العالم المعاصر عند الشيخ شعراوي
هذا المقال سباحة ضد التيار، والتيار الذي أتناوله ها هنا جارف ساحق، يكتسح كل ما يقف أمامه من حواجز أو سدود؛ ذلك هو التيار الديني الذي أصبح منذ السبعينيات يمتلك قوة هائلة على الساحة الشعبية وفي المجالس النيابية وفي الأوساط الثقافية، والذي أثبت حضوره حتى في عالم الاقتصاد والمال. وقد اخترت أن أسبح، لا ضد فكر هذا التيار فحسب، بل ضد أقوى ممثليه وأوسعهم انتشارًا وأكثرهم شعبية؛ أعني الشيخ محمد متولي شعراوي. ولعل الكثير من القراء يذكرون ما حدث حين تصدى له مفكر كبير هو الدكتور زكي نجيب محمود، وأديب مشهور هو يوسف إدريس، بشيء من النقد الذي صيغ بأشد العبارات رقة وتهذيبًا، فقد هوجم المفكر والأديب من جماهير القراء، ومن مريدي الشيخ ومحبيه، هجومًا لا أظن أن أحدًا منهما قد عانى مثله طوال حياته. وانهالت عبارات القدح والسباب على رأسيهما؛ ذلك لأن الشيخ شعراوي قد أصبح، شئنا أو أَبَيْنا، إمامًا للعصر، ولم يعد لفظ «الإعجاب» كافيًا للتعبير عن مشاعر ملايين الناس نحوه، ولولا أن الإسلام لا يعرف قديسين لقلت إن علاقة هؤلاء الناس به أقرب إلى التقديس.
لقد عاش الشيخ شعراوي فترة طويلة من حياته يمارس مهنة التعليم في تواضع، ولا يتجاوز تأثيرُه نطاقَ تلاميذه المقربين، وقد قضى الجزء الأكبر من حياته التعليمية في مصر ثم في المملكة العربية السعودية، ومن السعودية عاد إلى مصر في أوائل السبعينيات، أعني في الفترة نفسها التي تغلب فيها السادات على خصومه من السياسيين وانفرد بالحكم، وبدأ يهيئ الأذهان ويعد العدة لتغيير أساسي في سياسته. وقد كانت لهذا التغيير الذي اعتزم السادات إدخاله عناصر كثيرة، أصبحت الآن معروفة، ولكن يهمنا في سياق هذا الحديث عنصران أساسيان: الأول إحداث مزيد من التقارب مع البلاد البترولية الغنية، والثاني إعادة بناء الحركات الإسلامية التي قُمعت في عهد عبد الناصر قمعًا قاسيًا، من أجل اتخاذها سندًا له في توجهاته الجديدة، واستخدامها في ضرب التيارات التقدمية واليسارية والديمقراطية من جهة، والتيار الناصري من جهة أخرى.
في هذا الوقت بالذات عاد الشيخ محمد متولي شعراوي إلى مصر، ولمع نجمه كالبرق الخاطف بمجرد عودته، فقد استضافه أحمد فراج، ذلك الإذاعي المخضرم الذي جمع في مركَّب فريد من نوعه بين الاندماج في الأوساط الفنية الشديدة التحرر والتخصص في البرامج الدينية الشديدة الوقار، والذي يشغل اليوم منصبًا مرموقًا في اتحاد الإذاعات العربية بالمملكة السعودية، استضافه في برنامجه الناجح «نور على نور»، ذلك البرنامج الذي كان نقطة البدء في شهرة عدد غير قليل من النجوم اللامعة، الذي أصبح بعضهم فيما بعد وزراء وأصحاب مراكز مرموقة، وكانت نقطة البداية في تقديمهم إلى الجماهير الواسعة هي هذا البرنامج على وجه التحديد.
وسرعان ما لمع الشيخ الكبير وتصاعدت شهرته بسرعة الصاروخ، وصحيح أن الظروف الموضوعية التي أوضحناها من قبل كانت عناصر أساسية تفسر ظهور الشيخ وصعوده في فترة محددة من تاريخ مصر والوطن العربي، ولكن صفاته الشخصية ساعدت إلى أكبر حد على شغف الناس به وإقبالهم على برامجه وذيوع صِيته في كل أرجاء الوطن العربي في أقصر وقت؛ فلديه شخصية جذابة، وهو يتمتع بحيوية هائلة تتمثل في تلك الحركة الدائبة التي تصاحب كلماته، وتزيد من قوة تأثيرها، والأهم من ذلك تبحره في علوم التفسير والحديث وغيرها من العلوم الفقهية، وذكاؤه الحاد وبديهته اللماحة.
وحين يجد المرء أن كل كلمة ينطقها تسجَّل على شرائط تُباع بعشرات الألوف، وتُطبَع في كتب توزع في الأقطار العربية كلها، وتَنفَد فور صدروها، وحين يجد أن الناس، في كل بلد يزوره، تتزاحم على الأماكن التي يتحدث فيها وتبهرها كلماته وتسحرها عباراته، يكون من الصعب عليه أن يقاوم إغراء الخروج عن ميدانه الأصلي والخوض في كافة الميادين التي ينشغل بها العالم وتحار بشأنها عقول البشر. وهذا ما أصبح الشيخ شعراوي يفعله بعد أن طبقت شهرته الآفاق: فهو في أحيان غير قليلة لا يكتفي بمهمة المفسر المتعمق والخطيب الذكي، بل يتقمص شخصية العالم الفلكي، والمفكر الأخلاقي، ورجل السياسة والاقتصاد. وهنا، حين يتجاوز الشيخ حدود موضوعه الأصلي ويخوض ميادين مثيرة للجدل، يكون من حق المرء، بل من واجبه، أن يدخل معه في مواجهة حاسمة.
وسأكتفي بضرب أمثلة سريعة، كلها مستمدة مما سمعناه أو قرأناه للشيخ خلال شهر رمضان الأخير. فهو يعرض في أحد أحاديثه التليفزيونية رأيه في أخلاق المرأة والعلاقة بينها وبين الزي الذي ترتديه، فيقول إن المرأة يجب أن تكون مستورة حتى لا يشك الرجل في بنوة أبنائه منها!
وهكذا يقرر الشيخ، ببساطة شديدة، أن المرأة المستورة أو المحجبة هي وحدها التي تنجب لزوجها أبناء يكون واثقًا من أنهم أبناؤه، أما إذا لم تكن كذلك، فإن الأمر يظل موضع شك!
وحين يعرض الشيخ شعراوي نظرية أخلاقية كهذه، لا يملك المرء إلا أن يشعر بالألم والحزن على نوع التفكير الذي يوصل إلى مثل هذه النتائج، فمن وراء هذا الكلام تكمن نظرة إلى المرأة تراها مصدرًا دائمًا للشر والغواية، لن يستقيم أمره ولن ينصلح حاله إلا إذا حُجِب عن أعين الناس. أما لو ظلت المرأة سافرة فإن الشر الكامن فيها، والغواية التي تثيرها في الآخرين، قد توصلها إلى حد إنجاب أطفال من غير زوجها. وهكذا تُختَزل المرأة كلها إلى عنصر واحد، هو الجسد والجنس، وننسى المرأة العاملة والمرأة المشتغلة بالعلم، التي تُزامل الرجلَ في نِدِّيَّة وإخاء دون أن يطل شبح الجنس في علاقتهما. مثل هذه النظرة إلى المرأة تبدو في الظاهر كما لو كانت دعوة إلى الستر والفضيلة، ولكنها في أعماقها وباطنها لا ترى المرأة إلا موضوعًا لشهوة الرجل، والامتداد الطبيعي لها هو ما نراه عند كثير من معتنقي التيارات الإسلامية الحالية، من تحريم للسلام باليد بين الرجل والمرأة، وكأن السلام ليس سلوكًا اجتماعيًّا له وظيفته في تيسير التعامل بين البشر وزيادة الأُلفة بينهم، وإنما هو تلامس بين جسدين مثير للرغبات والشهوات، فأي احتقار للطبيعة البشرية أشد من ذلك الذي يكمن وراء هذا التحريم، وأية نظرة إلى الإنسان تفوق هذا اللون من التفكير وحشية وحيوانية؟
أما في ميدان العلم، فقد كانت للشيخ صولات وجولات، سأكتفي منها بنموذج واحد استمعنا إليه جميعًا في شهر رمضان الحالي، وهو تفسيره الخاص، في اليوم الأول من الشهر، للآيات المتعلقة بالسماوات والأرض، والنظريات الفلكية التي عرضها علينا عرضًا مفصلًا، وحدد فيها علاقة السماء الأولى بالثانية، والثانية بالثالثة، وهَلُمَّ جَرًّا، ومن هم سكان السماء الأولى وسكان السماوات التالية، إلى آخر هذا الحديث الطويل الذي خاض فيه الشيخ موضوعًا حسمته العلوم الفلكية والطبيعية منذ عهد بعيد، وإن كان لا يزال يصر على أن يقدمه إلى الملايين من سامعيه ومحبيه من خلال المنظور العلمي للعصور الوسطى. والأمر الملفت للنظر في هذا الحديث هو حرصه الدائم على الإقلال من شأن العقل والعلم الإنساني، واستمتاعه بتأكيد ضعف النظريات العلمية البشرية وتفاهتها. ويصل هذا الموقف إلى ذروته المضحكة المبكية حين يقول الشيخ بتأكيد قاطع، يوافق عليه مريدوه الجالسون أمامه في خشوع، إن علوم الفضاء وتكنولوجيا الأقمار الصناعية كلها لا تساوي شيئًا، وإن الإنسان الذي اخترع «ورقة الكلينكس» أو عود الكبريت قد أفاد البشرية بأكثر مما أفادها ذلك الذي اخترع صاروخًا يصل إلى القمر!
هنا لا يملك المرء إلا أن يتساءل: لمصلحة من يقال هذا الكلام في بلاد تكافح من أجل اللحاق بركب العلم والتكنولوجيا، وتسبق الزمان لكي تأخذ لنفسها مكانًا في عالم يزداد تحكم المعرفة العلمية فيه يومًا بعد يوم؟ وماذا يكون وقع هذه الكلمات على أسماع الأجيال الشابة الجديدة، التي تعيش أعداد كبيرة منها في أسر مفتونة بالشيخ ومقبلة لكل حرف يقوله وكأنه كلام لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه؟ ألا يدري الشيخ أن مستقبلنا مرهون بالعلم؛ بكشف طاقة بديلة عن البترول بعد أن ينفد، وابتكار طرق جديدة لإنتاج الغذاء نحقق به الاكتفاء لأنفسنا ونحمي أبناءنا من الجوع، والوصول إلى أساليب اقتصادية لبناء المساكن وشق الطرق وتعمير المدن؟
إن الهجوم على العقل البشري واتهامه بالقصور أصبح سمة من أبرز السمات المميزة للدعوات الإسلامية المعاصرة. ومن الواضح أن كثيرًا من الدعاة يتصورون أن الوحي الإلهي لن تصبح له مكانته في نفوس الناس إلا على حساب العقل البشري، بحيث يتعين عليهم أن يحطوا من شأن العقل حتى يؤمن الناس بمكانة الوحي. وتلك في رأيي أسوأ أساليب الدعوة، وخاصةً في هذا العصر الذي أصبح فيه العلم وغيره من منجزات العقل البشري «القاصر» حقيقة لا يملك أن يتجاهلها مخلوق. ألم تكن بعض منجزات هذا العلم هي التي أذاعت شهرة الشيخ، ونقلت أفكاره على أوسع نطاق عن طريق تكنولوجيا الطباعة والإذاعة والتليفزيون والكاسيت؟ إن العقل البشري قاصر بلا شك، ونظرياته وكشوفه كثيرًا ما تتناقض أو يتضح خطؤها بمضي الزمن، ولكن عظمة هذا العقل تكمن في سعيه، برغم ضعفه هذا، إلى أن يتجاوز نفسه على الدوام، ومن المؤكد أنه نجح في ذلك إلى حد غير قليل، بدليل أنه نقلنا في قرن واحد من عصر الخيول إلى عصر الصواريخ والطائرات الأسرع من الصوت، ومن «تكنولوجيا» الحمام الزاجل إلى تكنولوجيا الترانزستور والعقل الإلكتروني والتلستار. إن عقلنا ما زال قاصرًا، هذا صحيح، وما زال يقف أمام ظواهر كثيرة، كالسرطان، عاجزًا مكتوف الأيدي، ومع ذلك فإنه يحاول، وكثيرًا ما ينجح ولو بعد حين. فمن المستفيد من هذا التنديد بالعلم والعقل، والسخرية من تلك الإنجازات العظيمة التي أسهمت فيها عقول ما زال أمامنا الكثير حتى نتعلم منها ونتمكن من إثبات وجودنا أمامها؟
لكن أهم غزوات الشيخ شعراوي، كما قرأنا له في الآونة الأخيرة، كانت في ميدان السياسة، فقد نشرت له صحيفة «الوطن» في ١٢ / ٦ / ١٩٨٤م مقالًا ضخمًا احتل صفحة كاملة، بعنوان «الإسلام يتحدى الشيوعية والرأسمالية معًا»، وقد سعدت حين لمحت عنوان هذا المقال، وقلت لنفسي: ها هو ذا الشيخ الكبير يخوض ميدان المذاهب السياسية والاقتصادية أخيرًا! ذلك لأن الشيخ كان قبل ذلك كلما سئل عن موضوع في السياسة امتنع عن الإجابة. وأذكر أن محرر إحدى المحلات الأسبوعية المصرية قد سأله، في مقابلة مشهورة، عن رأيه في اتفاقية كمب دايفيد، فكان رده أنه لا يتكلم في السياسة. وفي اعتقادي أن الامتناع التام عن معالجة الشئون السياسية، التي هي في نهاية الأمر تدبير أمور الناس وتنظيم حياتهم، يتناقض مع دعوة الشيخ، ومعه معظم الحركات الإسلامية المعاصرة، القائلة إن الإسلام دين ودنيا، وإن الإسلام لا يعرف انفصالًا بين الدين والسياسة. ويبدو أن الدين والسياسة لا ينفصلان، في نظر القطب الإسلامي الكبير، إلا عندما يكون السؤال محرجًا!
على أنني حين قرأت المقال نفسه — وقد فعلت ذلك بدقة وتمعن — وجدت عجبًا، ورأيت أن أشرك معي القارئ في النتائج التي توصلت إليها من هذه القراءة، وهي نتائج ربما أسهمت في رسم صورة أفضل للأهداف الحقيقية التي يعمل من أجلها الداعية الإسلامي الكبير، كان النصف الأول من المقال يتحدث عن الفرق بين عداء المسلمين في عهد الرسول للفرس، وعدائهم للروم، فالفرس كانوا في ذلك الحين ملحدين، والروم كانوا مؤمنين، وإن كانت عقيدتهم نصرانية؛ ومن هنا كان الروم «أقرب إلى قلب رسول الله والمؤمنين، فلما نشبت المعركة بين الروم والفرس وتمت هزيمة الروم على يد الفرس حزن الرسول وحزن المؤمنون»، أما السبب فهو أن «العداء بين الإسلام وأهل الإلحاد هو عداء في القمة، ولكن الخلاف ما بين الإسلام وما بين الديانتين العظميين فهو خلاف في تصور الإله»، أما عندما انقلبت الآية وانتصر الروم على الفرس، في الوقت نفسه الذي انتصر فيه المسلمون على المشركين في بدر، فقد «كان انتصار أهل الكتاب على أهل الإلحاد أمرًا يفرح له المؤمنون».
هل كان الشيخ يريد أن يعطينا درسًا في التاريخ، منفصلًا عن الواقع الذي نعيش فيه؟ لو كان الأمر كذلك لقلنا له: ما لنا نحن والفرس والروم، وما علاقتهم بعنوان مقالك عن تحدي الإسلام للشيوعية والرأسمالية؟ ولكن الواقع أن الشيخ يهدف إلى الكلام عن عصرنا الحاضر من خلال إسقاط ظروف هذا العصر على عصر الرسول، ومعالجة موقف الإسلام من الشيوعية والرأسمالية عن طريق الإشارة إلى موقفه من الفرس والروم، حيث يرمز الفرس «الملاحدة» إلى المعسكر الشيوعي والروم «المؤمنون، أهل الكتاب» إلى المعسكر الرأسمالي، أو إلى أميركا على وجه التحديد.
- (١)
أول دليل هو عنوان المقال، فليس من المعقول أن يكون موضوع المقال هو تحدي الإسلام للشيوعية والرأسمالية، ثم يخصص نصف المقال لكلام تاريخي عن تحدي الإسلام للفرس والروم، إلا إذا كان هناك ارتباط وثيق بين الموضوعين.
- (٢)
ولكن الدليل الأقوى هو قول الشيخ شعراوي، قبل أن يبدأ حديثه عن الفرس والروم: «لقد جاء الإسلام والعالم كهذا العالم الذي نحياه، معسكر ملحد بالله، لا يؤمن إلا بالمادة، ومعسكر مؤمن بالتقاء السماء بالأرض … واستقبل الإسلام كل أمر بما هو أهل له، استقبل الإلحاد بلا هوادة وأعلن على الإلحاد عداوة سافرة، وواجه الإسلام معسكر الذين يؤمنون بوجود الله … واستقبلهم استقبال السماحة والسلام والأمن.»
الأمر إذن واضح، والتشبيه مقصود: فالإسلام جاء في عالم كهذا الذي نعيشه الآن، عالم ينقسم إلى معسكر ملحد، وآخر مؤمن (لاحظ استخدامه للفظ معسكر، وهو نفس اللفظ المستخدم في عصرنا الحاضر لوصف الاتجاهين الكبيرين اللذين يتنافسان في العالم المعاصر)؛ وعلى ذلك فإن الآراء التي يقول بها عن علاقة الإسلام بالفرس والروم، يقصد بها توجيهنا إلى ما ينبغي أن تكون عليه علاقتنا بالمعسكرين الشيوعي والرأسمالي، أو السوفيتي والأميركي.
- (٣)
ويؤكد الشيخ مرارًا، وبتكرار ملفت للنظر (يرمي إلى تثبيت المعنى في الأذهان بقوة ورسوخ) أن عداء الإسلام لمعسكر الإلحاد الفارسي (أي السوفيت الآن) كان أقوى بكثير من «مواجهتهم» لمعسكر الروم المؤمنين من أهل الكتاب (الأمريكان الآن)، وبعد ذلك مباشرةً يقول «وإذا جاء في عصرنا الحديث وافد إلحادي يقول إن الشيوعية تنظم حركة الحياة، بينما يعجِز الإسلام عن ذلك، فلنا أن نرد على ذلك.» إذن فهو في نهاية حديثه عن الفرس والروم يربط التاريخ القديم مباشرةً بالأوضاع الحاضرة، مثلما فعل من قبل في بداية هذا الحديث.
وهكذا يظهر للقارئ، بوضوح وبلا مواربة، الهدف الحقيقي للشيخ من حديثه عن الفرس والروم. إن الرسالة التي يريد أن يبلغها إلى قرائه ومحبيه الذين يعدون بالملايين في كافة أرجاء الوطن العربي هي: لتكن علاقتكم بالسوفيت عداوة سافرة، ولتحاربوهم بلا هوادة، أما علاقتكم بالأميريكان فلا بُدَّ أن تكون «مواجهة» أقل حدة بكثير؛ لأنهم على أية حال ينتمون إلى معسكر المؤمنين من أهل الكتاب، وفي أي نزاع أو معركة ينتصر فيها الروس على الأميركان ينبغي أن يحزن المسلمون، كما فعل الرسول والمؤمنون عندما انتصر الفرس على الروم، أما لو حدث العكس، وانتصر الأميركان، فليفرح المسلمون فرحًا عظيمًا، كما فعل الرسول والمؤمنون عندما كُتب النصر للروم على الفرس.
إن الشيخ الجليل يدعونا إلى أن نحدد علاقتنا بالدول الكبرى، أو بالكتلتين العظميين، على أساس العقيدة الدينية وحدها، فما دام الشيوعيون ملحدين، فلنكن أعداء لهم بلا هوادة، وما دام الرأسماليون أو المعسكر الغربي مؤمنين بالله فإن خصومتنا لهم ينبغي أن تكون أخف بكثير، ولا بُدَّ أن ندعو لهم بالنصر على المعسكر الاخر. هكذا تُختزل الصراعات الدولية إلى مجرد مقارنة بين محتوى العقائد الدينية، أما السياسات التي يمارسها بالفعل هذا النظام الدولي أو ذاك، فمن الواضح أنها لا تهم الشيخ في شيء. وهكذا فإن زعيمة المعسكر الرأسمالي التي تزود إسرائيل بالأسلحة التي تقتل بها أبناءنا وتحرق بيوتنا وتستولي على أراضينا، ينبغي أن تظل أقرب إلى قلوبنا من السوفيت ومعسكرهم الشيوعي، الذين يؤيدونا في جميع المنظمات الدولية، وما زالوا يقطعون علاقاتهم بأعدائنا في إسرائيل ويقفون لهم بالمرصاد كلما استطاعوا إلى ذلك سبيلًا، ويقدمون لنا من الأسلحة ما أتاح لنا أن نشن ضد إسرائيل أكثر حروبنا نجاحًا في عام ١٩٧٣م. ونسي الشيخ أن المصالح التي تحدد العلاقات الدولية ليست على الإطلاق مسألة إيمان بالله أو كفر به، وليست مسألة قرب إلى القلب أو بُعد عنه، وأن الدعوة إلى تصعيد العداء مع المعسكر الشيوعي وتخفيف المواجهة مع العالم الرأسمالي ينبغي أن يُنظر إليها بارتياب شديد في الظروف الحالية للعالم العربي، وهي لا تعدو إلا أن تكون تغطية لمواقف غير وطنية، تتخذ شكلًا دينيًّا وتبرر نفسها من خلال التراث القديم بطريقة تستخف بعقول الناس وتستهين بقدرتهم على الفهم والتفكير.
وإني لأذهب إلى حد القول بأن كل من يدعو إلى تخفيف عداوتنا للمعسكر الغربي الرأسمالي بحجة أن مجتمعات هذا المعسكر من أهل الكتاب، وإلى شن حملة صليبية شعواء ضد المعسكر الاشتراكي بحجة أنهم ملاحدة، يخدم عن وعي، وليس فقط عن غفلة أو سذاجة، مصالح الغرب. فمثل هذا الداعية يعلم أن الاستعمار، الذي اكتوت منه بلادنا زمنًا طويلًا، جاء من الغرب، ويعلم أن إسرائيل ما كانت لتقوم لها قائمة، وما كانت لتتمكن من الصمود طوال ثلث القرن الأخير، ومن حشد القوة التي تفوق قوة الدول العربية مجتمعة، لولا المساندة المباشرة من الغرب، وخاصةً أميركا، كما أنه يعلم من جهة أخرى أن المعسكر الاشتراكي، بعد أن ارتكب خطأ الاعتراف بإسرائيل في أول عهدها، حيث لم تكن قد اتضحت بعد معالم الدولة الجديدة من حيث هي قاعدة للنفوذ الاستعماري الجديد تنفذ من خلالها أميركا جميع مخططاتها في منطقة الشرق الأوسط، قد عاد وكفَّر عن هذا الخطأ على شكل مساندة معنوية ومادية للعالم العربي ضد أعدائه. وهذا المعسكر لا يفعل ذلك، بالطبع، حبًّا في سواد عيون العرب، وإنما المسألة ببساطة هي أن من مصلحته إضعاف النفوذ الغربي الرأسمالي في أي مكان بالعالم، وخاصةً في المناطق القريبة منه. وفي هذه المسألة تتفق مصالحنا الحقيقية مع مصالح هذا المعسكر، على الرغم من الاختلاف العقائدي الأساسي بيننا وبينه.
فهل يحق للشيخ الجليل أن يدعو الملايين من محبيه ومريديه في كافة أرجاء الوطن العربي إلى اتخاذ موقف مع المعسكر الغربي الرأسمالي لأنه هو شبيه «الروم»؟ حسنًا، إن المعسكر الشيوعي تدخل في أفغانستان، وهذه جريمة لا بُدَّ من إدانتها، ولكن هل يعرف كم «أفغانستان» ارتكبها الغرب الرأسمالي؟ هل سمع عن عشرات الملايين الذين أبيدوا على يد الاستعمار الغربي، سلالة الروم من «أهل الكتاب» في الكونغو وأنغولا وكينيا وموزمبيق؟ أم أنه يؤيد هذه الإبادة كما أيدها رجال الدين المسيحيون الذين رافقوا الحملات الاستعمارية وبرروا فظائعها على أساس أنها تستهدف تنصير الشعوب الوثنية وجعلها «من أهل الكتاب»؟ هل يكفي أن يدخل كارتر أو ريغن الكنيسة ويستمع إلى موعظة الأحد لنقول إن علاقتنا به ينبغي أن تكون كعلاقة المسلمين بالروم في عصر الرسول، وننسى أن الممارسات الفعلية للأنظمة التي يمثلونها، في أميركا الجنوبية والوسطى والشرق الأوسط وإفريقيا وآسيا، تهبط إلى مستوى الوحوش المفترسة؟ وهل الأديان، التي نزلت كلها على أنبياء فقراء ومن أجل مؤمنين فقراء، هي شعائر رسمية يعلنها ويؤديها رؤساء الدول أو شعوبها، حتى لو تناقضت مع ممارساتهم الفعلية؟ وهل عيب الرأسمالية الوحيد هو الربا، كما هو مفهوم من كلام شيخنا الجليل؟ ألا يعلم أن الربا إذا كان يقود إلى الرأسمالية، فإن الرأسمالية تقود إلى الغزو والتسلط واستغلال الشعوب الفقيرة وامتصاص خيراتها وزرع آفة الانقلابات المتلاحقة فيها؟ إنني لن أنسى منظرًا رأيته في المكسيك، ذلك البلد الغني بثروته النفطية، هو منظر أم تحمل طفلها وتنحت قشور البطيخ الملقى في أكوام القمامة بأسنانها لكي تطعمها للطفل، فأي دين يقبل بما يفعله الجار الشمالي القوي ومخابراته المركزية الجبارة، بتلك الشعوب التعيسة في المكسيك وشيلي والأرجنتين وغرينادا، وما تفعله «فرق الموت» في السلفادور؟ وأي دين يرضى عن إحراق المحاصيل وإتلاف الأرض الزراعية لسنوات طويلة بالسموم الكيماوية في فيتنام؟ إننا لا نقول إن المعسكر الآخر ملائكة؛ إذ إن له هو الآخر سيئاته الكثيرة، ولكن الشيخ اختص معسكرًا بهجماته الثقيلة، ونسي أننا في وطن له قضية، وأن هذه القضية تحتم علينا أن نتجاوز منظور أهل الكتاب والملحدين وذكريات الفرس والروم، في علاقاتنا الدولية.
ويسهب الشيخ بعد ذلك في حديث طويل لا هدف له إلا تبرير الرأسمالية بعد إزالة الربا منها بطبيعة الحال، «لم يستبح الإسلام المال، وإلا لامتنع الذي يكدح عن إتقان عمله، ولتعطلت حركة الطموح والارتقاءات في الوجود، فإذا رأينا مثلًا عمارة تدر دخلًا كبيرًا، فعلينا ألا نحسد صاحبها … ولو أنه (يقصد الحاسد) نظر نظرة إيمانية عاقلة، لسأل نفسه: هل جاء صاحبها بالمال حلالًا أم حرامًا، ويجيب عن سؤاله بالدعوة لصاحب المال بالبركة في الحلال من المال»، «فصاحب العمارة لم يستغل أحدًا لأنه أنفق ثمنها من أجل أضعف طبقات المجتمع، وقد أعطى أجرًا لمن حفر الأرض وبناها وأدخل فيها الكهرباء، أي إن العمارة لم تَصِر بهذا الشكل إلا وقد دفع صاحبها ثمنها كغذاء في بطون أفقر العاملين، وكساء على جسد أفقر العاملين. لقد انتفع المجتمع قهرًا عن الغني من الغني. إن الذي يبني لنفسه إنما ينتفع منه الآخرون رضي هو أم أبى.»
لعل الملفت للنظر هو توافق الحجج التي يقدمها الشيخ مع حجج كبار دعاة الرأسمالية، من أن دافع الربح هو الذي يجعل الإنسان يكد ويكدح ويرتقي بعمله. ولكن هذه على أية حال وجهة نظر، وليس هذا موضع الجدل حولها، وإنما العجيب حولها هو تصوير استئجار العمال كما لو كان انتفاعًا ينتزعه المجتمع من الغني؛ ذلك لأن المشكلة ليست في أن يدفع الغني للعامل أجرًا، فهو مضطر إلى ذلك (ما دام لا يستطيع أن يبني عمارته بنفسه)، وإنما المشكلة في: كم يدفع له؟ وهل ما يدفعه له يتناسب حقًّا مع جهده، ويخلو من استغلال حاجته إلى العمل؟ وماذا عن علاقة صاحب العمارة (التي ضربها الشيخ مثلًا) بالسكان؟ ما حكم الإسلام في مغالاته في أجور مساكنه، وزيادته للإيجار، ضعفين، مثلًا، كل خمس سنوات؟ الحق أن الشيخ يبدو هنا مدافعًا مخلصًا عن «روح» الرأسمالية، بعد تزويقها بعبارات غامضة مثل «المال الحلال» وهو يعلم جيدًا أن أصعب الأمور هو أن نضع الحد الفاصل بين الحلال والحرام في ميدان التجارة والأعمال.
ويصل العجب من آراء الشيخ إلى ذروته حين نسمع تفسيره للآية: وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ، فالسباك الفقير يصبح، حسب تفسيره، مرفوعًا على الوزير حين يصلح ماسورة بيته، ما دام الوزير في هذه الحالة محتاجًا إليه. وهكذا يكون الفقير مرفوعًا في نواحٍ على الغني، «ولو قسمنا مجموع زوايا حياة الغني ومجموع زوايا حياة الفقير لوجدنا الفقير مرفوعًا في الخلق والعلم والغنى.» وهكذا يعود الشيخ مرة أخرى إلى فلسفة «ما احلاها عيشة الفلاح … مطمن قلبه مرتاح … يتمرغ على أرض براح … والخيمة الزرقة ساتراه!» إن الفقير، في المجموع العام، مرفوع على الغني، أما الأغنياء «التعساء» فلا يملكون إلا المال وحده!
هكذا خاض الشيخ الجليل ميادين السياسة والاقتصاد والاجتماع، وكان في هذه الميادين جميعًا ضد مصالح الفقراء، وضد مصالح الشعوب، وضد قضية وطنه الكبرى، وفعل هذا كله باسم الإسلام. ولا عجب فنحن لم نسمع من الشيخ، طوال حياته المديدة، كلمة يندد فيها بسوء استخدام الشريعة الإسلامية في باكستان أو في السودان، ولم نسمع عنه أنه نظم حملة لجمع الأموال من أثرياء العرب، الذين ينفقون ببذخ يأباه الإسلام ويرفضه، لصالح المسلمين الذين يموت منهم الألوف كلَّ يوم جوعًا في بنغلاديش وباكستان ونيجيريا والصومال، وكل ما نعلمه أنه ينزل كلَّ عام ضيفًا على هؤلاء الأثرياء ثم يغادرهم شاكرًا مشكورًا.
على أن الموضوع الذي يثيره مقال الشيخ شعراوي، وكثير من كتاباته وأحاديثه الأخرى، والذي قد يكون أهم من كل ما قلت من قبل، هو موضوع الثقافة العامة لرجال الدين في العالم الإسلامي.
وجاء فلاسفة الشيوعية ليقولوا إن النظرية الشيوعية هي دعوة (المقصود بالطبع: دعوى)، ونقيض الدعوة، والجامع بين الدعوة ونقيضها. وتفسير ذلك أن أصحاب رءوس الأموال قد اضطهدوا العمال وظلموهم وأخذوا خيرهم … أما نقيض الدعوة فهو أن يعود الأمر إلى سيطرة العمال، فإذا ما نشأت سيطرة عمالية فإنها تذل أصحاب رءوس الأموال، وهكذا يتم توجيه الظلم من فئة إلى أخرى، أما الجامع بين الدعوة ونقيضها فهو الحزب الشيوعي الذي يتحكم في كل شيء.
هكذا أراد الشيخ أن يبرهن على ثقافته فشرح فهمه الخاص للجدل الماركسي، ولكنه حين يتحدث عن الحزب الشيوعي على أنه هو الجامع بين الدعوة ونقيضها، بالطريقة التي حدد بها معناهما، فكأنه يقول إن هذا الحزب هو الذي يجمع بين اضطهاد العمال وظلمهم، وبين إعادة الأمر إلى سيطرة العمال وإذلال أصحاب رءوس الأموال، وليس هناك خلط فكري أشنع من ذلك. أما قصة توجيه الظلم من فئة إلى أخرى، فيرد عليها أنصار الماركسية بقولهم إنه لا وجه للمقارنة بين تلك الملايين الكثيرة التي تؤلف فئة العمال والفقراء (والتي نزلت من أجلها الأديان)، وبين أولئك الأفراد القلائل يتحكمون في أرزاق الناس (والذين هاجمتهم جميع الأديان).
إن أحدًا لا يملك أن يأخذ على الشيخ شعراوي، أو غيره من الدعاة الأفاضل، هجومه على الماركسية والشيوعية بل والاشتراكية ذاتها، فهذا حقه الذي لا نزاع فيه، ولكن الواجب يحتم على المرء أن يعرف خصمه جيدًا قبل أن يهاجمه، بل إن معرفة الخصم معرفة متعمقة تزيد من فعالية الهجوم عليه وتساعد المرء على انتزاع أسلحة الخصم وإبطال حججه جميعًا، فليكره الشيخُ الشيوعيةَ كما يشاء، ولكن ليقرأها جيدًا، وليثقف نفسه فيها بعمق، حتى لا يهاجمها بمثل هذا التخليط الذي يخدم الشيوعية نفسها في نهاية الأمر.
أيدري الشيخ أن مرجعًا من أعظم المراجع العالمية العميقة عن الماركسية قد ألفه رجل دين فرنسي معادٍ للماركسية عداءً شديدًا؟ (انظر كتاب: «ماركس» تأليف ميشيل هنري، في جزأين، دار جاليمار للنشر في باريس ١٩٧٦م) إن رجال الدين من المسيحيين واليهود في الدول الغربية يقفون في الصف الأول من مثقفي بلادهم، ويظهر بينهم فلاسفة ومفكرون عالميون (مارتن بوبر في اليهودية، تيليش ونيبور في المسيحية … إلخ). وهؤلاء لا يُحسبَون فقط ضمن أقطاب الفكر الديني، بل أيضًا ضمن أقطاب الحركة الثقافية في العالم. صحيح أن ثقافة الشيخ الإسلامية غزيرة، ولكنه ما دام قد أخذ على عاتقه أن يهاجم المذاهب الأجنبية الأخرى، فليفهم على الأقل هذه المذاهب، وليتعمق فيها حتى يجيء نقده لها على أساس متين.
ولكن الظاهرة المؤلمة أن الدعاة الإسلاميين عندنا، حين يتحدثون عن ثقافة الغرب ويوجهون إليها هجومهم، يرددون عبارات محفوظة وأحكامًا مكررة وكلامًا غير علمي، ويظل هذا الكلام يُزاد ويُعاد من فوق المنابر وفي أوسع أجهزة الإعلام، فتأتي الأجيال الشابة التي تثق في كلام شيوخها ثقة مطلقة، لتحفظ هذه الجمل والأحكام المتهافتة وتكررها حرفيًّا في كل مناسبة، وتتصور أنها بذلك قد أحاطت بكل جوانب الموضوع علمًا. وهكذا تسمع أحكامًا فجة عن نظرية التطور، يؤكد فيها أكثر من كاتب أن داروين كان يهوديًّا (مع أنه كان مسيحيًّا مخلصًا)، وأن هناك عصابة ثلاثية يهودية تريد نشر الإلحاد والإباحية في العالم، تتألف من داروين وماركس وفرويد، وتشكل أهم عنصر في مؤامرة عالمية يهودية. هؤلاء السادة يختزلون النظريات التي أقامت الدنيا وأقعدتها وهزت العالم، في جملة أو جملتين سخيفتين لا فهم فيهما ولا تعمق، يرددهما الداعية ثم يبتسم ابتسامة الثقة والعلم والرضا عن النفس، وكأنه أجهز على هذه النظريات وطرح أصحابها أرضًا بعباراته الفجة.
انقدوا ما شئتم، أيها السادة، فهذه النظريات كانت بالفعل، وما زالت، تتعرض لنقد شديد، ولكن ليكن نقدكم مبنيًّا على فهم ومعرفة وتعمق، لا على جهل وسطحية وغثاثة.
ولكن، كيف يأتي العلم في ظل المنهج السلطوي الذي تطرح به هذه الدعوة الدينية في زمننا التعيس؟ انظر، مثلًا، إلى طريقة الشيخ شعراوي في عرض أفكاره، إنه إرسال من جانب واحد: هو الذي يتكلم، والكل ساكتون في خشوع، وإذا تكلموا فإنما يهتفون استحسانًا وانبهارًا. لماذا لا تتخذ الأحاديث، مثلًا، شكل الحوار، والمناقشة، والنقد والرد؟ لماذا لا تضم الجلسة أنصارًا وخصومًا يحاورون الشيخ ويبدون رأيهم لكي يتولى هو إثبات موقفه من خلال تفنيد اعتراضاتهم؟ إن الشيخ إذا أشرك سامعيه في الحوار، فإنما يكون ذلك بطريقة السؤال التي أصبحت علامة مميزة له، فإذا تحدث مثلًا عن كتاب المسلمين، يسأل الحاضرين: «كتاب إيه؟» فيرد السامعون: «المسلمين»، إنه أسلوب ينطوي على الإمعان في التنكيل بالناس وإذلال عقولهم؛ إذ يطلب إليهم ترديد آخر كلمة قالها لتوه، وكأنهم أطفال يراد التأكد من أنهم حفظوا الدرس ولم يكن عقلهم شاردًا عندما سمعوه. إن الشيخ بسؤاله التقليدي: «… إيه؟» يعلن سيطرته على الحاضرين، ويؤكد خضوعهم له وانطواءهم تحت جناحه، وبدلًا من أن يسألهم سؤالًا يحتاج إلى استخدام للعقل والذكاء، وبدلًا من أن يشركهم في حوار يثير به أذهانهم ويحفزها على التفكير الخلاق، نراه يطلب منهم تكرار آخر كلمة قالها، فيمثلون هم لطلبه صاغرين؛ وبذلك يكون الشيخ قد أكمل استحواذه عليهم، ولم يعد أمامهم سبيل إلى الإفلات من سيطرته، وكل ما عليهم هو أن يقولوا آمين! وحتى لو طاف الشك بذهن أحدهم في عبارة قالها الشيخ، فلن يستطيع أن يقول: تمهل يا شيخنا قليلًا حتى نناقش عبارتك الأخيرة! ذلك لأن الكلمات والعبارات تتوالى بسرعة هائلة لا تترك فرصة للتفكير. ولو توقف عقل المستمع لحظة لكي يناقش عبارة واحدة، ستكون عشرات العبارات قد تلاحقت في هذه الأثناء، فتضيع الفرصة، ولا يجد السامع مفرًّا من الاستسلام لما يسمع.
إن أكبر ما يلحق الضرر بالدعوات الإسلامية المعاصرة، على اختلاف دروبها واتجاهاتها، هو حالة الجهل التي تنشرها بين أنصارها، والأدهى من ذلك أن هذا الجهل يبدو لأصحابه علمًا واسعًا يرد على جميع التساؤلات ويبدد كل الشكوك. وهذا الجهل يتبدى في نقصان الثقافة العامة وعدم الإلمام بحقيقة المذاهب التي يقفون منها موقف العداء، وانتقال العبارات المحفوظة والقوالب الجاهزة من جيل إلى جيل، ومن مستوًى أعلى في التنظيم إلى مستوًى أدنى، إلى أن تسري بين الجميع مسرى الحقائق المطلقة التي لا تقبل جدلًا أو مناقشة. ولا سبيل إلى خروج الدعوة الإسلامية المعاصرة من إسار الجهل هذا إلا باتباع منهج مخالف، لا تكون فيه الدعوة تدفقًا من طرَف مرسِل إلى طرَف مستقبِل يتلقاها في سلبية خالصة، بل تكون حوارًا نقديًّا مبنيًّا على اطلاع ومعرفة وفكر مستنير.
أما أولئك الدعاة الذين يفتتن بهم الناس، فيصلون في ثقتهم بأنفسهم إلى حد الاعتقاد بأن لديهم معرفة موسوعية تتيح لهم إصدار الأحكام في كافة الميادين، فلنتأمل ما يقولون بفكر واعٍ متيقظ، ولنحذر الانقياد إلى كلماتهم المعسولة؛ فقد يكون وراءها ضرر بالغ بحياتنا ومستقبلنا، مماثل لذلك الضرر الذي يلحق بنا لو صدقنا دعوى الشيخ شعراوي بأننا يجب أن نسلك إزاء المعسكرين العالميين الكبيرين، في أيامنا هذه، على نحو ما سلك الرسول والمؤمنون تجاه الفرس والروم!