ضحك الجنازات
قرأتُ الحديث الذي أجراه ابنُنا الصحفي الشاب بهاء صلاح جاهين في الأهرام مع الأستاذ العميد الدكتور لويس عوض، كان أهم محتويات الحديث أنَّ الدكتور لويس عوض يَنْعَى في رثاء جليل حركة الكبار في الأدب العربي، وعلى رأسِهم أستاذُنا الكبير توفيق الحكيم، وعمنا المُبدع نجيب محفوظ، وشيخ طريقتنا القصيرة يحيى حقي، وكاتب هذه السطور، كذلك لم يسلَمْ كبار نُقَّادِنا — ضِمْنًا من النعي — الناقدين الكبيرين الدكتور عبد القادر القط والدكتور علي الراعي.
وقال الدكتور لويس عوض فيما قال: إنَّه جيلٌ — يقصِد هؤلاء جميعًا الذين ذكرتُهم — قد انتهى بحلول النكسة أو الهزيمة عام ٦٧، ولم يَعُدْ لدَيْه شيء يقوله أو يُبْدِعه، وإنَّه هو شخصيًّا قد ملَّ الكتابة والكلام وفرغَتْ جَعْبتُه، والحقيقة أني كنتُ قبْلَها بليلةٍ قد فرغتُ من قراءة كتاب الصديق الموهوب أحمد رجب «كلام فارغ»، وهو كتابٌ من أعظم ما قرأتُ خلال الأعوام الماضية لا لأنَّه يحتوي على كنوز معرفة غالية، ولا لأنَّ حكمة الكون كله قد تلخَّصتْ فيه، ولكنْ لأنَّ أحمد رجب نموذج فريد في الكتابة الساخِرة، وإذا كان الكاتب الذائع الصِّيت «أرت بوكوالد» قد ابتدع طريقة أمريكية فريدة في السخرية، خاصةً من الرؤساء الأمريكيين وزوجاتهم — أثناء حكمهم بالطبع — محتويًا في جَعْبتِه جدَّه الرُّوحي مارك توين، وحتى شارلي شابلن كمؤلف، إلَّا أنها طريقة أمريكية فيها سخرية ذكية ذكاء العواجيز الخبثاء، أمَّا صديقنا أحمد رجب فهو ساخِر مصري أصيل، رُوحه من رُوح عبد الله النديم وأسلوبُه فيه رشاقة الكاتب العبقري الساخر المرحوم محمد عفيفي، فيه نكتة محمود السعدني الفاقِعة في مصريَّتِها وطول لسانها، فيه لمسة صلاح جاهين الكاريكاتيرية وتلامذته من رمسيس إلى الليثي إلى محمد حاكم، غير أنَّ ميزة أحمد رجب الكبرى هي في نهايات نصف كلمة التي يكتبها، إنَّه دائمًا يُجَهِّز لك قنبلةً مُسيلة لدموعِ الضحك في آخِر كل فقرة يكتبها، وهي قنبلة لا تقتُل ولا تجرَحُ ولكنَّها تدفعُك حتى للتأمُّل، وكأنَّ فيها كلَّ الحكمة. كنتُ في الليلة التي قبْلَها قد انتهيتُ من قراءة الكتاب، واستنفَدْتُ كلَّ طاقتي من الضحك بيني وبين نفسي أولًا، وبصوتٍ عالٍ يكاد يُوقِظ مَن في البيت، وحينَ طَوَيْتُ الكتابَ ووضعْتُه جانبًا، قلتُ لنفسي: ها أنا ذا قد ضحكتُ بما يكفيني شهرًا بأكمله.
ولم أكن أتصوَّر أني في اليوم التالي مباشرةً، سأضْحَكُ وأنا أقرأ حديث الدكتور لويس عوض كما لم أضحك في حياتي.
وأنا أعرف صديقًا لديه عادةٌ غريبةٌ هي أنَّه ما إنْ يدخل سُرادِقًا للعَزاء، حتى لو كان الميت أعزَّ أقربائه، حتى تنتابَه موجاتُ ضحكٍ عاصِفةٍ؛ ولهذا لا يَذهَب للعَزاءِ أبدًا إلَّا وهو يتلفَّع بكوفية يلفُّها حول نصفِ وجهِه الأسفل، حتى لا تحدثَ مأساةٌ من جرَّاء ضَحِكه على هذه الصورة.
أنا أيضًا وجدتُ نفسي في هذا الموقف لدى قراءتي الجنازة التي أقامَها الدكتور لويس عوض، لجيلنا، ولنفسِه، فقد وجدتُ نفسي أنفَجِرُ وأضحكُ وأضحكُ حتى كدتُ أختَنِق.
والدكتور لويس عوض ليس أستاذي فقط، ولكنَّه صديقُ عُمْري؛ عَرَفْتُه منذ عام ١٩٥٣ ولا أزالُ أحبُّه وأودُّه وأحتفلُ به وبكلِّ ما يقول وكأنَّ اثنين وثلاثين عامًا لم تمرَّ على معرفتي به، ولكنَّ هناك شيئًا، لا بد — لكي أكون صادقًا مع نفسي — أن اعترفَ له أمامَ القُرَّاء بشيء؛ ذلك أني في مبدأ الأمرِ كنتُ آخُذُ الآراءَ المتطرِّفةَ التي تبدأ تتدفَّقُ من قريحته بعد أن «يسخن» تفكيره، كنتُ آخُذُها مأخذَ الجدِّ وأحتَدُّ عليه ويحتَدُّ عليَّ، وننخرط في خناقة فكرية ما أنزل الله بها من سلطان، ولكنِّي جرَّبتُ مرةً ألَّا أنفَعِل، بل أكثر من هذا أن «أتفرَّج» على آرائه وألَّا أندمج في الردِّ عليها، وكانتِ النتيجة أنِّي بدأتُ بدلَ أن أغضَبَ أن أبْتَسِمَ بل أضحك، بل أحيانًا أضحك كثيرًا وأُحِيل الموقفَ كلَّه إلى موقِفٍ كوميدي صارخ.
وبالطبع هذا لا يحدث في كل الأحوال ففي الغالِب آخُذُ حديثَ الدكتور لويس عوض مأخذًا جادًّا عميقا — حين يكون الأمر كذلك — أمَّا حين يتطرَّف ففي الحال أقلِبُها ضحكًا.
ولقد أضحكني الحديث.
وبدأتُ الضحك بقوله «جيلنا» مُسْبِغًا عليَّ شرف الانتماء إلى جيل توفيق الحكيم (٨٧ سنة)، ونجيب محفوظ (٧٤ سنة)، وزكي نجيب محمود (فوق السبعين)، والدكتور حسين فوزي (٨٨)، وكلُّهم، أطال الله في أعمارهم جميعًا، في سموق أشجار الكافور على شطِّ نيل الجيزة، جذورهم ضاربةٌ في تربة مصر منذ العشرينيات حين بدءوا الكتابة حين كنتُ أنا لا أزال في عالَمِ الغَيْب؛ حيث وُلِدتُ عام ٢٧، وبدأتُ الكتابة عام ٥٠، بينما هم عمالِقةٌ كِبار، بالكاد أصلح تلميذًا لهم، أضحكني هذا الشرف الذي أسبَغَه عليَّ الدكتور لويس، مثلَما كان صديقي الأستاذ محمد عودة أسبِغَه عليَّ، نفس الشرف، ويقول: إنَّ أبي، رحمه الله، قد قيَّدَني في شهادة الميلاد بعدَ مَجِيئي بعشر سنوات حتى يتجنَّب أن أدخُلَ «القُرْعة» في سنٍّ صغيرة.
ثم حين أوغلتُ في المقال — الجنازة — انتابتْني تلك الموجة الأخرى من ضحك الجنازات؛ فالدكتور لويس يبدأ بإصدار حكم باتِرٍ لا نقْضَ فيه ولا إبرام، إنَّه انتهى منذ حاقَتِ النكسة بمصر، وكذلك انتهى معه ما سمَّاه جيلَنا واحدًا واحدًا بمَن فيهم العبد لله.
ضحكتُ لأنَّه منذ عام انتهاء الدكتور لويس عوض عام النكسة عام ٦٧ والدكتور لويس قد أبدَعَ وأنتَجَ أهمَّ ملفاته على الإطلاق: كتابه المحيط عن اللغة العربية، ذلك العمل الخلَّاق الذي سيَبْقَى ما بقِيَتِ اللغة العربية، كتابه عن: أعمدة الناصرية السبعة، كتابه عن جمال الدين الأفغاني، وذلك الذي أثَارَ من الضجَّة وكتب عنه عدد من المقالات، ورغم أنَّ معظمها كان نقدًا متحيِّزًا يُعادِل ما كُتب عن كلِّ الكتب التي طُبِعَتْ ونُشِرَتْ في تلك الحقبة، ثم على أثر خلاف حول النشر في الأهرام، فجأة استقال من الأهرام، واتَّخَذ له مَكتبًا في شارع الهرم راح يقوم فيه بصناعة ثقيلة للحركة الثقافية، ولا يزال بكل هِمَّة، ينشط ويعمل.
بمعنى أنَّ ما أنتَجَه لويس عوض بعدما انتهى — حسبما يقول — يُعادِل إنْ لم يتفوَّق كثيرًا على إنتاجِه قبل أن ينتهي وقبل النكسة! فلماذا هذا المَعْزَى الكبير ليَنصِبَه لنفسِه ولنا؟!
وإذا أخذْنا بقيةَ الجيل فسنَجِد أنَّ ما أنتَجَه الدكتور زكي نجيب محمود خلال السبعينيات فقط يُعتبَر في رأيي أهمَّ كتبه على الإطلاق، أمَّا الأستاذ نجيب محفوظ فله كلَّ عام رواية، وأحيانًا روايتان، وتُعتَبَر روايةُ الحرافيش أو ملحمة الحرافيش — في رأيي — عَمَلًا يَرْقَى فوق مستوى العالمية، ويكفي أن يكتب كاتبٌ في حياتِه عملًا واحدًا كملحمة الحرافيش ليخلد أبدَ الدهر، ودي سيرفانتس لم يُنتِج إلَّا روايةً واحدةً عظيمة هي «دون كيشوت»، ودانتي أنتج «الجحيم» وأنشأ بها فن الرواية الإيطالية ولغتها، وكذلك جوته في «فاوست»، ونجيب محفوظ لم يتوقَّف وإنتاجُه من ناحية الحجم والانتظام أكثر بكثير من إنتاج أيٍّ من تولستوي ودستوفسكي.
فلماذا هذا الحكم بالإعدام يا أستاذ؟!
أمَّا إذا تركْنا جيلَ الكِبار هؤلاء وجئْنا إلى الجيل الحائر — جيلي — فإنتاجُه أيضًا لم يتوقَّف، فكتابة المقالة اكتسبتْ خصائصَ القصة، وكتابة القصة حفلتْ ببعض سخونة المقالة، وربما يكون ما أكتُبُه في الأهرام نوعًا جديدًا من «الأوتشرك» على رأي أستاذنا المرحوم الدكتور مندور، ورغم ذلك أيضًا لم أكفَّ عن كتابة القصة فقد أصدرتُ منذ «بيت من لحم»، مجموعتين من القصص: «أنا سلطان قانون الوجود»، و«اعقِلْها وتوكَّل»، ورغم المأساة التي تحياها الحركة المسرحية كتبتُ ما أعدُّه في رأيي أهمَّ مسرحية كتبتُها على الإطلاق، وهي مسرحية «البهلوان»، تلك التي لم تَرَ النور؛ للتسوس الذي حدث لمسرح القطاعين الخاص والعام على حدٍّ سواءٍ والقائمين عليه.
إذن، هذا الجيل الذي حكمتَ عليه بالفناء رغم أنَّه في السِّنِّ التي يجب أن يؤدِّيَ فيها إلى الشيخوخة الجميلة والتأمُّل الأعمق للحياة ولا يزال يُنتِج ويُبْدِع ويُناضِل ويخوض المعارك كأي كادح شاب.
ولو كنتَ مثلي يا دكتور تتلقَّى إنتاج الشبَّان الجُدُد، كلَّ عام، شبان جُدُد موهوبون خلَّاقون يكتبون ويصرفون على ما يكتبون لكي يطبعوه ويوزِّعوه بأنفسِهم وهو إنتاج عالي المستوى تمامًا، أي قصة منه حتى لو كانتْ لمبتدئٍ تفوق ما كان يكتبه الأوائل في العشرينيات، في عزِّ ازدهار فن القصة القصيرة آنذاك.
إذن، موضوعيًّا، لا يُوجَد ما يستدعي حكمًا بالإعدام، ولا إقامة جنازة؛ فالحركة الإبداعية تمشي ببطء، هذا صحيح، وليس لها توهُّج الستينيات هذا صحيح، ولكنَّ الحركة الإبداعية غير منفصِلة أبدًا عن حركة الإنتاج في المجتمع ككل، فالخلق نوع من الإنتاج، ومجتمعنا بعهد انفتاحه «الملوث» كاد يَئِدُ حركة الإنتاج في المجتمع ككل، وإذا كان هذا لم يحدث، وإذا كانتْ هناك حركة عارِمة تُريد إعادةَ الإنتاج إلى سابِقِ عهْدِه، فلا بد أن يُصاحِبَها حركةٌ أشد فاعلية لإعادة الإنسان المنتِج إلى سابِقِ عهْدِه، وهذا هو دَوْر الفن والأدب والثقافة، فنحن نَحْيَا في حالة مجاعةٍ ثقافيةٍ، وأحوج ما نكون إلى أن نُبْقِيَ على أفران الفن القليلة التي لا تزال تقدِّم لنا رغيف الثقافة والإبداع، وكلمةٌ منك أيُّها الناقِدُ المعلم، كانتْ كفيلةً باستنهاض الهِمَم وفتح أبواب إنتاج مغلقة ورعاية حركة تَسْبَح ضدَّ تيارٍ بَشِعٍ يُرِيدُ أن نظَلَّ نَحْيَا في ظل التبعية البضائعية والثقافية.
وبعد أن طال ضحكي مع حديث الدكتور لويس عوض بدأتْ دموعٌ تتجمَّع في أركان عيني؛ ذلك أنِّي أدْرَكْتُ المشكلةَ وعَرَفْتُ أنَّ الدكتور لويس عوض يُعانِي من حالةٍ من حالات اكتئابِه، وما أكثرها! فالرجل يحسُّ أنَّه يعيش في مجتمع يظلِمه ويضطَهِده، وهذا ليس شعور شخص ولكنَّه حقيقةٌ موضوعيةٌ؛ فالدكتور لويس عوض هو الوحيد الباقي من العمالِقة الذي لم يَنَلْ جائزةَ الأدب التقديرية فقط، ولكنَّه حتى لم يُرَشَّحْ لها، ولو كنتُ مِن بعض مَن نالوا هذه الجائزةَ عن غير حقٍّ وعن غير جدارة إلَّا علو الصوت واحتلال المقاعد والمنابر والوجود ولو بالقوة في الصورة كما يقولون، لو كنتُ واحِدًا من هؤلاء لرفضْتُ أن أنالَ جائزةَ الأدب بينَما لويس عوض ذلك الذي لا يقلُّ دَورُه عن دَوْر مندور وطه حسين والعقَّاد في النقْد لم يَنَلْها وغير مرشَّح لها.
وأنا شخصيًّا لا أعترف ولا أعتبر أنَّ جائزة الدولة في الأدب تعنِي شيئًا بالمرة؛ فهي لا تصنع كاتبًا، وعدم نَوالِها لا يَهبِط بكاتبٍ، ولم أُعِرْها الْتِفاتًا منذ أن أُنْشِئَتْ إلى الآن، ولن أُعِيرَها، ولكنَّ الأمر بالنسبة للدكتور لويس عوض مسألةٌ مختلفةٌ، فإنَّ الجامعات لا ترشِّحه لأنَّ الجامعيين لا يُكِنُّون له حبًّا كثيرًا، والمجلس الأعلى للثقافة أغلبُ أعضائِه كُتَّاب لم يكتب عنهم لويس عوض شيئًا ذا بال؛ ولذلك فهم يُعادُونه بل ويتمنَّوْن زوالَه، أمَّا هو نفسُه فهو لا يمكن بكبرياء مصري جميل أن يَطْلُب لنفسِه جائزة أو حتى يتطلَّع إليها.
الأمرُ إذن أمرُنا نحن، نحن وزارة الثقافة ووزيرها، نحن المسئولين في هذه الدولة، نحن الكُتَّاب الذين تعلَّمْنا من لويس عوض وسوف نتعلَّم عليه، كيف نسكتُ على أمرٍ كهذا؟! وكيف نُبْقِي ماردًا مثله يُعانِي من حالة اكتئاب قصوى يتمنَّى معَها لو حطم وتحطَّم معه المعبدُ! أفقَدْنا الإحساس بالآخَرين إلى هذه الدرجة؟! أم إنَّ العملةَ الرديئة هي التي سادتِ الحركة الثقافية تمامًا؟! وهي التي أصبح بيَدِها تقدير كل شيء وكل كاتب وكل مبدع وإنشاء كُتَّاب كخيالات المقاتة وسلب المكانة والرُّوح من كُتَّاب عظام أحياء، وكأنهم بالقضاء على المبدِعين الحقيقيين سوف يحتلُّون هم مكانَتَهم دون منافِس أو منازِع، فلْنُظْهِر لهذا الرجل العظيم الذي يَحْيَا بينَنا بعضًا من التقدير وبعضًا من الحب فهو منَّا ونحن منه، حتى مع أولئك الذين يختلفون معه في الرأي لا ضَيْرَ عليهم من حبه ووده، وإلَّا لَمَا قال الأقدمون: إنَّ الخلاف في الرأي لا يُفْسِد للودِّ قضية.
أم كان الأقدمون أحكمَ منَّا وأنضَجَ وأكبرَ نفوسًا وأرحبَ صدورًا؟!