الأدب العربي
- كلمة عامة: الأدب العربي — الذي بين أيدينا اليوم — من الجاهلي حتى عصر الانحطاط؛ غني جدًّا لأنه أدب شعوب جمة، فهو وارث مدنيات عديدة لها تصوراتها وخيالاتها وأفكارها وحكمتها وفلسفتها ونظرياتها الاجتماعية، لقد كان الفتح الإسلامي أشبه بالبوتقة التي صهرت فيها المعادن المختلفة، ثم كونت منها شيئًا مطبوعًا بطابعها الخاص.
-
أدب البداوة: البداوة طور اجتماعي تمر به كل الأمم، بل هو معبر إلى الحضارة لا بد أن تمر به كل أمة
مهما سمت مدنيتها.
وللبداوة في الحياة طريقة خاصة وأدب خاص يكون في أول عهده شعرًا؛ لأن الشعر وليد الخيال، والخيال يسبق الفكر؛ لأن الشعر غناء والإنسان مفطور على الغناء منذ نشأته.
بخلاف النثر — ونعني الفني منه لا لغة التخاطب — فإنه وليد الفكر، والبدوي قليل التفكير ينفر من المنطق؛ فعقلية البدوي وثَّابة سريعة الانتقال، كانتقاله بين ليلة وضحاها من مفازة إلى مفازة.
ليس هذا في الأدب العربي فقط، فكل أمة في عهد بداوتها لا يكون أدبها إلا شعرًا، ومتى انتقلت إلى الحضارة لا تحمل من تاريخها غير تلك الأناشيد الشعرية التي ترى فيها كل فخرها ومجدها.
فإذا بحثت في عهد بداوة العرب وغيرهم من الأمم لا تجد الساسة والحكماء والقادة ومدبري الشئون الاجتماعية إلا شعراء، ولا تجد أنظمة البدو وعواطفهم وحكمتهم إلا في الشعر.- الشعر: فالشعر أول مظاهر الحياة الاجتماعية القوية لكل أمة كانت بدوية ثم تحضرت،
فالأمة اليونانية، مثلًا، أول مظاهر حياتها الأدبية الشعر.
فالحضارة بنت البداوة والأدب المتحضر هو ربيب الأدب المتبدِّي، فلولا امرؤ القيس ما كان عمر بن أبي ربيعة وبشار، ولا أبو نواس … إلخ.
لقد كان الشاعر منبرًا منتقلًا تلقى عنه الدروس السامية، وكان سيده وهو الشاعر يزرع في العقول المبادئ الاجتماعية البدوية، بل يغرسها في الألباب غرسًا، فكل المثل العلياء في الحياة البدوية تجدها في شعرهم.
- النثر: أما النثر في آداب الأمم المتبدية فلا أثر له؛ لأن النثر أقل تأثيرًا في النفوس من الشعر، وأقل حفظًا أيضًا، ولذلك لم يصل إلينا من النثر البدوي إلا بعض فقرات من سجع الكهان لا تستحق الاهتمام والاعتبار، ما خلا الأمثال، فهذه بمنزلة الشعر من حيث التأثير والحفظ.
- الشعر: فالشعر أول مظاهر الحياة الاجتماعية القوية لكل أمة كانت بدوية ثم تحضرت،
فالأمة اليونانية، مثلًا، أول مظاهر حياتها الأدبية الشعر.
-
تطور الأدب: يكون الأدب في بدء عهده ساذجًا، تلقيه السليقة بلا أصول ولا قيود، يفصح الإنسان عن
فكرته كلما جاش في صدره بعبارة أقرب إلى البساطة منها إلى الفصاحة والتأنق في التعبير،
يوردها كما توحي إليه بها طبيعته بلا تأنق ولا تنميق، بعيدًا عن الفن والتكلف.
وإن سأل سائل: ما دام الأمر كذلك، أليس الشعر أكثر تصنعًا وتعملًا من النثر، فلماذا لم يفصح البدوي عن فكره نثرًا؟
فعليه نجيب: إن النثر كان موجودًا، ولكن غير فني؛ أي لغة تخاطب، ومثل هذا الكلام لا يحفظ ولا يتناقله الناس كالشعر ليبقى، ولا كتابة وتدوين تحفظه فباد. وكما أن الشعر — كما قلنا — ضرب من الغناء، والأغاني طويلة الأعمار، فلذلك أبدى البدوي أدبه بصورته المنظمة التي ندعوها شعرًا، يتناشدها الناس في مجالسهم، ولذلك قالوا: الشعر ديوان العرب.
أجل إن الشعر هو الحافظ الأمين لآداب الأمم القديمة؛ كاليونان في إلياذتهم، والعبران في توراتهم … إلخ.
وقد مرَّت على الأدب أطوار عديدة صقلته وهذَّبته ونوَّعته، فوصل إلينا في أرقى أشكاله. والأدب نوعان: إنشائي ووصفي.
- (١) الأدب الإنشائي: ويسميه الإفرنج أدب قوة، وهو الكلام الذي ينشئه صاحبه نظمًا ونثرًا، وهو الأدب
الحق الصرف.
فالأدب الإنشائي يتأثر بالبيئة والعصر، فهو مرآة العصر والبيئة، يتطور بتطورهما، وفيه القديم والجديد.
والأدباء قسمان: قسم أدبه قطعة من روحه، فهو قوي الشخصية جبارها، لا يهمه غضِبَ الناس أم رضوا، فهو على حد قولهم: قل كلمتك وامشِ.
وقسم يهمه رضا الجمهور، يفني شخصيته فيهم ولا يفنون فيه، فهو يمثلهم ولا يمثل نفسه بشيء.
فالأدباء عمومًا تلتمس شخصيتهم فيما يكتبون ويؤلفون، بخلاف العلماء، فإنك لا تلمس شخصيتهم فيما خطته أيديهم.
- (٢) الأدب الوصفي: يتناول الأدب الإنشائي شرحًا وتحليلًا وتاريخًا، بل هو النقد بعينه.
إن الأدب الوصفي هو ما نسميه تاريخ الآداب، فبينما الأدب الإنشائي فن كله يكاد يفسده العلم إن دخل فيه، نرى الأدب الوصفي يكاد يكون علمًا كله أو مزيجًا من العلم والفن، بل البحث والذوق. الأدب الوصفي قديم في كل الأمم التي كان لها أدب إنشائي ومدنية زاهرة.
أنشأ الأدباء أولًا بلا علم ولا فن كما تقدم، ثم ارتقى الناس فجاءوا يضعون القيود والأصول للأدب مستنتجينها من أقوال الأقدمين الغريزية، فما رأيت أعظم من محبة الناس للقيود والتقاليد، والقوانين في كل شيء ولكل شيء.
فالأدب اليوناني كان في أول عهده فنًّا كله، ولم يكن الجمع والترتيب واستنباط النظريات ووضع الأصول والقواعد للنقد والبيان إلا في القرن الرابع، وكذاك فعل الرومان، وكذا فعل العرب.
أنشأ الإسلاميون والجاهليون وبعض العباسيين، ثم استنبط العباسيون المتأخرون الأصول والنظريات.
فالجاحظ والمبرد وابن قتيبة وابن سلام أدباء وصفيون.
- (١) الأدب الإنشائي: ويسميه الإفرنج أدب قوة، وهو الكلام الذي ينشئه صاحبه نظمًا ونثرًا، وهو الأدب
الحق الصرف.
-
تاريخ الأدب: إن تاريخ الأدب علم قديم وليس علمًا متكلفًا، بل هو كغيره من العلوم والفنون متأثر بكل
ما يؤثر بالحياة البشرية، فهو يتطور ويتغير وينحط ويرقى.
كان يفهم بكلمة أدب في أطواره العديدة: مأثور الكلام من شعر ونثر، ثم تُوسِّع في هذا الموضوع ودخل فيه علوم عديدة خاصة كالبلاغة والنقد البياني، ثم عمَّ علومًا كثيرة، ثم تقلص بعد التمدد وعاد هذا التحديد إلى ما نفهم به اليوم: مأثور الكلام نظمًا ونثرًا.
ولِتذوُّق الأدب وتفهُّمه، على الأديب أن يلم بتاريخه، وتاريخه هذا يعين الطالب على فهمه بدون عناء وتعب؛ أي إنه يكفيه مئونة البحث والتنقيب في الكتب الأدبية التي تعد بالمئات، وقصارى الكلام: إن تاريخ الأدب «قادومية» أقرب الطرق للمتأدبين.
وتاريخ الأدب متصل بالأدب كل الاتصال؛ أي إنه لا يستطيع غير المتأدب أن يكتب في تاريخ الأدب، بخلاف بقية التواريخ، فقد يكتبها ويدونها ويفهمها من ليس له علاقة بالموضوع.
-
الأدب العربي: مر الأدب العربي الذي ندرسه بأطوار عديدة؛ منها الطور الجاهلي، ولم يصل إلينا من هذا
الطور إلا قصائد تمثل لنا حياة الجاهليين من كل مناحيها، فما تأثروا به أكثر وصفوه أكثر.
أما النثر فلم يكن منه شيء كما سبق الكلام، إلا أمثال تبين لنا ضروب الحياة وألوانها،
فالنثر الفني كان معدومًا، ولا أظن سجع الكهان مما يعتد به.
ثم الطور الإسلامي الذي تأثر كثيرًا بالدين الجديد، ثم بحضارات متعددة هضمها العرب وألَّفوا منها حضارة خاصة بهم.
ليس الآن مجال البحث عن الأدب الجاهلي أو الإسلامي، إنما سنفرد لكل منهما بابًا خاصًّا فيما بعد، أما الآن فنقول كلمة عامة عن تطور الأدب العربي وتأثره بغيره من آداب الأمم عندما بسط العرب عليهم أجنحة سلطتهم وفتوحهم.
ليس في الجاهلية فلسفة تستحق أن تسمى مذهبًا، فما حكمتهم التي نلمحها في أشعارهم إلا خطرات أفكار تعرض لكل مفكر في الحياة وشئونها، ولكننا — نحن العرب — نغالي بكل شيء، حتى قلنا إن المعري عرف مذهب دروين؛ لأنه قال:
والذي حارت البرية فيهحيوان مستحدَثٌ من جمادوإنه خبير بعلم الفلك كعلماء هذا العصر لقوله:
ولنار المريخ من حدثان الدهرمطفٍ وإن علت باتقادوالثريا رهينة بافتراق الشملحتى تعد بالآحادوإنه تنبأ عن الطيارات والغواصات لأنه قال:
أقلقتم السابح في لجةورعتم في الجو ذات الجناحفالشعر الجاهلي ليس بمتنوع المواضيع ولا غزير المعاني، بل هو نغمة واحدة، قليل الابتكار والتنوع. وقد تصرَّف في الشعر وأبوابه من جاء بعدهم من الشعراء الأمويين والعباسيين، ومَن جاء بعدهم حتى عصرنا هذا، فتطور الشعر بتطور العصور.
وسنقول كلمة في آداب الأمم التي تأثر بها الأدب العربي من الجاهلية حتى يومنا هذا.
-
الأدب الفارسي وتأثيره: يظهر أثره واضحًا جليًّا في شعراء العرب الفرس، فكثيرون من الفرس دانوا بالدين الإسلامي
عندما غلبهم العرب على أمرهم فتعرَّبوا، ومن هؤلاء ظهر شعراء وأدباء كثيرون تركوا آثارًا
ملموسة في خيالنا ولغتنا.
فشعراء العرب الفرس ألفاظهم عربية، وتراكيبهم وأوزانهم أيضًا، أما خيالهم ومعانيهم وروحهم ففارسية، وفي شعر أكثرهم التسلسل المنطقي المكتسب من السلالة.
أما اللغة، فعندما افتتح العرب بلاد فارس لم يكن في لغتهم غير ألفاظ بدوية صحراوية دعت إليها حالتهم الاجتماعية، فاضطروا أن يأخذوا أسماء عديدة لمسميات شتى لم تكن عندهم في بداوتهم، فعمدوا إلى لغة فارس أقرب الدول إليهم فأخذوا منها ألفاظًا لا تحصى، ولا بد من أن يكونوا تأثروا بالتعابير كما تأثروا بالألفاظ.- الحكمة: واقتبس العرب حكمًا كثيرة من الفرس؛ لأنها قريبة من العقل العربي الذي لا يحب البحث العميق.
- الغناء: أخذ العرب كثيرًا من الأنغام الفارسية
ووقَّعوا عليها شعرهم العربي، ثم تبع ذلك صورة مجالس الغناء والاجتماع لسماعه، وقد
كانت مجالس الغناء مجالس مساجلات أدبية يُعرَض فيها خير الشعر وينقد.
ثم تسمية الندماء واحتجاب الخلفاء عنهم بستارة جريًا على عادة ملوك الفرس، ثم آل الأمر إلى حضور الخلفاء مع الندماء حتى التجرد.
- أسلوب الكتابة: وتأثر العرب بأسلوب الكتابة الذي أنشأه عبد الحميد الكاتب وجرت عليه «مدرسته» فتأثر بذلك كل أصحاب الأساليب بعده.
-
الأدب اليوناني: تأثر الأدب العربي بالفلسفة اليونانية أكثر من الأدب؛ لأن العرب بعد الإسلام كانوا أميل
إلى الدين منهم إلى العلم والأدب؛ ولهذا كان للأدب الفارسي تأثير أكبر من تأثير الأدب
اليوناني في الأدب العربي.
من أسباب ذلك تقيُّد العرب بخطط القدماء، وامتزاجهم بالفرس وتذوقهم عادتهم، بعكس ذلك بُعدهم عن اليونان، فلم ينظروا طرق حياتهم وألوانها، كما أن تعاليم اليونان الدينية كانت تخالف كل المخالفة دين العرب. وكذلك نظمهم السياسية والاجتماعية، فلهذا نرى أثر الأدب اليوناني أضعف من أثر الأدب الفارسي في الأدب العربي.
- آثاره: أما الآثار اليونانية في الأدب العربي
فهي:
- (١) كلمات أخذها العرب من اليونانية.
- (٢) ما كان من أثر في الشعر لشعراء النصرانية في الإسلام؛ كالأخطل والقطامي.
يقول الأب لامنس: إن أثر النصرانية في ديوان الأخطل أثر ضعيف، ونصرانيته
نصرانية سطحية ككل العقائد الدينية في البدو.
وتأييدًا لقول العلامة نذكِّر القارئ الكريم بأن الأخطل طلَّق زوجته، وهذا غير جائز في النصرانية، ولا نظن أن رواية تأديب القسيس له عندما كان يسكر إلا رواية ملفقة.
- (٣) الحِكم اليونانية، عُني بنقلها السريان قبل العرب، فنقلوا منها شيئًا كثيرًا، ثم أخذها العرب لاتفاقها مع ذوقهم الأدبي.
- آثاره: أما الآثار اليونانية في الأدب العربي
فهي:
-
السريان: إن أثر السريان في اللغة غير قليل؛ فأصول النحو والصرف صنَّفها العرب على المثال
السرياني؛ لأن اللغتين شقيقتان، والسريان أغنوا اللغة العربية بما نقلوا إليها من علوم
اليونان وآدابهم وآداب غيرهم من الأمم، ومن ينقل مثل هذه العلوم والآداب إلى اللغة يُدخِل
معها إلى اللغة التي يترجم إليها ألفاظًا وأساليب لا يجد ما يناسبها في اللغة المترجم
إليها، ولا سيما إذا كانت كاللغة العربية في أول عهد حضارتها.
فالثقافة اليونانية انتشرت في العراق والشام والإسكندرية على يد السريانيين، فمن الخطأ أن نعتقد أن العرب كانوا بعيدين عن الاختلاط بسواهم قبل العصر العباسي.
والفلسفة اليونانية دخلت الإسلام عن طريق كتب هؤلاء النصارى بواسطة المعتزلة والحكماء والصوفية، وعنهم أخذت جماعة إخوان الصفاء جلَّ أفكارهم.
فالسريان قاموا بنشر الفلسفة اليونانية؛ وخاصة المذهب الأفلاطوني، وقد كانت اللغة السريانية لغة الأدب والعلم لجميع كتَّاب النصرانية في أنطاكية وجوارها، وأنشئت في الرها ونصيبين وجندي سابور وغيرها مدارس دينية كانت تعلَّم فيها اللغة السريانية واليونانية معًا، وكانت السريانية أيضًا لغة الوثنية في حرَّان، وظلت هذه مركزًا للديانة الوثنية والثقافة اليونانية إلى ما بعد الإسلام، وهؤلاء الوثنيون الذين نعنيهم هم الصابئة.
ترجم السريان أكثر مما ألَّفوا، فأغنوا الأدب العربي بما ترجموه، ولا نزال نلمح أثر لغتهم في الشعر العربي العباسي؛ كقول الشاعر العباسي بساقٍ سرياني:
فقال «آزال بشينو»١ حين ودَّعنافقلت والله زلنا عنك بالشينلم يبتكر السريان فيما كتبوه، وشعرهم أكثره ديني؛ لأن علماءهم رهبان.
فاللغة السريانية حفظت بعض الكتب اليونانية التي فُقد أصلها، كما أن ترجمتهم عن اليونانية أساس علوم المسلمين.
لقد نقل السريان العلوم عن اليونانية بأمانة، أما الإلهيات فحوروها بما يتفق مع المسيحية، وكذلك فعل المسلمون فيما بعد فيما يخالف تعاليم الإسلام.
ولم يترجم السريان عن اللغة اليونانية وحدها، بل ترجموا أيضًا عن اللغة الفهلوية، وفي جملة ما ترجموه «كتاب كليلة ودمنة».
لقد كان هؤلاء السريان خدمة لعلم حقيقة في العصر الإسلامي، وقد أدوا بذلك خدمة جلى للعرب، فكانت مدارسهم تهتم بنشر الثقافة، ودخلها كثير من أبناء المسلمين، فعلموهم العلوم العالية، تدلنا على ذلك تلك الفتوى التي أفتى بها رجال الدين النصارى في ذلك العهد، وإليك تلك الفتوى كما جاءت في كتاب فجر الإسلام للدكتور أحمد أمين:يحلُّ لنا أن نعلِّم أبناء المسلمين التعليم العالي.
هذه هي العناصر التي يتألف منها الأدب العربي في عصوره القديمة: الجاهلي والأموي والعباسي، أما تطوره واصطباغه بصبغة النهضة الجديدة، فسنفرد له بابًا خاصًّا عند بلوغنا الكلام عن عصر الانبعاث.
وكذلك سنفعل حين نبحث أدبنا الغربي، ونعني به الأندلسي.