البترو-إسلام
حين ظهر الإسلام في أرض الجزيرة العربية قبل أربعة عشر قرنًا كان مهد الإسلام في فقر مدقع، وكانت أرض الأنبياء جدباء قاحلة؛ ومن ثم فقد كانت جوانب كثيرة من سير الأنبياء، كما روتها الكتب المقدسة، تتناول موضوعات متعلقة بصعوبة الحصول على المأكل والمشرب والمرعى والمأوى.
وعندما هتف أبو الأنبياء: رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ كانت صيحته هذه تعبيرًا عن الوضع الذي وجد فيه الأنبياء أنفسهم، والظروف التي عملوا فيها على تبليغ رسالتهم.
وكان الحج، بوصفه ركنًا من أركان الإسلام، يستهدف تقوية المشاعر الدينية عن طريق الجمع بين المسلمين، عبر الأجيال المتلاحقة، في الجو الروحي ذاته الذي شهد بزوغ عقيدتهم، وتأكيد الروابط بينهم عن طريق ربطهم بمركز واحد هو «الكعبة». ولكن من المؤكد أن العامل الاقتصادي كان له دوره الأساسي في صميم العقيدة ذاتها؛ إذ كان من أهم أهداف الحج تخفيف الفقر عن سكان هذه الصحراء القاحلة، وإخراج أهلها من عزلتهم، حين تصبح أرضهم، خلال فترة معينة من كل عام، ملتقًى للمسلمين من كافة أرجاء الدنيا.
ومن المسلَّم به أن الفقر كان من أقوى الحوافز على خروج المسلمين من ديارهم في الجزيرة العربية، محمَّلين بكل قيم الخشونة والتقشف والبداوة، وبكل الحماسة التي بعثها في نفوسهم الدينُ الجديد؛ لكي يواجهوا أعتى الإمبراطوريات القديمة، ويقهروها بفضل خشونتهم ونقائهم العقيدي، ويكوِّنوا دولة مترامية الأطراف، ويبنوا حضارة فتية مزدهرة، في زمن يعد مذهلًا بجميع المقاييس.
ولكن هذه المعادلة التي ارتبط فيها مهد الإسلام بالفقر والتقشف والخشونة، انقلبت مرة واحدة في القرن العشرين، وكان انقلابها راجعًا إلى صدفة طبيعية جعلت مهد الإسلام يتحول فجأة ليصبح موطنًا لأعظم ثروة كامنة في باطن تلك الأرض الجدباء القاحلة نفسها. وتحولت الصدفة الطبيعية إلى مفارقة حضارية جمعت بين الأرض التي ظهرت فيها أديان الفقراء، وبين ذهبٍ يتدفَّق من باطن هذه الأرض ذاتها في أمواج لا نهاية لها. وكانت هذه المفارقة الحضارية تعني تغييرًا جذريًّا في أمور كثيرة.
إن بترول الشرق الأوسط لم يظهر في مجتمعات زراعية تخضع لحكومات مركزية منذ ألوف السنين، مثل مصر، ولم يظهر في مجتمعات تجارية نشطة متحركة مثل سوريا ولبنان، وإنما ظهر في مجتمعات صحراوية قبلية تسيطر عليها التقاليد الموروثة، وضمنها الإسلام، سيطرة كبرى؛ أي إنه ظهر في المناطق التي كان للإسلام التقليدي فيها أعظم التأثير.
في مثل هذا الوضع يستطيع المرء أن يتصور حدوث أحد احتمالين؛ فإما أن توظَّف الثروة البترولية من أجل الإسلام، وإما أن يوظَّف الإسلام من أجل الثروة البترولية. وبطبيعة الحال فإن الواقع الراهن يثبت بوضوح قاطع أن الاحتمال الثاني هو الذي تحقق، فبدلًا من الاحتفاظ بنقاء الإسلام واستخدام الثروة الطائلة الجديدة من أجل توطيد أركانه وتوسيع انتشاره وتحقيق نهضة شاملة للعالم الإسلامي المترامي الأطراف، سار التاريخ العربي المعاصر في الاتجاه المضاد.
فقد أخذت تتشكل فيه معالم نوع خاص من الإسلام، أعتقد أن أفضل تسمية تنطبق عليه هي «البترو-إسلام»، هدفه الأول والأخير حماية الثروة البترولية، أو، على الأصح، نوع العلاقات الاجتماعية القائمة في المجتمعات التي تمتلك النصيب الأكبر من تلك الثروة. وكما هو معلوم، فإن هذه العلاقات يسودها مبدأ سيطرة القلة على الجانب الأكبر من تلك الثروة.
والأمر المؤكد هو أن الثروة البترولية العربية تستطيع، في ظل تنظيم رشيد لأوجه توزيعها واستثمارها، أن تتجاوز نطاق مجتمعاتها الخاصة وتمتد إلى كافة البلدان العربية الأخرى، وربما إلى معظم البلدان الإسلامية غير البترولية بدورها، ولكن ما حدث في ظل الأوضاع القائمة هو أنها لم تنجح في إيجاد حلول طويلة الأمد حتى داخل مجتمعاتها ذاتها، وظلت، في معظم هذه المجتمعات، امتيازًا للأقلية على حساب الأغلبية، وللأجيال الحاضرة على حساب القادمة.
وفي سبيل الإبقاء على هذا الوضع الجائر، كان أسهل الأمور هو استغلال المشاعر الدينية لدى الجماهير من أجل نشر نوع من الإسلام لم يكن له نظير طوال تاريخ الأمة الإسلامية؛ هو إسلام الحجاب واللِّحَى والجلباب القصير، وتوقُّف العمل في مواعيد الصلاة، وتحريم قيادة المرأة للسيارات. في هذا النوع من الإسلام ينصبُّ الكفاح على منع الاختلاط بين الرجل والمرأة، وتلعب التحريمات والمخاوف الجنسية دورًا يتجاوز أهميتها في الحياة بكثير، ويصبح أداء الشعائر غاية في ذاته، بغض النظر عن المضمون السلوكي والأخلاقي والاجتماعي الكامن من ورائه. وباختصار، يقوم هذا الإسلام البترولي بعملية فصل تام بين الدين وحياة الناس الفعلية، وبين الإيمان ومشاكل الفرد أو المجتمع.
فهل كان ظهور هذا الإسلام في أرض البترول بالذات، وانتشاره منها إلى سائر الأقطار العربية، مجرد مصادفة، وهل هو مظهر للتخلف الفكري فحسب، أم أن هناك عوامل أخرى أشد خفاءً، وأقوى تأثيرًا؟ وما هو بالضبط دور البترول في ظهور هذه الصيغة للإسلام؟
إن البترول، كما نعلم، ظاهرة لها طرفان: دول منتجة للبترول (وهو تعبير شائع، وإن لم يكن معبرًا عن واقع الحال؛ لأن معظم هذه الدول، في العالم الإسلامي، لا تنتج شيئًا، بل يُنتج لها البترول؛ لذلك كان التعبير الأدق هو: دول يُنتج في أراضيها البترول)، ودول مستهلكة للبترول. وإني لأزعم أن كلًّا من هذين الطرفين له مصلحة أساسية في ظهور هذا النوع من الإسلام؛ فالدول التي يُنتَج البترول في أراضيها تسود الكثير منها أنظمة في الحكم يفيدها إلى أقصى حد أن يُختزل الإسلام إلى هذه الشكليات؛ حتى تغيب عن أذهان الناس مشكلات الفقر، وسوء توزيع الثروة، والنمط الاستهلاكي للاقتصاد، وتبديد الفرصة الأخيرة للنهوض الشامل في المجتمعات البترولية. والدول التي تستهلك البترول واثقة من أن تدفُّق هذه المادة الحيوية يصبح مضمونًا حين تكون عقول الناس في البلاد البترولية مغيبة في الشكليات وغارقة في نصوص فقهاء العصور الغابرة وشُرَّاحها ومفسريها. فهل يحلم بلد مثل أميركا بوضع أفضل من ذلك الذي تصبح فيه الأجيال الجديدة من أبناء البلدان البترولية في رعب دائم من عذاب القبر وثعابينه التي تنهش كل مَن يجرؤ على التساؤل أو النقد أو التمرد على القيم والأوضاع السائدة؟ وهل يحلم الغرب، ومعه إسرائيل، بوضع أفضل من ذلك الذي يؤكد فيه أهم الأعضاء في أكثر الجماعات الإسلامية فاعلية ونشاطًا، أن مشكلة القدس والصراع ضد إسرائيل مؤجَّلان إلى حين قيام الدولة الإسلامية (كما ورد بالفعل في محاضر التحقيق مع مجموعة الإسلامبولي)؟ وهل يحلم الطرفان، من منتجين ومستهلكين، بوضع أفضل من ذلك الذي تسيطر فيه على الأجيال الجديدة جماعات لم تصدر عنها كلمة نقد واحد ضد سوء توزيع الثروة البترولية وجنون الاستهلاك في بلدانها؟
لا جدال في أن الارتباط واضح بين هذا الإسلام البترولي ومصالح الدول التي تستهلك بترول العالم العربي الإسلامي، وخاصةً إذا علمنا أن إقبال المجتمعات الإسلامية البترولية على شراء سلع الدول الصناعية يزداد يومًا بعد يوم.
وهكذا تكتمل حلقات المؤامرة؛ فالإسلام البترولي يُبعد أذهان الشعوب التي تدين به عن المشاكل الداخلية والخارجية لمجتمعاتها، ولكنه لا يمس مصالح الدول الرأسمالية الكبرى في البترول، وهو يدعو الناس إلى الزهد في متاع الدنيا والتدبر في ما ينتظرهم بعد الموت، ولكنه لا يمس ميولهم الاستهلاكية التي تصل إلى حد السفاهة، والتي تسهم في إدارة عجلة الإنتاج الاقتصادي في الدول «الصليبية»، كما يلقبها وعاظ هذا الإسلام، ولا يجد الإسلام البترولي أي تناقض بين دعوته إلى شمول الشعائر ونشرها على كافة المستويات، وخصوصية الثروة والنفوذ وفردية القرار السياسي. إنه، باختصار، إسلام يوظف لحماية المصالح البترولية للقلة الحاكمة، وحلفائها من الدول الأجنبية المستغلة.
وفي مقابل هذا كله نستطيع أن نتصور صيغة أخرى للإسلام تأخذ على عاتقها توظيف الثروة البترولية من أجل تحقيق المبادئ التي تعبر عن أسمى ما في العقائد الدينية، كالعدالة والمساواة والمشاركة. هذه الصيغة للإسلام تشكل تحديًا لعقول المسلمين المعاصرين وخيالهم؛ ذلك لأنهم يواجهون الآن موقفًا جديدًا لم يكن لهم به عهد من قبل، موقفًا تجتمع فيه العقيدة مع الثروة، بحيث يصبح التحدي الحقيقي أمامهم هو كيفية الانتفاع من الثروة، من أجل المحافظة على نقاء العقيدة وإحداث تحول حاسم إلى الأفضل في حياة الناس.
لكن هذا التصور لا يخرج، في الوقت الراهن، عن دائرة الأحلام، أما الواقع فيشهد بأن العقبة الكبرى في وجه النهضة الحقيقية للشعوب التي تملك ثروة من أهم ثروات العالم هي البترو-إسلام. فإذا سمعنا الوعاظ والدعاة يحذروننا، كل يوم، من مؤامرة الغرب المسيحي على الإسلام، فلتقل لهم إنه ليس أحب إلى هذا الغرب، الذي هو رأسمالي واستغلالي قبل أن يكون مسيحيًّا، من أن ينتشر إسلام البترول هذا ويصبح هو العقيدة المسيطرة على شعوب العالم الإسلامي كله، وليس أبغض إلى هذا الغرب من ذلك اليوم الذي يتمرد فيه هذا العالم على إسلام البترول ويجعل من تلك الثروة الهائلة وسيلة للارتقاء بحياته وتحقيق مزيد من النقاء لعقيدته.