أسرع يا بني وصوِّر
بعيدًا عن القضايا التي أصبح الحديث فيها «محلَّك سِرْ»، بعيدًا عن المناوَشات الدائرة بين الحكومة والمعارَضة، وبين الأقلام الصحفية والحُكْم، بعيدًا عن الحديث عن الديمقراطية وعن السلفية والخلافات الطاحِنة حول قضايا ما أنزل الله بها من سلطان، بعيدًا عن «الحديث» عن الوفد الفلسطيني الأردني واحتمال قبول أمريكا ورفض إسرائيل، وتحسُّن العلاقات وسوء العلاقات، بعيدًا عن الغلاء الذي يكوي القلوب والجيوب، والتسعيرة التي تَظهَر وتَخْتَفِي كعفاريت الظهر، والخرفان المذبوحة على عتبة وزارة «التعليم»، والحمد لله أنَّها ليستْ على عتبة وزارة البحث العلمي والتكنولوجيا، بعيدًا عن أزمة المسرح وأزمة الإبداع وأزمة الأخلاق، وقضية سميرة مليان.
بعيدًا عن هذا كله.
لا أعيش قرير العين رائق البال، أنام نوم مستريح الضمير، فالواقع أنِّي لا أنام إلَّا لِمامًا.
ليس لأني قَلِق البال ولا مؤرَّق الضمير، والحمد لله.
ولكنْ لأنَّ نفق أكتوبر تحت رأسي مباشرة!
منذ ثلاثة أشهر والدَّقُّ شغَّال طوال الأربع والعشرين ساعة وبمختلِف أنواع الدَّرَجات والنغمات، فهناك دقٌّ متتالٍ كطَلَقات المترليوز، يقوم به حفَّار الأسفلت الصغير ذو الضجيج العالي، وهناك دقُّ المدفعية الثقيلة من غارسات الخوازيق الخرسانية، ودقُّ المطارِق والمعاوِل، وأكوام الرمل والزلط، وهي تنْحَدِر في شلَّالات، ضجَّة تُعْمي العيون والآذان، ناهيك عن ضجيج الأوامر وصخب العمَّال والأنوار الملتَهِبة الضوء التي تخترق الشيش وتخرق الستائر وتفتح بالقوة أجفان العيون.
الحقيقة كانتِ الضجة في أوَّل قُدُومِها مفاجأةً أقْلَقَتْ مضاجِعَ بضع مئات من سكان شارع النيل الذين شاء لهم الحظُّ أن يُجاوِروا ويُطِلُّوا على النفق المزمع إقامتُه.
كانتْ من المفاجأة والصخب، بحيث كنَّا لا ننام ليلًا أو نهارًا، وكأنَّنا في حربٍ ذات غاراتٍ متصلة، وما دامتْ حربًا فلتكُنِ الهجرةُ، وهاجَرْنا إلى الإسكندرية، وصحيحٌ أنَّ شارِعَنا هناك لم يكن به نفق ولا حرب، فقد كان دائم الضجَّة، ضجة غير معلومة المصدر، ومن الصباح إلى الصباح وكأنَّها ضجَّة الجانِّ الذي يقولون إنَّه يسكن أرض المعمورة.
ثم عُدْنا أخيرًا متمنِّين أن تكون الأعمال الإنشائية الثقيلة في النفق قد انتهتْ، ولكنْ لا شيء كان قد تغيَّر، اللهم إلَّا اختلاف النغمات وبروز بضع آلات جديدة في أوركسترا الضجَّة اللاهارموني.
وكنتُ منذ بدأ العملُ قد أغلَقْتُ جميع النوافذ والمنافذ التي تُطِلُّ على موقع العمل دون فائدة، فكلُّ شيء كان يَصِل واضحًا تمامًا وكأنَّ الحفر في الشقة.
وأولُ ليلة بعد العودة حاولتُ النوم بلا أي اعتبار للضجَّة، فقد أصبحتِ الضجَّة ملازِمةً لصَحْوِنا ومنامنا بطريقةٍ لا أعرف ماذا يحدث لنا ولنومنا إنْ — فجأةً — سكتت الضجَّاتُ كلُّها.
إلى الساعة الثالثة صباحًا لم أستَطِعِ النوم، وما دام لا فائدة من النوم فلتكن اليقظة ولتكن القراءة، ولكنَّ الضجَّةَ أوقفتْ عمل خلايا الاستيعاب هي الأخرى فأغلَقْتُ الكتاب، وقمتُ أتجوَّل في الشقة شبه المظلِمة التي تبدو متوهِّجة الضوء من فَرْط ما يَصِلُها من ضجيج نهاري الطبيعة جحيمي الوقع.
ثم كان ما ليس منه بُدٌّ، وفتحتُ نافذةً مُطِلَّةً على موقع العمل في النفق، فوجدتُ بصري يتوه، والأمكنة والأضواء والآلات تتخاطَفُه وتتسابَق لتكونَ أولَ ما يقع عليه البصر.
نهارٌ كاملٌ موجودٌ في قلْب الليل البهيم، رجال رائحون غادون يبدون من العلو الذي كنتُ أنظر منه كائنات صغيرة دقيقة ككائنات «جوليفر» في جزيرة المغامرات التي سافَرَ إليها، آلات هائلة الضخامة حتى إنَّ إحداها كان يبلغ ارتفاعُها سبعة طوابق من عمارتنا، وحين فتحتُ النافذة وجدتُها أمامي مباشرة أكاد أمدُّ يدي فألْمَسُها.
كان ذلك منذ حوالي أسبوع، وكان النفق قد تمَّ تبطينُ جانبَيْه بالخرسانة المسلَّحة، وجارٍ العمل في حفْر مجرى النفق وإزالة الأكوام الهائلة من التراب والطين؛ إذ كان تكتيك العمل على ما بدا لي هو عمل سقف خرساني على قواعد خرسانية مدكوكة، ثم إزالة ما تحت السقف من أتربة وطين لإيجاد مجرى النفق بطول آلاف الأمتار، كانتْ أكوام التراب الطيني من الضخامة بحيث تكون جبالًا وتلالًا لا يستطيع العمال تسلُّقها، وكان إذا أراد عاملٌ أو مُلاحِظٌ أو مهندس أن ينتقل من حيث الأرض التي تُحفَر إلى قمَّةِ التلِّ يُدْلِي له سائق جهاز الحفر الكبير ذي اليد التي لها أصابع خمس تغترف بها التربة وتملأ عربة ضخمة في عشر قبضات من قبضاتها العملاقة، كان سائق الجهاز يُدْلِي اليد إلى العامل أو المهندس حيث هو في القاع ثم «يغرفه» ويصعد به أكثر من عشرة أمتار ليُصْبِح في القمة فينسلُّ من القبضة وكأنَّه بطلة فيلم «كينج كونج» حين كانتْ تتسلَّل من بين أصابع يده وكأنَّها في حجم الدودة.
لم أفطن إلى أنَّ النهار قد طلع إلَّا حينَ وَاجَهَتْني الشمس الحمراء وهي تُشرِق، وكأنَّها جهاز إضاءة أحمر جديد أضافَه العاملون في النفق فجأة.
كنتُ قد أمضَيْتُ ثلاث ساعات لم تتسرَّب إليَّ فيها لحظةُ ملَلٍ واحدة، وقد امتصَّنِي ما يَدُور أمامي تمامًا، ليس الجهد الهائل فقط، ولا الآلات العملاقة، ولا هذا التفاهُم الغريب القائم بين العامل والآلة، ولا بين العمَّال والملاحظ، ولا بين هؤلاء كلِّهم والمهندس أو المهندسين، كلٌّ يَعرِف عملَه وكلٌّ يتحرَّك إليه وبه، ولا كلام ولا قهقهات، ولا أجيب لك شاي، ولا توقف لشرب سيجارة أو نفس بوري، عمل دءوب تقوم به تلك الكائنات الدقيقة على وقْع هدير آلات لا تتوقَّف وكأنَّها موسيقى الجيش النحاسية تُلْهِب الحماسَ في ذلك الجيش الدقيق المحارب، وبعدَها لم أنَمْ، وصرتُ إذا عدتُ من عملي أنام بضع ساعات بالنهار لأسهر معظم الليل واقفًا عند فتحة النافذة، لا أتفرَّج فقط ولا أنتشي، وإنَّما أتأمَّل وأتفَلْسَف وتروح بي الأفكار وتجيء، كم قال الآخَرون، وحتى أنا نفسي قلت: إنَّنا شعبٌ يَمِيل إلى الكسل، وإنَّنا بلا إرادة، وإنَّ هدفَنا أن نأكل ونحشي البطون ونتزغزغ بالمسرحيات والأفلام ونفرفش! ما أراه هنا شعبٌ آخَر، ذلك الجانب الأكبر العظيم من الشعب المصري الذين حين يُحدَّد له الهدف يخلق الوسيلة، وحين يضع الهدف أمامَه وتصبح الوسيلة في يده ينطلق بأقصى ما يستطيع الكائن البشري أن ينطلق.
حسن جدًّا أنَّ الرئيس حسني مبارك أصرَّ على تحديد يوم ٦ أكتوبر موعدًا لافتتاح النفق فقد أَلْهَبَ هذا التحديدُ ظهورَ العامِلِين، وجعل الشركةَ المنفِّذةَ وهي على ما أعتقد — لأنَّه من مكاني لا أستطيع أن ألْمَح لافتة الشركة القائمة بالإنشاء والتنفيذ — شركة المقاولين العرب، جعل الشركة وجعل عثمان أحمد عثمان يستعيد أمجادَه التي حقَّقَها في السدِّ العالِي ولافتاته المشهورة، باقٍ من الزمن مائة يوم وتسعةٌ وتسعون يومًا … إلى آخِره، ويتركه من كتابة الكتب وبالذات ذلك الكتاب اللقيط «أنا والعهد البائد» ويعود إلى عمله الأصلي ينشئ المشروعات ويَقْبَل التحدِّي ويُنجِز.
لقد قرأتُ بحثًا للدكتور عبد الكريم درويش رئيس أكاديمية الشرطة عن مشكلة الإدارة في مصر، وقد وضَعَ الدكتور عبد الكريم يدَه على بيت الداء في الوجود المصري، وهو أنَّ تخلُّف الإدارة بل وأحيانًا انعدامها وراءَ الكثير، بل كل مشاكلنا الاقتصادية، أعْطِني إدارةً جيدةً أُعْطِكَ إنتاجًا وإنجازًا، هذا هو السِّرُّ وراءَ نجاح كثيرٍ من شركات المقاولات المصرية مثل شركات عثمان أحمد عثمان والعبد وحسن علَّام ومنتصر.
وحسنٌ أنَّ التأميم قد أشْرَك أصحابَ هذه الشركات في إدارتها وإلَّا كانتْ قد انتهتْ كشركات منجِزة منتِجة.
•••
بالأمس، وفي ظرف أيامٍ لا تزيد عن الأربعة فتحتُ النافذةَ لأجد — ويا لدهشتي! — أنَّ كومةً من التراب الطيني الهائلة قد أُزِيلتْ تمامًا وسُوِّيَتِ الأرض بتدرُّج محسوب بالملليمتر، بل وسُفْلِتتْ وبُلِّطَتْ بالأسمنت المسلَّح، ثم بدءوا، ولستُ أدري، لماذا يَضَعون أسياخًا من الحديد فوق الأرضية المسلَّحة، في أربعة أيام فقط صار الشارع نفقًا حقًّا ومسقوفًا.
أيقظْتُ ابني بهاء خريج معهد السينما هذا العام وطلبتُ منه أن يَبْقَى معي في النافذة بعض الوقت ليتفرَّج، وبَرِمًا بإيقاظه من نومه، بعدَ يومٍ هائلٍ في عمله لإتمام مشروع تخرُّجِه وقَفَ متأفِّفًا بعض الوقت ثم أعجبتْه الآلةُ ذات الأصابع الخمس العملاقة وما تفعَلُه، ثم اندمج في المشهد كله.
قلتُ له: لِماذا لا تأخُذُ كاميرتك وتنزل إلى الشارع وتصوِّر ما يدور وتصنع «الكلوزات» للعُمَّال الصعايدة الأبطال وتُرِينا المهندِسين في لحظة عملٍ، وليس كما تراهم في أدوار أنيقة في سينما لا علاقة لها بالواقع؟! لماذا لا ترصد التقدُّم المُذْهِل الذي يحدُث للعمل كلَّ يوم وتسجِّله بالفيديو؟!
قال بعد تفكير: «صحيح فكرة، بس دي حتى ما تنفعش فيلم تسجيلي.»
قلتُ له: «يا ابني، دعْكَ من الأفلام والأنواع والأوهام، إنَّه صحيح لن يكون فيلمًا تسجيليًّا، ولكنَّه سيكون له عندي وعند الكثيرين أهمية لا تُقدَّر بمال.»
قلتُ: كلَّما انتابتْني فترةُ يأسٍ من أحوالنا، كلَّما بدأتْ ثقتي في الإنسان المصري تهتز، كلَّما أحسستُ بالرُّوح تصِلُ الحلقوم، كلَّما هاجَمَني الشعور بأنْ لا فائدة وأنَّ مصر حالةٌ ميئوس منها، كلَّما سخطتُ على نفسي والآخَرين، كلَّما بدأ إيماني بمصريتي يتزعزع، كلَّما حدث لي شيء من هذا، سأُدِير ذلك الشريط وأعود أُدِيره وأَستَعِيد معه ثقتي بمصر القيمة ومصر الإنسان.
أسرع يا ابني، واحمل كاميرتك، وصوِّر.
فما أشدَّ حاجتَنا اليوم أن نَرَى أنفسَنا في لحظة عمل! وحقيقة فنحن لا نراها الآن إلَّا في لحظات كلام وكتابة وكلام ومؤتمرات وخُطَب ولِجان، أسرع يا بني، وصوِّر!