الاضطهاد العلمي
عرفتُ الاضطهاد العلمي من قراءة تاريخ الفكر الإنساني، فقد تم اضطهاد أفلاطون عند كتابة كتابه «الجمهورية». وتم اضطهاد إخناتون لقوله بالتوحيد. وما أكثر من اضطهد من رجال الفكر الإسلامي مثل ابن رشد، ومن الفقهاء ابن حنبل وابن تيمية، ومن الصوفية الحلاج والسهروردي إلى حد الإعدام! وقد استمر الاضطهاد في العصر الوسيط للمعارضين للعقائد الكنسية، والمفكرين الأحرار حتى الإصلاح الديني. واضطهاد الكنيسة الكاثوليكية لمارتن لوثر، ولكل المحتجين ضدها «البروتستانت». واستمر الاضطهاد في القرن السابع عشر عند اسبينوزا الذي حاولت يد الإثم اغتياله، وكوبرنيكس الذي أثبت دوران الأرض حول الشمس وليس دوران الشمس حول الأرض بسجنه، وفي فكرنا الحديث أُعدم عبد القادر عودة وسيد قطب، وتوفي شهدي عطية من التعذيب في السجن، كما أُعدم خميس والبقلي في أول الثورة المصرية عام ١٩٥٢م خوفًا من ثورة العمال.
وكان أول اضطهاد لي وأنا طالب بالجامعة في قسم الفلسفة وبالسنة الرابعة، كنت أؤدي امتحانًا آخر العام في ثلاث مواد، ترتيبي الأول في السنوات الثلاث الماضية. وكنت مرشحًا لأكون معيدًا، كنت معروفًا بالحرية الفطرية، ومناقشاتي للأساتذة، وبالاعتراض على بعض آرائهم. ففي مادة علم النفس الصناعي، وكانت تقوم على اختيار أفضل العمال من حيث القدرات البدنية والعقلية، وهو ما تحتاجه الصناعة المدنية والعسكرية. ولم تكن الإلكترونيات قد ظهرت بعدُ، وكان المقرر كتابًا باللغة الإنجليزية في علم النفس الصناعي، كنت لا أحتمل هذا العلم؛ لأنه مرتبط بالنظم الرأسمالية في المجتمعات الصناعية، يعتمد على قياس القدرات ونحن في مجتمعٍ زراعي لا يفيد معه هذا العلم في كثيرٍ أو في قليل. وكنت أدعو إلى ممارسة علمٍ شعوري كما فعل برجسون وهوسرل فيما بعدُ. كنت أهاجم علم النفس الصناعي، وأدافع عن أنواعٍ أخرى من علم النفس وعلى رأسها وفي مقدمتها علوم النفس الشعورية، الاجتماعية، والأدبية، والسياسية، والثقافية.
وكانت تُعرف ورقتي وإجابتي في الامتحان، ويتم تمييزها بسهولة؛ لأن باقي الطلبة يكررون ما يقوله الأستاذ، ولما كان مجتمعنا لا يعتاد بعدُ على الرأي والرأي الآخر، فكان يُعامل الرأي الآخر على أنه تشويه للرأي السائد؛ فأعطاني أستاذ المادة اثني عشرة درجةً من عشرين أي مقبول. وفي المادة الثانية؛ الفلسفة المعاصرة كان الأستاذ يُعطي درسًا عن محمد عبده. وكنا ننبهه أن الفلسفة المعاصرة تُعني بالغرب وليس بالفكر الإسلامي المعاصر، ولكنه كان معجبًا بمحمد عبده وكأنه المفكر الأول في العالم، لا يمكن نقده بشيء. وكنت أنا من دعاة الأفغاني أستاذ محمد عبده والذي كان يدعو إلى الثورة على الخديوي والدفاع عن مصالح الشعب. وهو مفكر الثورة العرابية، واستأنف فكره عبد الله النديم كما هو الذي جعل عرابي يقف في قصر عابدين أمام الخديوي توفيق قائلًا: «إن الله خلقنا أحرارًا ولم يخلقنا تراثًا أو عقارًا؛ فوالله لا نستعبد بعد اليوم.» وهو الذي دعا إلى أن الأرض لمن يفلحها وقال: «أيها الفلاح عجبتُ كيف تشقُّ الأرض بفأسك ولا تشقُّ قلب ظالمك؟»
ونُفي عرابي إلى جزيرة سيلان لمدة ثلاثين عامًا، أما محمد عبده فقد أُرسل إلى جمعية المقاصد الإسلامية أستاذًا بها في بيروت لمدة ثلاث سنوات، وكان الأفغاني يمسك بتلابيبه ويقول له: «والله إنك لمثبِّط.»
لم يكن محمد عبده مثلي الأعلى في الفلسفة، وكان يَعتبر في «رسالة التوحيد» أن العقل في حاجة إلى وصي وأن هذا الوصي هو النبي، وأنا كنت من أنصار العقل دون أي وصاية عليه، كانت مواقفي من محمد عبده معروفة في قاعة الدرس، وكنت أكتب على السبورة قبل أن يدخل الأستاذ «أحب محمد عبده ولكن حبي للحق أعظم.» فكان الأستاذ يغضب في نفسه، خاصةً وأن العبارة تحويل لعبارة أرسطو في أفلاطون والتي يستشهد بها الجميع على رفض التبعية وإمكانية النقد؛ نقد التلميذ للأستاذ. وكانت العبارة هي: «أحب أفلاطون ولكن حبي للحق أعظم.» وحصلت فيها أيضًا على اثنتي عشرة درجة، أي مقبول.
والمادة الثالثة هي علم الجمال الذي دخل حديثًا في القسم، ولا يوجد متخصص فيه، درَّسها أستاذ الفلسفة الإسلامية؛ فالجمال عنده كان جمال الأشياء في الرسم والتصوير والطباعة على الأقمشة والسجاجيد، دون الموسيقى والشعر، كان ينحاز إلى الفنون البصرية ضد الفنون السمعية. وكان السؤال في الامتحان آخر العام: «لو أردت أن تشتري ربطة عنق فما هي مقاييس الجمال التي تحدد لك الاختيار؟» فأجبت: إن الجمال ليس في الأشياء فقط، بل في الأصوات أيضًا، ليس في الفنون البصرية كالنحت والتصوير فقط، ولكن في الفنون السمعية أيضًا كالشعر والموسيقى. وقرأت مثل ذلك عند هيجل في تصنيف الفنون وفي عصر بيتهوفن وجوته. فأعطاني أيضًا اثنتي عشرة درجة أي مقبول. ولما كان من المفروض أن أحصل على الأقل على ست عشرة درجة في كل مادة فقد نقصتني أربع درجات في كل مادة أي اثنتي عشرة درجةً كاملة. ففقدت الامتياز وكان ترتيبي الثاني في الدفعة بعد أن كنت الأول في السنوات الثلاث السابقة.
ومرة سألني رئيس القسم وأستاذ علم النفس الصناعي وكان قبطيًّا: «أين تريد أن تكون يا حسن بعد التخرج؟» فأجبته بتلقائيةٍ تامة: «أريد أن أصوغ منهجًا عامًّا للمسلمين يوقظهم وينقلهم من مرحلة إلى أخرى، من النهضة الأولى إلى النهضة الثانية. أريد أن أكون مثل الأفغاني في إيقاظه للمسلمين، وإحداثه ثورةً سياسية واجتماعية.» فأطرق برأسه وقال: «نعم.» ولسانه لا يعبر عما في قلبه.
وبعد هذا الاضطهاد العلمي والفلسفي والمحاكمة الجامعية سافرت إلى فرنسا، وتركت حلم المعيد وأستاذ الجامعة ورائي؛ ما دمت في مصر فلن أحصل على شيء.
وكان الاضطهاد الثاني بعد عودتي من فرنسا وتعييني مدرسًا في قسم الفلسفة، وأثناء ترقيتي إلى أستاذٍ مساعد. كان حُكم لجنة الترقيات بأن أترقَّى، وكان القانون يومئذٍ ينص على موافقة القسم على قرار اللجنة، ثم موافقة مجلس الكلية، ثم مجلس الجامعة. ولما كنت معروفًا بنشاطي السياسي وتعاوني مع الأسر التقدمية في الجامعة مثل «أسرة مصر» المعروفة باتجاهاتها الماركسية، صدرت تعليمات من أجهزة الأمن داخل الكلية بتعطيل قرار الترقية، وكان بالقسم أستاذٌ واحد يمثل القسم ويوافق على قرارات اللجنة، فلم يوافق رئيس القسم، وذهب القرار إلى مجلس الكلية، فلم يوافق مجلس الكلية، وذهب القرار إلى مجلس الجامعة، فاستغرب المجلس من قرار اللجنة العلمية بالترقية والقرارات الإدارية بالقسم والكلية رافضة، وهو لا يجوز؛ فالقرار الأول والأخير يكون للجنة العلمية. أما قرار القسم ومجلس الكلية فهي مجرد قراراتٍ إدارية؛ فأرجع مجلس الجامعة إلى مجلس الكلية القرار لإعادة النظر فيه، وأرجع مجلس الكلية الموضوع إلى لجنة الترقية؛ فأعادته لجنة الترقية إلى الكلية بأن لا تغيير في موقفها فالأستاذ، والذي هو أنا، يستحق الترقية إلى أستاذ مساعد عن جدارة. في هذه الأثناء تغير العميد، وأصبح نائبًا لرئيس الجامعة، ورفض من جديد رئيس القسم القرار بالترقية، ورفض مجلس الكلية من جديد قرار اللجنة العلمية. وذهب الموضوع إلى مجلس الجامعة الذي يتكون من جميع عمداء الكليات وكانوا أكثر من عشرين عميدًا، فقام العميد السابق، والذي أصبح نائبًا لرئيس الجامعة، بالمطالبة برفض قرار اللجنة العلمية، كما قام عميدا كليتي الهندسة والعلوم بمهاجمة قرار اللجنة العلمية بالترقية؛ فالترقية ليست فقط علمية ولكنها أيضًا أخلاقية، وهم يعتبرون أخلاقي لا تتفق مع قيم الجامعة؛ فأنا مشاغبٌ سياسي، ومعارض في قاعات الدرس، وذو حضورٍ قوي في الجمعيات الطلابية، كما أني معارض للنظام السياسي؛ فأصرَّ رئيس الجامعة أن هذه الاعتراضات ليست من شأن الجامعة، وأن المحك في الترقية هو العلم فقط، واللجنة العلمية قد قررتْ ترقيتي بالفعل. وطُلب التصويت على الموضوع، فكان جميع العمداء في صف الترقية إلا هؤلاء الثلاثة الذين بدءوا بنقدي.
وكانت أصوات العمداء الموافقين أكثر من عشرين صوتًا، وذهبتُ إلى رئاسة الجامعة لكي أعرف الخبر، فقال لي السكرتير وهو خارج من الاجتماع بأنه قد تمت الموافقة على الترقية والحمد لله؛ ففرحت، وعلمت أن الاضطهاد السياسي قصير الأمد، وأن الغيرة العلمية لا تؤدي إلى شيء، وأن التبعية للنظام السياسي عار على الجامعة؛ لأن استقلال الجامعة هو أحد مكوناتها وضمان حريتها.
وكان الاضطهاد الثالث في ترقيتي من أستاذٍ مساعد إلى أستاذ، والذي حكمت اللجنة به عن استحقاق وجدارة، ولكن مجلس القسم والكلية رفضا لأنني مشاغبٌ سياسي ومعارض لكامب ديفيد ولاتفاقية السلام والتطبيع مع إسرائيل، وأشترك في مظاهرات مع الطلبة وأساتذةٍ جامعيين معارضين من اليسار الوطني والجماعات الإسلامية.
أعادت اللجنة التقرير بالموافقة مرةً ثانية إلى مجلس الكلية، وأخفى العميد التقرير عدة أشهر بدعوى أنه لم يستلمه أو ربما استلمه وضاع وسط أوراقه وملفات مكتبه، فذهبتُ إلى مكتب البريد وعرفت هناك أن العميد استلم التقرير بل ووقع عليه بالاستلام أيضًا، فأخبرته بذلك، فقال: «إذن هو ضائع في مكتبي». وظل يبحث في الأظرف والملفات حتى وجده. ولم يكن هناك بعد ذلك حيلة لهم إلا بالموافقة ولكن يكفي التعطيل حتى يسبقني آخرون في الترقية فيصبحون رؤساء للقسم.
ولما كان توزيع الدروس على الفرق الأربعة بيد القسم وبموافقة مجلس الكلية فقد تدخلت أجهزة الأمن من جديد لإعطائي أقل عدد من المحاضرات؛ ساعتين أسبوعيًّا، في غير موادَّ فلسفية حتى لا أثير أذهان الطلاب وذلك مثل اللغة العربية. لم أوافق على ذلك وتوقفت عن الذهاب إلى الجامعة، وقررت استغلال الوقت في الكتابة والتأليف.
وكان الاضطهاد الرابع قبل حصولي على جائزة الدولة التقديرية، فلم يرشحني القسم إليها بل رشحني قسم الدراسات اليونانية واللاتينية، ونلتها بالرغم من عدم موافقة قسم الفلسفة والذي أنتمي إليه. في سنةٍ أخرى رشح القسم أحد أعضائه فلم ينل إلا صوتًا واحدًا في مجلس الكلية، ورشح أستاذًا آخر في سنةٍ أخرى، لم ينل إلا صوتَين، بينما نال ترشيحي أنا جميع أصوات مجلس الكلية؛ فحصلتُ على جائزة الدولة التقديرية، وتكرر نفس الشيء قبل حصولي على «جائزة النيل الكبرى» والتي حصل على مثلها «نجيب محفوظ». لم يرشحني القسم بل رشحتني الجمعية المصرية للدراسات التاريخية، كما رشحني أتيليه الإسكندرية للفنون والآداب والعلوم الاجتماعية. ونلت الجائزة بفضل هيئتَين من خارج القسم، وأعطيتُ جميع عمال الكلية لكل فرد منهم خمسين جنيهًا، وزعتْهم سكرتيرة القسم عليهم.
وفي الأعوام السابقة عندما شعرت أن الكلية انخفض صوتها في الأبحاث العلمية المشتركة والندوات والمؤتمرات المختلفة وضعت وديعة بمبلغ مليون جنيه مني للكلية لاستخدام عائدها السنوي لإقامة مؤتمرات وأبحاث علمية للأقسام منفردة أو مجتمعة، ولمساعدة الطلاب في طبع رسائلهم، ولم يتقدم أحد حتى الآن باستثناء الجمعية الفلسفية المصرية بعد عناء ومفاوضات مع العميد على ضرورة دفع نفقات دار الضيافة والعلاقات العامة من هذا العائد.
وكان هناك اضطهادٌ ضدي خالص، برفض التعيين في الكلية خشية أن تمتد أفكاري عن الحرية للشعوب واستقلال الجامعة، وأنه ستحدث ثوراتٌ شعبية وحركاتٌ طلابية تنادي بهذين المطلبَين، وكانا نفس المطلبين اللذين طالبتُ بهما عبد الناصر في مؤتمر المبعوثين بالإسكندرية في أغسطس ١٩٦٦م. وضعتني أجهزة الأمن على القائمة السوداء بسببهما. كانت من ضرورات التعيين بالجامعة موافقة أجهزة الأمن التي لم توافق. وكان أخي مدرسًا بقسم اللغة العربية وضابطًا احتياطيًّا بالجيش يُستدعى ساعة الضرورة. وكان ضابطُ الأمن المسئولَ عن الموافقة أو عدم الموافقة على تعيين المعيدين أو المدرسين القادمين من الخارج، فأقنعه أخي بأنني لست مُشاغبًا وأن مناقشتي لعبد الناصر كانت مفتوحة أمام الجميع، وردَّ عليها عبد الناصر وناقشتها الصحافة المصرية؛ فوضعي في القائمة السوداء خطأٌ أمني؛ فاقتنع ضابط الأمن ووافق على تعييني بكلية الآداب بجامعة القاهرة.
ومرةً أخرى جاءتني دعوة من قسم الفلسفة في روما في يناير ١٩٦٧م لحضور مؤتمرٍ دولي عن فلسفة الدين بعنوان «البراءة والخطيئة». وكتبتُ بحثًا بالفرنسية بعنوان «أسطورة الخطيئة وواقع البراءة». ولما كان السفر إلى الخارج يتطلب موافقة الأمن، رفض الأمن لأن اسمي مُدرج على القائمة السوداء؛ فأرسلت برقية إلى عبد الناصر بذلك الرفض، فردَّ خلال أربع وعشرين ساعة بالموافقة على السفر، وكان قد بعث خطاب الموافقة بالدراجة البخارية.
ومنذ ذلك الوقت وأنا أدرك خطورة أجهزة الأمن، وقد تم إبعاد رئيسها بعد هزيمة ١٩٦٧م. بعد ذلك أُلغي قرار «الورقة الصفراء» التي كانت ضرورية عند سفر أي أستاذٍ جامعي للخارج خشية أن يقول أي شيء ضد مصر؛ لأنها طلبٌ غير دستوري.