ملعبة التليفزيون
أعجبتْني الحكايةُ التي قصَّها علينا الأديب عبد الله الطوخي وهو يَرْوِي لنا كيف كان جالسًا مع عائلته وفي منزله، ثم فجأةً سمع ضجَّةً شديدةً وصُراخًا وعَوِيلًا في الشقَّة المجاوِرة فأسْرَعَ ودقَّ على بابِ جارِه لتَفْتَح له ابنتُه البابَ، ويَجِد الرجلَ صاحبَ الشقة، وهو ضخْم الجثَّة فارع الطول ينهال بقطعة حديد على جهاز التليفزيون في بيته يحطِّمه ويُفتِّته قِطَعًا قِطَعًا أمامَ زوجته وأبنائه وبناته دون مراعاة لاستعطافاتهم ورجواتهم وهم يقولون: «والنبي يا بابا، بلاش تكسره بلاش!» فيرُدُّ عليهم بصوت عالٍ كالرعد قائلًا: «أنا مش بابا! هذا هو بابًا!» (قاصدًا جهاز التليفزيون) منهالًا عليه بشدة أكثر تحطيمًا وتكسيرًا، حتى فتَّتَه تمامًا.
أعجبتْنِي القصة؛ لا لأنَّ إنسانًا وجَدَ في نفسِه الشجاعة على أن ينهال على جهاز تليفزيون، مصري أو عربي، تحطيمًا وتكسيرًا رغم فداحة ثمنه، ولا لأنَّ غَيرةً ما قد شبَّتْ بين أبٍ حقيقيٍّ تزوَّج وخلَّف وأنجب أولادًا وبنات لا ليعيشوا في التبات والنبات ويستمتع بهم وبصحبتهم، وإنَّما ليتسلَّمَهم أبٌ آخَر خلَقَتْه التكنولوجيا، ليتولَّى قيادتَهم وتربيَتَهم ويمتصَّ كلَّ أوقاتِهم التي كان مفروضًا أن يقضوها مع آبائهم وأمهاتهم.
أعجبتْني القصة لسبب قد لا يخطر على البال؛ لأنَّها في حقيقة أمرها قصةُ مواجَهة صريحة وواضِحة وعنيفة بين العَصْر الذي نَحْيَا فيه والعصر الذي تربَّى عليه آباء هذه الأيام وأمهات هذا العصر.
منذ فجْر البشرية كان الأب هو أولَ مدرسة يدخُلُها طفلُه ليتعلَّم منه القِيَم والسلوك والأخلاق، وربَّما الحِرْفة والثقافة والمعرفة والإدراك.
وكان لكلِّ قبيلةٍ من القبائل تراثُها الشفوي المرئي الذي تحكيه الجدة لأبنائها وأحفادها، ليحكوه بدَوْرِهم لأولادهم وأحفادهم.
ثم بظُهور المسرح ثم الكتاب ثم الجريدة، بدأتْ آباء أخرى تُشارِك الأبَ الحقيقي في صياغة شخصية وسلوك ومدارك ابنه، وحين جاءتِ السينما بعدَ هذا عمَّقَتْ تلك المشاركة إلى حدٍّ كبير، ولكنَّها كانتْ مُشارَكةً أقربَ إلى التعليم التخيُّلي منها إلى الأب أو المدرِّس أو المربِّي الحقيقي؛ ولهذا سمَّيْناها نحن العرب «الخيَّالة»، أمَّا الكارثة الكبرى الحقيقية، أمَّا الانقلاب العظيم الداهِم، فقد جاءَ مع عصر التليفزيون؛ ذلك أنَّه لم يأتِ ليكون بعيدًا عن متناول الأسرة أو محيطها، وإنَّما جاء ليحتلَّ صميمَ المركز في قلْب الأسرة، وهو مركزٌ ثابِتٌ غيرُ متحرِّك، وغير صامتٍ، مركز دائم التحدُّث والجذْب، دائم الوجود، عميق التأثير إلى أبعد حدٍّ، حتى إنَّ أطفالنا أصبحوا يحفظون كلمات الإعلانات وأغانيها أكثر بكثير ممَّا يحفظون آيات من القرآن الكريم، أو ملخَّص قصة من قصص الأطفال المتداوَلة.
جاء ساحِقًا ماحِقًا فاصِلًا تمامًا بين عصرين؛ عصر ما قبل التليفزيون وعصر ما بعد التليفزيون، عصر أطفال ما قبل التليفزيون، وعصر الجيل الذي ربَّاه التليفزيون.
وجاء دكتاتوريًّا طاغيًا أيضًا، انكمَشَ بجوارِه الأبُ الحقيقي في ركن لا يملك حتى أن يتكلَّمَ أو يُقاطِعَ ما يَدُور فيه، فما أسرع ما ترتَفِعُ ألْسِنةُ أطفالِه وأزواجِه طالبةً منه أن يسكتَ؛ لأنَّ التليفزيون يتكلَّم! أو حتى يقطع عليهم ما يُتابِعونه ولو بخبر خطير يهم الأسرة جميعًا وقد يُغيِّر مصير العائلة كلِّها.
جاء ليكون المتحدِّث الأول والكلُّ له مُصْغون، والنموذج الأول للتصرُّف وللكلام وللفعل، والكلُّ له مقلِّدون، وحتى النموذج الأول للتسريحات والتجمُّلات، وطريقة النطق، والكلُّ لا يفعلون سوى تقليده.
وتليفزيون مَن، ذلك الذي جاء؟
ليس تليفزيونًا عربيًّا، لا صناعة، ولا اسمًا، ولا حتى محتوًى؛ إذْ جاء أحدث ما تفتق عنه العقل الغربي من علم الإلكترونيات و«الترانزيستورات» «علم تحويل الصوت والصورة إلى كهرباء وبالعكس»، وجاء مزوَّدًا بمساعِد لا يقِلُّ عنه خطورةً وبأسًا؛ هو «الفيديو كاسيت»، يجمع كل ما افتقدتْه العائلة من إرسال التليفزيون العادي، ويُضِيف إليه أفلامًا وقصصًا وألعابًا، وكل ما قد يخطر ولا يخطر على البال.
وهنا وجدْنا أنفسَنا نحن آباء هذا العصر وأمَّهاته نُواجِه عملاقًا ولا جن ألف ليلة بكل ما لدَيْه من «شبيك لبيك، أنا بين إيديك، والعالم كله بين يديك، والحب بكله وبكافة أشكاله رهن إشارتك!» والتقاليع تقاليعه، لا ينتهي أبدًا لها حال.
مفاجأة كبرى، لم يكن يتوقَّعها العالَم الأول نفسُه، فما بالك ونحن حين جاء كنَّا لا نزال نَحْيَا ربما في العالَم الرابع أو الخامس؟!
وأنا أذكر أول مرة رأيتُ فيها التليفزيون وجهًا لوجه، وكان في معرض في القاهرة في عام ٥٨، وما زلتُ أذكر تلك الدهشة المروِّعة التي أصابتْني، حين رأيتُ صورتي «وقد كانتْ هناك كاميرا تليفزيونية مسلَّطة على المشاهِدين لجهاز الاستقبال»، رأيتُ صورتي بالأبيض والأسود مرتسمة على تلك الشاشة الصغيرة الساحرة، يومها أخذتُ الأمرَ أخْذَ مثقَّفٍ متحضِّر، وقلتُ إنَّ التقدُّم البشري ليس له أبدًا من حدود، وإني إنَّما أشاهِد معجزةً كبرى لهذا التقدُّم؛ أي إنني رُوِّعتُ للتقدُّم التكنولوجي الإلكتروني الذي أنتج هذا الجهاز.
وفي ذلك الوقت لم أفكِّر أبدًا فيما يمكن أن يحتويه هذا الجهاز بعد هذا وينقله من مواد.
وما هي إلَّا بضعة شهور حتى أصبح هناك إرسال تليفزيوني، لا في مصر فقط، ولكن في معظم البلاد العربية، وحتى تدفَّق على المشاهِد العربي طوفان من إنتاج أوروبي أو إنتاج عربي يحاول أن يقلِّد ويمشي على خُطَى الإنتاج الأوروبي بطريقةٍ لا بد للإنسان معها — بطول المشاهدة ومداومتها نظرًا لرَوْعتها وخبرتها — أن يَحدُثَ له غسيلُ مخ إجباري؛ بحيث تُمْحَى من عقْله مفهومات كثيرة ورثها أو تعلَّمها، وتحلُّ أشياء جديدة تحمل المكوِّنات النفسية والاجتماعية والسياسية لمجتمعات مختلفة عن مجتمعنا تمام الاختلاف.
حتى كاد الأمر في النهاية ينتهي إلى أن ينْمَحي تمامًا من ذاكرتنا كلُّ ما توارَثْناه من مفهومات وتعاليم وأحاديث أمَّهات وجدَّات ونصائح آباء وكبار، ونولِّي وجوهَنا وعقولَنا مفتوحةً على مصراعَيْها لتَلْتَهِمَ بلهفةٍ ذلك الطوفان القادم.
وفجأةً أيضًا، دون أن ندري، نلمح على أبنائنا وبناتنا الأكثر استعدادًا للتقبُّل، والأقل استيعابًا للتراث، تصرُّفات لا تبدو غريبة كثيرًا عن التصرُّفات التي نراها معروضة في تليفزيوناتنا، ولكنَّها تبدو غريبة، تمامًا إذا ما قُورنتْ بما دَرَجْنا عليه نحن من أخلاق وقِيَم وتصرُّفات.
وكان مفروضًا حينذاك أن تنشأ معركةٌ بيننا — نحن الآباء — وبين ذلك الوافد المكتسح، وأعتَقِد أنَّ معارك فردية وعائلية كثيرة قد نشبتْ متفرِّقة هنا وهناك، ولكنَّها كانتْ دائمًا معارك خاسِرة، كنَّا نحن الذين نخسرها؛ ذلك أنَّ التليفزيون كان قد ربِحَ المعركة، تمامًا، وأخذَ أولادَنا وأجيالنا الجديدة إلى صفِّه وأصبحْنا نحن مجرَّد قِلَّةٍ «متخلِّفة» عن الرَّكْب، «متحجِّرة» أمام التحضُّر والتأمْرُك والتأَوْرُب، تعيش في عصرٍ غير العصر، وتحاول جرَّ أجيالٍ جرَّارة بأكملها إلى هذا العصر الغابر.
وكان لا بد بالطبع يبلغ اليأس ببعض الآباء — مثل أخينا الذي اندار على الجهاز يدكُّه دكًّا — أنْ يحاوِل حلَّ المشكلة بتحطيم الآلة، وهو ليس فقط اليأس وأغبى أنواع الحلول، ولكنَّه يدلُّ تمامًا على أنَّ هذا النوع من الآباء قد تخلَّف عن العصر فعلًا، وواجِبٌ عليه أن يحطِّم السيارة هي الأخرى والطائرة، وأن يَعُود القهقرَى يركب الناقة وينتقل بالحمار.
•••
فما هو الحلُّ يا تُرَى إذا لم يكن تحطيم كل تلك الأجهزة المتقدِّمة من تليفزيون وسيارة وكمبيوتر، وفيديو … إلخ؟!
الحلُّ بسيطٌ للغاية، يا سادتنا الآباء والمربِّين والحريصين على التراث والتقاليد.
فالتليفزيون في ذاته كجهازٍ قمةٌ من قِمَم الهندسة البشرية، وآلة إعجاز تكنولوجي ولا عيب فيه بالمرة.
المشكلة هي فقط «محتوى» هذا الجهاز وما يبثُّه.
وبلادنا العربية قد اشترَتْ من أوروبا واليابان وأمريكا ملايين من أجهزة التليفزيون والفيديو، ولكنْ كان عليها إرسال بعثات «بشرية» لدراسة المواد التي يمكن لهذا الجهاز أن يبثَّها، وأثر هذه المواد على عقول كل الأجيال من الأطفال إلى الشيوخ، وأثره بالذات على مجتمعات لم تمرَّ حتى بفترة الراديو أو المسرح أو السينما، وإنَّما فجأة من حديث الجدات وحواديتهم انتقلتْ إلى عصر البثِّ التليفزيوني وحلقات دالاس ومونت كارلو شو.
كان علينا أن ننتقِيَ ونحضِّرَ «كادِرًا» من فتيانٍ موهوبين، يدرسون ما فعله صُنَّاع البرامج الممتازة في التليفزيونات الأخرى، وبالذات التليفزيون البريطاني والتليفزيونات الأوروبية، ثم يتعلَّمون كيف يقدِّمون المقابل العربي الصالِح والشاحِذ والمنبِّه للعقل العربي، بكافة مكوِّناته وأجياله، و«يكتبون» النصوص، لا أقول ذات القِيَم الأخلاقية الرفيعة كما يقول عُتاة المتفيقهين، ولكن تلك التي تَسْتَلْهِم قِيَمَنا وتراثَنا وحاضرَنا وتصنع منها «فنًّا» تليفزيونيًّا حين نشاهِده يدفَعُنا إلى كلِّ ما هو أرفع وأمتع وأنفع.
إني في كلِّ مرةٍ أذهب إلى بريطانيا، ودائمًا أوقِّت ميعاد وصولي يوم السبت؛ لأستريح في عطلة الأسبوع ثم أبدأ في قضاء مصالِحِي يوم الإثنين بداية الأسبوع، كنتُ ما أكاد أجلس في حجرتي في الفندق وأفتح الجهاز حتى أكاد أتسمَّر بجانبه لا أريد أن أتحرَّك؛ ذلك في كل برنامج «أتعلم منه» شيئًا ممتعًا جديدًا، و«أعرف» منه تسلية عظمى، ما لم أكن أبدًا أعرفه، و«أرى» أشياء كنتُ أسمع عنها وطالَمَا حلمتُ برؤيتها رأْيَ العين، حتى إنني كنتُ لا أغلق التليفزيون حين يتحوَّل الإرسال إلى ما يُسمُّونه جامعة الهواء، حيث تُدرس مواد الرياضة البحتة والطبيعة والكيمياء والذرة والفلك، بكل ما تحمل من صعوبةٍ وتعقيدات بطريقة تليفزيونية مرسومة ومسهلة بحيث يمكن لأي كائن — فما بالك بمَن لديه الحد الأدنى من المعرفة — أن يُتابِعَها ويستوعِبَها ويستمتع بما أُضيف إليه من معارف ممتعة لا تحقِّقها له أيُّ «ديناستي» أو «دالاس» أو رجل أو امرأة «لستة بلايين دولار»، أقسم أني رغم شغفي الشديد بالخروج كنتُ لا أغادر الغرفة خلال كل عطلة نهاية الأسبوع لأني لم أكن بصراحة أستطيع قطعَ متعة المشاهدة الممتعة المفيدة.
•••
نحن إذن قد استوردنا آلات وبرامج مصكوكة، ولم نفعل الشيء الذي يجب أن نكون قد قُمْنا بفعله قبل استيراد تلك المعدَّات والأدوات والبرامج، ألَا وهو أن نكتشف مادَّتَنا التليفزيونية نحن، نفنِّنها، ونقدِّمها ونطوِّرها، ونتعلَّم كيف نفنِّنها أكثر ونطوِّرها أكثر وأكثر.
وأحسب أنَّنا قد «استوينا» من برامجنا المستوردة، وآن الأوان لنُنتِج نحن برامجنا، وهي ليست برامج استعراضية أو ترفيهية أو مكلِّفة، إنها أبسط من هذا بكثير، إنها برامج حية وبسيطة ويشترك فيها المواطنون جميعًا يناقِشون مشاكِلَهم، «تقريبًا ربع برامج التليفزيون البريطاني مخصَّصة لمشاكل المدارس والتلامذة وأولياء الأمور والمدرسين وأوجه التقصير، من كل حيٍّ أو بلد على حدةٍ، بل أحيانًا من كل مدرسة»، مناقشة أي قضية عامة يختلف أو يتفق فيها المجتمع مع وجهة النظر الرسمية أو غير الرسمية، باختصار حوَّلوا التليفزيون هناك إلى مجلس شعبي، ولمصلحة الشعب، ومهرجان شعبي، وأداة شعبية لمناقشة الشعب، بأفراد من الشعب ولمصلحة الشعب، وبهذا وصلوا إلى ما يمكن تسميته بكل أمانة الديمقراطية التليفزيونية، حتى أصبحتِ الديمقراطية البرلمانية بجوارها وكأنَّها مجالس سفسطائية، فالقوة الحقيقية والقرارات الحقيقية، وحتى الانتخابات الحقيقية وحلول المشاكل الحقيقية تأتي من التليفزيون ومن الشعب الذي أحال التليفزيون من لعبة إلى جهاز جادٍّ يجمَعُه في بوتقة واحدة، ويضع السائل والمسئول والحاكم والمحكوم في حيِّز واحد وأمام أعين جمهور واعٍ فاحِص علَّمَه التليفزيون كيف يَعِي وكيف يفرِّق بين الزيف والحقيقة، ومباشرةً ومن التو واللحظة يحكم، ويكون حكمُه في معظم الأحوال عادِلًا وصادِقًا ونابِعًا من قلب الحقيقة والشعب.
فمتى نُحِيل — نحن العرب — تلك الألعاب التليفزيونية إلى وسائل حضارية جادة تسوس حياتنا وتقوِّمها وتدفعُها إلى الأرفع والأحسن؟! أم سنظلُّ كالأطفال في أوروبا، نستعمل التليفزيون والفيديو وسائل ألعاب وتضييع وقت ومراهقات فكرية وعاطفية وجسدية، وحلقات درامية ما أنزل الله بها من سلطان؟! بل الحقيقة أنَّه أنزل بها كثيرًا من اللَّعَنات التي للأسف تُصِيب أبناءنا البُرَآء وقلوبهم الخضراء الغضَّة، وعقولَهم التي ستنتهي في الغالب إلى أن تُصبح لا شرقية ولا غربية ولا أي شيئية.
وحتى لا تكون النهاية أن يقوم كلُّ ربِّ أسرة بأن ينهال تحطيمًا على جهاز عظيم نحيا في عصره هو جهاز التليفزيون.
فمتى يحدث هذا؟!
بالله عليكم، وأرجوكم؛ متى؟!