مهزلة دورنماتية
تلقَّيْتُ من السفير السويسري خطابَ شُكْرٍ موجَّهًا إلى الأستاذ إبراهيم نافع رئيس مجلس إدارة الأهرام ورئيس التحرير، وفيه يشكر الأهرام على المأدبة الحافِلة واللقاء التاريخي الذي استضاف فيه الأهرام الكاتبَ الكبيرَ فردريتش دورنمات والعائلة المسرحية المصرية على غداء كما يقول الخطاب «غداءً ملكيًّا».
والحق أنِّي وأنا جالسٌ بين درونمات وزوجته المُخرِجة الألمانية شارلوت وأمامَنا الحركة المسرحية الصوتية من كُتَّاب ونُقَّاد ومُدِيري فِرَق ونجمات ونجوم لم أمْلِك نفسي من الإحساس بالسعادة؛ ذلك أنَّ هذا الحدث؛ حدث أن تجتمع العائلة المسرحية كلُّها لتحتفل بأكبر كاتب مسرحي أوروبي معاصر في زيارته للقاهرة، مسألة ليستْ من قَبِيل البَذَخ كما تفضَّل بعضُ صِغار الصحفيين وذكروا، ولا هي من قَبِيل الأبهة الكاذبة، ولكنَّها هي بالضبط ما نَعْنِيه بكلمة «الثقافة»، فالثقافة ليستْ كُتبًا يكتبها أناس ليقرَأَها أناس، الثقافة بالأساس إحساسٌ قويٌّ يربط المهتمِّين بمصير يربطهم في مختلف أنحاء العالَمِ بفكرةٍ إنسانية واحدة.
ولقد كنتُ في سويسرا قد قضيتُ ساعات مع دورنمات نتحدَّث في شتَّى المواضيع ونشرتُ بعض الحديث على صفحات الأهرام، ولا أذكر إنْ كنتُ قد كتبتُ في تلك الأحاديث أنِّي قد دعَوْتُه لزيارة القاهرة أم لم أذكر، فالواقعُ أنِّي كنتُ قد وجَّهْتُ الدعوةَ فأجابَنِي بطريقته التي تبدو غير متحمِّسة أنَّه قد قَبِلَها، وأنَّها من المنتظَر أن تتمَّ في نوفمبر خاصةً، وأنَّ زوجته المُخرِجة في الشبكة التليفزيونية الألمانية الأوروبية تُرِيد أن تصوِّر فيلمًا عن مصر القديمة والحديثة.
لم أكن متأكِّدًا أنَّ الدعوة ستتمُّ، ولكنِّي حين عدتُ إلى القاهرة اتَّصَل بي مستر أرزمان القائم بالأعمال السويسري، كان السفير غير موجود، وذكر لي أنَّه تلقَّى خطابًا من دورنمات يؤكِّد فيه على أنَّه سيحضر إلى القاهرة في نوفمبر.
وهنا وقعتُ في حَيْصَ بَيْصَ، فعلاقتي بالسيد وزير الثقافة السابق كان مجالُها محكمة باب الخَلْق، ولستُ في سَعَةٍ من الرِّزْقِ تَسْمَحُ لي باستضافة دورنمات على نفقتي الخاصة، ولا أستطيع الاقتراب من مؤسسة المسرح أو حتى الثقافة الجماهيرية لتبنِّي تلك الدعوة، فماذا يا رب أفعل؟!
بعد بضعةِ أيام كنتُ في المركز الثقافي الفرنسي في زيارة لمعرض الكتاب أو بالضبط الكتب التي أُلِّفَتْ بالفرنسية عن مصر والبلاد العربية والإسلامية، وهالَنِي عدد الكتب التي تبدأ من كتاب «وصف مصر» إلى الآن.
وفي المركز وجدتُني وجهًا لوجهٍ أمامَ الدكتور ممدوح البلتاجي رئيس هيئة الاستعلامات، وخطَرَ لي أنْ أُحَدِّثَه بالمشكلة التي أَوْقَعْتُ نفسِي فيها، فإذا بالرجل وبحماس زائدٍ يقول لي: لا مُشْكِلة، ولا شيء من هذا القَبِيل؛ ستتولَّى هيئة الاستعلامات دعوة الكاتب الكبير واستضافته وعمل كل شيء من أجل أن يأخذ هذا الكاتب العالَمي فكرة حقيقية عن بلادنا، ولكنْ قلتُ له: إنَّ هذا عمل وزارة الثقافة، وأنت تعرف الوضْع.
قال: مَن قال هذا؟! إنَّه من صميم عمل هيئة الاستعلامات فعندنا إعلام داخلي للمصريين وإعلام خارجي نتولَّى به دعوة كبار الكُتَّاب والصحفيين، وهناك ميزانية وبرامج لهذا كله، وأن يأتي كاتب كدورنمات لمصر حدث عالَمي لا يمكن أن نتركه يمرُّ، فإني متأكِّد أنَّه إمَّا أن يكتب كتابًا أو سلسلة مقالات أو حتى مسرحية عن مصر؛ فمصر بالنسبة للعقلية الإبداعية الأوروبية تشكِّل مهبط وحيٍ لا يمكن أن تمرَّ عليه قريحةٌ خلَّاقة دون أن يؤثِّر فيها بطريقةٍ ما، وبعد أسبوع واحد كان الدكتور ممدوح البلتاجي قد نظَّم برنامجًا متقنًا للرحلة والإقامة، وأرسل باسم الهيئة دعوة لدورنمات وزوجته، وكان القائم بالأعمال السويسري عندي في مكتبي يناقِش معي تفاصيل الندوات التي سيعقدها دورنمات في القاهرة واحدة في الجامعة، والأخرى في لقاء مع العائلة الثقافية في الأهرام، والثالثة ندوة مفتوحة في فندق شيراتون الجزيرة حيث يُقِيم، والرابعة في معهد جوته الألماني، كان هذا الكلام في يوليو من هذا العام وكنتُ قد وعدتُ دورنمات أن نقدِّم له عملًا من أعماله التي تُرجِمتْ وقُدِّمتْ على مسارح القاهرة «أربعة أعمال»، وهكذا اتصلتُ بالمسئولين في هيئة المسرح لتحضير عمل يُعرَض أمامَه باللغة العربية، واخترتُ المخرج الفنان سمير العصفوري ليقدِّم هذا العمل باعتباره أولَ مَن أخرج مسرحية لدورنمات في مصر، واختار سمير أن يقدِّم مسرحية «الشهاب» لقصرها من ناحية ولمحدودية ممثِّليها من ناحية أخرى.
وفي نفس الوقت فاتَحْتُ الأستاذ إبراهيم نافع في حفل غداءٍ نُقِيمُه على شرف الرجل في الأهرام عندنا، وقد أسعَدَني حقًّا أن قال لي: إنَّ ل إمكانيات الأهرام تحت تصرُّفك.
هكذا ترتَّب كلُّ شيء.
وبدأتِ الشهور تتوالَى، أغسطس ثم سبتمبر ثم أكتوبر، وكان وزير الثقافة قد تغيَّر وجاء الصديق الكبير الدكتور أحمد هيكل وزيرًا جديدًا ومتحمِّسًا.
وذهبتُ لِلِقائِه وأعدتُ عليه قصة دورنمات والمسرحية التي يجب أن تُقدَّم فذكر لي أن الدكتور سمير سرحان اتَّفَقَ مع سمير العصفوري على كل شيء، وأنَّ بروفات المسرحية قائمة على قدم وساق.
وبعد أسبوع اتَّصَل بي الأستاذ سمير العصفوري وقال لي إنَّه رأى أنَّ عرْضَ «الشهاب» غير ممكن وأنَّه اختار مخرجًا من تلاميذه ليقدِّم عرضًا يستغرق ساعة يستعرض فيه مقطعًا عرضيًّا لكلِّ أعمال دورنمات.
الحقيقة دُهِشْتُ، فدورنمات كتب ما لا يقل عن الثلاثين عملًا، وكيف ستَضَعُ هذا المقطع العرضي لكلِّ تلك الأعمال، ولكنْ لثقتي في قدرة سمير العصفوري قلتُ: أنت المسئول، وأنت وما تراه.
وقبل وصول دورنمات بأسبوع لعبَ الفأر في عبِّي، فاتَّصلتُ بالدكتور سمير سرحان أطمَئِنُّ على العرض، فإذا به يذكر أنَّ سمير العصفوري قد ذهب ليحضر مهرجان قرطاج في تونس، وأنَّ العرض لن يُقدَّم.
وأحسسْتُ بجانب كبير من كارثتنا المسرحية يتبدَّى على أبشع صورة، كارثة كانتْ قد بلغتْ دورنمات نفسه وهو لا يزال في سويسرا، فقد كانتْ أول كلماته لي حين قابلتُه في المطار أن قال إنَّه حزين؛ لأنَّ العرض المسرحي أُلْغِيَ؛ فقد كنتُ فعلًا أريدُ أن أتفرَّج على دورنمات بالعربية.
وغرِقْتُ في خجلٍ لِمَا آلَتْ إليه أمورُنا المسرحية والثقافية، وغرِقْتُ في خجل أكثر حين عَرَفْتُ أنَّ أحدًا لم يُحاسَب على ما حدث، ولا وجَّه لومًا لأحد، ومرتِ المسائل وكأنها لعب عيال، نأتي بكاتب عالَمي من النادِر أن يُغادِرَ بلدَه أو يحضُرَ عروضَه في البلاد الأخرى ونَعِدَه بتقديم عمل مسرحي له، ثم إذا بنا في آخِر لحظةٍ وبكل استهتار هكذا نقول له: «معلهش! تتعوَّض، المرة الجاية إن شاء الله!»
لقد كانتِ الزيارةُ ناجحةً تمامًا من الناحية الثقافية والاجتماعية، فاشِلةً تمامًا من الناحية المسرحية والمناقشة المسرحية، وربما كان الخطأ خطئي؛ إذِ اعتمدتُ على أنَّ لدينا مسئولين عن هذا كلِّه، وعمَلُهم أن يضَعُوا هذا ولا أقوم أنا أو غيري بكلِّ العمل، لقد حَرَصْتُ على أن أحضر أقل عدد من الندوات والحوارات التي أجراها دورنمات مع التليفريونيين ومع الجامعيين ومع المثقفين لأني اعتقدتُ أنَّني بدعوتي دورنمات للقاهرة وتلبيته للدعوة يصبح من عدم اللياقة أن أحشُرَ نفسي في كل كبيرة وصغيرة.
عذرًا، أيها الكاتب العظيم!
وقلبي معك يا دكتور هيكل، في وزارة اختلَطَ فيها كلُّ شيء بكل شيء، ولم يَعُدْ فيها مسئول واحد تستطيع أن تطمئنَّ إلى كلامِه أو إلى وَعْدِه.