افتح الحنفية ينزل كوكايين
أنا شخصيًّا مذهولٌ ومندَهِشٌ من هذه الخاصية (القطيعة) التي يتمتَّع بها إعلامُنا الموقَّر، أن يعقد الرئيس اجتماعًا مع كبار المسئولين يناقش فيه كثيرًا من مشاكل مصر العليا، ومِن ضِمْنِها وقوع كثير من المصريين ضحايا المخدِّرات، شيء جديد علينا — أو بالأصح على أجيالنا عمومًا — مثل الهيروين والكوكايين شمًّا، وأمَّا أن يتحوَّل هذا التوجيه إلى «حُمَّى» تسْرِي في أنحاء المجتمع كلِّه، صحافة وإذاعة وتليفزيون، وأحاديث دينية، حتى «حديث الرُّوح» يتحدَّث عن الكوكايين، و«خمسة لصحتك»، و«لحظة من فضلك» و«حديث الصباح»، و«سهرة المساء» و«مساء السهرة»، كوكايين، وهيروين، الموت القادِم للزحف، نهاية العمر، التأثير المروِّع على القدْرة الجنسية، والعصبية والنفسية، الإدمان، الجنون لا علاج من إدمان الكوكايين، فالمريض إذا خرج يعود، وإذا تعوَّد انتهى.
حُمَّى مُخيفة أمامي ومِن خلفي وعلى جانبيَّ، وفي السيارة، والأتوبيس، ومع راكب التاكسي، وجلسات العائلات إن جلست، ونميمة الزائرات والزائرين كلَّما جاءوا (تنمو) حُمَّى رهيبة وطوفان، حتى إنِّي تصوَّرتُ أنِّي لو فتحتُ الحنفية لنزل منها وابل من الكوكايين والهيروين، وإذا فتحتُ النافذة ستهبُّ عليَّ عاصفة من دخان الحشيش، وإذا أكلتُ «مَحْشي» في عزومة سأجِدُه محشوًّا بالأفيون وجُوزة الطِّيب!
ما هذا يا إخواني؟!
لقد هالَنِي الأمرُ حقًّا، وظننتُ أنَّنا أُصِبْنا بضررٍ لا نجاةَ منه، ولي وَلَدان شابَّان في عُمْر الزُّهور، يَرُودان النوادي والجلسات، ولاحظتُ في المدة الأخيرة أنِّي دائمُ النَّظَر في عيونِهِما لأرى فيها أيَّ احمرار طارئ حتى ابنتي الصغيرة سألَتْني: ما هو هذا الكوكايين يا بابا؟!
قلتُ لها: إنَّها مادة مُخَدِّرة.
قالتْ: أعرف هذا، ولكنْ شكلها إيه؟ طعمها إيه؟ لونها إيه؟
قلتُ: والله يا بنتي، أنا ما رأيتها في حياتي.
قالتْ: كيف وأنتَ قد ردسْتَ الطِّبَّ والعقاقير ولا بد أنهم أَرَوْها لك؟!
قلتُ لها: الحقيقة أنَّه كان مفروضًا أن أرَاها، ولكنَّ قسم العقاقير كله وقسم المادة الطبية (الماتيرياميديكا) لم يكن به، بل في مصر كلها أيُّ كوكايين أيامها (في الخمسينيات) ولا أي هيروين، هم أَرَوْنا فقط قطعة حشيش وقطعة أفيون وكانتْ كلتاهما موضوعة في برطمان مشمع بالشمع الأحمر، وعليه خاتم الأستاذ رئيس القسم (الدكتور شريف)، ولَمَّا سألْنا عن السِّرِّ في هذا الخاتم وعن ضرورة أن نتعرَّفَ على المادة ونلمَسَها ونشمَّها باعتبارنا من الممكن أن نُمْتَحَن فيها، قالوا: لقد كنَّا نفعل هذا منذ بضع سنوات، ولكنَّا كنَّا نُلاحِظ تناقُصَ عهدة الحشيش بالذات، عقب كل فصل عملي، فأصرَّ مساعد المعمل (حتى لا يروح في داهية إذا خلصت عهدتُه) أن نضَعَها هكذا بحيث لا يلمَسُها أيُّ طالِبٍ، ولَمَّا جادَلْنا وقلنا: وماذا نعمل إذا جاءَتْ لنا في الامتحان الشفوي ولم نستَطِعْ أن نتعرَّف عليها؟ قال لنا الدكتور شريف: اطمَئِنُّوا، إننا لا نأتي بها أبدًا في الامتحانات، اعتبروها خارج المقرَّر، ونحن نُرِيكم إيَّاها فقط لتتعرَّفوا عليها — من بعيد لبعيد — ولأغراض الطب الشرعي فيما بعدُ حين تَدْرُسونه، وليس لأغراض اللمس والشم والتعرُّف كما هي العادة مع جميع العقاقير الأخرى.
هذه الحملة الإعلامية الرهيبة أحدثَتْ للأسف الشديد، أثَرًا عكسيًّا تمامًا حتى إنَّ حبَّ استطلاع الكاتِب جعَلَه يتساءَل هو الآخَر، ما هي بالضبط مادة الكوكايين؟ وكيف تُستَخْلَص؟ وما هو طعْمُها ولونها؟ وللأسف حين سألْتُ بعضَ شُبَّان أحدِ النوادي الكبرى في عاصمتنا كانت معلوماتهم عن «الأبيض» أي الكوكايين، «والأسمر» أي الهيروين وافرة تمامًا، وأيضًا عن كيفية التعاطي، وأنواع التعاطي بالشم أو بالشد أو بالحقن في الوريد، وحين تساءَلْتُ عن هذه «الشيشات» الصغيرة التي تُشْبِه «البيبة» تطوَّع واحدٌ منهم طويل الباع وقال لي: إنَّها تُستَعْمَل لاستنشاق ما سماه «القاعدة الأساسية»، وهي أقوى أنواع الكوكايين.
أرأيتم ماذا يصنع الإعلام المغلوط؟!
حتى لو كان عن مادة ضارة أو قاتِلة؟
إنَّه يُثِير لدى الشباب حبَّ الاستطلاع الشديد لمعرفة هذا الشيء السِّرِّي الغامِض الذي يتحدَّث الجميع عنه، وهي إحدى طبائع البشر التي لا يُمْكِنه الخلاص منها، وأذكر وأنا طالب في كلية الطب أنَّه حدَثَتْ موجة دِعائية واسِعة ضدَّ الشُّيوعية (أيام حكم صدقي)، وحدَثَتِ اعتقالات، وكنَّا جميعنا نحن الشباب والكبار نتحدَّث عن الشيوعية، ولم يكن أحدٌ قد قرَأَ عنها أو لَهَا شيئًا، وهكذا بدأ حب استطلاعِنا يجْأَر لكي نعْرِف، وما كان الشابُّ منَّا يَكادُ يَجِدُ كتابًا يتحدَّث عن الشيوعية أو الاشتراكية أو يُقابِل إنسانًا معروفًا عنه أنَّه شُيوعي أو اشتراكي إلَّا ويحسُّ أنَّه عثرَ على كنز، ويبدأ ينهالُ عليه بالأسئلة وطبعًا لم يعتَنِقِ الجميعُ الشيوعية، ولكنَّ نسبةً كبيرةً صعَّدَتْ من حبِّ الاستطلاع إلى الدراسة إلى «الإدمان».
وهذا هو، بالضبط، ما فعلناه بحكاية الجماعات الإسلامية، أخذْنا نُحارِبُها ونتحدَّث عنها، ونحن لا نَعْرِف عنها شيئًا، والشباب بحكم طبيعته شديد الشَّغَف لمعرفة شيء عنها، وهكذا ما كان هذا الشباب يكاد يَلْتَقِي بشابٍّ مُلْتَحٍ في مسجدٍ حتى يتسمَّرَ أمامَه واقِفًا سائِلًا طالِبًا المعرفةَ التي غالبًا ما كانتْ تنتَهِي بالانضمام.
ولكنِّي في زيارتي لذلك النادي الكبير، واجتماعي بأكثر من عشرة شُبَّان فيه أحبَبْتُ أن أعرف الحقيقةَ المجردة بعيدًا عن تهاويل الإعلام.
فسألتُهم: هل تعرفون شبابًا يتعاطَوْن هذه الموادَّ في النادي؟
فكانتِ الإجابة: نعم.
ولكنِّي عُدتُ أسأل واحدًا منهم بالذات كان يبدو اجتماعيًّا كثير المعارِف والاختلاط: إنِّي أسألك عن شِلَّتِك أنت بالذات، كم شابًّا تعرِفُه معرفةً شخصيةً دقيقةً في هذا النادي ويتعاطَى المخدِّرات؟
قال: حوالي عشرين.
قلتُ: كم واحدًا منهم يتعاطَى الكوكايين؟
قال: إلى الآن لا أحد؛ لأنَّ الكوكايين غالٍ جدًّا، ولكنَّ بعضَهم يتعاطى الهيروين.
قلتُ: كم واحدًا؟
قال: حوالي اثنين أو ثلاثة.
قلتُ: أنا أريد العدد بالضبط؟
قال: قبْلَ حملةِ مكافحة المخدِّرات الأخيرة كانوا اثنين، بعد الحملة أصبحوا ثلاثة.
وهنا أتوقَّف وقفةَ تأمُّل معكم.
فليس الأمر مخدِّرات هذه المرة.
وليس الأمر أمرَ جهات أجنبية تتولَّى «تسميم» عقول الشباب.
ولكنَّه أمرٌ خطيرٌ جدًّا، أمرُ طريقتِنا في علاج مشاكلنا.
ولقد كنتُ منذ بضعة أشهر أستاذًا زائرًا في جامعة لوس أنجيلوس، ومدينة لوس أنجيلوس تُعتَبَر أكبرَ مدينة أمريكية مستهلِكة للكوكايين والهيروين بالذات، باعتبارها لصيقةً بالحدود المكسيكية الأمريكية التي تُعتَبَر أهمَّ وكْر لاستيراد وتخزين الكوكايين لأمريكا بواسطة تجَّار المافيا وعصاباتها.
والأمر في مجال الشباب، والشابات بالذات، ليس أمرًا واحدًا من كلِّ عشرين أو اثنين، إنَّه أمرٌ يصِلُ إلى ٥٠٪ من سيدات وبنات لوس أنجيلوس الباحثات عن النجومية والشهرة في هوليود اللاتي غالِبًا ما يُصَبْنَ بالإحباط ويَنْتَهِينَ إلى مخدِّرٍ ما، يحتاج نقودًا، والنقود تحتاج أجسادًا تُباع ورقيقًا أبيض ومصائب كثيرة، لا أول لها ولا آخِر.
بمعنى أنَّ كارثةَ المخدِّرات في لوس أنجيلوس لا تُقاس أبدًا بما يحدُث هنا في القاهرة أو غيرها، إنها كارثة قومية بالفعل.
فكيف عالَجُوا، ويُعالِجون هذه الكارثة؟
لاحظتُ مِن طول ما شاهدتُ التليفزيون بمحطَّاته الكثيرة هناك أنْ لا أحدَ يتحدَّث عن «ضرر» المخدِّر أبدًا، أو يصوِّر الانحدار المُخِيف الذي يحدُث للشخصية إذا تعوَّدَتْ عليه؛ لأنَّ تصوير هذا الانحدار نفسه يخلق في المُشاهِد الصحيح الرغبةَ في تجربة هذا الانحدار، ففي داخِل النفس البشرية قوة بانيةٌ ترغَب في الحياة وتحبُّها، وقوة هادِمة ضائِقة بالحياة وتحبِّذ التخلُّص منها، وقد لاحَظَ العلماءُ أنَّ عدد المدخِّنين في العالَمِ، وبالذات من الشباب قد كثُر بشكل مُذهل بعد أن أرغمتِ الحكوماتُ شركاتِ السجائر على وضع شعار «التدخين ضارٌّ جدًّا بالصحة»، فهذا الشعار يُداعِب وتر الضيق من الحياة والرغبة في التخلُّص منها، خاصةً لو كان هذا التخلُّص ليس بالشكل العنيف مثل قطع شريان اليد، أو الموت شنقًا بكرافتة.
فهذه القوة الهادِمة للحياة تُغريها أي مادةٍ تهدم الحياة وتنجذب إليها، وكأنها الندَّاهة التي تنادي على بحَّارة السفن في الأساطير فيندفعون ناحيتها لتتحطَّم سفنهم على صخور الجزائر ويموتون غرقًا، إنَّه نداء خفي غامض يتسرَّب إلى النفس في عذوبة ورِقَّة، وكأنَّه نداء الشيطان المتنكِّر على هيئة أجمل فاتِنة.
ونحن بدِعايتنا الضخمة «ضد» الشيء المهلِك، «نُحبِّب» دون أن نَدْرِيَ هذا الشيء المهلِك للشباب الغضِّ الأغَرِّ، وحتى بالقليل نُثِير فيه حبَّ الاستطلاع كما سألَتْنِي الطفلة البريئة عن ماهية شكل وطعم وحكاية الكوكايين.
إني معتقدٌ أنَّنا بإعلامنا المحموم هذا ضد تلك السموم قد أثَرْنا ملايين من هذه الأسئلة في عقول الشباب والأطفال وحتى الكبار.
وهذا ما لم يفعلْه الإعلام الأمريكي.
الإعلام الأمريكي أو المجتمع هناك، فعلَ شيئًا آخَر.
أولًا: بَنَى مصحَّات كثيرةً خاصةً، ليس لمرضى الأمراض العقلية والنفسية ومعهم مدمنو العقاقير (وعلى فكرة كلمة «مدمن» لم تَعُدْ تستعمل في القاموس الطبي الحديث، إنَّما حلَّتْ مكانَها كلماتٌ مثل «إساءة استخدام العقَّار» أو التعوُّد على استخدام العقَّار الضار)؛ إذ هذا هو بالضبط التعريف العلمي الدقيق فإنَّ كلمة «المدمن» مثلها مثل كلمة المجنون، لم تَعُدْ تعني شيئًا، فلم يَعُدْ هناك أناسٌ اسمهم مجانين، إنما أصبحتْ أمراضًا محدَّدة، تُسمَّى بأسماء محدَّدة، ولها علامات محدَّدة.
المهم بنَوا المصحَّات أو تبرَّع بها أغنياؤهم، الممثِّل الأمريكي الذي دائمًا ما أنسى اسمه (وبالطبع ليس روك هدسون) ذلك الذي مات ابنُه من جرَّاء تناول جرعة زائدة من الهيروين، تبرَّع ببناء مصحَّة دفع فيها مليوني دولار وجمع الباقي من الأغنياء والأصدقاء، مصحَّات أهلية، ومصحَّات حكومية ومصحَّات تأمين صحي، السِّرِّية فيها مكفولة، والعلاج لا يستغرق كثيرًا، وأثناء العلاج هناك رعاية اجتماعية للمريض وأسرته.
وهكذا كلُّ ما بقِيَ على الإعلام ليفعله، وهو يفعله، أن تخرج المذيعةُ على الجمهور وتقول: إذا كانتْ عندَك مشكلةُ عقاقير (لاحظوا كلمة «مشكلة») فاتَّصِل بتليفون رقم كذا، تصلك سيارة، ودَعِ الباقي لنا، لا مناظر تحشيش، أو شم الكوكايين أو هيرويين، ولا شيش، ولا أنابيب، ولا هذا الكلام الخطير الفارغ الذي ملأنا به عقول الشباب البريء طوال الأيام السابقة.
ذلك أنهم هناك يعتبرون مَن يتعوَّد استعمال هذه العقاقير إنسانًا مريضًا لم تلِدْه أمُّه مُدْمنًا، وإنَّما هناك ظروف اجتماعية واقتصادية، وفي مجتمعاتنا سياسة دفعت الحائر التائه، هو هكذا، لأنَّه لا يعرف له هدفًا في الحياة، ولا يريد أحدٌ أن يُساعِده على إيجاد هدف له في الحياة، وفي مجتمع كمجتمعنا العمل فيه قليل جدًّا، والفراغ واسع وممتد جدًّا من السهل تمامًا أن ينزلق المرء إلى فكرة أن يكون له هدف صناعي، يستيقظ من أجل تناوُله، ويكسب كيفما كان مصدر النقود ليشتريه، ويشقى ويعمل أقلَّ وقتٍ ممكن لينفرد بالعقَّار هدفه ومحبوبه، ويعطي له نفسَه تمامًا طوال ما تبقَّى من ساعات النهار والليل، وكأنَّه وجد بغيته، وكأنَّه وجد له الهدف التائه، وكأنَّه كان ضالًّا فهُدي.
ولا أستطيع أن أُنْهِيَ هذه الكلمة تلك التي تتصدَّى لمعالجتنا الخاطئة لإحدى مشاكلنا الطارئة، دون أن أذكُرَ مقالًا قرأتُه لأستاذ ورئيس قسم الأمراض العصبية والنفسية في إحدى كليات الطب بمناسبة الخمر المسمومة؛ يقول هذا العلَّامة الذي مهمته أن يدرِّس العلاج لطلبته كيف يُعالِجون مَن يُعاقِرون الخمر باعتبارهم مرضى: إنَّ هذا السمَّ هو الانتقام مِن هؤلاء الذين يشربون الخمر، ويدعو الله في النهاية أن يُمِيتَ كلَّ مَن يشرب الخمر، مسمومةً أم غير مسمومة!
تصوَّروا هذا رأيُ أستاذ ورئيس قسم؛ بمعنى أنَّه لو ذهب له مريض يشرب الخمر مفروض أنْ يُعامِلَه كمريض وينتشله من عثرته، إنَّما حسبما كتب ورأى سيُعالِجه بأن يدُسَّ له السمَّ في كأس خمر فيُمِيته ويُريح الدنيا من عاصٍ كبير!
إنَّ الحدَّ الذي أقامَه الله، سبحانه وتعالى، لمتعاطي الخمر هو أن يُجلَد، ولكنَّ هذا الأستاذ — ولا أدري كيف مرَّتْ هذه القصة على مجلس جامعة القاهرة الموقَّر! — يُعالِج متعاطي الخمر بقتْله أي بارتكاب معصيةٍ أكبر، أكبر معصية، قتل النفس!
وكأنَّ هذا هو الإسلام!
إنَّه الجهل بالإسلام، والجهل بالعلم، والجهل بالمرض، والجهل بمعالجة الأمراض الاجتماعية والصحية والنفسية التي تُصِيب الخلق لأسباب كثيرة لا يعلمها سوى الله.