. وكنت أرى باريس من شرفتي من أعلى، والسوربون والبانثيون «مقبرة العظماء» وحديقة لوكسمبورج، وكنت أرى الجمال الفرنسي مجسدًا أمامي وبجواري. وكان المبنى الذي أقيم به يقع بجوار مبنى كلية الطب ومدرسة اللغات الشرقية الحية، والتي كنت أستخدم مكتبتها للدراسة. وعندما رأيت الطالبة الفرنسية عُقد لساني لجمالها ولم أستطع التفوُّه بكلمةٍ واحدة وأقرر هل آخذ الغرفة أم لا. ولم أدرِ حينها السبب في عُقدة لساني، هل الجمال الباهر الذي رأيته من شرفة المنزل لباريس أم الجمال الباهر للطالبة الفرنسية بجواري، أم لقلة المال وتوفير مبلغ المائة فرنك شهريًّا اللازم لإيجار الغرفة؟ ولما لاحظت الطالبة الفرنسية صمتي وحيرتي، مسكت يدي وقالت: «لا تحزن سآتي لرؤيتك مرة كل أسبوع.» فزاد ارتباكي من أين آتى إليها بالعشاء؟ وفي أي مطعم أدعوها بالحي اللاتيني حيث كانت تكثر المطاعم؟ وماذا أرتدي ليلتها وملابسي ليست بالأناقة المطلوبة لمثل هذه المناسبة؟ ومن أين لي بالنبيذ الأحمر لنتناوله عند العودة معًا؟ وهمومٌ أخرى غيرها. ولما طال ترددي في أخذ قرار بالنسبة لتأجير الغرفة نزلنا، وسار كلٌّ منا في سبيله. أنا الريفي المصري الساذج، وهي الفتاة الفرنسية المتحضرة.
وفي فرنسا استمر الحب العذري في السنوات الأربع الأولى. في الغرفة المقابلة التي تطل على الشارع كانت تسكن فتاة أسمع صوتها في المساء. ولما كنت أعزف على كماني في المساء، فتحت الباب وقالت: «الوقت متأخر يا أستاذ، اخفض صوت الآلة.» فوضعت «السوردين» على الكمان كي أخفض صوت الأوتار.
وبعدها بأيام كنت أسمع صوت ضحكتها مع صديقاتها على الأستاذ المجاور والذي لا هم له إلا الدراسة والعزف على الكمان.
وفي يوم بعد أن وصلت إلى محطة المترو وجدت سيدة تدخل البوابة ضاحكة وهي «تخرم» بطاقة الصعود للمترو. ثم قالت بعد أن تعرَّفت عليَّ: «أنت جاري؟» قلت: «نعم.» وقلت لها: «وأنت جارتي؟» قالت: «نعم.» ثم دعتني للقائها مساءً. كنت خائفًا طيلة اليوم. أفكر وأنا في الجامعة بالحي اللاتيني، ماذا أقول لها مساءً عند اللقاء، وأين أقابلها؟ في غرفتي التي لا يراها أحد؟ أم في غرفتها التي تطل على الشارع؟ أم في الطرقة التي بيننا فيرانا الطالع والنازل باتجاه السلم أو المصعد الكهربائي؟
وحين عدت إلى غرفتي لم أجد صوتًا من غرفتها. فرحت بأن الموضوع قد تم حله، وفهمت على الفور أنها لم تكن موجودة. وفي صباح اليوم التالي قابلتها عند مدخل المترو. فاعتذرت لي عن غيابها بالأمس، وعادت تطلب اللقاء مجددًا اليوم مساءً.
كانت ضاحكة بشوشة حية، تُسعد من يصاحبها، ومع ذلك كنت مهموما بالفلسفة في الصباح، والموسيقى بعد الظهر، والقراءة والعزف في المساء. ولم أعرف في أي وقت أدعوها؛ فصمتُّ، وعرفتْ هي أني ليس لي «مِزاج» لمعرفتها؛ فتحسرتُ عندما قابلتها في اليوم الذي يليه عند بوابة المترو، حيث كانت تعمل، ولم تنظر لي، ولم تضحك، ولم تكلمني؛ فخجلتُ من نفسي، ولم أدرِ هل ما فعلتُ بالابتعاد عنها كان صحيحًا أم الأفضل كان الاقتراب منها ومعرفتها؟ فالمعرفة لا تأتي فقط من الكتب، ولكن من تجارب الحياة.
ومرة وأنا آخذ القطار كل يوم وأجلس في العربة الأخيرة لكي أكون قريبًا من الباب استعدادًا لتغيير القطار إلى آخر، هذا الفن من الركوب في مكانٍ معين من العربة الأولى أو الوسطى أو الأخيرة كي يكون النزول منها قريبًا من الباب الذي يؤدي إلى القطار الآخر. وكانت هناك فتاةٌ فرنسيةٌ بيضاء، ولكنها قصيرة، تركب القطار في العربة الأخيرة مثلي، وتنزل قريبًا من بوابة التغيير مثلي، وبعد عدة أيام نظرت لي وضحكت، وبادلتها النظرات الخجولة، لا أعرف كيف أبدأ، كانت العبارات على لساني كي أقول: «أنتِ تأخذين القطار في نفس الموعد مثلي، وتركبين العربة الأخيرة مثلي، وتغيرين القطار إلى آخر من نفس البوابة مثلي.» لكن لساني لم يتحرك، ولم أقل شيئًا، وتوالت الأيام بنفس التجربة، كل يوم حتى غابت عني، وغبت عنها.
وفي فرنسا وأنا في منزل «الولايات المتحدة الأمريكية» بالمدينة الجامعية، التقيت بطالبة في حجرة الدراسة بالمنزل. كانت جميلة للغاية، مبتسمة مع بعض الجدية. تنظر في الكتاب أمامها، وربما عقلها شارد. تفكر في هذا الطالب الذي يجلس في الطاولة بجوارها، ولا يفرقهما إلا الممر الضيق والذي يقسم حجرة الدراسة إلى قسمَين، وأنا أنظر لها، وهي تنظر لي ولكني لا أقوى على الكلام، وكان يكفيني أن أتأمل جمالها الإنساني. وعندما تقوم وتخرج من الغرفة إلى المطعم ألاحظ رشاقة حركاتها وجسمها الرشيق، وكان من السهل أن أصاحبها إلى المطعم، ولكني لم أفعل؛ لأنني لم أتعود على هذه الطريقة التي في ظاهرها صداقة وفي باطنها ما بعد الصداقة.
وفي يوم من الأيام رأيت طالبًا مغربيًّا طويلًا عريضًا يأتي إليها في غرفة الدراسة، ويصحبها إلى المطعم الجامعي، كان يأتيها باستمرار وكل يوم يسأل عنها في مكتب الاستقبال؛ فتنزل إليه. حزنت لأنني لم أستطع المبادرة قبل أن يظهر، كنت أكتفي بالنظر إلى الجمال وكأنني «نجيب الريحاني» في فيلم «غزل البنات» وهو ينظر لليلى مراد مستمعًا لصوت عبد الوهاب: «وحب الروح مالوش آخر لكن حب الجسد فاني».
ولما انتقلت إلى البيت الألماني شعرت بفتاةٍ نشطةٍ حية ضاحكة، وهي نفس المواصفات التي كانت موجودة في حبي العذري، الأول والثاني والثالث. وبالرغم من سمارها وقصرها، تجرأتُ وكلَّمتها بالألمانية؛ فاستجابت، وكلمها ألمانيٌّ آخر؛ فاستجابت، وخرجتْ مع ألمانيٍّ ثالث. كانت تبحث عن زوج وليس عن صديق، وأنا لست مؤهلًا لذلك، وكانت تبعث بالغيرة في نفس كل من يصاحبها وعندي أيضًا. وظللت أعاني من هذا الحب العذري ثلاث سنوات، ثم عادت إلى ألمانيا. وبعد عدة سنوات لا أذكر سنتين أو ثلاث، عادت إلى باريس في زيارة، وعرفتْ مكاني حيث كنت أقيم في منزل الطلاب الرياضيين في «بول رويال»، وجاءت إلى غرفتي. كنت قد تغيرت في النظر إلى المرأة، وعرفت عيوب الحب العذري ووجعه؛ الذي استمر معي لأربع سنوات منذ ١٩٥٦–١٩٦٠م. كانت تنظر إليَّ محاولة إغرائي، كنت قد تغيرتُ ولم يعد للحب العذري عندي قيمة أو مكانته السابقة؛ فاستبدلتُه ليلتها بالحب ما بعد العذري.
رجعت بعدها لألمانيا، وظلت تراسلني، تظن أنني هذا الحبيب القديم الذي كان في البيت الألماني؛ فأرسلت لها رسالة بأنني لست الرجل الذي تريد، وليست هي المرأة التي أريد؛ فتعجبتْ في آخر رسالة لها من الحبيب الذي تغيَّر وكانت تظن أنه ثابت على عواطفه الأولى، وهي لا تندم على اللبن المسكوب، وانتهت علاقتنا سواء في مرحلة الحب العذري أو ما بعده.
وظللت فارغًا من الحب العذري على مدى ست سنوات منذ ١٩٦٠–١٩٦٦م. وعشت كما يعيش الطلاب الذين يودون قضاء وقتٍ طيب في نهاية الأسبوع.
كان بجوار البيت الذي أسكن فيه بيت للطالبات المغتربات وفيه طالباتٌ مصريات، عادت واحدة منهن إلى مصر؛ لتكمل رسالتها في الدكتوراه؛ لأنها لم تتحمل حياة الطالبات في فرنسا والتي كانت لا تستطيع أن تقضي عطلة نهاية الأسبوع بمفردها، وطالبةٌ أخرى أرادت الصمود في باريس لتقضي نهاية الأسبوع في حجرتها، لا يكلمها أحد، ولا تكلم أحدًا، لا ترجع إلى مصر، ولا تعيش كما تعيش الطالبات في فرنسا، وبعد عدة سنوات دخلت مستشفى الأمراض العقلية، يبدو أنه للكبت الذي عاشته، والاكتئاب الذي أصابها؛ فلا هي أكملت دراستها، ولا هي تمتعت بحياتها.
كان الحب ما بعد العذري شائعًا وسط الطلاب والطالبات كنوع من استكمال الدراسة وتعلم الحياة، ولا حرج في تغيير الصديق لصديقته بعد انقضاء وقتهما معًا، سواء قصر أم طال؛ فلقد قضيا وقتهما، واستكملا الدراسة، وتعلما الحياة، وزيادة في الخبرة، وتقوية الشخصية.
ولا حرج أن تترك الصديقة صديقها لنفس الأسباب، ولا يوجد اتهام بالخيانة، ولا تهديد بالقتل كما يحدث في الأفلام المصرية، ولا حرج عند العائلة أن تصطحب الفتاة صديقها إلى منزلها؛ ليقضي معها الليلة، ولا حرج أيضًا أن يصطحب الصديق صديقته إلى منزله لتقضي الليلة معه؛ إذ تظن العائلتان أن الصداقة جادة، وتؤدي إلى الزواج، فلا زواج بدون صداقة قبله، وإن كانت الصداقة لا تؤدي للزواج.
ويقضي الصديقان نهاية الأسبوع معًا، يسبحان في ربوع البلاد خلال الإجازات الطويلة؛ مثل عيد الميلاد، عيد الفصح، والإجازات الصيفية. والصداقة ليست فقط متعة، بل هي معرفة. ويختار الصديق أو الصديقة ما هو أنفع وأصلح لكليهما.
ازدادت معرفتي للغة الألمانية والقدرة على التحدث بها في البيت الألماني حيث أسكن داخل المدينة الجامعية ومع صديقاتي الألمانيات، وما أسهل التعرف على المرأة في المطعم الجامعي! فقارورة الماء مشتركة وكذلك سلة الخبز، فيختار الطالب مكانه بجوار طالبة، يقدم لها الماء أو الخبز بدايةً للتعارف.
فمنهن من تستجيب، ومنهن من تصرح مباشرةً بأنها لا تحب الصداقة. فيلتزم الطالب بقرارها، غير أنه قد يحاول مرة أو مراتٍ أخرى حتى تقبل الماء أو الخبز الذي يقدم لها وتستجيب للقهوة فيشربانها معًا في مقهى المطعم حيث يعزمها عليها دافعًا ثمنها الزهيد.
ويمكن التعرف على المرأة أيضًا في المقاهي عندما تجلس المرأة بمفردها فيأتيها الرجل ليحييها ويستأذن للجلوس بجوارها، فتقبل ويتحادثان، أو ترفض فينسحب ويغادر إلى مائدة أخرى. فالمقهى في فرنسا جزء من الحياة الاجتماعية، كما كان المقهى في عصر نجيب الريحاني وسيد درويش في شارع عماد الدين. ولم تكن السينما مكانًا أوليًّا للتعارف لاحترام المشاهدين والالتزام بعدم الكلام أثناء العرض. إنما يمكن التعارف أثناء الخروج أو الدخول أو أثناء قطع التذاكر أو حتى أثناء الاستراحة.
فكان يمكن كذلك التعارف في الحدائق العامة، خاصة حديقة لوكسمبورج في وسط الحي اللاتيني وحول النوافير «الفسقيات» التي يضع الأطفال فيها مراكبهم الورقية، فيساعد الشاب الطفل ويلاعبه وقصده ملاعبة الأم والتقرب إليها.
وقدَّم لي مرة مصريٌّ انتهى من دراسته وسيعود إلى الوطن، قدَّم لي صديقته الفرنسية والتي كانت تدرس الموسيقى؛ ففرحت لأننا سنتعاون معًا على دراسة هذا الفن، وأين سيكون التعاون إلا في منزلي أو في منزلها. فجاءت إلى منزلي مرة لكي ندرس النوتة الموسيقية، وتأخر الوقت فقالت: «لقد تأخر الوقت، أحب أن أقضي الليلة هنا.» لم أفهم جيدًا ماذا تعني! فاعتذرت وقلت لها «إن المترو ما يزال يعمل»؛ فخرجت محبطة.
وبعد وقت ليس بالطويل فهمت قصدها، وكنت أنا في طريقي للتغير من الحب العذري إلى الحب ما بعد العذري؛ فذهبت إليها لكي نكمل دروس الموسيقى، واعتذرتُ لها عما بدر مني عندما كانت عندي؛ ففرحت. وتركتُ الموسيقى، وتهيأت إلى غيرها. وكانت تلك المرة الأولى التي يتم فيها هذا التحول عندي.
وفى شهر أغسطس كانت المدينة الجامعة الرئيسية في «بولفار جاردان» تُغلق لعدم وجود طلبة وطالبات في هذا الشهر. وهي قمة الإجازة الصيفية، ويُرسَل الطلبة الباقون إلى مدينةٍ جامعيةٍ أخرى في جنوب باريس في الطريق إلى مطار «أورلى» الأول قبل بناء مطار «شارل ديجول» في شمال باريس. وكانت المدينة تسمى «أنطوني». ويُعطى لكل طالب وطالبة غرفة بديلة عن غرفهم في المدينة الجامعة المغلقة، وكان جاري بالمصادفة أفريقيًّا طويلًا ورفيعًا. جاءته صديقته الفرنسية الطويلة البدينة في نهاية الأسبوع ولم تجده في الغرفة. وبعد أن نقرت على الباب عدة مرات ولم يفتح لها، نقرت على بابي؛ لتسأل عن صديقها الجار الأفريقي؛ فأخبرتها بأنه ربما ما زال في المطعم وأنه سوف يحضر حالًا، وبدلًا من أن أدعوها للجلوس في غرفتي انتظارًا لصديقها تركتها واقفة على الباب وهي متململة حتى جاء جاري وشكرني على حسن الرعاية لصديقته، وظللت أفكر هل هذا الشكر سخرية مني لأنني لم أدعُها للانتظار عندي، وتركتها واقفة على باب غرفته؟ أم أنه شكرٌ حقيقي؛ لأنني أخبرتها أنه سيأتي حالًا، وجعلتها تنتظر حتى لا تتركه وحيدًا في نهاية الأسبوع؟ وأنا على مكتبي أكتب الصياغة الأولى للرسالة. وحزنت على نفسي أنني في نهاية الأسبوع أعمل ولا أُروِّح عن نفسي مثل جاري.
وفي المساء عندما أظلم الليل وجدت نافذةً في المنزل المقابل للمنزل الذي أُقيم فيه تطل منها فتاةً برأسها، وكان على مكتبها مصباح. وكانت تعمل مثلي. فأطفأتُ مصباح غرفتي وأشعلته عدة مرات؛ فقامت هي بنفس الشيء، أطفأتْ مصباحها وأشعلته عدة مرات. وكان يمكن أن أشاور بيدي أن تأتي إليَّ في المدينة الجامعية والتي كان يسهل الوصول إليها عن طريق كوبري علوي فوق الطريق السريع. وظللت أقوم بهذه اللعبة إطفاء المصباح وإشعاله عدة مرات حتى ضجَّت وأنزلت ستار شباكها. كنت قد تعلقت بها دون أن أراها ودون أن تراني، واكتفيت بلعبة الأطفال.
وفي البيت الألماني تعرفت على صديقةٍ أمريكية في المدينة الجامعية، وبما لديَّ من خبرةٍ سابقة دعوتها إلى غرفتي لكي نتناول معًا القهوة؛ فاستجابت، وبمجرد دخولها الغرفة وضعتُ يدي عليها، وتم المراد دون أن ألمسها ثانية؛ فاستغربتْ، وخرجت محبطة، شقية. وانتابني أنا أيضًا الإحباط والخجل، كل ذلك كان بمثابة خبرة اكتسبتها؛ فلقد خرجت من بيئةٍ مصرية لا تؤهل للتعليم، وعشت أربع سنوات في فرنسا، والبيئة المصرية ما زالت تحاصرني.
ويوم الجمعة مساءً من كل أسبوع يكون هناك حفلٌ راقصٌ غنائيٌّ موسيقي نقيمه في بدروم المنزل الألماني، وبعد أن نرسم حوائطه الزجاجية بكل الألوان والصور من إبداع الطلبة والطالبات، وكانوا يشربون البيرة، ويكتبون ما يشربون في بطاقة يتم دفع الثمن آخر الشهر.
فهاجت في نفسي موهبة الرسم، وكنت أقوم بالرسم على الحوائط الزجاجية رسوماتٍ خيالية لنساءٍ ضاحكات، فاتحات الأذرع، منكوشات الشعر، متهيآت للقاء. وكان الطلبة والطالبات معجبين بهذا الرسم الخيالي، يحفزهم على الانبساط والفرح، وكذلك مدير المنزل الألماني الدكتور الجامعي كان سعيدًا بهذه الموهبة، وأثناء الرقص والشرب والغناء والصياح، كنت أجلس بجانب المائدة الصغيرة، وأنا أنظر إليهم. فشدتني طالبة وقالت لي: «لماذا أنت جالس هكذا؟ قم، تعال ارقص معي!» قلت: «لا أعرف كيفية الرقص.» قالت: «سأعلمك.» فقمتُ بين ذراعَيها تتجه يمينًا وأنا يسارًا. فإذا اتجهتْ يسارًا، اتجهتُ أنا يمينًا؛ فتعجبت من هذا الريفي المثقف! لأن صورتي في المنزل كانت العاشق للندوات الثقافية والتي كنت أحرص على حضورها وتنظيمها؛ لأنني كنت الفيلسوف الوحيد في هذا المنزل. وكانت تناديني «يا ابني» حتى تشجعني كما تشجع الأم ابنها وتبتسم، وكانت هي التي تتبع خطواتي، وفي آخر الحفل تنتظر حتى تأتي مرحلة ما بعد الرقص، وإطفاء الأنوار، ولكنني وقفت ساهمًا لا أتحرك نفسيًّا؛ لأنني لم أقاوم من أخذ حبيبتي مني!
ويوم السبت مساءً يجلس طالب أو طالبة في مدخل المنزل على مكتب الاستقبال، يُغلَق باب المنزل بعد العاشرة مساءً. فإذا أتى طالب أو طالبة متأخرًا يدفع غرامة تبلغ قيمتها فرنكًا واحدًا نظير أن يُفتح له الباب، وكان دخْل من يفتح الباب حوالي خمسة فرنكات في الليلة.
وكان الطلبة والطالبات يحبون الجلوس على مكتب الاستقبال خاصةً نهاية الأسبوع؛ لأن المتأخرين كثيرون، أما وسط الأسبوع فلا يأتي أحد متأخرًا؛ نظرًا لحضور المحاضرات في الصباح المبكر والعمل بجدية. وينال جائزته فقط في نهاية الأسبوع.
وكنت من الذين يجلسون في نهاية الأسبوع على مكتب الاستقبال؛ كي يزيد دخلي واعتدت شرب «البيرة» في هذه الحفلات الراقصة دون أن أدون ما أشرب في البطاقة لضعف دخلي الشهري.
وكنت أعزف الكمان في الدور الأرضي، وفي الغرفة المجاورة كانت طالبة ألمانية تعزف «الهارب» وهي آلةٌ مصريةٌ قديمة، فتوقفنا عن العزف في نفس اللحظة، وخرجنا من الباب في نفس اللحظة في الطرقة، وتقابلنا وقالت لي: «لقد مللت من العزف، أريد أن أفعل شيئا آخر.» فأخذت أشرح لها أن الإنسان لا يملُّ من الموسيقى، وأنها إن استراحت دقائق تنشط إلى العزف من جديد. قالت: «ولكني أريد العودة إلى غرفتي، تعالَ معي؛ لنتحدث عن الموسيقى.» قلت لها معتذرًا: «لكني سأستمر في العزف.» غادرت وهي غاضبة، ثم أدركتُ في نفس الوقت أن إجابتي برغبتي في استمرار العزف لم تكن موفقة، وحاولت أن أقابلها من جديد لكي أعتذر لها ولكن اللحظة المناسبة لم تأتِ، ويبدو أن العلاقة إن فات موعدها لا تعود من جديد؛ فالموسيقى لحظة فن قصيرة، أما القراءة فزمانها طويل. وكانت العادة في البيوت الجامعية أن تُقام انتخابات للأسر الطلابية لتنظيم النشاط الثقافي والفني في المنزل، وفي إحدى السنوات انتخبني الطلاب رئيسًا لإحدى هذه الأسر الثقافية الفنية. وكان من بين الطلاب طالبٌ ألماني يدرس التمثيل الصامت مع أشهر ممثل صامت في فرنسا في ذلك الوقت «جولدي بارو». طلبت منه أن يشارك معنا بأمسيةٍ ثقافية يقوم فيها باستعراض لقطات وعرض لفن التمثيل الصامت، فقام بعرض «السجين». وكانت تحكي قصة سجين معتقل يحاول التحدث مع حوائط السجن والتعرف على ثغراتها لعله يجد مخرجًا، وكان يمثل أنه يسير على قدمَين متعبتَين، يتلمس الجدران المصمتة لعله يجد فُرجة يخرج منها فارًّا إلى الحرية.
وذات يوم زار رئيس جمهورية ألمانيا فرنسا وقابل ديجول في مهمةٍ رسمية، فدعاه الدكتور الألماني مدير المنزل لزيارة البيت الألماني ومقابلة الطلاب، ولما كنت رئيس الاتحاد كان من واجبي أن ألقي خطابًا بالألمانية ترحيبًا بالرئيس، فاستعجب كيف يكون طالبًا غير ألماني يلقي خطاب ترحيب لرئيسٍ ألماني نيابة عن الطلاب الألمان في بيت ألمانيا الجامعي، وتعجب من قدرتي وإجادتي للغة الألمانية، فشرح لي رئيس البيت أنها قواعد الديمقراطية، يتعلمها الطلاب، وهي المساواة بين الطلاب الأجانب والألمان، لا فرق بينهم في بيت الطلبة الألماني. وتساءلت متى يزور الرئيس المصري فرنسا؟ ويزور بيت الطلبة المصريين الذي عُرف باسم منزل الطلبة الأرمن، ويحاول استعادته لمصر؟
وتعرفت على فتاةٍ ألمانية، لم تكن طالبة ولكنها كانت تعمل بإحدى المستشفيات كممرضة، ودعاها صديقها الألماني إلى الحفل الراقص. ويبدو أنه لم يكن مهتمًّا بها كثيرًا. فجلست بجواري، وتحدثنا بالألمانية والتي كنت أجيدها تمامًا في ذلك الوقت، واتفقنا على أن نتقابل بعد نهاية الحفل، في اليوم التالي وكانت هذه الفترة هي التي انتقلت فيها من المدينة الجامعية في الحي الرابع عشر بعد انتهاء مدة الأربع سنوات القانونية، انتقلت إلى مسكن الطلبة الرياضيين في «بور رويال». وكان شرط بقائي الوحيد هناك أن أمارس السباحة، وكان حمام السباحة في الدور الرابع تحت الأرض.
وفي اليوم التالي كنت قد انتقلت بالفعل، فجاءت لزيارتي في المنزل الجديد، وأُعجبتْ بلغتي الألمانية الواضحة السليمة. دعوتها إلى الغداء أكثر من مرة في مطعم الجامعة حتى اطمأنت لي تمامًا؛ فساعدتني في الانتقال من مرحلة الحب العذري إلى ما بعدها على مدى عدة سنوات؛ خمس سنوات أو أكثر.
ودعتني إلى زيارتها في منزلها في ألمانيا والتعرف على أسرتها والتي كانت مكونة من الأم والأخ. وكان أخوها صاحب مزرعة، كما كان يربي الخنازير التي تأكل «الردة» وهي قشور القمح المعجونة باللبن، وكان لون جلدها بين البياض والحمرة. فتعجبني وأتساءل: «ولمَ تحريمها؟» وسمعت «خنخنة» صوت الخنازير. وسألت في الصباح: «ما هذه الأصوات التي سمعتها ليلًا وما سببها؟» فقيل: «إنهم اللصوص، يحاولون السرقة.» فقلت: «وأين الأخ للدفاع عن المزرعة؟» قيل: «إنهم قتلة، ولا يضيرهم قتل من يوقفهم، فمن الأفضل أن نتركهم يأخذوا خنزيرًا أو اثنين على أن يقتلوا صاحب المزرعة.»
ثم جاءت يومًا لتزورني في مصر بحجة الذهاب لزيارة الأقصر وأسوان. ودعوتها إلى الغداء في المنزل الذي أقطن فيه مع والدي ووالدتي وشقيقتي الصغرى والتي لم تكن تزوجتْ بعدُ. فلما وجدت الأسرة أنها «بنت حلال» سألتها والدتي: «لماذا لا تتزوجين ابني؟» فقالت: «اسألوه هو لماذا لا يتزوجني؟» فلم أُجب؛ فلقد كان عندي مبدأ هو التعرف على أكبر قدر من الصديقات الأجنبيات ولكن الزواج من مصرية، فلو تزوج جميع الطلبة المبعوثين إلى الخارج من أجنبيات فلمن نترك بنات البلد المصريات؟ وقد يكون هناك استثناءات؛ فطه حسين تزوج من أجنبية تساعده على القراءة والكتابة.
وزارت صديقتي الألمانية الأقصر وأسوان، وصاحبتها إلى الإسكندرية. ورجعت إلى فرنسا وهي مبهورة بمصر وشعبها ورجالها، وظلت تراسلني كلما وجدت اسمي موجودًا في الصحف الفرنسية لنشاطي الثقافي والسياسي في مصر، وكنت أرد على رسائلها باهتمام. وبعد عدة سنوات قد تزيد على العشر وأثناء زيارة لي لفرنسا، رأيتها وقد بدت عليها آثار الزمن، وظلت بلا صديق، بلا زواج، إخلاصًا لصديقها المصري وإن لم يتزوجها؛ فدمعت عيناي.
ولما كانت غرفتي في بيت الطلبة الرياضيين مزدوجة؛ وضعتُ ستارة لتفصل بيني وبين زميلي المصري الذي يتقاسم معي الغرفة، وكان يذهب في نهاية كل أسبوع يزور صديقته الروسية، ويقضي العطلة معها. وفي يوم كان الوقت ليلًا سمعت طرقًا على الباب، فلما فتحت وجدتُ صديقته الفرنسية جاءت لتبحث عنه؛ فأخبرتها بغيابه. فطلبت أن تُمضي الليلة معي في الغرفة مكانه حتى الصباح، وأزاحت الستارة التي تقسم الغرفة حتى أصبحنا في غرفةٍ واحدةٍ كبيرة. خلعتْ حذاءها، ثم استلقت على السرير، وأنا جالس على مكتبي أقرأ وأكتب. وبعد مدة سألتني: «متى تنتهي من المذاكرة؟» فأجبتُها: «عندما أتعب.» فجاءت ناحيتي، وضمتني إلى صدرها. وقالت: «ألم تتعب بعدُ؟» فقلت: «أنت صديقة صديقي.» فأجابت: «كلاكما عندي سيان، من يدخل البهجة إلى حياتي يكون هو الصديق، الحاضر هو الصديق، والغائب لا صداقة ولا مكان له عندي.» فعشت لحظتها صراعًا بين الوفاء لصديقي وبين الاستجابة لها، خاصةً وأن صديقي كان عند صديقته الأخرى. فمكثتْ عندي حتى الصباح، وغادرت اليوم التالي وهي مبتهجة وسعيدة.
في يومٍ ما رأيت طالبة تقف عند باب منزل الطلبة الرياضيين، كانت سمراء البشرة، قصيرة الطول، وقليلة الحجم، ولكنها كانت ضاحكة، تتحرك يمينًا ويسارًا كانت تبحث عن شيء لا أراه. فسألتها: «عن أي شيء تبحثين؟» فقالت: «أبحث عن صديقي المغربي.» فقلت: «هل هناك موعد معه؟» قالت: «لا، ولكنه يسكن هنا.» فسألتُها: «هل تعرفين اسمه؟» قالت: «لا.» فدعوتُها إلى الصعود إلى غرفتي فهناك طلابٌ مغاربةٌ كثر يقيمون في نفس الطابق؛ فصعدت، ودخلت معي الغرفة، وكان الطابق خاليًا هادئًا. وأعجبتني حيويتها وقلة حجمها، فسألتها: «من أين أنت؟» قالت: «من فنزويلا.» قلت: «نعم بلد النفط.»
طلبتْ أن تنتظر عندي حتى يأتي صديقها. ولكنه لم يأتِ، وطال الانتظار، واستلقتْ على السرير، وفي آخر عبارة سألتني: «هل أهون عليك أن أغادر الآن؟» فقلت: «لا بالطبع، أهلًا وسهلًا بك.» ثم غادرت في الصباح وهي مبتهجة وسعيدة «مبسوطة». وبقيتُ أنا أفكر في أمريكا اللاتينية، وقد كنت من أنصار العالم الثالث. ثم عدت إلى مصر، وعشت في البيئة التي تمنع حرية الفرد وصدقه مع نفسه ومجتمعه، وما زالت في ذهني ذكريات باريس. وتعرَّفت على طالبةٍ ألمانية، كانت كبيرة الحجم، ريفية الطبع، تدرس الأدب الفرنسي. أتت إلى باريس في منحة لمدة سنةٍ واحدة، كانت تعيش في منزل الطلبة الألماني والذي كنت قد غادرته، وكانت قادمة من مدينة تقع على الحدود الفرنسية الألمانية، تعيش بمفردها هي وأمها، وكانت تعود إلى ألمانيا مرة كل شهر أثناء دراستها بفرنسا؛ لتطمئن على أمها. وذات يوم دعتني لزيارة ألمانيا، لأتعرف على أمها، وجدتهما كما توقعت؛ فلاحتَين ريفيتَين طيبتَين، يصعب على أي إنسان أن يتلاعب بهما أو يستغل علاقته بهما. وبسرعة اعتقدت أنني سوف أطور معها الحب إلى ما بعد العذري ثم إلى زواجٍ دائم، ظنت أنني أفضل أن أعيش بألمانيا معها؛ فكتبتُ إليها أنني لا أستطيع أن أفارق مصر للأبد، وإذا كانت تريد الارتباط بي فعليها أن تأتي هي إلى مصر، وتعريفها بوالديَّ وإذا أعجبتهم فساعتها يمكن أن أرتبط بها. فردت على الرسالة غاضبة، وقالت: «أيها الساذج كيف تقول هذا؟» ولم أقل لها إنني قلت ذلك حتى أقضي على أي أمل لديها في الارتباط؛ بمعنى «أطفِّشها».
وتعرفتُ على صديقة شقيقتي الصغرى، وكانت تسعى للحصول على تأشيرة خروج، كانت تود العمل في الخارج، وأتعبها موظفو الأمن في المجمع، كلٌّ منهم له أسبابه الوظيفية والشخصية، وكان البعض يريد أن يصادقها، يدعوها للخروج معه، ثم يدعوها لمنزله. فكانت ترفض، وبالتالي كانوا يأجلون الموافقة على إصدار التأشيرة. وحاولتُ مرة أن أزورها في بيتها، قابلني البواب سائلًا: «إلى أين يا أستاذ؟» فأحرجت في الإجابة، ثم وجدتني أتأسف له بأنني أخطأت في عنوان المنزل ورقمه.
وكانت الجامعة في مصر هي المكان الطبيعي الذي يمكن أن أعثر فيه على شريكة للحياة وزوجة للمستقبل، فقد كنت قد بلغت أوائل الثلاثينيات وهو عمرٌ طويل للباحثين عن الزواج. وقد كانت الأقرب لي معيدة في أي قسم من أقسام الكلية، تعرف واجبات العلم وانشغال العلماء. وكان قسم الصحافة ما زال قسمًا بكلية الآداب قبل أن تُشيَّد كلية الإعلام فينتقل إليها. وكانت أول دفعة تخرجت منه ثلاث فتيات مؤهلات للدكتوراه ليكنَّ نواة لأساتذة بالقسم دون الاستعانة بأساتذة من أقسام التاريخ واللغة العربية أو كليات الحقوق والعلوم السياسية. تخرجت ثلاث معيدات وشددن انتباهي؛ إحداهن بجمالها، وبالرغم من صغر وقلة حجمها، كانت تسبح ذات يوم في حمام سباحة نادي التوفيقية كالسمكة الفضية عندما تعكس الشمس أشعتها عليها، ولما رأت الإعجاب في عينيَّ أخبرتني أنها متزوجة من ضابط وتفكر في الانفصال عنه، كان ما زال لي ترسبات وتراكماتٌ شرقية، منها أن زوجة المستقبل لا بد أن تكون عذراء، فلم أستطع التقدم لهذه المعيدة التي تنوي طلب الطلاق من زوجها.
كان أحد المعيدين يحبها، وفي ليلة ليلاء سهرنا ثلاثتنا في منطقة الأزهر والحسين. اشترينا لها عروسة المولد النبوي، فضمَّتها على صدرها، وذهبنا بعدها إلى منزل المعيد، فرقصت لنا حتى الصباح. لم تستمر العلاقة بينهما طويلًا؛ لأن المعيد هاجر إلى الخارج. وما زال مهاجرًا لم يعد ولم يسمع أحد عنه خبرًا، وربما غادر هذه الدنيا. وتركت أثرًا رومانسيًّا في قلبي ما زال حتى الآن عندما تراني أو أراها، أو تتصل بي هاتفيًّا، أو أتصل أنا بها في إحدى المناسبات. تزوجتْ مرتين بعد ذلك، وهي الآن جدة لها أحفاد.
وكانت هناك معيدةٌ أخرى جميلة ولكنها منطوية على نفسها عكس المعيدة السابقة؛ فخشيتُ منها؛ فأنا لا أريد فقط ربة منزل، ولكني أريد رفيقة عمر وشريكة درب، وأنا منفتح على العالم، فلا بد أن تكون هي الأخرى منفتحة على العالم.
كانت رقيقة، منخفضة الصوت، وأنا أريد زوجةً قادرة على الدخول في المناقشات والحوار الذي يحتاج إلى بعض الصلابة والقدرة على المحاورة والمواجهة. ومع ذلك ظلت تثير فيَّ العواطف الرومانسية الأولى.
وكانت هناك المعيدة الثالثة، ذات شعر أسود، وذات قامة تميل إلى الطول، وكانت ذات بشرةٍ سمراء. لم تبتسم مطلقًا، لم أرها تداعب أحدًا، أو تمازح الآخر من الزملاء؛ فانقبض قلبي منها، وأنا الضحاك المهزار، المازح، المداعب، صاحب النكات. كانت تنظر إلى الأرض. وأنا الناظر إلى السماء.
تعرفتُ على عميد دار العلوم الذي يقع بحي المنيرة، وتقول الرواية إن له ابنتان؛ الأولى شقية، مرحة، حية، جذابة؛ والثانية أكثر هدوءًا واستقرارًا ورزانة. وكأنني بين عائشة وخديجة في رواية «بين القصرين» لنجيب محفوظ. لم أرهما، ولكن هكذا كانت تقول رواية أحد الأصدقاء بدار العلوم. وكيف أحب الغائب؟ وكيف يحب القلب ما لا يراه؟ تساءلتُ وفكَّرتُ مهما كانت مسافة القرب والبعد، ومهما قيل كما في الأغنية الشعبية: «القريب منك بعيد، والبعيد عنك قريب» لنجاة، تظل حرارة اللقاء غائبة.
وفي مرةٍ أخرى كنت أصحب أستاذًا في التصوف الإسلامي كما كان يفعل أحد الأساتذة من قبلُ، من بيته إلى الكلية، وكنت أقدر له أنه لم يعطني درجةً سيئة في البحث المفروض على قسم الامتياز بالسنة الرابعة، والذي كان موضوعه «المعرفة والسعادة عند الغزالي» وكنت في ذلك الوقت ضد الغزالي؛ فالمعرفة عندي عقلية وليست تذوقية، والسعادة عندي في التمرد وليست في الرضا. ورفضتُ المقامات والأحوال عند الغزالي. فجاء الأستاذ بمقص وجعلني أقص هذه الخاتمة وأبقي على العرض فقط؛ فخرجت غاضبًا، وأغلقت خلفي الباب بعنف.
وكانت له ابنة تقف بين غرفة الاستقبال وغرفة المعيشة، رأيتها عدة مرات، لم تكن جميلة ولا بيضاء، بل كانت قصيرةً سمراء، فلم تدخل قلبي، ولا أثرت في وجداني، وفي أحد الأيام قابلتها في المجلس الأعلى للثقافة، ويبدو أنها كانت تعمل هناك، فسلمتْ عليَّ وقالت: «ألا تذكرني؟» قلت: «لا.» قالت: «أنا ابنة الأستاذ الجامعي.» فرحَّبتُ بها، يبدو أن الذكريات لا تكون إلا نابعة من القلب.
وعندما كنت أذهب إلى العطوف لأنادي على صديقي وأصحبه إلى معهد شفيق الموسيقي لتعلم العزف على الكمان، كنت أنادي عليه باسمه من أسفل المبنى؛ فكانت شقيقته ترد عليَّ من فوق.
وبعد عودتي من فرنسا اكتشفتُ أنها لم تتزوج بعدُ، وحينما كنت أزور صديقي أصعد إلى شقته، كانت تأتي للسلام عليَّ، كانت قصيرة وممتلئة القوام، ولكن كانت بيضاء البشرة. لم يكن في ذهني الارتباط في هذا الوقت، ولكنني كنت مشغولًا بالاستقرار في مصر وتعييني بالجامعة، وتوفير مبلغٍ من المال أستطيع به أن أكوِّن لوازم الزواج.
ومرةً أخرى ذهبتُ لزيارة صديقي الإخواني والمخلص للجماعة أيما إخلاص، كنت قد سمعت أنه قد تم إلقاء القبض عليه ثم الإفراج عنه. فذهبت لزيارته في منزله بالقرب من قصر عابدين، وكان دكانه أسفل المنزل، كنت أنادي على صديقي من تحت، كانت تنزل شقيقته، كانت جميلةً بيضاء، وكأن جسمها قطعٌ من البلور. كانت تصرُّ أن أصعد، وتجذبني لأعلى مرحبةً بي، كنت أقاوم وأضع يدي على سور السلم وأمسك به، فكانت تحزن لأنني لم أكن أود الصعود، كانت تريد أن تجلس معي وتعرِّفني على عائلتها، بالإضافة إلى الأب الذي كنت أراه يقوم بعمله في الدكان، كنت أود أن أستجيب ولكن ظل المعوق كما هو، لا مال ولا عمل ولا سكن لكي أفكر في الارتباط. كنت مهمومًا بالبحث عن عملٍ وانتظار قرار التعيين بالجامعة، وكنت مهمومًا بمحنة الوطن بعد هزيمة ١٩٦٧م. أحمل هم الفكر والوطن من ناحية والحب والجمال من ناحيةٍ أخرى. وهي هموم أتمنى أن أشاركها مع زوجة المستقبل؛ نحمل العناء المشترك معًا، فلِمَ السرعة في الاختيار؟
ومرة كنت في محاضرةٍ عامة بها حضورٌ كُثر من المشايخ وعلماء الأزهر، وأنا خارج من باب القاعة رأيت شيخًا كنت أعرفه من قبلُ يمثل الجانب اليساري من الفكر الإسلامي للعلماء. ففرحت لرؤيته وكانت معه ابنته، وكانت متوسطة الجمال على وجهها مساحيق لتزيد من جمالها. وهو لا يعبأ بنظرة زملائه المشايخ إليه، فقد كان من المتحررين من نقد المحافظين له، كان ينتظر أن تأتي مني مبادرة تخص ابنته وأنا من التقدميين مثله، كان عقلي وقلبي ما زال في المحاضرة التي ألقيتها للتوِّ. لم أكن أستطيع التفكير في موضوعٍ آخر.
وكانت هناك معيدة بقسم اللغة الفرنسية على قسط متوسط من الجمال، وقامةٍ ممشوقة، متوسطة بين النحافة والبدانة، قدَّمها لي أحد أصدقائي بقسم اللغة العربية شفهية، وكان والدها من الطبقة العليا، لم تتح لي الظروف لمقابلتها على نحوٍ طبيعي حتى أستطيع التعرف عليها، ولكننا تقابلنا في فناء الكلية، نظرت إليها وهي تبتعد، وبادلتني النظرات بعد أن ابتعدت، والتقت النظرتان، وانتهى الأمر عند هذا الحد.
وكانت هناك زميلة دراسة بقسم اللغة الفرنسية أقرب إلى السمار، ذات شعرٍ أسودَ فاحم، أقرب إلى القِصر منها إلى الطول، ومن النحافة منها إلى البدانة، عرفتها في باريس أثناء الدراسة، وعادت إلى القاهرة قبلي. أتاني مرة زميلٌ مصري يسأل عنها؛ فأخذته إليها في منزل الطالبات المجاور لمنزلي ولا أعرف لماذا كان يسأل عنها، وهل تزوجها أم لا! ولكنها انتقلت إلى رحمة الله بعد أن أصبحت أستاذة بالقسم الذي تنتمي إليه.
وفي يوم وأنا جالس يرافقني أعز أصدقائي في قسم اللغة العربية جاءت فتاةٌ نحيلةٌ بيضاء تسأل عن شيء ثم غادرت، ولكن صورتها انطبعت في ذهني؛ فأخبرني صديقي بعد أن سألته عنها، قال: «إنها فتاة تدرس بالدراسات العليا، وتُعد رسالة الماجستير.» ورأيتها مرةً أخرى تدخل المدرج الكبير بالكلية لحضور مناقشة رسالة لأحد الأصدقاء، فتأكد انطباعي الأول، كانت رسالتها عن «يعقوب صنوع»، وكان في بعض مسرحياته بعض العبارات الفرنسية، فسألتْ مشرف رسالتها عن أحد يساعدها في ترجمة هذه العبارات، فأخبرها أن هناك شابًّا عائدًا من فرنسا مؤخرًا يستطيع أن يساعدها، فاتصلتْ بي. وتواعدنا في مكتبة الكلية، وتلاقينا عدة مرات، وأنا أترجم لها العبارات الفرنسية. كانت تجلس بجواري وأرى وجهها من الجانب الأيسر، وكان يجذبني ظل العيون الأزرق فوق جفنَيها.
وفكرت كيف أبدأ هذا المشوار الطويل؟ فطلبت من أحد الأصدقاء في قسم اللغة العربية، والذي كنا حضرنا مناقشة رسالته للدكتوراه من قبلُ، أن يصحبني لبيتها كي يعرِّفني على أهلها؛ ولأنني خجول لن أذهب بمفردي. وجاءت معه زوجته، ولم أكن أعرف أي هدية أحضرها لها في أول زيارة. ولما كانت نحيفة ظننت أنها تحتاج إلى غِذاء، فذهبت إلى شارع التوفيقية. واشتريت من الفرارجي بطة، وتساءلت بيني وبين نفسي: ما قيمة «بطة» فهي يشتريها كل الناس؟ بطتي لا بد أن تكون مميزة، فطلبت من البائع أن أشترى لها شريطًا أحمر، نربطه حول رقبتها على شكل «فيونكة». فأرسل البائع صبيه إلى المكتبة المجاورة ليشتري شريطًا أحمر كما طلبت. ولما طلبت من الصبي أن يلف الشريط حول رقبة البطة على شكل «فيونكة» رفض الصبي، فلطمه البائع على وجهه وقال له: «وأنت مالك، الزبون عاوز كده.» وطلبت من البائع أن يضع البطة في حقيبةٍ صغيرة من الورق المقوى. وكانت تطل البطة برأسها خارجها.
وركبنا أنا وصديقي وزوجته من ميدان التحرير، ووصلنا إلى ميدان الحجاز حيث تسكن الحبيبة، ولما دخلنا ووضعنا الحقيبة الورقية على الأرض نطت البطة خارجها وهي «تكاكي». فزعت أم حبيبتي؛ فشرحت لها أنها هديتي. وتعرفت على أخت حبيبتي وأولادها الثلاثة، وكانت الحبيبة قد مهدت لأسرتها من قبلُ عن سبب الزيارة، ثم دعتني والدتها بعد ذلك إلى الغداء، وكانت البطة التي أحضرتها، وذهبت وأنا خجول لأنني كنت أتناول الطعام في منزل لم أتعود عليه، ومع عائلة تعرفتُ عليها لأول مرة.
وقبل إتمام الخطبة، دخلت صديقتي المستشفى لإجراء عمليةٍ جراحية وكنت خجولًا كالعادة، اصطحبت معي أخي والذي كان أستاذًا لها في قسم اللغة العربية وزوجته المذيعة التليفزيونية لزيارتها في المستشفى وتهنئتها بنجاح العملية وتمنَّيت لها الشفاء العاجل؛ فعرفتْ هذه المرة أن من ينوي طلب يدها إنه شخص جاد، وكانت تبتسم، وعرفتْ جديتي في الارتباط بها، وبعد تلك الزيارة بدأت إجراءات الإعداد للخطوبة.
وكانت على موعد لرحلة إلى مرسى مطروح مع الكلية أو بيوت الشباب لا أذكر! أرسلتُ إليها رسالة أعبر فيها عن أشواقي وتمنياتي بالعودة السريعة، وما زالت تحتفظ بهذه الرسالة حتى اليوم، وأحضرتْ معها من هذه الرحلة هديةً صغيرة لي؛ كأسًا من البلاستيك الملون الأخضر المحاط بزخارفَ صفراء توضع فيه الورود، وما زالت لدينا حتى الآن محتفظين بها للذكرى، ودون أن نتنبأ أنه سيخلد في هذه الذكريات.
وبينما أنا أتعرف على زوجتي الحبيبة وعرفت بعد صحبةٍ قصيرة أترجم لها بعض العبارات الفرنسية الواردة في مسرح يعقوب صنوع؛ موضوع رسالتها للماجستير، دعوتها إلى حضور حفل أوبرا عايدة الذي كانت تقيمه الفرقة المصرية للموسيقى والأوبرا تحت سفح الهرم الأكبر، وكان الجو صيفيًّا مريحًا، وبعد الانتهاء من غناء راداماس وعايدة عند القبر بعد الحكم على قائد الجيش المصري لوقوعه في حب عايدة ابنة إمبراطور الحبشة المهزوم بعد الحكم عليه بالإعدام، قابلنا عند خروجنا الدكتور الأهواني، أستاذ الأدب العربي بقسم اللغة العربية بجامعة القاهرة، وهو أيضًا خارج من نفس المسرح المكشوف، حَيَّاني وسألني: «هل هذه خطيبتك؟» وكان يعلم أنني رجعت من فرنسا حديثًا ولم أتزوج بعدُ. فاحترت ماذا أقول! خطيبتي! ونحن لسنا مخطوبين بعد، زوجتي! ونحن لم نتزوج بعد، صديقتي! والصداقة بين الفتاة والرجل غير مستحبة في المجتمع المصري دون غطاء شرعي. فقلت: «صديقتي» خوفًا من أن أقول خطيبتي قبل الأوان فتحزن من هذا التسرع في الإعلان عن علاقة ما زلنا لم نصل إليها، ويبدو أن الدكتور عبد العزيز الأهواني شعر بنفس الحرج، هل يبارك لنا قبل الأوان؟ فلم يرد وحيانا، وغادرنا. ونحن في طريق العودة ويبدو أننا من جمال الأوبرا واستمتاعنا بها، تأثرنا، فمسكت بيدها ووضعت هي رأسها على كتفي ورآنا سائق التاكسي في المرآة العاكسة فأدار لنا بوجهه وقال: «أنا لا أحب هذه الأشياء في سيارتي.» فأصبنا بالخجل، وفي نفس الوقت شعرنا بالحزن؛ لأننا لم نكن نفعل شيئًا مريبًا، وأن الحب البريء في هذا المجتمع ما زال حرامًا بلغة الثقافة الشعبية. ولو أن الحبيب كان عربيًّا ذا عقال والحبيبة كانت مأجورة من الشارع لما قال ما قاله وانتظر المقابل «البقشيش»، بل واقترح عليهما فندقًا في شارع الهرم وهو يعمل دليلًا لهما.
وبدأت أنا وحبيبتي نستعد للخطوبة ونحن لا نملك المال لشراء دبلتَين من الذهب وأسورة من الذهب أيضًا أو الألماس كشبكة لها؛ فأرشدنا أحد الأصدقاء بأن هناك نوعًا من الدبل من الذهب الأصفر «الفالصو» يبلغ ثمنها ثلاثة جنيهات؛ ففرحنا، وقمنا بشرائها، وذهبنا نحتفل بشراء الدِّبل في مقهى أعلى بناية أمام سينما ريفولي. جلسنا نتناجى ونحن نلبس الدبل. وكنا نخشى من النادل أن يغضب من تصرفاتنا؛ فالحب عندنا مكروه في العلن، محبوب في السر.
وحددنا موعد الخطوبة، ودعونا أساتذة قسم اللغة العربية، وأهلي بطبيعة الحال، وكانت ليلة ما زلت أذكرها لبساطتها وصدقها، وسعادة الجميع بالخطيبَين، كان ذلك في أكتوبر سنة ١٩٦٩م. وأثناء تعرفي على زوجتي الحبيبة ومقابلتها في نادي التوفيقية لمدة أسبوع للغداء هناك، كانت والدتي تعد الطعام لي ولوالدي في المنزل، فلما تعددت مرات خروجي وقت الظهر ولا أحد يأكل ما تطبخ قالت لي مرة وأنا خارج: «ولاد الناس يا أبو علي!» ظانَّة أنني ألعب بالبنات؛ فقلت لها: «لا يا نينة، هذه المرة جادة.» وبعد الخطبة كنت أذهب إلى الجامعة الأمريكية لإحضار خطيبتي معي للغداء في منزلنا مع الوالد والوالدة، ولما تكررت الزيارات لمدة ستة أشهر ونحن نعدُّ بيت الزوجية فاجأني والدي مرة وأنا خارج مع خطيبتي لتوصيلها قال والدي المحافظ: «البنات على الذواق.» وكما عند الصوفية «من تذوق عرف.»
وكنت أذهب لزيارتها يوميًّا بعدما أنتهي من الكتابة عند التاسعة مساءً، فأصل إليها التاسعة والنصف، فكانت والدتي تحتجُّ أيضًا ضاحكةً: «يا أبو علي حد يزور خطيبته بعد التاسعة والنصف مساءً؟» فأقول لها: «يا نينة، أنا عندي شغل لحد تسعة مساءً ولا أستطيع التفريط في ذلك.» وهو ما كنت أقوله لخطيبتي عند بداية التعرف عليها بأنها ستكون زوجتي الثانية، والعلم زوجتي الأولى. ومن على ناصية الطريق الذي تمر به الحافلة من العباسية إلى ميدان الحجاز حيث تسكن خطيبتي، كنت أشتري قطعًا من الجبن الرومي وأقفز إلى الحافلة، وكانت شبه فارغة، وكان شارع الحجاز شبه فارغ أيضًا حيث تسكن خطيبتي في آخره بالقرب من ميدان الحجاز، فكنت أخجل وأنا أطرق الباب وأوقظ النائمين، والدتها وأختها وأولادها، فتفتح لي وتدخلني وهي بنصف ابتسامة، ولا أدري مبتسمة لأنني أتيت، ونصف مبتسمة لأنني تأخرت؟ فماذا سيقول الناس عنها إذا هم رأوني أجلس معها وهي تتناول طعام العشاء وتستخرج لباب الخبز الرقيق أصلًا من الرغيف الشامي وأنا أتأمل هذا الوجه الجميل. وأسرع بالخروج لألحق بآخر مترو من ميدان الحجاز إلى العباسية حيث كنت أقطن قريبًا منه، وكنت أجد أهلي نيامًا وأنا أستلقي وأنام بمجرد الدخول للمنزل ولكي أستيقظ مبكرًا إما للكتابة أو الذهاب إلى الجامعة في اليوم التالي.
وقبل الزواج وإعداد المسكن، أوصاني بعض الأصدقاء بالذهاب إلى حارة لا أذكر اسمها وربما تكون «الصنادقية» المتفرعة من حي الأزهر وشوارعه التي تشتهر بصناعة الأثاث من خشب «الأرابيسك». فذهبت إلى هناك ورأيت بالفعل محلات الأثاث ومجموعة من الدواليب والكراسي والشبابيك من الأرابيسك دون أن أجد مكتبًا واحدًا بهذا الأسلوب العربي. ورأيت محلًّا يجلس على بابه صاحبه فسألني وهو ينظر إليَّ: «هل تبحث عن شيء معين؟» قلت: «أريد مكتبًا وكرسيًّا من الأرابيسك.» فقال: «أصنعه لك ويكون جاهزًا في ظرف شهر، وتكون تكلفته ألفي جنيه، تدفع النصف عربونًا، والباقي عند التسليم.» فرحبتُ بالعرض وأعطيته ما اتفقنا عليه. ثم مر شهر ولم يتصل بي صاحب المحل، فذهبت إليه متسائلًا عن المكتب. فأجاب: «في التشطيب يا أستاذ ينقصه فقط الأدراج والمقابض والأقفال، فهي غالية الثمن، وصرفت العربون كله في الخشب والعمل عليه.» وكان من أفضل أنواع الخشب «الماهوجني». وطلب أن أدفع باقي المبلغ حتى يشتري باقي التجهيزات، فأعطيته الألف الثانية وطلب شهرًا آخرًا. وبعد أن مر الشهر الثاني ذهبت إليه فلم أجد شيئًا. فسألته من جديد: «أين المكتب؟» فقال: «في التشطيب يا أستاذ، نحن نشتري مستلزماته الآن.» ففرحت. وبعد مرور أسبوعَين آخرين ذهبت إليه فقال: «ما زال.» فعرفت أنه نصاب أخذ ثمن المكتب ولم يسلم العمل. فذهبت إلى قسم شرطة الأزبكية وقصصت على الضابط ما حدث. فاستعجب وقال: «لا تخف سآتي معك لهذا الرجل النصاب.» ففرحت لأن شعار «الشرطة في خدمة الشعب» يتحقق أمامي بالفعل، ودخلنا الحارة. فقام جميع أصحاب المحلات من النجارين يحيونه قائلين: «اتفضل يا بيه، اتفضل يا باشا.» وهو يبادل التحية بأحسن منها، وبعد أن طفنا بالحارة ووصلنا عند النجار النصاب وعد بتسليم المكتب في ظرف أسبوع. فشكرته، ولم يأتِ هذا الأسبوع إلى الآن، فتركت الأمر وليس عندي وقت للذهاب للمرة الرابعة للسؤال عن المكتب، وقلت لنفسي إنه سيلقى عقابه في الدنيا قبل أي مكانٍ آخر.
ونصحني بعد ذلك صديق بالذهاب إلى دمياط والتي تشتهر بصناعة الأثاث وفيها أكبر المصانع والمحلات، فذهبت بصحبة أستاذ من جامعة المنصورة، فدهشت لهذا الإتقان في الصناعات الخشبية، وتعرفت على شابٍ. وعرف مني ماذا أريد، ووعدني بإنجاز العمل، المكتب وأربعة وعشرين كرسيًّا ومنضدة اجتماعات من الأرابيسك، وهو لا يريد عربونًا أو مقدمًا وأن كل ذلك سيكون جاهزًا في ظرف شهر، وبالفعل ذهبت إليه مع الصديق من جامعة المنصورة ووجدت ما أطلب جاهزًا على أكمل وجه ودون أن أدفع قرشًا واحدًا كعربون. ففرحت هذه المرة وأحضر لي عربة لنقل الأثاث إلى القاهرة، وأتى معي لتركيب طاولة الاجتماعات والتي بلغ طولها ما يقرب من الخمسة أمتار وعرضها مترين، والكراسي الأربعة والعشرين، ومكتبي في الغرفة المجاورة. وضعتهم في بدروم المنزل الذي بنيتُه وكان كل مساحة البدروم مخصصة للمكتب والمكتبة والكتب. ودفعت للرجل الثمن دون مناقشته في التكلفة والأسعار، يكفي حسن أخلاقه والتزامه وجودة ما صنع.
وبعد أن جهزنا المسكن، ونصف الجهاز بما كان لديَّ من مبلغٍ معقول كمهر، حددنا موعد الزفاف في ٣٠ أبريل ١٩٧٠م. وأدركت أن الزوجة تجمع بين الحب العذري وما بعده، بعد أن كانا منفصلين منطقيًّا بالنسبة لي. فالحب العذري لا ينتهي بالزواج، والزواج لا يبدأ بالحب العذري. الأول شعورٌ إنسانيٌّ رقيق، وعاطفةٌ إنسانيةٌ جميلة، أقرب إلى الفن والشعر، نهايته في بدايته، وبدايته في نهايته. أما ما بعد الحب العذري، فإنه قضاء وقت، وانبساطةٌ مؤقتة، لا يبدأ بالحب العذري، ولا ينتهي به.
أما الزواج فإنه يبدأ بالحب العذري، وينتهي بالزواج.
فالحب العذري مقدمة، والزواج نتيجة.
فالحب حرارة، والزواج تدفئة.
الحب نداء، والزواج تلبية.
فالحب صوت، والزواج صدًى.
وطوال الحياة المشتركة تنشأ عاطفةٌ ثالثة أقوى من الحب وما بعده، بل وأقوى من الزواج نفسه. وهي العِشرة أو المعاشرة، أي الحياة المشتركة والتعاطف المتبادل والسير يدًا بيد لمواجهة الصعاب. فالمراحل التالية للحب قد ينقصها الاطمئنان. أما المرحلة الأخيرة أي العِشرة فتقوم على الاطمئنان المطلق. فلا خوف من الانفصال أو الحزن أو الزعل أو الملل. فقد أصبحت العشرة هنا جزءًا من التاريخ، ومن الذكريات المدونة كاللوح المحفوظ.
ولا يعني ذلك انغلاق القلب انغلاقًا مطلقًا؛ فهذا يميت الحب في كل مراحله، ويغلق الباب دون أن يُترك مواربًا حتى يتجدد الهواء. ويظل القلب نابضًا بتغييرات الحياة؛ فالحب في مرحلته الأخيرة أي العشرة تترك القلب مواربًا للشعور بتجدد الحياة والجمال المتغير المتعدد، والماء النقي. وبإغلاق القلب تمامًا بدعوى أن الإخلاص يمُيته، ويملُّ القلب الآخر منه، وإلا فلماذا كانت الغيرة تعيد شباب الحب؟
فالماضي المعلوم أفضل من المستقبل المجهول، وإذا كان الحب مغامرة في البداية فإنه استقرار في النهاية. فإذا تحول، تحول الاستقرار في النهاية إلى مغامرةٍ جديدة في البداية، فقد يخسر الحبيب البداية والنهاية معًا.
وبلغة السياسة المصرية فإن العشرة تكون ٩٩٫٩٪ من العاطفة الإنسانية والباقي إذا بقي شيء للرياح الجديدة التي قد تهبُّ على القلب دون أن يكون لها أي مخاطر على العشرة.
فالبرتقالة ليست خطرًا على شجرةٍ راسخة من البرتقال، وحبة العنب ليست خطرًا على عنقود العنب.
وقد حدث أنه في مرحلة ما بعد الحب العذري أن قلبي قد انفتح بما بقي من حرية فيه نحو فنانة ومخرجة مسرحية ومناقِشة سياسية. قامت بإخراج مسرحية لها في المسافر خانة في حي الأزهر. لم يكن لديها المال لدفع أجور الممثلين، ولم تأخذ من وزارة الثقافة شيئًا. إلا أنهم تركوا لها استخدام المسافر خانة مجانًا، فكنتُ أعجب بنشاطها وإصرارها وفنها وتعاون الممثلين والممثلات معها، والاعتماد على الجيل الجديد باستثناء بعض المغنين الكبار، وفي مقابل ذلك وقفت أمام المسافر خانة لتنظيم الدخول بأجورٍ زهيدة لا تكفي لطعام العشاء للمخرجة الفنانة، فوضعت لها بعضًا من المال في صندوق بطاقات الدخول ليساعدها في عملها، وظللت أفعل ذلك كل ليلة طيلة شهر رمضان والزوجة الحبيبة تتساءل عن هذا النشاط اليومي الليلي؛ فأخبرها بما يحدث. وبدا الحزن على وجهها وهي تحمل طفلنا الثاني بجمالها وصدق وفائها للأسرة؛ فانتابني الندم على إهمال الكثير من أجل القليل، وكانت زوجتي الحبيبة حاملًا في ذلك الوقت. فصاحبتها إلى المستشفى، ومكثنا عدة أيام حتى يحين موعد الولادة. وكنت في صراع بين البقاء معها وبجوارها أو الذهاب إلى المسافر خانة كالعادة؛ لأنظم الدخول وأُطرب بالغناء، وأستمتع بجمال الفنانة والمخرجة المسرحية، وأستعرض في ذهني كل ما قيل عن تحرير المرأة والمرأة الجديدة لقاسم أمين وغيره. بعد ذلك انطفأ الحب الرومانسي عندما شعرت أنه تحول إلى استغلالٍ مقصود يوم دعتني لمشاركتها العشاء مع ضيوفها الأجانب في المعادي على ضفاف النيل. وتركتني أدفع ثمن العشاء وأنا ما زلت محدود الدخل، كانت ترفض زيارتي لها في شقتها الجديدة حيث كانت تعيش في المعادي. فانتهت هذه الفترة القصيرة الرومانسية، خاصة بعد أن دعتني مرة لإيصالها في الصباح الباكر إلى محطة القطار في شارع رمسيس. أحسست باستغلالها لي وأن الريح التي هبت عليَّ من جهتها لم تكن نقية؛ فانغلق قلبي وربما ينفتح أمام ريحٍ أخرى بمرور الزمن.
وأنا جالس بالقسم في مصر كان باب مكتبي مفتوحًا، رأيت طالبة كانت شقراء تمرُّ أمام باب غرفة مكتبي، ذهابًا وإيابًا. تنظر لي وتبتسم، دعوتها إلى مكتبي، عرفت منها أنها طالبة بالسنة الرابعة، وكان مكتبي نفسه هو الغرفة التي كنت أدرس فيها فلسفة التاريخ والفكر العربي المعاصر. فسألتها إن كانت تريد شيئًا أشرحه لها. قالت: «لا.» فسألتها من جديد: «ألا يوجد شيء غامض من المادتَين المقررتَين أوضحه لك؟» قالت مرة أخرى: «لا.» وهي تضحك؛ فدعوت لها بالتوفيق والنجاح.
وكانت كلما رأتني أركب سيارتي مغادرًا القسم، أسرعت فاتحة باب السيارة بجواري وتدخل وفي يدها قطعة شوكولاتة وزجاجة مياه غازية، فأشكرها. وأنا خارج من بوابة الجامعة وهي تركب بجواري في يوم، قلت لها: «أنا في طريقي إلى مدينة نصر.» فتقول هي ذاهبة إلى اتجاهٍ آخر إلى شارع الملك فيصل بالهرم؛ فسألتها إن كانت تريدني أن أوصلها؟ رفضت بحجة أن المشوار طويل والمكان بعيد. وتكرر منها ذلك عدة مرات. وكنت قد اشتريت شقة بمنازل هيئة التدريس بجامعة القاهرة، تقع خلف الجامعة على مسافةٍ قريبة منها، كي أستقبل فيها طلابي، فلم يكن بالقسم حجراتٌ خاصة للأساتذة، وبالفعل استقبلت فيها الطلبة والطالبات، وكنا نترك باب الشقة مفتوحًا حتى لا يظن أحد أن في الأمر شيئًا.
ولما تخرجت الطالبة وأنهت السنة التمهيدية وهي ما زالت تلاحقني، دعوتها مع غيرها إلى مكتبي الجديد في شقة الجامعة، فرفضت ظانَّة بي ظن السوء، وبعد أن اتفقنا على موضوع وخطة رسالة الماجستير، وكان الكتاب المطلوب باللغة الفرنسية ومترجمًا إلى اللغة الإنجليزية. والترجمة ليست موجودة في مصر، وفي إحدى رحلاتي إلى الخارج اشتريت لها الترجمة الإنجليزية في ثلاثة أجزاء، وأعطيتهم لها هدية مقابل قطع الشوكولاتة وزجاجات المياه الغازية التي كانت تحضرها لي تقريبًا كل يوم أحضر فيه للجامعة.
كما أحضرتْ لي حلوياتٍ شرقية إلى معرض الكتاب الدولي حيث كنت أشارك هناك بندوة، وكانت هيئتها تبدو على «سنجة عشرة» في لباسها وهيئتها، فنهرتها بأنه يكفي ما أحضرته من قبلُ.
كانت رسالتها مكتوبة باللغة العربية ومجرد شروح على النص الإنجليزي دون منهج أو موضوع أو تقسيم للرسالة، أو إشكال بها أو نتيجة، ويبدو أن أحد المعيدين أو الأساتذة الشبان قد قام بكتابتها لها مقابل مبلغ من المال، وربما مكاتب تصوير وترجمة المستندات المنتشرة بمنطقة «بين السرايات» خلف الجامعة هي التي أعدت هذا الشرح مقابل الكثير من المال.
وكنت قد لاحظت منذ البداية درجة التصاقها بي المستمرة؛ فأعطيتها صورًا لي تحتوي على رحلاتي لإندونيسيا مع الطلاب، وكانت مكدَّسة بأدراج مكتبي بلا نظام، ابتعتُ «ألبومَين» لجمع الصور لها وترتيبهما. أخذتِ الحقيبة التي وضعتُ بها الصور والألبومَين، وبعد مدة سألتُها وهي تغادر سيارتي: «هل انتهيتِ من ترتيب الصور؟» وبدلًا من أن ترد نظرت إليَّ وسألتني: «متى تأتي لمقابلة والدي؟ وانتظرت شهرين.» لم أفهم السؤال حينها، ولذلك لم أجب عنه وغادرت إلى منزلي وأنا أفكر في سؤالها، وبعد عدة أيام فهمتُ ماذا تقصد، جاء أخوها لكي يتعرف عليَّ بالجامعة، كان يضع في حقيبة سيارته كرتونةً مملوءة بالمانجو لا أذكر عددها، كانت هدية لي لأنهم لديهم مزرعة مانجو، فترددت في قبولها، فأصرَّ، فأخذتُ المانجو ونقلتها إلى سيارتي، وشكرتهما. وعرفت فيما بعدُ أنهما أعضاء في الاتحاد الاشتراكي في مناصبَ كبيرة.
بعد ذلك لم أبادر بشيء تجاهها، وبعد مدة كنت حريصًا على استرداد صوري منها؛ فطلبتُ من زوجتي الاتصال بهم وطلب الصور، ردَّت والدتها بأنها ربما فقدتها فهي لا تجدها، ثم اتصلت مرةً أخرى وقالت بأنها تحتفظ بها في أمان ولن تُرجعها لي إلا بمقابلٍ مادي نظير مصاريف ابنتها طالبة الدراسات العليا بالجامعة، كانت زوجتي على وشك إهانتها، ولكنها لم تفعل، وانتهى الأمر عند ذلك الحد والصور العزيزة عليَّ ما زالت عندها، وما زلت أرجو أن تعيدها لي لأضمها إلى مكتبتي التي أنوي تحويلها إلى مُتحفٍ باسمي.
وفي يوم من الأيام تعرفت على أستاذةٍ شابة بكلية الإعلام، كانت بيضاء البشرة، ترتسم على وجهها ابتسامةٌ رقيقة. وكانت قصيرة الطول، دعوتها إلى زيارتي بمكتبي في كلية الآداب، أتت متأخرة عن الموعد، وهي تسير ببطءٍ شديد، فلم أستطع الحديث معها.
وقابلتها مرةً ثانية في الساحل الشمالي حيث كنا نصطاف في قرية «جامعة القاهرة» حول حمام السباحة، عرفتها، وعرفتني، وجلسنا، كنت مبتلًا وتساقط الماء على هاتفي النقال؛ فأسرعت في نقل الأرقام. وكانت تدور في دائرةٍ سريعة نظرًا لتعطل الهاتف، وبعد أن غادرتُ ذهبتُ إلى متخصص لكي يحاول إصلاحه، قال إن هاتفي لم يعد صالحًا للعمل بسبب المياه؛ فحزنت عليه أكثر من حزني على ضياع رقمها وبالتالي فراقها، كانت مجرد ريحٍ خفيفة وليست ريحًا عاتية، كان لقاءً عابرًا وليس علاقةً دائمة.
وفي الولايات المتحدة الأمريكية أثناء وجود زوجتي الحبيبة، حيث عادت مع طفلنا الأول لتوصله للقاهرة وتتركه هناك مع والدتها نظرًا لأنها كانت تودُّ دراسة الماجستير في الجامعة التي أعمل بها، وكنت في ذلك الوقت أقيم في الشقة بمفردي لمدة شهرَين تقريبًا، التقيت بأصدقائنا في الجامعة عدة مرات كي يخففوا من وحدتي، ودعتني إحدى السيدات الموظفات بالجامعة إلى منزلها في وسط المدينة كي أرى فيلاديلفيا من أعلى نقطة فيها. كانت سيدةً كبيرة في السن، تكبرني بحوالي خمسة عشر عامًا. وتقترب من سن المعاش، وكان معها صديقها الأمريكي الذي لا يبدو عليه أي علامات للثقافة والمعرفة. وبعد أن غادر دعتني إلى الجلوس بجوارها لكي نتمكن من النظر من النافذة معًا، عرفت معها إحدى لحظات الحب غير العذري، ولكنني فضَّلت الحب العذري؛ لأنه أحرُّ من الجمر، في حين أن الحب ما بعد العذري بالنسبة لي باردٌ ثقيل.
وفي المغرب بعد أن عادت زوجتي الحبيبة إلى مصر في زيارة لرؤية الأهل، كانت بعض المغربيات سهلة المنال، أراهن في المنازل إذ كن يعملن كخادمات، وإما في الطريق إذ يتهادين، أو حتى أستاذات شابات في الجامعة. يكفي أن تناديها فتستجيب وتأتي. وكان معي صديقٌ مصري يعرف النساء هناك جيدًا، كان متزوجًا من مغربية. وكانت النساء المغربيات يمثلن روح التحرر، ربما من بقايا الأندلس، أو من آثار الاحتلال الفرنسي، أو من استقلالهن الفكري عن السلطات الدينية القوية مثل عندنا في مصر.
وفي اليابان كانت المرأة اليابانية تتشوق لمعرفة الأجنبي، ولكن لمرةٍ واحدة، ولا تعرفه بعد ذلك، ولا تسمي هذا خيانة لزوجها. تعرفه في الحياة العامة، في القطار، أو في مكان العمل، أو في المحال العامة.
والمرأة اليابانية صغيرة الحجم، قصيرة — على عكس المرأة الغربية — تميل إلى الصمت، لا تحب الكلام والثرثرة، لا تعرف اللغات الأجنبية بدقة، وقد يكون لها سكنٌ خاص، حتى لو كانت متزوجة، طيبة القلب منهن هي التي تستمر في علاقتها بالأجنبي لمدةٍ طويلة؛ فيصبح جزءًا من حياتها، تضحي من أجله بكل شيء، ولو أصابها منه مكروه تعاملت معه وحلَّته بمفردها. وهي كريمةٌ، وفيةٌ، مخلصة، تدمع عيناها حين الفراق. تظل تراسله ربما حنَّ إليها وعاد، وتستمر في المراسلة لعدة سنوات حتى تقلَّ الرسائل، فتتحول الصداقة إلى ذكريات.