«إيزيس» بين الحكيم ومطاوع
«إيزيس» آخِر مسرحية كتَبَها أستاذُنا توفيق، مُنْهِيًا بها عهدَه «الأوروبي»، فحين ذهب توفيق الحكيم إلى باريس وشاهَدَ المسرح هناك، بهرتْه فكرة استعانة كُتَّاب المسرح المحدثين بالأساطير الإغريقية القديمة، حتى إنَّ مأساة أوديب كتَبَها ثلاثةُ أو أربعةُ كُتَّاب مُحدَثين، فقال لنفسه: لماذا — ونحن أيضًا لدينا أساطيرنا — لا نستعين بها في خلْق مسرح «عربي»؟! وهكذا استعانَ بالله وكتب مسرحية «أهل الكهف»، والحق أنَّ المسرحية في أول ظهورها أحدثَتْ دَوِيًّا شديدًا، ليس فقط في الأوساط المسرحية، ولكن — وهذا هو المهم — في الأوساط الأدبية نفسِها، تلك التي كانتْ تعتَبِر المسرح نوعًا من «الهلس» و«التهريج» لا يدخل تحت باب الأدب، حتى لو كان الممثِّل هو العملاق جورج أبيض، أو السيدة روز اليوسف، وحتى لو كانتِ الرِّواية من أمَّهات المسرح الأوروبي.
احتفَلَتِ الأوساط الأدبية بهذا الحدث الكبير حتى إنَّ الشيخ مصطفى عبد الرازق — لاحِظوا! الشيخ مصطفى عبد الرازق — تلقَّفها بترحاب هائل وأثْنى على مؤلِّفها ثناءً عاطِرًا، مع أنَّ الرواية مأخوذةٌ من النصِّ القرآني الذي كان لا يستطيع أحدٌ أن يجرُؤ على المساس بحرفِيَّته، وأهل الكهف، في سُورة الكهف، ليس فيها «بريسكا»، ولا فيها إمبراطور روماني، ولا كلُّ تلك الأشياء التي خلَقَها توفيق الحكيم تخليقًا.
بعد إيزيس نفض يدَه من فكرة الأساطير القديمة هذه، ونتيجة لظهور «عودة الروح»، ويوميات نائب في الأرياف، بدأ الحكيم يغوص شيئًا فشيئًا إلى قلب المجتمع المصري، يستخْلِص منه مأساته أو ملهاته الحديثة، وكانتْ مجموعة «مسرح المجتمع» خير تجسيد لهذا.
كانتِ الدنيا قد تطوَّرتْ، وكان جيلٌ آخَر من كُتَّاب المسرح قد ظهَر، فتبنَّى بعضُهم قضايا طبقية، وبالذات قضايا الطبقة الوسطى وأزماتها ومشاكلها وملهاة وجودها وتعاسته، وكان صاحب هذا الاتجاه نُعمان عاشور بروايتيه: «المغناطيس» و«الناس التي تحت».
ثم جذَبَنِي المسرح بقواه المغناطيسية الخارقة، وكنتُ قد كتبتُ مسرحيةً من فصْلٍ واحد اسمها «ملك القُطْن»، وأحَلْتُ قصةَ «جمهورية فرحات» إلى مسرحية، ولم أكنْ إلى لحظَتِها أتصوَّر أنَّهما يمكن أن تُمَثَّلا على خشبة المسرح، فذهبتُ بهما إلى الصَّدِيق الأستاذ أحمد حمروش، وكان آنذاك مشرفًا على المسرح القومي، ومشرفًا على سلسلة كتب للجميع، وطلبتُ منه أن ينشر المسرحيتين في كتاب للجميع، فإذا به بعد يومين يتَّصِل بي ويقول لي: «نشر إيه ده اللي انت جاي تقول عليه؟! هذه مسرحيات لا بد أن تُمثَّل.»
وهكذا أُدْرِجَتِ المسرحيتان في خطة المسرح، وفعلًا جُسِّدَتا، أخرج الأولى الأستاذ الكبير نبيل الألفي، والثانية المعلم الأستاذ المرحوم فتوح نشاطي، وأشهد، أنَّ ليلة افتتاح العرض كانتْ من أعنف وأخصب التجارب التي مررتُ بها في حياتي إلى درجة أنْ وَقَفْنا أحمد حمروش وأنا نبكي في نهاية «ملك القطن»، والمرحوم شفيق نور الدين يخبط «الأرض» التي تمثِّلها خشبة المسرح ويقول عن القطن: «أسيبُه يتحرق ازاي يا ناس؟! دا تعبي! دا شقاي! دا عمري وعرقي وعيالي!» كنَّا نرى هذا المشهد كلَّ ليلة وكلَّ ليلة يُبْكِينا المشهد.
وقيل يومَها إنَّني استطعتُ لأول مرة أن أجعلَ مِن الفلاح المصري بطلًا مسرحيًّا، كما استطعتُ بعدَها أن أجعلَ من فلاحة «الترحيلة» في «الحرام» شخصية تراجيدية ترتفع إلى مرتبة التقديس.
المهم أنَّني بعد هاتين المسرحيتين، ونظرًا للنقد الذي وُجِّهَ إليهما باعتبارهما مسرحيتين من فصل واحد، وأني قادر على كتابة مسرحية طويلة، كتبتُ مسرحية «اللحظة الحرجة» من ثلاثة فصول، وكانتِ المسرحية أيضًا صدمةً، فقد خاف بطَلُها في اللحظة التي كان يجب أن يُؤدِّيَ فيها واجبَه وأنْ يُدافِع عن أبيه الراكع يُصلِّي في سلام، بينما الجندي البريطاني يُشهِر عليه السلاح، قيل لي أيامَها كيف تجعَلُ من الرِّعْديد بَطَلًا؟! ولكن الدكتور لويس عوض كان له رأيٌ آخَر فقد كتَبَ مقالًا رائعًا في جريدة «الشعب» يقول عن المسرحية إنها دراسة في الخوف، خوف الغازي مِمَّن يغزو أرضَه وخوف الذي غُزِيَتْ أرضُه من الغازي.
ولكنْ بعد مسرحية «اللحظة الحرجة» توقَّفتُ لأنَّني أدركتُ أني إنَّما أكتب على النسق الأوروبي ولا أفعل سوى تقليد راسين وموليير وأحيانًا فيدو.
وأصبح هدفي — مثلما عثرتُ أو اكتشفتُ القصة المصرية العربية القصيرة مضمونًا وشكلًا وطريقة — أنْ أكتَشِف مسرَحَنا المصري العربي المتميِّز داخل حياتنا.
وكتبتُ سلسلة مقالات في مجلة «الكتاب» عام ١٩٦٣ بعنوان: «نحو مسرح مصري عربي»، مبشِّرًا بمسرحٍ يستوحي الواقع المسرحي الحي الذي يعيشه شعبُنا من «ذِكْر» و«زار» وربابة شاعر، وسامر، وجلوس على المقاهي، وحتى الجنازات والمعازي، مظاهر لظواهر مسرحية، من الواجب أن نستكشفها ونُحِيلَها إلى دراما عصرية حديثة تعبِّر عن ذاتنا المسرحية الخاصة، وبهذا بدلًا من أن نعيش عالةً على التراث المسرحي الأوروبي، نشرت المسرح العالمي بمسرحنا الخاص، وعارَضَني معظم النُّقَّاد في هذا الاتجاه، وقالوا: لا يوجد شكل مسرحي عربي أو مصري، وإنَّما الموجود شكل عالَمي، ضَعْ منه ما شئتَ من مضمون مصري يُصبِح مصريًّا، ولَمَّا كنتُ أومن أنَّ الشكل لا ينفَصِل عن المضمون في العمل الفني، فقد كتبتُ «الفرافير» كنموذج لهذا النوع من المسرح، وكانَ نجاحُها الجماهيري يدلُّ على أنِّي أسِيرُ في الطريق الصحيح.
وهكذا حدث للمسرح المصري زلزالٌ آخَر، ومِن الطَّرِيف هنا أنْ أذْكُرَ أنِّي عرضْتُ «الفرافير» على جميع مُخْرِجي مصر فكانتْ إجاباتُهم: «هذا ليس مسرحًا.» الوحيد الذي أدْرَك ما في داخِلِها من جواهر مسرحية شعبية ومصرية وعربية كان هو كرم مطاوع، وكان لا يزال قادِمًا من بعثته في إيطاليا، وليس المهم القدوم من البعثة، المهمُّ أنَّ هذا الشاب مُخْرِج موهوب قلَّ أن تُرزَق مصر بمثلِه، إنَّ باستطاعته أن يُخرِج الجريدة اليومية لو يشاء، باستطاعتِه أن يَصنَع ما يشاء.
ولكنَّ فيه عيبًا واحدًا خطيرًا؛ إنَّه يُدْرِك هذا، ويُدْرِك أنَّه كمخرج يَفهَم في المسرح أكثر بكثير من الذين يكتبون للمسرح (في حين أنَّ المؤلِّف هو الأصل، وهو الذي لا بد أن يفهَم في الإخراج والتمثيل أولًا).
المهمُّ أنَّنا بدأنا العمل في «الفرافير»، وبعد خروج العمل إلى الجمهور بدأتِ المُشاحَنات بينَنا حولَ ما كان يَجِبُ أن يكون عليه إخراج «الفرافير»، وقد انتهتْ تلك المُشاحَنات إلى أنْ عَرَفَ كلٌّ منَّا قدْرَ الآخَر، وبدأتِ المودَّة.
المُضحِك أنَّ نصَّابًا مغربيًّا ادَّعَى بعد عشر سنوات مِن هذا أنَّه هو صاحِب فكرة المسرح العربي وخالِقُه، واسمُ هذا النصَّاب هو الطيب الصديقي، ولا يزال ينصب على العالم العربي بهذا كله، ولم يتصدَّ له أحدٌ ويذكرُه بأنَّ ما يدَّعِيه نصبٌ، بل نحن هنا في مصر نردِّد هذا كالبَبْغاوات وكأنَّنا لا نعرف التاريخ أو نسيناه!
•••
نعود إلى «إيزيس» الحكيم و«إيزيس» مطاوع.
أقول إنَّ «إيزيس» الحكيم كانتْ آخِرَ مسرحية يكتبها متأثِّرًا بما رآه من إحياء الأساطير في باريس؛ إذْ بعدَها تحوَّل إلى المسرح الاجتماعي، ثم إلى ما أسماه شكلنا المسرحي أو بناءنا المسرحي (بعد ظهور «الفرافير» والضجَّة التي قامتْ حول المسرح المصري) وكتب على هذا الأساس مسرحية «الصفقة»، ثم جاءتْ موجة اللامعقول فكتب مسرحية «يا طالع الشجرة»، ثم جاءتْ موجة مسرح المقاوَمة على يد الشرقاوي فكتب مسرحيةً عن المخابرات.
المهمُّ أنَّ توفيق الحكيم رجلٌ يؤثِّر (فهو الذي جعلنا نعشق المسرح)، وأيضًا يتأثَّر بتلامذته ومحبِّيه، ولكنَّه يُخْفِي هذا كلَّه في جَعْبته ولا ينطق عنه حرفًا، أمَّا الحكيم الرجل إذا كان بخيلًا فالحكيم الكاتب أبْخَل من البُخْل! وإنَّه، وعمري، ما ضبطتُه يمتدح عملًا حتى لمعاصريه إنْ لم يكن لتلاميذه، هو يمتَدِحُهم إذا كان الأمر بينَه وبينَهم، أمَّا كتابةً وأمَّا عَلَنًا فلا، والآن جاء كرم مطاوع ليقدم «إيزيس» عام ٨٥.
وليقدِّمَها على مسرح جديد تمامًا، المسرح القومي بعد تجديده.
ودعونا من الخناقات التي حدثتْ حول تقديم «مجنون ليلى» كافتتاح، أو حول تقديم «إيزيس»، فهذه خناقات أصبحتْ في ذِمَّة التاريخ.
دعونا ندخل المسرح القومي هذه الليلة لنشاهد افتتاح «إيزيس» ٨٥ في حضور رئيس الجمهورية.
وأبدأ فأقول إنِّي رغم أنَّ الموعد يذكر السادسة والربع كميعاد لبدء العرض، إلَّا أنَّني ومنذ الساعة الخامسة، وأنا أطوف بكلِّ شارع يؤدِّي إلى ميدان العتبة حيث المسرح القومي، ولدهشتي وجدتُ قوات المرور والأمن المركزي قد «احتلَّتْ» منطقة وسط البلد بأسْرِها، وكأنَّ ثمَّةَ مؤامرةً من سكان القاهرة لمُحاصَرة الرئيس واحتجازه، إنَّني لم أرَ هذا في بلدٍ من بلاد العالم أبدًا، أن تحتلَّ قوات الجيش «الأمن المركزي» والبوليس كل شوارع وسط المدينة من الساعة الرابعة إلى التاسعة، وكل هذا لأنَّ موكب الرئيس سيمُرُّ أو أنَّ ضيفًا هامًّا سيعْبُر، إنَّ هذا منتهى عدم الثقة في المواطنين، ومنتهى إظهار العضلات للأمن المركزي والشرطة؛ فالرئيس في العادة يُقابَل بالترحاب حتى مِن الجماهير المتجمِّعة في الشوارع تهتف باسْمِه، فما بالُهم وهم يُعامِلون الجمهور وكأنَّه سيتلَقَّى موكب الرئيس بالحجارة أو بالرصاص، نحن شعب أكثر رُقِيًّا من كل الأجهزة القائمة على حراسة الرئاسة وغير الرئاسة، وفي الحقيقة نحن الذين نحرس الرئيس، أو بعض الرؤساء، وليس حُرَّاسه الخصوصيين أو العموميين، ولقد صُرِع المرحوم الرئيس السادات وهو في قلب حراسته الخاصة مُحاطًا بكمٍّ هائل من القوات المسلَّحة والطائرات المحلِّقة.
لي رجاء إلى السيد وزير الداخلية أنْ يُغيِّر من هذا النظام الذي يُرْبِك حياةَ الناس ويعطِّل مصالِحَهم ويزيد السخط في نفوسِهم، فالرئيس المحبوب تحرُسُه قلوبُ الشعب، وما تفعل قوات الأمن والشرطة إلَّا أن تَحُول بين هذا الحب وبين أن يصِلَ إلى قلب الرئيس.
وصلتُ إلى مسرح الأزبكية، وفحصَتْنِي كلُّ الأجهزة الإلكترونية التي طلَّعتْني براءة والحمد لله، وكنتُ قد نسيتُ تذكرةَ الدُّخول، وحمدًا لله أنَّ ضُبَّاط رئاسة الجمهورية بدا وجْهي مألُوفًا لدَيْهم وإلَّا لَمَا كنتُ حضرتُ العرض الذي أنا مدعوٌّ إليه.
دخلتُ المسرح، ساحة المسرح الخارجية أصبحتْ في منتهى الجمال والتنسيق، دَلَفْتُ إلى الصالة فصَدَمَني المشهد، زخارف كثيرة مذهَّبة وكأنَّنا في مسرح مدينة بترولية، خشبة المسرح وضعها سقيم، المسافة بين الخشبة والمقاعد بعيدةٌ أكثر من اللازم، ومغطَّاة بطبقات كثيفة من سجاجيد المآتم، وحتى ليستْ موضوعةً بترتيب وتنميق، وإنَّما هي موضوعة «كُلِّشنكان» بحيث تعتَلِي حافة الواحدة الحافة الأخرى في مشهد لا يبعث أبدًا على الاحترام.
المسرح نقص ما لا يقلُّ عن المائة كُرسي وأصبح في حجم مسرح الجيب.
خرجتُ إلى الصالة ثم إلى الخارج لأُشاهِد هذا الذي أنفقوا عليه ملايين الجنيهات، فإذا بي أجِدُ زخرفةً إسلامية لا علاقةَ لها بالزخرفة الإسلامية الحقيقية التي كنَّا نصنعها منذ أيام أحمد بن طولون، مساحات رهيبة فارغة تملأ الجدران الخارجية، وليس بداخلها ما ينم على أنَّ هذا مسرح أو مسجد أو معبد يهودي، أين صُرِفَتْ تلك النقود كلُّها، وما رأيتُه لا يمكن أن يتكلَّف أكثر من مليون جنيه؟! أريدُ من السيد رئيس الوزراء والسيد وزير الثقافة أن يشكِّلا لجنةً من كبار أساتذة الهندسة المضموني الذمَّة يقدِّرون حجمَ الإصلاحات، وكمَّ النقود المنصرف ويُحاسَب المختلسون؛ فإني واثقٌ أنَّ هذه العملية قد اختُلِس منها ما لا يقلُّ عن الثلاثة ملايين جنيه.
•••
ثم بدأ العرض المسرحي، وفي ذهني سؤال: تُرى ماذا سيفعل كرم مطاوع «بإيزيس» الحكيم؟ و«إيزيس» الحكيم كانتْ أسطورة «محترمة» لقصة إيزيس وأزوريس وحورس وتيفون، واغتصاب المُلْك من أوزوريس وقتْله ثم إصرار حورس؛ أسطورة بسيطة بساطة الأقاصيص الفرعونية القديمة مثل الفلاح الفصيح وكتاب الموتى ومسرحيات الكهنة.
طبعًا من المستحيل أن يُخرِج كرم مطاوع إيزيس الحكيم بنفس بساطتها، إذن، أين دَوْرُه هو كمخرج؟! وهكذا أخرج كرم مطاوع النص عن بساطته أولًا، وعن الحكيم ثانيًا، وبهذا فهي في الحقيقة «إيزيس» مطاوع، وحتى لو كان عدَّل فيها — كما يقول الرُّواة — توفيق الحكيم فهو قد فعل هذا بتنويم مغناطيسي إخراجي من كرم مطاوع.
وهكذا من الأسطورة البسيطة خَلَق كرم «أوبريت» ملأها بالرَّقْص والغناء المصري والشامي والزَّار ومجاميع لا حصْرَ لها، كان على المسرح أحيانًا ما يزيد على السبعين ممثِّلًا وممثِّلة، وإذا عرفتَ أنَّ المسرح لم «يُكنَس» منذ إنشائه وكنتَ تجلس مثْلِي في الصفِّ الأول، لأدْرَكْتَ مدى ما دخل صدري من غبار وتراب سببه دبدبة هذه العشرات من الرَّاقِصين والرَّاقِصات فوق الخشبة المليئة بالتراب وتصاعَد هذا التراب على هيئة سُحُب خانِقة تملأ الصالة الصغيرة إلى حدِّ الحُلْقوم، أمَا كان هناك عاقِلٌ واحدٌ يفكِّر قبْل العَرْضِ في كنس الخشبة ورشِّها لتصبح مكانًا جديرًا بالعرض لتلك العشرات من المجاميع؟!
باختصار شديد ذهبتُ أتفرَّج على توفيق الحكيم فاستَوْلى على عقلي كرم مطاوع بكثرة المجاميع والأغاني والرَّاقِصات، وكأنَّه أدْخَل إلى خشبة المسرح فرقةً من الأمن المركزي لتُحافِظ هي الأخرى على حياة الرئيس وكبار المدعوِّين.
أجل، أحالَها كرم مطاوع إلى أوبرا، ولو كان كرم مطاوع في ظروف نفسية أصلح، ولو كان لم يشغل وقته، رغمًا عنه في خناقات ما أنزل الله بها من سلطان حول المسرح الذي تُعرَض فيه مسرحيته، ولو أضاف قليلًا، بل لا بد أن أقول كثيرًا، من الشاعرية، لا للديكور أو للرَّقَصات، وإنَّما للمواقف الإنسانية العميقة التي تحفِل بها الأسطورة، مثل مشهد لقاء إيزيس بابنها حورس بعد غيبة خمسة عشر عامًا، ولو جعل حورس يتحدَّث عن أبيه المقتول حديث ابنٍ قُتِل أبوه ولم يَرَه، ولم يَرَ استيلاء تيفون على الحكم، ولو توقَّف قليلًا عند مشكلة الحكم، ومَن يحكم مَن، وهل الحكم للقوة أو للعدل، و… و… كثير من المَشاهِد التي كانتْ في حاجةٍ إلى كتابةٍ دراميةٍ حديثةٍ، ومراجعة متأنِّية لكلِّ جملةٍ من جُمَل الحوار.
لو كان قد فعل هذا لكانتْ «إيزيس» أرْوَع عملٍ إخراجي تمَّ على المسرح المصري، ولكنْ هكذا شاءتِ العجلة، وإصلاح المسرح، والخناقات والظروف النفسية الضاربة أطنابها في هيئة المسرح بشكل عام، وفي وزارة الثقافة بشكل خاص.
ورغم هذا «فإيزيس» عرضٌ مسرحي — رغم كل شيء — استمتعتُ به أنا وغيري غاية المتعة، استمتاع المستيقِظ لتوِّه بعد غفوةِ إغماءٍ طويلة، لقد عاد المسرح، لقد عاد! ها هو يتثاءب ويتمطَّى ولكنَّ الحياةَ دبَّتْ فيه دبيبَ أرجل الكومبارس والرَّاقِصين، عادتِ الرُّوح ترفرف في سقف مسرح الأزبكية العتيق، عُدْنا نذهب إلى المسرح.
أمَّا أن يحضر الرئيس مبارك هذا الافتتاح، فتلك لفتةٌ لا أظُنُّها تَخْفَى على أحد، لقد أرادَ بها فيما أظن أن يُطيِّبَ خاطِرَ الفنَّانِين الذين انهالَتْ عليهم الصحافة بالهيروين والكوكايين والانحلال، وأراد أن يقول أنا مع الفن الجاد (أي مع القطاع العام)، وأنا مع العمل الجاد حتى لو تكلَّف «٣٥٠ ألف جنيه».
وهذا في حدِّ ذاتِه انتصارٌ كبيرٌ للعائِلة الثقافية المسرحية، شكرًا يا ريس، وشكرًا أنك اصطحبت السيدة حرمك، فلي أكثر من خمسين عامًا أعيش على الأرض المصرية وأحضر مسرحيات واحتفالات لم أشهد خلالها رئيس جمهورية جادًّا يحترم حضور المرأة ويصطحب زوجته لتحضر معه، وفي نفس اللوج، عرضًا مسرحيًّا، إنَّ هذا ما يسمُّونه التحضُّر الحقيقي، أمَّا المُخْجِل حقًّا فهو أنَّ عدد المدعوَّات كان قليلًا جدًّا، مع أنَّ حدثًا كهذا يُعتَبَر في البلاد المتحضِّرة عيدًا اجتماعيًّا وفنيًّا خطيرًا تستعدُّ له المهتمَّات بالفن — وما أكثَرَهنَّ في مصر! — استعدادَهنَّ لحفل زفاف عزيز.
•••
ولا أستطيع أن أُنْهِيَ كلمتي قبل أن أقبل صلاح جاهين على أغنيته التي أرشِّحه معها لأن يبدأ كتابة أوبريتات من تأليفه.
كذلك لا أستطيع أن أُنْهِيَ كلمتي قبل أن أُشِيد بسهير المرشدي إشادة خاصة، فقد نضِجَتِ الممثِّلة الشابَّة نضوجًا جعَلَها تشرخ قلبي بإحساسها بعد أن كانتْ تشرخه بصوتها العالي، الآن هي تؤدِّي من الداخل، والداخل يصل مباشرةً إلى الداخل، ويعتصره، هنيئًا لكِ بدَوْر العُمْر هذا يا سهير، وأرجو أن يكون بداية، مجرد بداية لمرحلة تجعلنا نغلي بالغضب وبالرضا، بالسخط والإشفاق، بالدموع والضحكات، وأنت تهمسين، فقط تهمسين.
مبروك يا أستاذة سميحة أيوب لافتتاح مسرحك.
مبروك يا كرم مطاوع بإيزيسك الصاخبة.
مبروك يا سهير المرشدي على سهيرك الجديدة.