القضاء والمحاكمات
كانت أول محاكمة في الجامعة وأنا في السنة الرابعة، كنت أدرس اللغة الألمانية كلغةٍ إضافية؛ لأنني كنت في قسم الامتياز. كنت أحضر دروس اللغة الألمانية في قسم التاريخ؛ لأنه لا يوجد قسم للغة الألمانية في الدراسات العليا في قسم الفلسفة.
وفى آخر العام وجدتُ ورقة الامتحان في اللغة الألمانية مع قسم الآثار فاعترضت. وقلت: «إنني أدرس اللغة الألمانية في قسم التاريخ!» وكانت نصوص الامتحان المطلوب ترجمتها غريبة تمامًا بألفاظها عمَّا درستُ في قسم التاريخ. فقال لي المراقب يوم الامتحان وكان ضابطًا من الحرس: «اكتب طلبًا للعميد تشرح ما حدث فيه.» فبدأتُ بكتابة الطلب بجملة «أخي الفاضل عميد كلية الآداب …» فانزعج ضابط الحرس وصرخ: «هل العميد أخوك الفاضل؟ ولماذا لا تكتب السيد العميد؟» فقلت: «لا سيد إلا الله.» وقال الرسول: «وأنا شهيد على أن العباد إخوة.» وكان الضابط قبطيًّا فانزعج أكثر وأكثر وقال: «أنت قليل الأدب!» فقمت محتجًّا وكان بيدي الريشة التي أكتب بها. ويبدو أنها احتكت بذراعه العاري حيث كنا في الصيف، فجرحت سنُّ الريشة ذراعَه، ولكن الحبر كان أكثر؛ فأخذني الضابط إلى العميد. ولما رأى العميد ذلك حوَّلني إلى التحقيق، فشهد الضابط عليَّ بالتهمة، وشهد رئيس قسم الدراسات اليونانية واللاتينية بأنني على حق في طلب تغيير ورقة الامتحان، بدليل أنه ساعدني في ترجمة النص الغريب لصعوبته. وحوَّلني عميد الكلية للمحاكمة. فكوَّنَت الجامعة لجنة المحاكمة طبقًا للقانون من خمسة أساتذة من كلية الحقوق الذين يعرفون القانون، وحددوا لي موعدًا للجلوس في مجلس الجامعة للمحاكمة. وسألوني: هل قلت للعميد «الأخ الفاضل»؟ قلت: «نعم». وكررت حديث الرسول: «وأنا شهيدٌ على أن العباد إخوة». فقالوا: «هل العميد أخوك؟» قلت: «نعم هو أخي، ولا فرق بين العميد والكنَّاس إلا في أداء الواجب، فإن لم يؤدِّ العميد واجبه وأدَّى الكنَّاس واجبه، فالكنَّاس أفضل.» فنظر الأساتذة بعضهم إلى بعض، وقالوا: «هل ستعيش طوال حياتك تنادي الناس بالإخوة بصرف النظر عن درجاتهم؟» قلت: «نعم، سأظل أفعل ذلك طيلة حياتي.» وعرفت بعد ذلك أن الرسول قد قال: «لا تسيدوني» أي لا تقولوا سيدنا محمد، ومن ثم فأنا لم أخطئ في رفضي وصف العميد ﺑ «السيد». فأصدروا قرارًا ببراءتي من تهمة قلة الأدب. وكانت هذه أول محاكمة لي في الجامعة، وكانت صدق العدالة. وكان بالإمكان حرماني من الحصول على ليسانس الآداب سنة أو سنتين.
وكان وقوفي أمام المحكمة مرةً ثانية في باريس عندما أخذ صاحب المنزل حاجياتي من غرفتي التي كنت أجَّرتها منه فوق السطح. فتح الباب عنوة وأخذ الحاجيات، وحجز لي ليلة في غرفة بفندق، وكان ذلك بسبب طرد أخيه الموظف بشركة قناة السويس من مصر بعد تأميم الشركة. ولما ذهبتُ إلى الجامعة في مركز الخدمات الطلابية لأخبرهم بذلك، نصحوني بأن أقاضيه في قصر العدالة بالحي؛ فذهبتُ إلى هناك، ودفعتُ رسوم القضية وكانت أربعة فرنكات؛ كل ما أملكه حينها. فاستدعته المحكمة، ووقفت أمام القاضي أشرح له ما حدث، أما صاحب المنزل فكان خجولًا، ولم يقل شيئًا؛ لأنه يعلم أن ما فعله ضد القانون. وأعطاني القاضي ورقةً زرقاء بها الحكم لكي أقاضي صاحب المنزل بالمحكمة العليا، ويبدو أن هذا الحكم كان ابتدائيًّا يتبعه آخر نهائي، وكان الحكم أن أعود إلى غرفتي فوق السطح ما دمت أدفع الإيجار بانتظام. وأخذني صاحب المنزل جانبًا وقال: «سنرفع الأمر إلى المحكمة النهائية، وتأخذ حقك، وتعود إلى غرفة السطح لا شك في ذلك.» والأمر يتطلب محاميين يدافعان أمام القضاء، ويتطلَّب رسومًا أخرى للقضية. ففكرت من أين آتي بالمال اللازم، ومصاريف القضية، وأجر المحامي المرتفع؟ وكنت قد حصلت على غرفةٍ أخرى عن طريق مركز الخدمات الطلابية بالجامعة. كما شعرت بأن صاحب المنزل ربما يكون قد ارتكب خطأً قانونيًّا في حقي، ولكنه معذور نفسيًّا لطرد أخيه من مصر بحقيبة ملابسه، ومعذورٌ مصري يسكن في غرفة السطح التابعة لمنزله. فهو على حق من الناحية النفسية. أما أنا فكنت على حق من الناحية القانونية؛ لأنه داهم غرفتي في غيابي، وقدَّرت الحالة النفسية التي هو عليها، وتعاطفتُ معه إنسانيًّا وهو واقف مطأطئ الرأس معترفًا بخطئه، هل أحمله خطأً فوق خطأ؟ الخطأ القانوني والخطأ النفسي؟ يكفيني نصرة الحكم الابتدائي لصالحي، واسترداد كرامتي. وكيف أشغل نفسي بالمرحلة الثانية من القضاء، حتى وإن كانت في صفي، وأنا ليس لي مال أدفعه للمحامي، وليس عندي وقت للانشغال بشيء خارج العلم، وهي الرسالة التي أتيت من أجلها؟ فسلمت على صاحب المنزل، وشرحت له أن تأميم القناة حقٌّ لمصر، وأن الملاحين الذين يرشدون البواخر خرجوا من تلقاء أنفسهم لتعطيل الملاحة، وإثبات أن مصر غير قادرة على إدارتها، وضرورة عودة هؤلاء الأجانب حينها، وأبلغته أن المرشدين المصريين واليونانيين قادرون على تنظيم الملاحة في القناة وإرشاد السفن ذهابًا وإيابًا، من بورسعيد إلى السويس، ومن السويس إلى بورسعيد، ورجوت له الخير والسلام.
والمحاكمة الثالثة كانت في محكمة باب الخلق عندما رفع وزير الأوقاف قضية بمصادرة كتابي الأول «التراث والتجديد»، ومجلة «اليسار الإسلامي». فاستدعاني القاضي في يومٍ معلوم. ودخلت المحكمة لأول مرة وهي أمام دار الكتب المصرية ومتحف الفن الإسلامي الذي كنت دائم التردد عليهما، والذي كان يجلس في المقهى المجاور لها شعراء مصر العظام مثل «حافظ إبراهيم». وقفت أمام القاضي وهو يسألني: «لماذا كتبت هذين الكتابَين؟» فشرحتُ له أنني أريد إعادة بناء العلوم الإسلامية القديمة طبقًا لظروف العصر الحديث ومطالبه. أما «مجلة اليسار الإسلامي» فتعبر عن نفس الهم ولكن على المستوى الشعبي؛ كيف يمكن تحقيق التقدم والحرية الفردية والجماعية، وتحرير الشعوب من نير الاستعمار والاستغلال، وتحقيق الوحدة الوطنية والقومية، وإنجاز مشاريع التنمية الاقتصادية، والاعتماد على الذات، وعلى قوة الجماهير؟ ثم سأل القاضي محامي الحكومة: «وأنت ماذا تريد؟» فلم يقل شيئًا، فسأله القاضي مرةً أخرى: «لماذا تريد مصادرة هذين الكتابَين؟» قال: «إن الحكومة كلفتني بذلك.» فأصدر القاضي حكمًا ببراءتي، والإفراج عن الكتابَين المصادَرَين؛ فشكرتُ القاضي، وخرجت وأنا مستريح الضمير. وأدركت أن كتابًا صغيرًا أو مجلةً قادران على إقلاق الحكومة، والتي لديها كل أساليب ومقادير السلطة؛ من شرطة، وجيش، وأنا لا أملك شيئًا. وقد طبعتُ المجلة على نفقتي الخاصة.
وما زالت حيثيات الحكم عندي سأنشرها يومًا؛ ليعرف الناس أن القضاء في مصر عادل وليس تابعًا للحكومة بالضرورة.
والمحاكمة الرابعة كانت باليمن بعد أن انتشرت أفكاري وفلسفتي هناك، وحاضرت بجامعته، وتأثر بي الطلاب، وانقسموا بين يسارٍ مجدِّد ويمينٍ محافظ، دعاني أحد مشايخهم إلى منزله للحوار والنقاش فذهبت، ووجدت حلقةً متسعة وفي وسطها «مَداعة» وهي الشيشة عندنا، بها خرطومٌ طويل يلفُّ حول الجالسين، يتبادلون الأدوار في شدِّ الأنفاس منها، وأمام كلٍّ منهم قَدرٌ من القات يمضغونه. وسألني الشيخ الكبير: «سمعنا عنك في مصر والآن في اليمن، فماذا تقول؟» فشرحت لهم «التراث والتجديد» وكيف أنني أريد أن أعيد بناء العلوم القديمة، وأنقلها من عصر الانتصار إلى عصر الانكسار الذي نعيشه، فما المانع أن أربط الله بالأرض من أجل فلسطين؟ وفي القرآن وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ، رَبِّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ. فمن يأخذ أرضي كمن يأخذ نصف إلهي. وقد فعل اليهود ذلك من قبلُ عندما ربطوا بين الله والشعب والأرض والمدينة المقدسة وهيكل سليمان. فلا يستطيع اليهودي أن يعيش إلا في أرض الميعاد. وإن مات خارجها يضع حفنة من ترابها تحت رأسه حتى يشعر بأنه مات في فلسطين. وسموا ذلك «لاهوت الأرض». ويقولون عند المسلمين فالله في كل مكان وليس في فلسطين. ويستعملون آية فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ فماذا أفعل باعتباري عالمًا إسلاميًّا يتقطع قلبه لاحتلال فلسطين؟ وماذا أفعل وقد امتلأت المعتقلات والسجون بالمعارضين السياسيين، وعانوا من كل أنواع التعذيب؟ ألا يجوز لي أن أستعمل الشهادة وهي أول ركن من أركان الإسلام «أشهد الا إله إلا الله»؟ وأشهد على ما يحدث في عصري من ألوان القهر والظلم والاستبداد؟ وأفسر «لا إله إلا الله» بأنها فعلٌ من أفعال الشعور: الأول، فعل نفي للآلهة الكذبة في «لا إله»، والثاني فعل إثبات للإله الحق «إلا الله». فلو حذفنا أداة النفي وأداة الاستثناء لبقي «إله الله» وهو تحصيل حاصل لأنه تكرار لنفس اللفظ، وإن زادت أداة التعريف في إحداها.
ولماذا لا أستعمل الله لبعث المسلمين على التقدم طبقًا لآية لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ؟ ولماذا لا أستعمل القرآن لإثبات العدالة الاجتماعية بدلًا من الفرق الشاسع بين الأغنياء والفقراء وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ، وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا؟ ولماذا لا أربط الله بالناس وبالشعب وبالجمهور وهو بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ * إِلَهِ النَّاسِ؟ ولماذا لا أحوِّل العلوم النقلية الخمسة: القرآن والحديث والتفسير والسيرة والفقه، إلى علومٍ نقليةٍ عقلية؟ أحكِّم فيها العقل وهي العلوم المستبعدة من أقسام الفلسفة بالجامعات المصرية، والأكثر تأثيرًا في المساجد والمعاهد والجامعات الدينية.
لماذا لا أبرز أسباب النزول بأنها لها أولوية الواقع على الفكر، والناسخ على المنسوخ، وأنهما يدلَّان على أولوية المتحوِّل على الثابت؟ ولماذا لا أقوم بنقد المتن كما قام القدماء بنقد السند في علم الحديث؟ فقد يكون السند صحيحًا والمتن غير صحيح، وقد يكون السند غير صحيح والمتن صحيحًا. ولماذا لا يُفسَّر القرآن تفسيرًا موضوعيًّا يجمع كل الآيات حول موضوعٍ واحد يهمنا مثل الظلم، والفساد، والفقر بدلًا من الشرح الطولي، من الفاتحة حتى الناس؟
وكيف تتحول السيرة إلى تعظيم للرسول وطلب للقوت والمساعدة والشفاعة منه؟ كما هو الحال في الأدعية الصوفية «أغثنا يا رسول الله، أعنا يا رسول الله»؟ فالرسول صاحب رسالة للناس، وليس إلهيًّا بشخصه.
وكيف يظل الفقه في إطاره الاجتماعي القديم؛ يتناول قضايا الرق والسبايا والأنفال وهي غنائم الحرب، والحدود مثل: الصلب والرجم والجلد وقطع اليد وتعدد الزوجات؟
فنظر الجالسون بعضهم إلى بعض يتعجبون من هذه الحقائق، والتساؤلات التي قدمتُها ووضعتُها أمامهم، وهم لا يستطيعون رفضها أو الإجابة عليها بالإثبات أو النفي. وبعد أن شكروني غادرت، وفي اليوم التالي رأيت حكمًا قد صدر عليَّ بالتكفير والخروج عن إجماع علماء الأمة المسلمين، والحكم عليَّ بالردة، والمطالبة بالقصاص بإمضاء علماء اليمن. وجاءت عربةٌ مصفحة تأخذني من الفندق إلى الجامعة وتعيدني إلى الفندق؛ خوفًا على حياتي ولحمايتي، وكان يمكن أن يناقشني علماء اليمن، ويدخلوا معي في الحوار، لولا أنهم آثروا، وعقدوا النية مسبقًا على تكفيري. وكانوا يريدون أن يسمعوا فقط حيثيات الحكم. وغادرت اليمن وأنا حزين على مستوى العلماء وعدم صدقهم وعدم صراحتهم معي، سواء في بداية الجلسة أو نهايتها، وأنهم كانوا يبحثون عن عبارات التكفير والاتهام وليس النقاش والحوار لمعرفة الحقيقة وقبولها حتى مع اختلاف الآراء.
وكانت المحاكمة الخامسة في المغرب، عندما دعاني حزب الاتحاد الاشتراكي لإلقاء محاضرة عن «نظام الحكم في الإسلام». وعُقدت المحاضرة في نزل فاس، وكانت القاعة كبيرةً ممتلئة عن آخرها بالحضور، وكانت شهرتي عند الأشقاء المغاربة تملأ الآفاق. أدَّيت المحاضرة بما يعرفه عني كل الناس؛ قلت: «أما نظام الحكم في الإسلام فهو ليس ملكيًّا ولا سلطانيًّا ولا إمارةً ولا وراثةً بل هو حكمٌ شعبيٌّ جمهوري، من اختيار الناس، وهو حكمٌ دستوري يقيد سلطة الملك، ويؤكد على سلطة الشعب.» واستعملت الآية المعروفة إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً فقام أحد الأساتذة وخرج مسرعًا ليبلغ السلطات الأمنية بما قلت، وبعد المحاضرة ألقت الشرطة القبض عليَّ، وأخذوني إلى القسم، وتم استجوابي: «هل تقصد ملكًا بعينه؟» قلت: «لا.» فقالوا: «فلماذا قلت لا يجوز تقبيل رأسه أو وجنتَيه أو قدمَيه أو حافر حصانه؟» وكنت قد رأيت ذلك في تعامل القبائل مع الملك. قلت لهم: «بأن عمر بن الخطاب في رحلته للقدس تبختر الحصان تحته فترجَّل مسرعًا وابتعد عن الحصان قائلًا: غلبتني الزهوة فأردت أن أذل نفسي.» فسألوا: «ألا تقبِّل يدَي والدَيك أو قدمَيهما؟» فأجبت: «لا؛ فذلك استعباد وخضوع لا يجب أن يكون.»
وانتظرت بعدها مدةً طويلة محجوزًا بالقسم، وأسرتي تبحث عني في كل مكان، والأساتذة المصريون الزملاء يبحثون عني طوال الليل، حتى جاء الأمر الملكي ليس فقط بإخراجي من القسم ولكن بإخراجي من البلاد كلها في ظرف أربع وعشرين ساعة؛ فهرع أحد أصدقائي الفلاسفة إلى ممثل الجامعة في القصر وأبلغه أن ذلك سيكون فضيحةً كبرى، من نتائجها سوء العلاقات بين مصر والمغرب، وأنني مفكرٌ كبير لا يجوز التعامل معه بهذه الطريقة؛ فأصدر الملك قرارًا جديدًا بتأجيل الطرد حتى آخر يونيو عند انتهاء الدراسة لأولادي بالمدارس، وقد اتهم الملك الأساتذة المشرقيين بأنهم السبب في اندلاع المظاهرات شمال المغرب في «الحسيمة والناضور» بأفكارهم الاشتراكية. فعاد أصدقائي المغاربة إلى ممثل الجامعة في القصر، وقالوا له بأن طردي سيكون خسارة للفكر الفلسفي. ورجوه بإلغاء قرار الطرد، ورجوعي للتدريس بالجامعة، فطلب مني الملك الاعتذار؛ فأبلغته عن طريق الوسائط «أعتذر عن ماذا؟ هذا هو نظام الحكم في الإسلام، نظام شوري لا يجوز فيه تأليه السلطان.» ولم أعتذر. وظل قرار الطرد خارج البلاد قائمًا، ثم طلبوا من زوجتي الاستقالة من وظيفتها الجامعية حيث كانت تُدرِّس اللغة الإنجليزية، وقبل المغادرة كتبتُ مقالًا في جريدة «أنوال» المغربية بعنوان «أتيت المغرب طائعًا، وأتركه مكرهًا». وأرسلت أولادي الثلاثة بالطائرة إلى القاهرة. وأخذت كتبي معي في السيارة وتوجهت إلى شمال المغرب إلى طنجة كي أعبر جبل طارق ثم أكمل لجنوب إسبانيا وفرنسا وشمال إيطاليا، زرت بلجراد عاصمة يوغسلافيا.
وفي بلجراد طلبوا مني أن أدفع ليلة الفندق بالدولار، وقلت لهم: «لماذا لا أدفع بالعملة المحلية؟» قالوا: «تلك هي القاعدة للأجانب.» قلت: «أنا مصري وهل أعتبر أجنبيًّا في يوغسلافيا؟ وماذا عن العالم الثالث وعالم عدم الانحياز وآسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية؟» فأصرُّوا على الدفع بالدولار، وأصررتُ على الدفع بالعملة المحلية أو أن يأخذوني إلى قسم الشرطة، أو إلى محافظ المدينة، ولما رأوا جديتي وعدم تنازلي تركوني أدفع بالعملة المحلية؛ لأن المصري في يوغسلافيا ليس أجنبيًّا.
ثم وصلت أثينا، وفي أثينا وجدنا احمرارًا في الأفق؛ فسألت: «ما هذا؟» فقالوا: «حرائق الغابات.» وبعد مدةٍ قصيرة اندلعت النار، وانتشرت في الغابات ومخيمات السياح؛ فأعطونا جوازات السفر وقالوا: «اذهبوا إلى فندقٍ آخر بعيدًا عن النيران.» وذهبنا إلى فندقٍ آخر. تكررت المأساة؛ يريدون أن أدفع بالدولار وأنا أرفض وأريد أن أدفع بالعملة المحلية لأنني مصري من أبناء العالم الثالث؛ فاستغرب موظف الاستقبال فأخبروه أنني لن أدفع إلا بالعملة المحلية؛ فأخذوها مني على مضض. وفي اليوم الثالث سرنا لاستكمال الرحلة إلى ميناء بيريه ومنها إلى الإسكندرية.
وهناك أخذت الباخرة تحمل سيارتي إلى الإسكندرية؛ فوجدت والدي وأخي بانتظاري، وأقمنا ليلة بالإسكندرية عند أقرباء لنا في حي المغاربة، وفي اليوم الثاني قمنا بفتح صناديق الكتب في الجمرك، فحزن موظف الجمارك لأن محتويات الصناديق مجرد كتب لا تساوي شيئًا في نظره، قمنا بعد ذلك بالإفراج عن سيارتي من رصيف الميناء، وفوجئنا بسرقة المرآة الجانبية ومسَّاحات الزجاج الأمامي؛ فاحتججنا أمام موظف الجمارك الذي قال: «احمدوا الله أن السيارة لم تُسرَق أصلًا.» فدفعنا الجمرك، وحملنا صناديق الكتب في عربة النقل، ووصلنا القاهرة، استقبلنا أولادي بحب وشوق.
وكانت المحاكمة السادسة في مصر عندما فَصل رئيس الدولة أكثر من سبعين أستاذًا جامعيًّا، ومثلهم من الصحفيين ومن كبار الشخصيات؛ وذلك لمعارضتهم معاهدة كامب ديفيد واتفاقية السلام مع إسرائيل. بعدها قدمنا اتهامًا للرئيس بأنه خرق حقوقنا الجامعية والإنسانية بقرار الفصل لأسبابٍ سياسية، وأن نصيبي العمل في وزارة الشئون الاجتماعية. وكانت القضية جماعية رفعها جميع المفصولين في مجلس الدولة. وترافع عنَّا أحد أساتذة كلية الحقوق المفصولين، وسمعت القاضي يقول: «ما مطالبكم؟» ويجيب المحامي: «العودة إلى وظائفنا.» فأصدر القاضي حكمًا بالعودة إلى وظائفنا.
وكان قد تم اغتيال الرئيس بعد قرارات سبتمبر التي تم فيها الفصل بشهر واحد، وعندما علم خليفته أننا رفعنا قضية في مجلس الدولة أصدر قرارًا قبلها بعودة نصف المفصولين فقط إلى وظائفهم (الذين تم إثبات وطنيتهم). ولم أكن واحدًا منهم بالطبع، ورفض الجميع العودة إلى وظائفهم حتى يصدر حكم مجلس الدولة، وبالفعل صدر الحكم بعودتنا جميعًا وبأن الرئيس المُغتال قد خرق قانون الجامعة والدستور؛ ففي الجامعات مجالس تأديب ولجان محاكماتٍ جامعية، تقوم بهذا الدور وليس السلطة السياسية؛ فعُدتُ إلى الجامعة وردوا لي ما خُصم من مرتبي وأنا موظف في الوزارة. جلست بعدها في المنزل سنة منذ الفصل من الجامعة وحتى الرجوع إليها، أكتب كتابي «مقدمة في علم الاستغراب».
لم تتم محاكمتي كعضو في جماعة الإخوان المسلمين أو في الحزب الشيوعي المصري أو في الجماعات الإسلامية المتشددة، بل كمفكر له مؤلفاتٌ معروفة ومشهورة ومؤثرة في الثقافة المصرية والعربية والإسلامية. وهذا يدل على قصر نظر السلطات التنفيذية باتهام كل من خالفها بتهمٍ سياسية لا أساس لها من الصحة؛ فالمعارضة السياسية جزء من النظام. في المعارضة اليوم وفي السلطة غدًا، والسلطة قد تبقى اليوم وفي المعارضة غدًا. كما هو الحال في جميع الدول الديمقراطية بين الحزبَين الجمهوري والديمقراطي في الولايات المتحدة الأمريكية، والمحافظين والعمال في بريطانيا.
وفي محاكمتَين قام المحامي بالنيابة عني في الوقوف مدافعًا عن حقي في ساحة القضاء؛ الأولى عندما رأيت إعلانًا في الأهرام في صفحة الإعلانات عن بيع قطعة أرض حوالي خمسمائة متر في مدينة نصر. فاتصلت بصاحبة الإعلان، واتضح أنها مفتشة في وزارة التربية والتعليم، وقد كانت قطعة الأرض ملكًا للوزارة والتي كانت قد قسمتها على المفتشين، كان ثمن المتر حسب الإعلان مائةً وثمانين جنيهًا، وبحضور محامٍ عند توقيع عقد البيع وبعد اطلاعه على أوراق ملكية الأرض للمفتشة عرف أن ثمنها كان ستين جنيهًا للمتر أي إنها ستكسب ثلاثة أضعاف عند البيع لي، وقد كانت منطقة مدينة نصر في ذلك الوقت في تسعينيات القرن الماضي لا يسكنها أحد تقريبًا، مجرد صحراء ورمال، وأثناء إعداد الأوراق لتوقيع العقد النهائي طمعَت المفتشة، وأرادت البيع بحوالي ستمائة جنيه للمتر؛ أي ثلاثة أضعاف الثمن المعلن، وبالتالي تكسب تسعة أضعاف الثمن مرةً واحدة، رفضتُ هذا الاستغلال. وكانت الأسعار ترتفع تدريجيًّا حتى وصل سعر المتر ثلاثة أضعاف السعر المعلن، وأثناء محاولات المحامي إقناع السيدة بأن هذا لا يجوز قانونًا فالاتفاق بين البائع والمشتري طبقًا لإعلان الصحيفة؛ فرفضت. واضطر المحامي أن يُقيم عليها دعوى بما حدث، وحكم القاضي لصالحنا؛ فأخذت المفتشة المبلغ المتفق عليه أولًا، ووضعت المبلغ في حجرها تحاول أن تعد الأوراق المالية رُزمةً رُزمة؛ فقلت لها إن هذا سيستغرق طيلة اليوم؛ فقد كان المبلغ حوالي مائة ألف جنيه، وطلبتُ أن تعطيني رقم حسابها لكي يتم تحويل المبلغ من بنك إلى بنك، فرفضت. وكانت السعادة تبدو عليها وهي تعدُّ رُزم الأوراق المالية وبجوارها أختها التي فتحت هي الأخرى رزمة وبدأت تعدُّ. ومع ذلك أقامت المفتشة دعوى ضدي بأنني لم أذهب إلى ميدان محطة مصر حيث يوجد عقار أدفع لها مبلغًا آخر ثمن إشغال الرصيف بمخلفات البناء؛ فأقام عليها المحامي دعوى أخرى لعدم توقيع العقد النهائي؛ لأنني لم أدفع ثمن رفع مخلفات البناء، وكسبنا القضية بعد دفعنا المطلوب للحي؛ وبالتالي لم يعد أمامها حيلة إلا التوقيع النهائي على عقد البيع.
والقضية الثانية، كانت عندما تأخرَت الموافقة على الرسم الهندسي الخاص بالبناء من مجلس الحي، وكان المقاول على علمٍ بهذه القوانين وقال إن كل ما يتم بناؤه تحت مستوى الأرض لا يحتاج إلى ترخيص مثل الأساسات؛ فبدأ في بناء الأساسات والأعمدة القائمة عليها، ولما حضر مهندس الحي ومساعده للتأكد من أن الأساسات قد تم بناؤها تحت سطح الأرض ورأى الأعمدة وقد ارتفعت عن سطح الأرض فكتب في أوراقه عدم الموافقة؛ للحصول على رخصة البناء. وبينما كنت أشاهد مهندس الحي والتفتيش وكتابة الملاحظات، سألني مساعد المهندس عن دورة المياه، وكانت العمارة على الصف الآخر قد بُنيت بالفعل، فأشرت عليه أن يدخل الحمام بمدخل العمارة، فدخل وخرج بسرعة وهو يغلق أزرار البنطلون ويشاور أن أتبعه، فلم أفهم ماذا يريد؟ فكرر الإشارة، ولم أفهم أيضًا، وكرر الإشارة للمرة الثالثة كما فعل حسن يوسف لنادية لطفي حتى تتبعه لكي يتفق معها على زواجها من أخيه عبد الحليم حافظ في فيلم «الخطايا». فهمتُ ذلك فيما بعدُ، ويبدو أن الإشارة كانت تعني تعال إلى العمارة المقابلة لكي أقول لك ماذا يكلفك أن تعطيني ومهندس الحي حتى نوافق على إعطاء الرخصة؟ وفهمت أنه يعني الرشوة. وكنت في ذلك الوقت مثاليًّا حازمًا، وأخلاقيًّا ضد هذا الفساد، فرفضت؛ فأصدر قراره بعدم الموافقة، وأيَّده المهندس المساعد بحجة أني بدأت في البناء وإقامة الدور الأرضي دون انتظار الترخيص؛ فرفع المحامي الخاص بي دعوةً قضائية ضد الحي بأنه يجوز رفع الأعمدة وبدء البناء ما دام لم تقم أرضية للدور الأرضي بعدُ، وكسبت القضية. وظلت مفتشة التربية والتعليم تبحث في كل الدفاتر والقوانين عن وسيلة لإيقاف البناء، خاصة بعد أن ارتفع ثمن المتر خمسين مرة في فترةٍ قليلة وتصورتْ أنها تستطيع مضاعفة السعر مراتٍ أخرى كي تصبح مليونيرة هي وأختها. ولما رأت أن البناء يرتفع طابقًا فوق طابق وأن محاولاتها لإيقاف البناء مرتين لم تنجح استسلمت. وعلمنا بعدها أنها قد توفيت، والبناء ما زال يرتفع، فلا هي رضيت ولا أرضت الشاري. وكان بإمكانها أن تأخذ المبلغ المتفق عليه؛ فالعقد شريعة المتعاقدين، وتعيش سلطانة زمانها.
وبعد أن أتممت بناء المنزل والذي كان تصريحه بسبعة طوابق، بنيت منها خمسة فقط، طلب مني المقاول أن أبني طابقَين آخرَين ثم يشتري مني هذين الطابقَين، وبالتالي يكون البناء قد تم دون تكاليف تذكر؛ فرفضت. وقلت إن المبنى كله لي ولأولادي، أنا أحتاج لطابقَين؛ طابقٌ كامل منهم لمكتبتي، وطابق لزوجتي التي كانت تريد أن تؤسس به مركزًا للنقد السينمائي ومكانًا للمكتبة السينمائية، ثم ثلاثة طوابق لأبنائي الثلاثة. فلا أحتاج أكثر من ذلك. فقال لي: «ولكن الهواء ملكك فلماذا ترفض الهواء؟ وسأتكلف أنا بناء الطابقين فلن يكلفك ذلك شيئًا بل ستكسب من بيع هذين الطابقَين لي.» فشرحت له أن القضية ليست مكسبًا أو خسارة ولكنها قضية البحث عن الخصوصية والراحة لي ولزوجتي ولأولادي. ولما فشل في إقناعي تآمر مع شركة اتصالات لكي نبني برجًا طويلًا فوق سطح المنزل بإيجار قدره سبعين ألف جنيه شهريًّا في محاولة لإقناعي بالبيع. فتصورت أن منزلي تحول لشركة وأنني سوف أُحرَم من الجلوس في سطح المنزل والاستمتاع بالشمس الدافئة في الشتاء؛ لأنه سوف يكون تحت رحمة برج الاتصالات، وبأن المنزل سيصبح مليئًا بالغرباء الصاعدين والنازلين من السطح والذين يعملون على هذا البرج؛ فشعرت بالقشعريرة، والمقاول اتهمني بالغباء، وأنا أتأمل في أنني حاولت البناء في هذه الحياة وسأترك كل شيء يومًا ما، وتساءلت: «وكيف تم بناء هذه الأبراج العالية بجواري وفي الميدان والكل سعيدٌ، السكان والمقاول والمهندس والدولة؟»
والآن أسمع عن قوانين تسجيل العقارات والضرائب العقارية الجديد وقد أخاطر بدفع الآلاف ثمنًا لهدوء وخصوصية منزلي ولكي أتفرغ للتأليف، ومكان أوسع لمكتبتي التي بلغ حجمها «ستين ألف كتاب» أضعت بينهم وفيهم عمري وقد بلغتُ السابعة والثمانين عامًا. والدولة تريد أن تأخذ كل ما في جيوب المواطنين، لا فرق بين غني وفقير، بين من يعيش على الوطن، ومن يعيش لأجله.