مستقبل الأصولية الإسلامية
أصبح من أساليب التفكير الشائعة، التي تقتنع بها أعداد هائلة من أجيالنا الجديدة، الانتقاص من قدر تجارب الشعب السابقة كلها دفاعًا عن تجرِبة جديدة يُراد الترويج لها. فطوال تاريخ ثورة ٢٣ يوليو كان المثقفون الذين جندوا أنفسهم لخدمة النظام القائم، أو الذين اعتنقوا اتجاهاته عن إيمان، يرددون مقولة ظلت تتكرر حتى سَرَتْ بين الناس مسرى البديهيات، وهي أن تجرِبة الحياة الحزبية في مصر قد فشلت، واليسار لا يمثل مصر لأنه يتلقى أفكاره من الخارج، واليمين يريد المحافظة على استغلاله ويقدم فكرًا تخديريًّا لا يخدم مصالح الجماهير؛ وإذن يبقى بعد هذا فكر الثورة (سواء اتخذ صيغة هيئة التحرير أم الاتحاد القومي أم الاتحاد الاشتراكي) بوصفه الصيغة الوحيدة المقبولة والصالحة. وفي سنوات «التصحيح» العشرة أضيفت بعض التعديلات إلى هذه الصيغة، ولكن إطارها العام، الذي يسعى إلى هدم التجارب الأخرى لكي يظل هناك فكر واحد هو الصحيح، ظل قائمًا، وبلغ من تغلغل أسلوب التفكير هذا في العقول أن المعارضين أنفسهم بدءوا يتبنَّوْنَه، ويجدون لزامًا عليهم، لكي يدافعوا عن اتجاههم الخاص، أن يُحوِّلوا التجارب السابقة إلى أنقاض؛ لكي يظل البناء الوحيد الصامد بينها هو فكرهم الخاص؛ أي إنهم هم بدورهم يعتنقون مذهب «الحقيقة الواحدة» التي لا تقبل تعددًا أو تغيرًا، والتي تمحو كل ما عداها وتنظر إليه، لا على أنه وجهة نظر مختلفة، أو خطوة في الاتجاه الصحيح، بل على أنه كله بطلان وبهتان.
ولا جدال في أن من الممكن تصور نقطة انطلاق أخرى، يُنظر فيها إلى التجارب السابقة، منذ بداية المرحلة الحديثة في التاريخ المصري، على أنها روافد كانت تصب، بأشكال مختلفة، في تيار الوعي الشعبي، وتشكل مؤثرات ظلت تتراكم وتتفاعل على مدى عشرات السنين. ومستوى الوعي في أمة من الأمم لا يتحدد بعمليات استبعاد وإدانة تستهدف آخر الأمر الاحتفاظ بتيار واحد فقط، وإنما هو أشبه بطبقات أوصلت هذا الوعي إلى ما هو عليه الآن. فكل تجرِبة تبني شيئًا، وتهدم الصخور في ترسبها واحدة فوق الأخرى، بل إنه يزيد عنها في ذلك التفاعل المستمر الذي يتم بينها، والذي تكون فيه المرحلة الأخيرة حصيلة للتفاعل وتبادل التأثير بين المراحل السابقة جميعًا؛ أي إننا نستطيع أن نضع تصورًا للتاريخ مبنيًّا على «التكامل»، لا على «الاستبعاد»، ولكن يبدو أن كثيرًا من أعضاء المدرسة الفكرية التي أفرزتها ثورة ٢٣ يوليو لا تستطيع أن تفكر إلا من منظور «الحقيقة الواحدة»، وتجد لزامًا عليها أن تهدم الجميع قبل أن تقيم بناءها الخاص. وهذا ما فعلته مقالات حسن حنفي عندما سعت إلى الدفاع عما يسميه ﺑ «الأصولية الإسلامية».
على أن خطورة هذه المقالات لا تنبع فقط من منظورها العام، الذي يستبعد تجارب أسهمت بإيجابياتها وسلبياتها، في تكوين الوعي الشعبي على مدى التاريخ الحديث، فهذا المنظور كما قلنا جزء من طريقة في التفكير أثرت في جيل كامل، ولا يمكن أن يعد أي كاتب بعينه مسئولًا عنه، وإنما كان المسئول الحقيقي هو ذلك الجو العام الذي جعل فكرة «الحقيقة الواحدة والوحيدة» أمرًا لا مفر منه، بل إن الخطر الحقيقي لهذه المقالات يكمن في تناولها لأشد التيارات المعاصرة حساسية في العالم العربي المعاصر، وهو التيار الديني في أشد اتجاهاته تطرفًا، وتصويرها لهذا التيار وكأنه هو موجة المستقبل في العالم العربي، واستخدامها مناهج حديثة في التحليل من أجل إضفاء طابع الأصالة والوطنية والتحرر على هذا التيار. ولما كان هذا التقييم يتكرر، مع تفاوت في أسباب الاهتمام ودرجة التعاطف، لدى المحللين الغربيين بوجه عام، والأمريكيين منهم بوجه خاص، فإن أهمية هذه المقالات تكمن في إثارتها لتلك القضية التي هي في نظر الكثيرين قضية الساعة، وهي: هل أخفقت كل البدائل في العالم العربي بحيث لم يبقَ أمامه إلا البديل الإسلامي، بالمعنى الذي تطرحه الجماعات المتطرفة؟ وهل هذا البديل هو حقًّا طريق الخلاص؟
من أجل هذه الأسئلة الخطيرة التي تثيرها قراءة هذه المقالات، بدا لنا أن من الضروري اختبارها بطريقة نقدية دقيقة، تكشف عن أخطائها المنهجية والموضوعية وعن تناقضاتها الداخلية العديدة والحادة، وعن توجهاتها التي تضيف في رأينا، بلبلة وحيرة فكرية شديدة، إلى موضوع يكتنفه التعقيد والغموض أصلًا؛ بسبب سياج التحريم الذي يحيط به من كل جانب، والذي يجعل مناقشته بحُرية وصراحة أمرًا مستحيلًا منذ البداية.
وعلى الرغم من أن النقد والتحليل الذي نعتزم القيام به ليس موجهًا إلى شخص كاتب هذه المقالات بقدر ما هو موجه إلى الأفكار والمبادئ التي تنطوي عليها مقالاته، وإلى المشكلات الخطيرة التي تثيرها؛ فقد كان من الطبيعي أن نكشف بالتفصيل عن سلبيات هذه المقالات، قبل أن ننتقل إلى مناقشة عامة للمشكلات المثارة فيها. وهكذا يستطيع القارئ أن يميز بين هدفين رئيسيين لبحثنا هذا: الأول هو بيان أوجه الخطأ والتناقض في المقالات التي نعرض لبحثها، والثاني هو الإدلاء برأينا الخاص في الموضوعات الخطيرة التي تثيرها.
بقيت كلمة أخيرة في هذه المقدمة، وهي أنني أعترف من البدء، في ضوء الأخطاء والتناقضات التي ظهرت لي في المقالات، بأن لهجة انتقادي ستكون شديدة في أحيان كثيرة. ولهذه الشدة في الانتقاد تبريران؛ أحدهما يتعلق بالموضوع نفسه، وهو الكم الهائل من التناقضات والتحليلات الخاطئة التي سنكشف عنها خلال العرض، والثاني يتعلق بالمبدأ العام، وهو أن التوجيه السيئ في الأمور التي تمس مستقبل أجيال بأسرها، وفي مجتمع يعاني أصلًا من عدوان الغاصبين والقامعين والمستغلين، لا يحتمل تخفيف اللهجة أو المداراة، ولا بُدَّ أن يكون لدينا من النضج ما يسمح لنا بأن نواجه المخطئ بأخطائه دون مجاملات حين يكون رأيه مستهدفًا توجيه العقول، وبخاصة العقول الشابة، في أمة عانت طويلًا من التضليل الفكري الذي يكتسي برداء الدعوة إلى إصلاح الأوضاع وتغييرها.
(١) الفقهاء والجماعات الإسلامية المعاصرة
لما كانت كثير من الجماعات الإسلامية المعاصرة، وعلى رأسها جماعة الجهاد، تعلن صراحة انتسابها إلى الآراء التي كان ينادي بها مجموعة من الفقهاء المحافظين، وعلى رأسهم ابن تيمية وابن حزم، فقد احتل موضوع الفقهاء مكانة هامة في مقالات د. حسن حنفي، لا سيما وأن الكاتب ينظر إلى نفسه، في كثير من الأحيان، على أنه امتداد عصري لتراث الفقهاء. ومع ذلك فإن من الصعب أن يهتدي المرء، من خلال ما كتب في هذه المقالات، إلى موقف محدد للكاتب من الفقهاء، أو رأي واضح المعالم في التأثير الذي يعتقد أنهم مارسوه في الجماعات الإسلامية المعاصرة.
إن الكاتب يتحدث (في ٢ / ١) عن موقف العداء الذي وقفه الفقهاء من علوم أصول الدين وأصول الفقه والحكمة والتصوف، وكان هذا العداء «دفاعًا عن العقيدة ضد البدع، وعن الأصالة ضد التبعية، وعن النص الخام ضد تعقيله وتفسيره وتأويله. وكان الفقهاء حراسًا للعقيدة الأصيلة ضد محاولات فهمها وتحديثها بحيث يقضي على خصوصيتها ومصدرها وفاعليتها … وبالتالي أصبح الفقهاء، بالرغم مما قد يوصفون به من تزمت وتعصب وضيق أفق، يعبرون عن الأصالة الإسلامية؛ ولذلك ارتبطت الجماعات الإسلامية المعاصرة بهذا التراث الفقهي القديم.» ويواصل الكاتب كلامه بعد قليل فيقول عن الجماعات المعاصرة المتأثرة بتراث الفقهاء: «يقوم دعاتها … بالدفاع عن الأصيل ضد الدخيل، وحماية العقيدة من الشرك، والمحافظة على النص «الخام» من التأويل، فكانوا مثل الفقهاء أهل نقل لا أهل عقل، وكما حوت فتاوى الفقهاء على إجابات إسلامية أصيلة على قضايا العصر، وكانت نماذج في الوجدان الديني عند الناس على قدرة الإسلام على قبول التحدي العصري، أصبحت مجموعة فتاوى ابن تيمية موسوعة إسلامية ضخمة تكشف عن الحلول الإسلامية الأصيلة لمشاكل العصر.»
- (١)
فهناك تناقض صارخ بين وصف الفقهاء بأنهم أهل نقل لا عقل، وبأنهم يحافظون على النص الخام من التأويل، وبين القول أنهم يقدمون إجابات إسلامية لقضايا العصر، ويثبتون قدرة الإسلام على قبول التحدي العصري، وحتى لو كان المقصود هنا هو عصر هؤلاء الفقهاء أنفسهم؛ فإن من يتمسك بحرفية النص الخام، ويرفض العقل متمسكًا بالنقل، لن يكون قادرًا على قبول أي تحدٍّ عصري، ولا راغبًا في ذلك؛ لأن مواجهة هذا التحدي تفترض وجود تأويل وتحديث للنص، وهو ما يرفضونه أصلًا حسب تعبير الكاتب.
- (٢)
وتنطوي عبارات الكاتب على فهم شديد القصور لمعنى «الأصالة الإسلامية»، فهنا ترتبط الأصالة بالامتناع عن التأويل والتفسير، ويصبح فهم النص وتعقيله «بدعة»، ويعد تحديث النص الديني ابتعادًا عن الأصالة، ويكون المثل الأعلى هو الاحتفاظ «بالنص الخام» على حد تعبيره، أي قبول النص بحرفيته، وكأنه في خزانة حديدية محكمة الإغلاق ومختومة بسبعة أختام. ومن الغريب حقًّا أنه يصف الفقهاء الذين يقومون بهذا العمل بأنهم «حراس للعقيدة»، وهم في الواقع حراس لتلك الخزانة المحكمة الإغلاق، أو على الأصح «سجانون» يحبسون العقيدة في كهوف التخلف، ويحجبون عنها نور العقل. وحتى لو كان الكاتب يعرض هنا رأي هذه الجماعات، فإن استخدامه تعبيرات مثل «حراس العقيدة»، والحفاظ على «الأصالة الإسلامية»، والدفاع عن العقيدة ضد البدع … إلخ، لن يفهم منه القارئ إلا أن الكاتب يؤيد هذه المواقف من كل قلبه. ولست أدري كيف يرضى ضمير كاتب عصري، مثل حسن حنفي، أن تمر تعبيرات مثل «أهل نقل لا أهل عقل»، و«يحافظون على النص ضد تعقيله وتحديثه» دون أن يعلق عليها، وهو يعلم أن شبابًا بالملايين معرضون لعملية تغييب للعقل تهدد مستقبل الأمة العربية، ومع ذلك يقدم هذه التعبيرات الخطيرة في معرض الاستحسان، وكأنه يدعو الشباب إلى التمسك بما فيها.
- (٣)
ومن الغريب أن هذا الموقف الشديد الرجعية، الذي وقفه هؤلاء الفقهاء حسب وصف الكاتب لهم، يوصف بأنه موقف وطني يصون الأمة من أعدائها، فهو يقول في الموضع نفسه: «كانوا طليعة الأمة فيما يتعلق بالتصدي الفعلي لأعداء الأمة في الخارج أو في الداخل.» ويبرر تعلق المسلمين المعاصرين بهم بأنه راجع إلى أن «الأحوال لم تتغير والأعداء لم تتغير وإن تغيرت الأسماء.» ومرة أخرى يقول: «كان الهدف واحدًا عند الفقهاء على مر العصور: الدفاع عن مصالح الأمة في الداخل والدفاع عن أراضي المسلمين» (٢ / ١). ولا يملك المرء، إزاء سيل المديح الذي يكيله الكاتب لهؤلاء الفقهاء إلا أن يتساءل: هل يكون الدفاع عن مصالح الأمة في الداخل ومقاومة أعدائها في الخارج، عن طريق التمسك بحرفية النص ورفض العقل والتحديث ورفض العلوم التي يُستخدَم فيها حد أدنى من العقل، كأصول الدين وأصول الفقه، حسب رأي الكاتب؟ هل هذا الموقف المتزمت يخدم مصالح أية أمة، أم أنه أسرع وسيلة للقضاء عليها، حتى لو كان ذلك باسم الأصالة ومحاربة البدع؟
ويتبلور هذا الموقف المضطرب بوضوح كامل عندما يقول الكاتب (في ٩ / ٣): «كان الفقهاء أهل إصلاح وتغيير، وكانوا الحراس على الشرع والراعين لمصالح الأمة.» أما كيف يدعون إلى التغيير وهم في الوقت ذاته حراس للشرع، يحافظون على حرفيته من التعقيل والتحديث، فهذا لغز لا يمكن أن يحله إلا الكاتب نفسه، وأعترف بوقوفي أمامه عاجزًا عن الفهم.
- (٤)
ولكننا قبل أن نفيق من دهشتنا إزاء التناقض السابق، نفاجأ بتناقض أشد منه، يتحول فيه الكاتب إلى ناقد للموقف المحافظ الذي وقفه هؤلاء الأصوليون، بعد سيل المديح الذي سمعناه في الفقرات السابقة، فهو في نفس المقال الذي أخذنا منه بعض الاقتباسات السابقة (المقال الثاني)، يتحدث عن إخفاق الحركات الإصلاحية الحديثة في القرن التاسع عشر، فيقول: «انتهت الحركة الإصلاحية إلى محافظة دينية، وتحولت الليبرالية إلى فردية تسلطية، كما انقلب التيار العلمي إلى ممارسات للخرافة وعودة إلى الإيمان» (٢ / ٣) هنا نجد أن المحافظة الدينية، التي كال لها المديح من قبل باعتبارها حراسة للعقيدة والأمة وتأمينًا من البدع، قد أصبحت رذيلة، بل إن التعبير الأخير، وهو «انقلب التيار العلمي إلى ممارسات للخرافة وعودة إلى الإيمان» يصدمنا بكل قوة؛ لأنه يربط بين العودة إلى الإيمان وممارسة الخرافة، وهو ما يتناقض مع كل ما سمعناه من قبل، ويترك القارئ حائرًا: أين يقف الكاتب بالضبط من مسألة المحافظة والتجديد، والحرفية والتأويل، والأصالة والتحديث؟
وتزداد حيرة القارئ وبلبلته عندما يجد الكاتب قد اتخذ موقف النقد الشديد من جماعات الإخوان المسلمين المعاصرة لنفس الأسباب التي امتدح من أجلها فقهاء التراث الإسلامي. فأول سلبيات هذه الحركة الإسلامية المعاصرة، في رأيه، هو «التركيز على أولوية الإيمان على العقل؛ مما جعل الجماعة دينية أكثر منها عقلانية، تبدأ من الإيمان كمسلَّمة لا تقبل النقاش؛ وبالتالي سادت العاطفة وعمَّ التعصب أحيانًا فزاد التصلب، وقل الحوار، وضاق الأفق» (٣ / ٣).
وفي تقييم الكاتب لكتاب «الفريضة الغائبة» نجد أن العيب الأول في نظره هو ذاته تلك الفضيلة الأولى التي لاحظها من قبل لدى الفقهاء، فهو «سيادة النصوص الخام سواء من الكتاب أو السنة أو من فقهاء المسلمين وأئمتهم خاصةً ابن تيمية … مما يدل على عزلة الجماعة عن واقعها وإيجاد بديل عنه في التراث القديم … وفي واقع القدماء مما جعلهم يسقطون عامل التاريخ والزمن من الحساب» (١٣ / ٤). وهكذا أصبحت النصوص الخام علامة تخلف بعد أن كانت حراسة للعقيدة ودفاعًا عن أصالة الأمة.
- (٥)
ولكي يُجهِز الكاتب على البقية الباقية من عقل القارئ، يعود مرة أخرى، في المقالات الأخيرة، إلى امتداح مواقف الفقهاء المحافظة على النص الخام، وتأكيد دورها في تحريك التاريخ، فيتحدث في (١٢ / ١) عن كتاب الفريضة الغائبة من حيث إنه لا يحتوي بدوره إلا على «النص الخام»، متمثلًا في نصوص الفقهاء التي هي «زبدة التراث وخميرته الأولى، وأكثر النصوص فاعلية في سلوك الناس، فالنصوص الفلسفية لا تؤثر إلا في القلة المثقفة المتعالية … والنصوص العقائدية لا تؤثر إلا في العلماء المتخصصين في أصول الدين (!) … أما النصوص الفقهية فهي … أشبه بالمنشورات السياسية اليوم وبيانات الأحزاب السياسية والمؤتمرات الصحفية للقادة؛ وبالتالي كان لها فعلها المباشر في الجماعة الإسلامية ورؤيتها لأحداث العصر.»
وهكذا، بعد أن ربط في الفقرة السابقة بين المحافظة والتخلف والخرافة وضيق الأفق، وانتقد كتاب «الفريضة الغائبة» لأنه «غاب» في النصوص الخام، الدينية والفقهية، يعود الآن فيجعل للنصوص الفقهية المحافظة دور المنشورات السياسية الثورية التي هي وحدها القادرة على تحريك الجماهير، بعكس النصوص الفلسفية والعقائدية.
- (٦)
وقبل أن أختم حديثي في هذا الموضوع، أود أن أشير إلى التناقض الأكبر بين الموقف العام الذي اتخذه الكاتب في هذه المقالات، وموقفه المعروف في كتبه وأبحاثه الأخرى. ويكفي أن أشير إلى آخر هذه الكتب، أعني «التراث والتجديد»، الذي دافع فيه الكاتب بكل قوة عن تحويل النص الديني إلى حقيقة تعاش في العصر الحاضر، وهاجم بنفس القوة تجميد هذا النص وتقييده بمرحلة ماضية في التاريخ، وبلغ به الإسراف في التأويل حدًّا جعله يستخدم تعبيرات مثل «الله هو الحرية والأرض»، ويقول إن لفظ الله «ينطوي على تناقض داخلي» ولفظ «إسلام» فقد معناه الأصلي، ولفظ «دين» لا يؤدي إلى الإيصال، ولا ينقل «المعنى الأصلي»؛ وذلك على أساس أن «اللغة التي يرفضها العصر حتى ولو كانت لغة قديمة لا يمكن استعمالها من جديد» (ص١٣٥)، وينادي بالانتقال من العصر القديم «المتمركز حول الله» إلى العصر الحالي المتمركز حول الإنسان (انظر مثلًا ص١٣٩)، ويصدر أحكامًا مثل: «نشأ التراث من مركز واحد وهو القرآن والسنة، ولا يعني هذان المصدران أي تقديس لهما أو للتراث، بل هو مجرد وصف لواقع» (ص١٣٧) أو مثل «فمعنى الإلحاد في الحضارة الغربية يعني الإيمان في تراثنا القديم»، «فالإلحاد بهذا المعنى رغبة في بيان الأثر العملي للأفكار، ورد فعل على الإيمان المتحجر المكتفي بذاته الذي يكفي المؤمنين شر القتال» (ص٦٦)، وفي موضع آخر يقول: «فالإلحاد هو المعنى الأصلي للإيمان لا المعنى المضاد، والإيمان هو المعنى الذي توارده العرف حتى أصبح بعيدًا للغاية عن المعنى الأصلي، إن لم يكن فقدًا له» (ص٦٧)، ويقول «ليس للعقائد صدق داخلي في ذاتها بل صدقها هو مدى أثرها في الحياة العملية، وتغييرها للواقع، فالعقائد هي موجهات للسلوك، وبواعث عليه لا أكثر، وليس لها أي مقابل مادي في العالم الخارجي كحوادث تاريخية أو أشخاص أو مؤسسات» (ص٦٦)، كذلك يقول: «ليس المقصود من الوحي إثبات موجود مطلق غني لا يحتاج إلى الغير، بل المقصود منه تطوير الواقع في اللحظة التاريخية التي نمر بها» (نفس الصفحة).
وأخيرًا نجد تعبيرًا مثل: «العلمانية إذن هي أساس الوحي، فالوحي علماني في جوهره، والدينية طارئة عليه من صنع التاريخ، تظهر في لحظات تخلف المجتمعات وتوقفها عن التطور» (ص٦٩). هذه النصوص التي اقتبستها من أحدث ما كتب المؤلف (١٩٨٠م)، تقدم لنا فكرة عن الجو العقلي الذي يعيش فيه، ولست هنا في معرض مناقشة آرائه هذه، ولكنني أود فقط أن أطرح سؤالًا أراه على أعظم جانب من الأهمية: كيف يستطيع عقل واحد أن يجمع بين هذا التأويل الشديد الإسراف للمفاهيم والمعاني والمعتقدات الدينية، في كتاب يراه أصدق الكتب تعبيرًا عن وجهة نظره، وبين ذلك التعاطف مع الفقهاء المحافظين على النص الخام، المهاجمين لأبسط تأويل أو تفسير؟ وإذا فرضنا أن مؤرخًا أراد في المستقبل أن يحدد الموقف العام لحسن حنفي من هذه المسألة فهل سيظل هذا المؤرخ محتفظًا بقواه العقلية سليمة بعد أن يتراقص مع كاتبنا في حلقة المتناقضات الجنونية التي تدور فيها معالجته للموضوع؟
(٢) المصدر المباشر: الإخوان المسلمون
لما كان الإخوان المسلمون هم الأصل الذي انبثق عنه فكر جماعة الجهاد وغيرها من الجماعات الإسلامية المعاصرة، فإن الكاتب يستفيض في الحديث عنهم، ويعدد مزاياهم وعيوبهم، ولكنه يقع هنا أيضًا في عدد لا يستهان به من الأخطاء المنهجية والتاريخية، وتحتشد معالجته للموضوع، كما هي العادة، بالأحكام المتناقضة.
فهو يبدأ معالجته لموضوع الإخوان المسلمين بالربط بين زعيمهم حسن البنا وبين الحركة الوطنية التحررية. وليس هذا الربط ذاته هو الذي يهمنا، وإنما المهم أن نتبين السبب الذي يقدمه المؤلف لتعليل ذلك.
ولنستمع إلى ما يقوله: «بدأ حسن البنا دعوته في الإسماعيلية على ضفاف القناة، وهو يشاهد جنود الاحتلال، فارتبطت الدعوة الإسلامية بالحركة الوطنية منذ البداية في مصر» (٣ / ١). إن أصغر تلميذ تلقى درسًا واحدًا في المنطق يستطيع أن يدرك تهافت هذه الحجة التي تستخلص نتيجة ضخمة، هي «ارتباط الدعوة الإسلامية بالحركة الوطنية منذ البداية في مصر»، من مقدمة تافهة هي أن حسن البنا كان يشاهد جنود الاحتلال في الإسماعيلية — ناسيًا أن هذه المدينة الذي كان يعيش فيها أيضًا تجار وعمال كان بعضهم يتعامل مع الإنجليز ويتعاون معهم رغم أنه «يشاهدهم» كل يوم! أما الشبهات التاريخية التي أثارها البعض — والتي لا أناقشها هنا ولكن لا بُدَّ من الإشارة إليها — عن وجود اتصالات خفية بين جماعة الإخوان في بدايتها على الأقل وبين السفارة البريطانية وعن دور المستر سمارت، المستشار الشرقي للسفارة، في دعم الإخوان، وعن وجود مصلحة مشتركة بين الفريقين تتمثل في رغبتهما في إزاحة خصمهما اللدود — وهو حزب الوفد — هذه كلها أمور لا يخطر ببال الكاتب أن يثيرها، أو يناقشها، أو يرد عليها، وكفاه أنه أثبت ارتباط الإخوان بالحركة الوطنية ما دام حسن البنا كان يشاهد الإنجليز في الإسماعيلية!
يتحدث الكاتب عن ارتباط الدعوة الإخوانية باللجنة المصرية للطلبة والعمال عام ١٩٤٧م (والصحيح ١٩٤٦م) بطريق غير رسمي، ثم ينتقد الجماعة لأنها رفضت الارتباط بها رسميًّا، ومع ذلك، ورغم انتقاده هذا، يصل إلى استنتاج خطير هو «كان الاستعمار ينظر إليها بحق على أنها العدو الرئيسي له في المنطقة» (٣ / ١). ولسنا ندري كيف برر الكاتب لنفسه إصدار هذا الحكم، دون أن يرد على الشبهات التي أشرنا إليها من قبل، والتي أثارها عدد لا يستهان به من المؤرخين، ولكن من المؤكد أن الإخوان قد لعبوا دورًا إيجابيًّا في محاربة لجنة الطلبة والعمال، والدليل على ذلك مهادنتهم، داخل الجامعة وخارجها، لحكومة إسماعيل صدقي الثانية التي تولت الحكم في تلك الفترة لكي تبطش بالمد الوطني الجارف. وكل من عاصر هذه الفترة يذكر خطاب زعيم طلبة الإخوان في الجامعة، حسن دوح، عن إسماعيل «الذي كان صدِّيقًا»، مع أن تاريخ إسماعيل صدقي الأسود كان كفيلًا بإبعاد كل إنسان وطني عن طريقه. ومن هنا فإن ما قاله المؤلف عن العداء «المشهود» بين الإخوان والقصر، وهو العداء الذي لم يجد له سندًا سوى حادث مقتل حسن البنا، يدخل في باب الأوهام؛ إذ إن الحادث الأخير جاء نتيجة لتناقض مرتبط بالصراع الذي نشب في أواخر الأربعينيات بين الإخوان وأحزاب الأقليات التي كان يقف وراءها الملك، وتبادل الإرهاب والقتل بين الطرفين. أما خلال السنوات الطويلة التي سبقت ذلك، فقد كان التفاهم سائدًا بين الإخوان والقصر؛ وذلك لنفس السبب الرئيسي، وهو أن الإخوان كانوا أداة فعالة لمحاربة الوفد، وهو غاية ما يتمناه الملك وأذنابه.
ويرتكب الكاتب خطأً تاريخيًّا فاحشًا حين يقول «وكانت انتخابات اتحادات الطلاب بالجامعة قبل الثورة تعطي مرشحي الإخوان ٩٥٪ من أعضاء الاتحاد.» فلو رجع الكاتب إلى وثائق هذه الفترة، وإلى شهادات معاصريها، لتبين له أن العكس هو الصحيح، وأن الإخوان كانوا عاجزين تمامًا، طوال معظم السنوات السابقة على الثورة، عن السيطرة على اتحادات الطلبة التي كان الديمقراطيون والوفديون يحصلون على معظم مقاعدها.
ويصدر الكاتب أحكامًا شديدة المبالغة، كقوله: «لا يوجد زعيم وطني إلا واتصل بها (بجماعة الإخوان) إما بالانضمام إليها أو بالتعلم منها وحضور ندواتها والاستماع إلى محاضراتها.» هذا حكم فيه تعميم شديد البطلان؛ لأنه ينطبق فقط على الضباط الأحرار، ومنهم جمال عبد الناصر، كما ينطبق على حسن حنفي نفسه بالطبع، ولكنه لا ينطبق قطعًا على كل القيادات الوفدية وكل القيادات اليسارية، وهي القيادات التي كان لها دور هام في الحركة الوطنية في ذلك الحين.
ويكيل الكاتب للإخوان مدحًا يتغزل فيه بوطنيتهم واشتراكيتهم وقوميتهم، فيقول: «ظل الإخوان إذن طول عمر الثورة بعيدين عنها في السجون، وتم بناء مصر، وأضخم مشروع قومي منذ محمد علي، وهم بعيدون عنه، مع أنهم كانوا من دعاته وممن شاركوا في صياغاته قبل الثورة، ولم يشاهد الإخوان وهم أحرار تأميم قناة السويس في ١٩٥٦م وهم الذين حاربوا في ١٩٥١م لتحريرها، ولم يدافعوا عن البلاد ضد الاعتداء الثلاثي وهم دعاة الوحدة الشاملة لأطراف الأمة مع قلبها، ولم يشاهدوا بناء مصر الاشتراكية ١٩٦١–١٩٦٤م وهم من أوائل الداعين للعدالة الاجتماعية والاشتراكية، ولم يشاهدوا معارك مصر ضد الحلف الإسلامي في ١٩٥٦م وكانوا المدافعين عن استقلال المنطق ضد الأحلاف العسكرية وارتباط مصر بالغرب، … إلخ (٥ / ٣).
ولكن في نفس الصفحة التي نظم فيها الكاتب قصيدة الشعر هذه في مدح الإخوان المسلمين وعتاب الثورة (في عهد عبد الناصر) لأنها أبعدتهم عن المشاركة في كل المشروعات التي كان لهم فضل الدعوة إليها؛ في نفس الصفحة وفي العمود التالي مباشرةً، يتحدث الكاتب عن إخراج السادات لهم من المعتقلات والسجون فيقول: «أخرجهم وهو يعلم أنهم ليسوا خطرًا عليه نظرًا لعدائهم لعبد الناصر ونظرًا لتخلفهم الفكري وعدائهم للاشتراكية وللقومية العربية وللاتحاد السوفياتي وموالاتهم التقليدية للغرب، ولحرصهم على الإسلام الشعائري المظهر، وكل ذلك قاسم مشترك بينه (أي السادات) وبينهم» (٥ / ٤). وهكذا من عمود إلى العمود المجاور، انتقل الإخوان من الاشتراكية والقومية والعدالة الاجتماعية والعداء للغرب إلى التخلف الفكري والعداء للاشتراكية وللقومية والموالاة التقليدية للغرب، وهو انتقال يغني عن أي تعليق!
(٣) دور الناصرية وصراع الجماعات الإسلامية مع الثورة
يشترك الكاتب مع عدد غير قليل من المؤرخين في القول بأن الاضطهاد والتعذيب الذي لحق بالإخوان المسلمين في سجون عبد الناصر كان هو السبب المباشر لجنوح فريق منهم إلى التطرف، والسعي إلى الانتقام، واللجوء إلى العنف، وهذا الفريق هو الذي تكونت منه الجماعات الإسلامية المتطرفة في السبعينيات. وهكذا يمكن القول إن الصراع بين الإخوان والثورة، وخاصةً في عهدها الناصري، كان هو الأصل المباشر لظهور هذه الجماعات.
وقبل أن نناقش آراء الكاتب في هذا الموضوع الهام، نود أن نشير إلى الطريقة التي استخدم بها تعبير «الناصرية» في مقالاته، فهو أحيانًا يرى الناصرية امتدادًا لحركة الإصلاح الديني التي بدأت منذ القرن الماضي، فيتحدث عن القومية العربية التي يُعَدُّ الإسلام أحد مكوناتها، ويتخذ نموذجًا لها من الناصرية «التي رأت فيها الشعوب العربية والإسلامية استئنافًا لحركة الإصلاح الديني بالرغم مما يبدو عليها من علمانية» (٢ / ٣). ولكنه يضخم دور الناصرية في السبعينيات بحيث يجعلها هي وحدها المسئولة عن مظاهرات الطلبة في السبعينيات (٦ / ٢)، بل إنها هي التي حركت الجماهير في الانتفاضة الشعبية في ١٨ و١٩ يناير؛ لأن «جماهير الناصرية من الفقراء والمحرومين» هم الذين قاموا بهذه الثورة. ومع ذلك فإنه لا بُدَّ قد أدرك أن هذا حكم مبالغ فيه؛ لأن انتفاضة يناير كانت أوسع بكثير من أن تكون انتفاضة لجماهير الناصرية وحدها. ولذلك عاد بعد قليل فتحدث عن «الناصريين بما تضم هذه التسمية من اشتراكيين وتقدميين وقوميين وماركسيين» (٦ / ٢). وهذا تعريف عجيب للناصرية؛ إذ لم يقل أحد إنها مرادفة لكل هذه التيارات معًا، أو إنها تتسع بحيث تضم في داخلها اليسار بكل درجاته، فضلًا عن الاتجاهات القومية، ولكن الأهم من ذلك أن هذا التعريف الواسع الأخير يجعل الناصرية تيارًا علمانيًّا، ما دام يضم الاشتراكيين والتقدميين والماركسيين، ويستحيل بهذا الوصف أن تكون الشعوب العربية والإسلامية قد رأت فيها استئنافًا لحركة «الإصلاح الديني» كما قال قبل قليل. ويكتمل الخلط والاضطراب حين نرى الكاتب يتحدث في المقال الأخير عن شيء يسميه «الناصرية الشعبية» يؤكد أنه هو «الرغبة المكبوتة على مدى عشر سنوات»، ويرى أنه «لا سبيل إلى وقف الناصرية الشعبية القادمة في المستقبل القريب … فاختيار مصر الثوري الذي بدأ في يوليو ١٩٥٢م ما زال يمثل اختيارها الأول» (١٥ / ٣). ومع ذلك فإنه في نفس المقال يحدد في السطور الأولى اختيار مصر الأول على نحو مضاد تمامًا؛ إذ يقول عن الأصولية الإسلامية إنها «مستقبل مصر الذي لا بديل له مهما كانت هناك من إنجازات اجتماعية وسياسية تقوم بها الأيديولوجيات الثورية العلمانية، فهي البديل المستقبلي الوحيد» (١٥ / ١).
والآن بعد أن تبين لنا أن الناصرية ليس لها عند الكاتب سوى معانٍ مضطربة متناقضة، لنعد إلى موضوعنا الأساسي، وهو علاقة الإخوان بالثورة، تلك العلاقة المأساوية التي انتهت إلى تنكيل الثورة بالإخوان، وانتقام الإخوان وفروعهم المتطرفة من الثورة.
إن الكاتب يصف بالتفصيل الصدام بين الثورة والإخوان، وكيف نال الإخوان على يد الثورة من السجن والتعذيب والقتل ما جعل بينهم وبينها «ثأرًا لا يمحوه إلا الدم» (٥ / ٣)، ويرى أن حادث المنصة في ١٩٨١م هو أكبر رد فعل من التيار الإسلامي وأخذ بالثأر مما حدث للجماعة في عمر الثورة» (٤ / ٢). ومع ذلك فإن هذا التفسير لحادث المنصة ينهار تمامًا عندما نراه يتحدث عن تحالف السادات معهم ضد الناصرية، واستعانته بهم ضد أعدائه من الوطنيين والتقدميين، وحين يؤكد أن الإخوان خرجوا من السجون، في عهد السادات، «وهم شاكرون الحمد» (٥ / ٤) فمعنى ذلك أن الثأر الذي لا يمحوه إلا الدم لم يعد موجودًا طوال الجزء الأكبر من عهد السادات، الذي رد اعتبارهم، وأعاد نشاطهم، واتخذهم حلفاء له.
والواقع أن فكرة وجود ثأر طويل المدى بين الإخوان، والجماعات المنبثقة عنهم، وبين ثورة ٢٣ يوليو، منذ أحداث عام ١٩٥٤م حتى ٦ أكتوبر ١٩٨١م، توحي بأن هناك خطًّا واحدًا يميز العلاقة بين هذين الطرفين طوال الأعوام الثلاثين من عمر الثورة. وحقيقة الأمر، في رأيي، هي أن العلاقة بينهما لها نمط مختلف كل الاختلاف، هو محاولة كل من الطرفين استغلال الآخر لتحقيق مصالحه الخاصة، والانتقال إلى العنف كلما أصبح التعارض بين مصالح الطرفين صارخًا، ففي العامين الأولين من عمر الثورة، تصور الإخوان أنهم يستطيعون استغلالها لصالحهم، وتصورت الثورة أنها قادرة على استخدام الإخوان لمحاربة الأحزاب، وحدث تحالف مؤقت، ثم جاء الصدام عندما أصبحت معاهدة الجلاء مع بريطانيا حقيقة واقعة، وكان لا بُدَّ للثورة أن تثبت أنها هي القوة الوحيدة التي ينبغي أن يُعمَل لها حساب في مصر. وبعد فترة مصالحة تكرر هذا النمط نفسه في عام ١٩٦٥م. وفي عهد السادات كانت فترة المصالحة أطول كثيرًا، وأعمق في أبعادها ونتائجها؛ لأنها دامت من ١٩٧٠م إلى ١٩٧٩م على وجه التقريب. وظلت هذه المصالحة قائمة طوال حركة المد الشعبي في مظاهرات الطلبة وانتفاضة يناير، وكانت معظم الحركات الإسلامية خلال هذا الوقت أداة من الأدوات التي تسلطها الحكومة ضد كل اتجاه تقدمي أو ديمقراطي.
فكيف صبت الجماعات الإسلامية غضبها على السادات بالذات، مع أن تنكيله بهم، مهما بلغت شدته، كان أقل بكثير من تنكيل عبد الناصر؟ إن القول بوجود ثأر قديم، ينطوي على تبسيط وتسطيح للمشكلة. وحقيقة الأمر أن السادات قُتل لأنه كان هو الأقرب إليهم، كما توهموا طوال فترة المهادنة بينه وبينهم، ونظرًا لاعتقادهم بأنه هو الأقرب إليهم، فقد بَنَوْا عليه آمالًا كبيرة، وشجعهم هو ذاته على الاعتقاد بأنه يقترب بهم كثيرًا من أهدافهم، وأعطاهم كل فرص الانتشار، فاستجابوا له بترحيب شديد، وتصوروا أن دولتهم أوشكت على التحقق. غير أن السادات، الذي كانت له دائمًا حساباته ومشروعاته الخاصة، خيب ظنهم في السنتين الأخيرتين من حكمه، فقد أخذ يتباعد لأنه مضطر إلى عمل حساب علاقاته الخارجية بالغرب، وحماية الملايين من المواطنين المسيحيين الموجودين في أرضه كحقيقة واقعة، وانتقل من التباعد إلى الهجوم الفعلي عندما زادت قوة هذه الجماعات عن الحدود التي كان يرسمها، وتجاوز نشاطها الأهداف التي كان يخططها لهم. كما أخذوا هم يتباعدون لأنهم شعروا أن هدفهم الذي بدا أنهم قد اقتربوا منه، وهو التطبيق الكامل للشريعة الإسلامية، أصبح بعيدًا عن التحقق. وهكذا كانوا أعنف مع السادات الذي دللهم طويلًا، منهم مع عبد الناصر، الذي عذبهم وقتلهم؛ لأن الأول اقترب بهم كثيرًا من أهدافهم، ثم اتضح أنه كان يخدعهم، ولم يكن مستعدًّا للمضي في الاستجابة لهم إلى النهاية.
وهكذا لا يمكن القول بوجود خط متصل في العلاقة بين الإخوان والثورة، هو الثأر المتراكم عبر ثلاثين سنة من حكم الثورة، بل إن نمط هذه العلاقة كان أعقد بكثير، فهو نمط يبدأ بمحاولة استغلال كل طرف للآخر، وينتهي بحدوث تصادم بين الطرفين، ويتكرر هذا النمط عدة مرات في ظروف ومعطيات مختلفة.
ولكن الأمر الذي ينبغي أن نتنبه إليه هو أنه لم تحدث في أي وقت مواجهة بين الثورة وبين «الدين» أو «الإسلام» ذاته، فعلى الرغم من حدوث مواجهات عنيفة بينها وبين جماعات دينية، معظمها إسلامية وإن كانت بعضها مسيحية، فقد ظلت الثورة منذ بدايتها حتى وقتنا الراهن تتملق المشاعر الدينية للناس، حتى وهي تشن أقوى الحملات على الجماعات الدينية، وبلغ هذا التملق ذروته في العهد الساداتي، ولكنه كان موجودًا طوال الوقت. وهكذا لم تمر الثورة في أي وقت بمرحلة كانت فيها غير مكترثة بالدين، كما هي الحال في الثورة الكمالية في تركيا مثلًا، ولم تكن حتى علمانية بالمعنى الكامل، كما يحدث في الولايات المتحدة ومعظم بلاد أوروبا الغربية، بل إنها لم تتوقف عن تأكيد تمسكها بالدين وشعائره، ولم تكف عن استخدام سلاح الدين لدعم أهدافها، بحيث كان الإسلام في نظرها هو الذي يبرر الاشتراكية والقومية العربية في وقت ما، وهو الذي يبرر الاقتصاد الحر والصلح مع إسرائيل في وقت آخر.
(٤) تقييم فكر الجماعات الإسلامية المعاصرة
لما كانت هذه الجماعات قد انبثقت عن التنظيم الأم، وهو «الإخوان المسلمين»، فإن الانتقادات أو السلبيات التي يلاحظها الدكتور حسن حنفي على حركة الإخوان، والتي قال إنها «تضخمت في السبعينيات في الجماعات الإسلامية الحالية»، تنطبق عليها بغير شك، أي إن الكاتب ينقد هذه الجماعات، بصورة أشد، عندما يأخذ على حركة الإخوان المسلمين مآخذ مثل: «التركيز على أولوية الإيمان على العقل؛ مما جعل الجماعة دينية أكثر منها عقلانية، تبدأ من الإيمان كمسلمة لا تقبل النقاش» (٣ / ٣). وهو كما نرى نقد يهدم كل ما بناه في هذه المقالات كلها؛ لأنه يعتبر الأساس الإيماني واللاعقلاني لهذه الجماعة عيبًا جوهريًّا، مع أن هذا الأساس هو دعامة الحركة، وهو الذي ظهر بمزيد من الوضوح في الجماعات المنبثقة عنها، والتي تكتفي «بالنص الخام» كما قال مرارًا. ومن الانتقادات الأخرى التي يوجهها الكاتب، سيطرة فكرة الحاكمية، وتكفير النظم القائمة دون تمييز بين ما يتفق مع الشرع وما يخالفه في ممارساتها. ويتصل بذلك دعوتها إلى التطبيق الفوري للشريعة الإسلامية «دون نظر إلى الأضرار التي قد تنجم عن هذا التطبيق في المجتمعات المعاصرة … خاصةً وأن الشريعة الإسلامية كانت تعني (عندهم) الحدود أي قانون العقوبات … ومطالبة المسلم بواجباته قبل إعطائه حقوقه.» ويأخذ الكاتب على الإخوان والجماعات المنبثقة عنهم دعوتهم إلى إحداث التغير الاجتماعي بانقلاب في السلطة دون انتظار لانتشار الدعوة بين الناس، بحيث تكون تلبية لمطلب جماهيري عام، وكذلك استخدام القوة لإحداث هذا التغيير في السلطة عن طريق تنظيمات شبه عسكرية «فيكون الشعب في النهاية هو الخاسر، فلا الدولة الإسلامية قامت ولا الأمن قد استقر، ولا الدعوة الإسلامية قد استقرت ولا أصبح أعضاؤها مواطنين صالحين» (٣ / ٣). ويلفت نظرنا في هذا النقد الأخير استخدام الكاتب لعبارات الاستقرار والأمن والمواطن الصالح في نقده، وهي نفس العبارات التي تستخدمها سلطة الدولة في حملتها على هذه الجماعات، فضلًا عن أنها عبارات تتناقض تمامًا مع مغازلته لفكرة الثورة الإسلامية بوصفها حلًّا وطريقًا للخلاص، في المقالات الأخيرة. كذلك يعيب على هذه الجماعات غياب فكرة التدرج في ممارساتها، وعدم تعاونها مع الجماعات الوطنية الأخرى، وسيادة الطاعة المطلقة للأمير في تنظيماتها، وأخيرًا سيادة النظرة الرأسمالية في تفكيرها واتجاهها إلى تركيز عدائها ضد الاتحاد السوفياتي والماركسية دون أي تقدير لوجود بعض الإيجابيات في هذه الأنظمة الأخيرة (٣ / ٤).
هذه إذن انتقادات في الصميم، لا يملك المرء إلا أن يتفق فيها مع الكاتب، وخاصةً عندما أكد أن هذه السلبيات تضاعفت في الجماعات الإسلامية المعاصرة؛ نتيجة للجو السائد في السبعينيات، ولا بُدَّ أن يتوقع المرء ممن يوجه مثل هذه الانتقادات الحاسمة أن يكون موقفه سلبيًّا من الجماعة بأسرها، وأن يكون منتبهًا إلى أخطار هذا اللون من التفكير وبعيدًا كل البُعد عن تأييده، ومع ذلك فإن صفحات هذه المقالات تحتشد بعبارات المدح والتأييد والتهليل والتصفيق، لا لممارسات تنظيم «الجهاد» فحسب، بل لفكره ونظرياته.
- (١)
إن بدايات الحركة الإسلامية المعاصرة، حسب رأي الكاتب، ترجع إلى الاضطهاد والتعذيب الذي لحق بأعضائها في المعتقلات، وخاصةً عام ١٩٦٥م، أي إنها بداية ثأرية مرضية غير سوية، ومع ذلك يستخلص الكاتب من هذه البداية شيئًا، ولم يحلل نتائجها النفسية والفكرية السلبية عليهم.
- (٢)
وبعد هزيمة ١٩٦٧م عملت الدولة ذاتها على القيام «بحملة دعائية مستعملة الدين لتبرير الهزيمة … فوجدت فيها الجماعات الإسلامية التربة الصالحة للانتشار، فالهزيمة قدر من الله … ولا محيص عن قدر الله … والرضا بقضاء الله هو الموقف الوحيد الممكن حتى لا يثور الشعب» (٥ / ١). «أما الاتجاه الطبيعي الشعبي فقد بدأ بظهور حركات الدعوة إلى العودة إلى الدين، فكما انتصرت إسرائيل متمسكة بدينها فكذلك انهزمنا لبعدنا عن الدين، وظهر الحجاب وإطالة اللحى وبناء المساجد والأذان في مكبرات الصوت … إلخ.»
- (٣)
وعندما أتى السادات أخرجهم من السجون لكي يضفي على حكمه شرعية؛ لأن «الدين لدى الشعوب المتخلفة أحد مصادر الشرعية» (٦ / ٢)، واستعان بهم في القضاء على بقايا الناصرية (٥ / ٤)، وهكذا ازدهرت الجماعات الإسلامية في الجامعة، وانخرط فيها الطلاب «لعدم وجود بديل عنها» (٦ / ١)، وهو اعتراف بأن قوة الجماعة لم تكن أصيلة إنما جاءت بتشجيع من الدولة، وامتلأت جدران الجامعة «بمجلات الحائط الخالية من أي وعي سياسي أو وطني» (٦ / ١) وهو تقييم له دلالته البالغة، التي ينبغي أن نتذكرها فيما بعد.
- (٤)
هذه إذن انتقادات فيوبعد ازدياد قوة الجماعة «رفضت الدخول في أي حوار مع القوى الوطنية»، كما «تطاولت على الأساتذة والعمداء … ومارست شتى أنواع الإرهاب في الحياة الجامعية» (٦ / ١). أما خارج الجامعة فقد «تعاونت الجماعة مع مرشحي الحكومة (الساداتية) في انتخابات ١٩٧٦م على إسقاط مرشحي اليسار في كثير من الدوائر على أساس العداء للناصرية» (٦ / ٢)، «وتحول أعضاؤها إلى خفر وشرطة في الطرقات لتطبيق الشريعة الإسلامية» (٦ / ٢). ومن جهة أخرى فإن الحكومة إلى جانب سنها لقوانين استثنائية ضد الحريات، استعملت الدين لتحقيق أهدافها، على أساس أن «الدين في المجتمعات المتخلفة أنجح وسيلة يمكن استعمالها من جانب الحكم دفاعًا عن النظام القائم» (٦ / ٢). وهكذا «بدأت مظاهر العودة إلى الإسلام تشتد من جديد في الحياة العامة دفاعًا عن النظام القائم، كما كان الحال بعد هزيمة يونيو ١٩٦٧م» (٦ / ٣). واستُخدم الإسلام «لمحاربة الاشتراكية والشيوعية والماركسية والنظريات الهدامة الملحدة التي تهدد الإيمان والعقيدة، والحقيقة هي محاربة هذه النظريات التي تمثل خطرًا على النظام الاجتماعي والسياسي القائم باسم الدين؛ لذلك قامت المملكة العربية السعودية بتأييد الإخوان المسلمين في مصر، وما تولد من التنظيم الأم، أي «الجماعات الإسلامية» تأييدًا ماديًّا ومعنويًّا، والمساهمة في نفقات الدعوة وتوزيعها» (٦ / ٣).
هذه إذن هي الظروف التي نشأت فيها الحركة الإسلامية في السبعينيات، وتلك هي الأصول التي ظهرت منها كما عبر عنها الكاتب: اضطهاد وتعذيب يؤدي حتمًا إلى فكر مَرَضي انتقامي؛ هزيمة عسكرية ساحقة تؤدي إلى قَدَرية شجعتها الحكومة؛ رغبة حاكم جديد في القضاء على آثار حاكم قديم؛ استعانة الحاكم الجديد بهم في إضفاء شرعية على حكمه؛ إطلاق اليد لهم داخل الجامعات وخارجها ليقوموا بممارسات الدروشة والبلطجة والإرهاب؛ تحالف سياسي وبينهم وبين الحكومة القائمة؛ وتمويل أكبر دولة عربية رجعية لهم. ألم تكن هذه الظروف كفيلة بأن تشكك في توجهات الحركة بأكملها؟ ألم يكن في استطاعة الكاتب الذكي أن يستنتج الكثير من تلك الأصول التي أظهرت الجماعة وشجعتها في السبعينيات؟ ولكن، لننتظر قليلًا ونرَ كيف يواصل الكاتب تقييمه لفكر هذه الجماعة.
يمر الكاتب مر الكرام على أفكار خطيرة ومخيفة عبَّر عنها كتاب «الفريضة الغائبة»، فيكتفي بعرضها دون أي تعليق عليها. وحسبنا أن نشير إلى مثالين: فمؤلف «الفريضة الغائبة» يرى أن البلاد التي يحكمها مسلمون لا يأخذون بشريعة الإسلام ولا يحكمون بما أنزل الله هي «دار كفر»، وفي هذه الفئة «يندرج تاريخ الإسلام كله بعد الخلفاء الراشدين عندما تولى أمر المسلمين أناس لا يحكمون بكتاب الله» (١٢ / ٢). ومعنى ذلك أن كل ما هو مضيء في التاريخ الإسلامي، من علوم وفلسفات وفنون، ومن حضارة رفيعة كانت في عصرها قائدة ومعلمة للعالم، كل هذا ظهر في ظل «دار الكفر». ومع ذلك فلم يكن مثل هذا الحكم الخطير جديرًا بتعليق من الكاتب يرد الأمور إلى نصابها، ويوقظ الشباب المخدر بهذا الفكر، والذي يتزايد في مجتمعاتنا عددًا بسرعة مخيفة، من تلك الغفوة العقلية المحزنة.
أما المثل الآخر فمستمد من الأساليب القتالية التي يدعو إليها كتاب «الفريضة الغائبة»، ومن بينها «الإغارة ليلًا على المشركين حتى لو أصيب نساؤهم وصبيانهم لأن حكمهم حكم آبائهم … والاعتماد على حديث لمسلم عندما سئل عن حكم صبيان المشركين الذين يبقون فيصاب من نسائهم وصبيانهم بالقتل» (١٣ / ٤). وهذا الحكم اللاإنساني المخيف يمر بلا أي تعليق من الكاتب، بل إنه في إطار لهجة الاستحسان والتأييد العامة التي يتحدث بها الكاتب عن هذه الجماعة، يبدو وكأنه أمر مرغوب فيه.
يعترف الكاتب بأن الجماعة وقعت في شرك الطائفية، الذي نصبته لهم الدولة تحقيقًا لأغراضها الخاصة، ويشير بوجه خاص إلى العدد قبل الأخير من مجلة الدعوة في أغسطس ١٩٨١م «عندما وجهت إنذارًا إلى أقباط مصر وكأنه إعلان حرب من المسلمين على الأقباط» (٧ / ١) ويسلِّم بأن الجماعات تعمدت «إشعال الفتنة الطائفية كذريعة لتقويض النظام السياسي وبحجة الدفاع عن الإسلام أمام الجماهير الإسلامية» (٧ / ٢). ويشير إلى الفتوى التي أصدرتها الجماعة بأن «مال المسيحيين حلال ما داموا في حالة عداء مع المسلمين، وأن الأقباط جزء من المسيحيين، والمسيحيين جزء من الصليبيين» (٧ / ٣) (والتعبير الأخير بالطبع خطأ واضح، وكان ينبغي أن يكون معكوسًا). كما يشير إلى فتوى أميرهم عمر عبد الرحمن بجواز قتال النصارى والاستيلاء على أموالهم، فحكام اليوم مثل حكام التتار لأنهم «يُدخلون في طاعتهم الكفار ولا يأخذون منهم الجزية» (١٢ / ٣)، «وهم يرتكبون خطأ جسيمًا في حق الإسلام عندما يتحدثون عن الإخاء الديني … وأن المسلمين والنصارى أهل كتاب» (١٢ / ٤)، (٧ / ٣). ويستنكر الكاتب تلك المباراة في الدين، بدلًا من التنافس في الولاء للوطن، «وقد وصل الأمر إلى حد اعتبار اليهود والنصارى كفارًا تجوز محاربتهم وأخذ أموالهم غنيمة … وأدت الطائفية إلى نزع الولاء للوطن والمواطنين … وكأن المعركة بين المواطنين وليست بين الوطن وأعداء الوطن» (٧ / ٣).
وإذن فالكاتب يسلِّم بأن في إشعال نار الطائفية خطورة كبرى على بلد كمصر يمثل فيه الأقباط نسبة لا يمكن تجاهلها من السكان، ويشكلون أقلية تعايشت في سلام مع الأغلبية طوال تاريخ مصر. ولا شك أن من يتتبع أدبيات الجماعات الإسلامية المتطرفة سيجد أن هذا العداء مبدئي وليس طارئًا؛ ومن ثم فإن التطبيق الحرفي لتعاليم هذه الجماعة يجعل تعايش المسلمين والأقباط أمرًا يكاد يكون مستحيلًا (ويكفي أن نشير في هذا الصدد إلى المخاوف الشديدة التي انتابت الأقباط من تطبيق قانون واحد من قوانين الشريعة الإسلامية، وهو قانون الرِّدَّة — فما بالنا لو طُبِّقت بقية القوانين، كما تلح هذه الجماعات؟).
وربما كان الأهم من ذلك هو أن الكاتب يدرك عن وعي أن إشعال نيران هذا الصراع الطائفي يعني إثارة معركة داخلية تمنعنا من التفرغ لأعدائنا الحقيقيين في الخارج؛ ومن ثم فإن نتيجته العملية هي التستر على أعدائنا الخارجيين والسكوت عنهم.
على أن هذا التستر على العدو الحقيقي، الذي يصل إلى حد التواطؤ، يظهر صراحةً في أدبيات تنظيم الجهاد وفي أقوال زعمائهم، فهم لا يكتفون بالسكوت عن القضايا الكبرى التي يعاني منها العالم الإسلامي معاناة حقيقية، كالموقف من أميركا والخطر الصهيوني، وإنما يدعون إيجابيًّا إلى تأجيل المعركة مع الصهيونية حتى تتم إقامة الدولة الإسلامية، فالكياسة والفطنة، كما يقول الكاتب عن لسانهم، تقضي بألا ينظر المسلم إلى تحرير بقعة معينة من الأرض، كالقدس، على أنه الحل الجذري؛ وذلك لأن «قتال العدو القريب أولى من قتال العدو البعيد»، كما أن التضحيات التي ستُبذَل في هذه المعركة «لن تكون لصالح الدولة الإسلامية التي لم تَقُم بعدُ بل لصالح حكام الكفر وتثبيت لأركان دولتهم الخارجة عن شرع الله … فميدان الجهاد ليس إذن تحرير الأرض المحتلة والقدس بلا اقتلاع تلك القيادات الكافرة واستبدالها بالنظام الإسلامي الكامل؛ ومن هنا تكون الانطلاقة» (١٣ / ٢).
ولو ترجمنا هذا الكلام إلى لغة عادية تخلو من عبارات التخدير التي يحتشد بها، لكان معناه هو: اتركوا إسرائيل تُعَرْبِد في الأرض العربية، واتركوا أميركا تنشر نفوذها وتقيم قواعدها العسكرية، وركزوا جهودكم على إقامة الدولة الإسلامية، وسوف نتمكن بعد ذلك من طرد الجميع! وهكذا تتضمن الدعوة في حقيقتها نوعًا من الخيانة الوطنية العظمى، فحتى لو سَنَحتْ فرصة محاربة الصهيونية واسترداد الحقوق الوطنية في ظل الحكام الحاليين، ينبغي أن يمتنع المسلمون عن الاشتراك فيها لأنهم بذلك إنما يوطدون مركز الحكام الخارجين عن شريعة الإسلام.
وصحيح أن الكاتب لم يستطع السكوت هذه المرة، فاضْطُرَّ إلى التعقيب ببعض عبارات الاستنكار (وإن كانت هذه العبارات قد صيغت بلهجة مخففة لا تتناسب على الإطلاق مع فظاعة الاتجاه الذي تعبر عنه النصوص السابقة)، ومع ذلك فإن الكاتب يتجاهل تمامًا هذه الأفكار الخيانية ويتستر عليها حين يتغنى، في استنتاجاته النهائية، بوطنية تنظيم الجهاد وحرصه على مستقبل الأمة الإسلامية، «فخلاص مصر الأخير، ونهاية حكم العمالة والخيانة حدث باسم الإسلام وتحت لوائه؛ فالإسلام هو الدرع الواقي للشعب، والبوتقة لعواطفه الوطنية … وسيتمسك الناس بالإسلام أكثر فأكثر بعد أن شاهدوا الدليل العملي على أن الإسلام قادر على تخليصهم من الظلم والطغيان والعودة بالبلاد إلى خطها الطبيعي ونضالها القومي في مواجهة الاستعمار والصهيونية» (١٤ / ١). ولا شك أن التناقض الجنوني بين هذه الأقوال والمواقف السابقة يغني عن أي تعليق!
(٥) أسباب القتل
هنا نصل إلى ذروة المأساة، وإلى الحدث الأكبر الذي دخلت به جماعة «الجهاد» تاريخ مصر، وأعني به الأسباب التي خططت من أجلها لقتل السادات، وتمكنت بالفعل — ربما لأول مرة في العصر الحديث — من قتل حاكم مطلق لمصر في لحظة زمنية كان يعدها أمجد لحظاته، وفي مكان كان يراه أكثر الأماكن منعة وأمانًا، ووسط جموع من البشر كان يحسبها أكثر فئات الشعب إخلاصًا له.
وقبل أن نتحدث بالتفصيل عن أسباب الاغتيال، ينبغي أولًا أن نجيب عن سؤال هام لا بُدَّ أنه قد طرأ على الأذهان بعد وقوع الحادث مباشرةً، وهو: هل كان ذلك حادث قتل فردي، أم كان ثورة شاملة؟
إن الكثير من تعليقات الكاتب توحي بأنه كان يؤمن بنظرية «الثورة الشاملة»، التي دعا إليها المخطط الاستراتيجي للجماعة، عبود الزمر، وهكذا يقول: «كان الهدف إذن من عملية الاغتيال قيام الدولة الإسلامية، وذلك عن طريق القضاء على كل جهاز الدولة ورجالها مرة واحدة» (١٠ / ٤). وهو يقتبس في نفس الموضوع أقوالًا كثيرة تدل على أن النية كانت متجهة إلى استغلال وجود كبار رجال الدولة في المنصة للتخلص منهم جميعًا كبداية لقيام الثورة الإسلامية، هذا فضلًا عن تأكيده مرارًا أن «خلاص مصر الأخير» قد تم على أيدي الجماعات الإسلامية (١٤ / ١).
ومع ذلك فإن الكاتب يؤكد في مواضع أخرى أن هدف الجماعة كان اغتيال السادات وحده، «لم يكن خالد ورفاقه يريدون إلا الرئيس وحده دون غيره … وقد كان الهدف تخليص البلاد من الظالم وحده … حتى يكون عبرة وعظة لغيره من حكام مصر فيما بعد؛ وبالتالي تسقط التهمة بأنهم أرادوا اغتيال الرئيس وكل من في المنصة من رجال الدولة» (١٨ / ١). ويستشهد بقول عطا طايل: «لم نقصد إلا قتله فقط.» وأقوال لباقي المتهمين تحمل نفس المعنى.
وهكذا لا يدري القارئ أي الموقفين هو الذي يعبر عن رأي الكاتب، الذي لم يكلف نفسه عناء شرح التناقض بينهما. وعلى أية حال فإن الذي نُفذ بالفعل هو الأمر الثاني؛ أعني اغتيال الرئيس وحده، بل إنه نُفذ بدقة مقصودة، بدليل العبارة التي نُسبت لخالد وقال فيها لحسني مبارك أو لأبو غزالة: «ابعد انت، أنا عاوز الكلب ده.» وهذه العبارة لو صحت لكان معناها أن المقصود ليس ثورة شاملة أو استعادة لحكم الإسلام، بل ليس تغييرًا للنظام؛ لأن أقطاب النظام كانوا أمامهم، وكان في استطاعة خالد وزملائه، لو أنهم وسعوا زاوية المدفع الرشاش قليلًا، أن يقضوا على الجميع، ولكنهم تعمدوا قتل السادات وحده، لا لإقامة دولة إسلامية، بل «لكي يرتدع من يأتي بعده».
وإذا كنا قد حرصنا على مناقشة هذه المسألة فإن الهدف من ذلك ليس مجرد الإشارة إلى تناقض الكاتب في تحديد أهداف الاغتيال، بل إن نتيجة بحث هذه المسألة يمكن أن تلقي ضوءًا على التساؤل الذي طرحه الكاتب بعد ذلك حول الجهة المسئولة مباشرةً عن الاغتيال، وهل هي أميركا، أم الجيش، أم الجماعة الإسلامية. فقد استبعد الكاتب تدخل أميركا في الحادث، على أساس أن نظام السادات كان يقدم إليها أعظم الخدمات، وعلى أساس أنه «يصعب إثبات صلة بين الجماعة الإسلامية والمخابرات الأميركية» (٨ / ٢).
وبالطبع فإن القائلين بأن أميركا هي التي تقف وراء الحادث، يعترفون بضخامة الخدمات التي أداها السادات لأميركا، ولكنهم في الوقت ذاته يشيرون إلى تلك الحالات الكثيرة التي تخلصت فيها أميركا بنفسها من مجموعة من أخلص عملائها، مثل سنجمان ري في كوريا ودييم في فيتنام وشاه إيران (على ما يقول الكثيرون)؛ لأنهم أصبحوا عملاء مفضوحين، ولم يعد لهم نفع بعد أن تجاوزوا الحدود في عمالتهم. أما مسألة صعوبة إثبات الصلة بين الجماعة الإسلامية والمخابرات الأميركية، فهي حقيقة ستظل قائمة مهما كانت الظروف؛ لأن الأجهزة الأميركية في مثل هذه الحالات تحرك الخيوط من بعيد، بحيث يظل المنفذون المباشرون يعتقدون أنهم يتصرفون بحرية وتلقائية دون أي تدخل خارجي. ولا شك أن تعمد المجموعة اغتيال السادات وحده، وتحذيرها للمحيطين به، يعزز النظرية الأميركية في الاغتيال إلى حد بعيد.
-
كانت لها اليد العليا في القضاء على اليسار في الجامعات المصرية، محاربة الاتجاهات التقدمية والديمقراطية في مصر بوجه عام.
-
لم نسمع في جميع التحقيقات عن أي موقف اتخذته هذه الجماعة ضد نظام الحكم في السعودية، حليف أميركا الأكبر في هذه المنطقة. وكان من الغريب والملفت للنظر أن يتحدثوا عن كفر الحكام وخروجهم عن الإسلام، ويسكتوا تمامًا عن الأسلوب الذي تحكم به السعودية، بل يؤيدونه ضمنًا، كما سنرى فيما بعد. ولو علمنا أن ابن تيمية هو مرجعهم الأكبر، وأن السعودية بدورها تعتبر أن ابن تيمية سندها الفكري الأول، لأصبحت العلاقات بين الطرفين واضحة.
-
لم تظهر أية دعوة لدى الجماعة إلى ثورة ذات مضمون اجتماعي بالمعنى الصحيح، ولم تبدر عنها أية بادرة تنم عن سخطها على الظلم الاجتماعي والتفاوت الطبقي.
-
لم تتخذ الجماعة من محاربة إسرائيل هدفًا أساسيًّا، بل جعلته هدفًا مؤجلًا إلى ما بعد قيام الدولة الإسلامية. ولا شك أن أميركا ترحب كل الترحيب بجماعة تترك إسرائيل تقضم الأرض العربية قطعة وراء قطعة، بحجة أنها مشغولة بإقامة الدولة الإسلامية، وحتى لو نجحت في إقامة هذه الدولة فسيكون الوقت قد فات — إلا إذا حدثت المعجزة وهزم العرب جهاز إسرائيل العسكري بفضل التكتيكات الحربية التي وضعها الشيخ فرج (١٣ / ٤)!
-
وأخيرًا فإن حالة التخدير الفكري والطاعة العمياء والتدين الذي يصل إلى حد الدروشة، هي الحالة الذهنية المثلى التي تتمنى أميركا أن تسود بين المسلمين كافة؛ لأنها تستطيع في ظلها أن تنال منهم كل ما تريد.
والآن، كيف صور صاحب المقالات أسباب القتل؟
في رأي الكاتب أن «بداية الفرقة بين الجماعة الإسلامية … وبين السلطة السياسية … كان مبادرة السلام في نوفمبر ١٩٧٧م ومعاهدة السلام بين مصر وإسرائيل في مارس ١٩٧٩م» (٧ / ١). وهو يربط بين تحرك هذه الجماعات ضد السلطة وبين تخلي السلطة عن الخط القومي بعد أحداث يناير ١٩٧٧م، وتحالفها مع أميركا وإسرائيل، وإصدارها للقوانين المقيدة للحريات، واستقبالها للشاه في ١٩٧٩م. وهكذا «بدأت الجماعة الإسلامية في التحول من الشعائر الدينية إلى العمل الإسلامي العام وإلى النقد السياسي والاجتماعي بوجهٍ خاص»، وبدأ «التعرض لمظاهر الفساد في الدولة»، فأدى ذلك إلى إنهاء مرحلة الوفاق «وبدأت مرحلة الصراع التي بلغت قمتها في أكتوبر ١٩٨١م» (٧ / ١).
هذا الرأي ينبغي التنبه إليه جيدًا؛ لأنه يتضمن تحليل الكاتب للأحداث التي أدت إلى قتل جماعة الجهاد للسادات، وهو تحليل يؤكد حدوث تحول في فكر هذه الجماعة من التمسك بالشعائر وحدها إلى الاهتمامات الاجتماعية والسياسية والوطنية، ويحدد زمن هذا التحول بأنه زيارة السادات للقدس ثم توقيعه معاهدة السلام مع إسرائيل، أي ما بين أواخر ١٩٧٧م وأوائل ١٩٧٩م.
ولكن نظرية «التحول» هذه تدحضها التحليلات التي قام بها الكاتب ذاته لكتاب «الفريضة الغائبة»، وهو آخر وأحدث تعبير عن فكر هذه الجماعة، ومحركها الأساسي في عملية قتل السادات، بل إن محاضر التحقيق ذاتها، كما سنرى فيما بعد، قد كشفت عن السيطرة الكاملة للفكر الشكلي والشعائري على عقولهم، وفضحت افتقارهم التام إلى الوعي السياسي والوطني السليم.
بل إن الأمر الذي يدعو إلى الدهشة هو أن الكاتب ذاته يرد على نفسه فيقول، بعد إشارته إلى بعض المظاهرات التي قامت بها الجماعة في نفس الفترة التي حدث فيها التحول المزعوم: «ثم غيرت الجماعة الإسلامية موقفها بعد سيادة التخلف التقليدي على موقفها المبدئي، وجعل الخلاف العقائدي هو الأساس وليس الثورة الفعلية والتحقق العملي؛ مما جعلها تميز حركتها وثورتها المستقبلية عن الثورة الإسلامية في إيران، وترفض أي تشابه أو مقارنة بينهما. وبعد أن نُشر كتاب «الحكومة الإسلامية» في مصر رفضت الجماعات الإسلامية توزيعه لأن به خلافًا عقائديًّا مع أهل السُّنَّة» (٧ / ١). هذا «التخلف التقليدي» عاد إلى الجماعة الإسلامية إذن بعد انتصار الثورة الإيرانية، أي بعد فبراير ١٩٧٩م، وهو نفس التاريخ الذي قال من قبل إنه حدث لديها فيه تحول نحو مزيد من الوعي والاهتمام السياسي. والتناقض هنا لا يحتاج إلى تعليق (والتعليق الوحيد الذي يمكن إضافته في هذا الصدد هو احتمال أن يكون للعوامل الشخصية دور في هذه الحملة التي يشنها الكاتب في هذه السطور على الجماعة الإسلامية بسبب مسلكها في نفس الفترة التي قال من قبل إنها كانت ناضجة وواعية فيها. ويتضح دور هذه العوامل إذا أدركنا أن الذي نشر كتاب «الحكومة الإسلامية» المشار إليه في هذا النص، والذي رفضت الجماعة الإسلامية توزيعه، هو حسن حنفي نفسه!).
ويكرر الكاتب هذا المعنى نفسه حين يتحدث عن ظهور أثر كتاب «الفريضة الغائبة» في وقت يُعلن فيه أن حرب أكتوبر هي آخر الحروب … وأن السلام هو طريق الرخاء، في الوقت الذي تهان فيه كرامة مصر … ظهرت فكرة الجهاد في الثلاث سنوات الأخيرة منذ معاهدة السلام … والتخالف مع الاستعمار» (٩ / ٤). وإذن فالدوافع لظهور فكر الجهاد وطنية تحررية، أو أن العامل الوطني، والرد على خيانة النظام، كان على الأقل من الدوافع الرئيسية، كما يرى الكاتب.
كما يربط الكاتب بين تحرك جماعة الجهاد ضد السادات وبين الفساد، «فالأولوية عندهم كانت لظروف العصر: البناء النفسي للشباب المسلم الممزق بين حلم التاريخ والواقع المجهض، فتكفير الحاكم المسلم الذي لا يطبق الشرع موجود في كتب أهل السلف وفي كتب الخلف، ولكن الدافع على إصدار الحكم كان هو الفساد المستشري في الدولة والنفاق الديني» (٩ / ٣).
وفي حديث الكاتب عن نتائج حادث الاغتيال، يبلغ به الإعجاب أقصى مداه، ويحس القارئ بنشوة الانتصار في لهجته، ويبدو الأمر كأن كل الأهداف الشريفة، الاجتماعية والسياسية والقومية، التي كانت تسعى إليها حركة النضال والتحرر في مصر طوال السنوات الأخيرة، قد تحققت على أيدي جماعة الجهاد في ٦ أكتوبر ١٩٨١م، فهم قد حققوا «خلاص مصر الأخير، ونهاية حكم العمالة والخيانة والنهب» (١٤ / ١). وهكذا يستنتج أن «غياب الإخوان المسلمين عن الساحة المصرية على مدى ربع قرن قد أضر بالحركة الإسلامية كطليعة لنضال الأمة وقيادة حركتها الوطنية، وها هي الحركة الإسلامية تعود من جديد في صياغة جديدة من أجل أن تتصدى للحاكم الظالم بعد أن عجزت قوى المعارضة الأخرى» (١٤ / ١). وبلغ من تغلغل الحركة الإسلامية في وجدان الشعب أنه كان يستنكر القبض على أصحاب اللحى في الطرقات، وهكذا فإن الأصولية الإسلامية هي التي «قدمت نفسها على أنها القادرة على قيادة الشعب وعلى الوقوف في وجه السلطان الجائر» (١٤ / ٢).
ويبلغ تمجيد الكاتب لجماعة الجهاد ذروته حين يقول «لقد عادت إلى مصر روحها بعد انفجار أكتوبر ١٩٨١م، وعاد إلى الناس الإحساس بالأمان، وانتهى الكابوس الرهيب … وبدأ الناس يشعرون بيقظة الوعي الوطني من جديد، وعاد إليهم الإحساس بالولاء والانتساب إلى قضية عامة، ووضع حد للفساد والخيانة والعمالة كسياسات شرعية للبلاد … ونشأ عند الناس نوع من الإحساس بالجدية والثقة بالمستقبل وبخدمة البلاد بعد أن انتهت مظاهر البذخ والترف في الحياة العامة …» (١٤ / ٤) وظهرت الحركة الإسلامية باعتبارها الحربة الرئيسية للمعارضة المصرية «فعادت إلى مصر وحدتها الوطنية، وظهر الإسلام كبوتقة طبيعية تنصهر فيها كل الاتجاهات السياسية، وأنها مسألة وقت كي تظهر الحركة الإسلامية من جديد متوجة من الشعب بعد أن قادت كفاحه في أحلك لحظاته وخلصته من الطغيان، وخلصت مصر مما كان يراد بها، جثة هامدة تتكالب عليها الجوارح» (١٤ / ٤).
هذا التقدير الرفيع الذي جعل من حادث اغتيال السادات ذروة العمل الوطني المصري، وتتويجًا لكفاح الشعب ضد الحكم الظالم في الداخل والاستعمار في الخارج، ويضع الجماعة الإسلامية على قمة حركات النضال المصري، قد يبدو في نظر البعض مجرد مبالغة حماسية من الكاتب، دفعته إليها الهزة العنيفة التي سببها حادث المنصة، والآمال العريضة التي تملكت الناس بعض الوقت في أعقاب هذا الحادث. وقد يبدو في نظر البعض الآخر تعبيرًا عن رد فعل له ما يبرره بالنسبة إلى شخص لحقته أضرار شخصية نتيجة لقرارات سبتمبر ١٩٨١م، ولكن الأمر في رأيي يختلف عن ذلك تمامًا، فآراء الكاتب هذه ليست مجرد تحمس مؤقت؛ لأنه — كما قيل عنه عند تقديم مقالاته — ظل يدرس وقائع محاكمة تنظيم الجهاد سنة كاملة؛ ومن ثم لا بُدَّ أن يكون قد تجاوز مرحلة الانفعال العابر والآمال الوقتية العريضة، ولا بُدَّ أنه أصدر أحكامه هذه عن تفكير وروية كامِلَيْن. وهذه الأحكام في رأينا باطلة من أساسها، ولا تعبر على الإطلاق عن الدوافع الحقيقية التي أدت بتنظيم الجهاد إلى قتل السادات. وسوف أستند في إثبات هذا الرأي إلى ما كتبه د. حسن حنفي نفسه. وأستطيع أن أقول مطمئنًا إنني لم أجد، من خلال ما قرأته في المقالات، ومن خلال قراءاتي لمحاضر جلسات المحاكمة كما نشرتها جريدة «الوطن» قبل ذلك، سطرًا واحدًا يثبت أن تنظيم الجهاد خطط لقتل السادات بناءً على أسباب متعلقة بالظلم الاجتماعي أو خيانة الأهداف القومية أو ضياع الحرية من خلال القوانين الاستثنائية، وكل ما قاله الكاتب في هذا الشأن إنما هو إسقاط لفكره الخاص على تنظيم الجهاد، وتصوير لهذا التنظيم بالصورة التي كان يتمناها أن تكون، لا الصورة التي ينطق بها بوضوح صارخ كل سطر مما قالوه.
كان الإطار العام لعملية الاغتيال هو قياس الفتاوى التي أصدرها ابن تيمية عن التتار، على حالة السادات، وهو في ذاته إطار شديد التخلف، ويشكل مبررًا شديد التهافت لإصدار حكم الاغتيال على حاكم يعيش في أواخر القرن العشرين، وينطوي على إغفال لمئات السنين من التغير والتطور، وتجاهل للفوارق الأساسية بين الحالتين. ومجرد تحمس مجموعات من الشباب للقتل من أجل اقتناعهم بأن السادات هو تكرار لظاهرة التتار وبأن رأي بن تيمية يسري على كل عصر، هو في ذاته أوضح دليل على الانحدار المؤسف في مستوى تفكيرهم.
كان امتناع السادات عن تطبيق الشريعة الإسلامية، بالمعنى الذي فهمهما به أعضاء التنظيم، هو السبب المباشر لقتله، وقد ظهر ذلك في أقوال أهم أعضاء التنظيم، فها هو ذا عطا طايل يقول: «لقد قمت بهذا العمل وهو قتال كل حكام لا يحكمون ولا يطبقون ما أمر الله سبحانه وتعالى به … وأخبرني خالد في نفس هذا اليوم أنه يعمل خطة للقضاء على هذا الحاكم الذي لا يحكم بما أنزل الله» (١٠ / ١). ويقول كرم زهدي: «القضية … قضية الثأر لدين الله سبحانه وتعالى» (١٠ / ١). ويقول الأشوح: «الغرض من قتل الرئيس أنه لا يحكم بشرع الله ونصوصه على الناس» (١٠ / ٢). وقد تضمن كتاب «الفريضة الغائبة» شرحًا مفصلًا للحالات التي لا يكون فيها الحاكم مطبقًا لشرع الله، وهي حالات كثيرة جدًّا، وتنطبق على كافة حكام العصر الحاضر، لا على حالة السادات وحده.
وقد ترتب على هذه النظرة التي حصرت الدين في أحكام الشريعة والحدود، وتجاهلت دعوة الدين إلى إقرار العدالة بين الناس وتحريرهم من كل أنواع الاستعباد، ترتب عليها أن وضعت الجماعة معايير شديدة الغرابة للحاكم الذي يجب تكفيره والحاكم الذي يمكن التغاضي عن أفعاله، فكرم زهدي، وهو أحد أقطابهم، يقول «الحاكم الذي لا يحارب الإسلام لو ملأ الأرض عملًا سيئًا فعلى نفسه، ولا يجوز الخروج عليه.» ويقدم بعد ذلك حديثين نبويين يفسرهما بأنهما يقصدان «الحكام الذين يأمرون بالحدود ويطبقونها مهما فعلوا من سيئات، أما الحاكم الذي يُقاتَل فهو فقط الذي يحارب الإسلام ويستهزئ به ويبدل الشرائع الإسلامية في البلاد إلى إفرنجية، ويقف في طريق الدعوة الإسلامية أي يصبح حائلًا دون وجود الإسلام والشريعة، فهذا هو الذي نَصَّت النصوص على قتاله والخروج عليه.»
والأمر الذي يلفت نظرنا بقوة، وإن لم يكن قد لفت نظر الكاتب على الإطلاق، هو تلك الحالة الغريبة التي يتحدث فيها صاحبنا عن «حاكم لا يحارب الإسلام ويملأ الأرض عملًا سيئًا»، أليس من الضروري، وفقًا لتعاليم الدين ذاتها، أن يكون ذلك الحاكم قد حارب الإسلام فعلًا بهذه الأعمال السيئة التي ملأ بها الأرض؟ أليس الإسلام أعمالًا وأفعالًا أيضًا، أم أنه صلاة وصوم فقط؟ من الواضح أن المقياس الذي وضعه المتحدث للإسلام لا صلة له بأعمال الإنسان على الإطلاق، وإلا لما جاز أن يملأ أي حاكم الأرض عملًا سيئًا ويظل داخلًا في حظيرة الإسلام. والأمر الثاني هو أن هذا الحاكم الذي لا يحارب الإسلام مع أنه يملأ الأرض عملًا سيئًا لا ينبغي أن يقوم المؤمنون للقتال أو الجهاد ضده، ففعله السيئ «على نفسه»، وليس لأحد أن يعترض عليه في شيء؛ لأن الله وحده هو الذي سيحاسبه على أفعاله في النهاية، أما الحاكم الذي ينبغي أن يثور الناس ضده فهو الذي لا يطبق الشريعة الإسلامية، والتكملة المفهومة ضمنًا هي: حتى لو ملأ الأرض عدلًا! …
ويترتب على ذلك أمر ثالث، هو أن حاكمًا مثل ضياء الحق، الذي يطبق الشريعة والحدود الإسلامية، سيكون وفقًا لهذا المعيار، وبرغم أفعاله السيئة التي ملأ بها الأرض، أصلح وأقرب إلى الإيمان من سعد زغلول ومصطفى النحاس؛ لأنهما لم يطبقا الشريعة الإسلامية وإنما طبقا قوانين إفرنجية. فهل نستغرب بعد ذلك إذا وجدنا الكاتب يشير في أحد المواضع إلى أن «السعودية قامت بتأييد الإخوان المسلمين في مصر، وما تولد من التنظيم الأم، أي «الجماعة الإسلامية» تأييدًا ماديًّا ومعنويًّا، والمساهمة في نفقات الدعوة وتوزيعها» (٦ / ٣). إن تأييد السعودية الكامل لمثل هذه الجماعات التي ينحصر جهادها آخر الأمر في الشعائر ولا تحاسب على الأفعال ما دامت الشريعة والحدود قائمة، بل وتحريكها لها، هو أمر معقول تمامًا، ولكن الأمر غير المعقول هو أن يسكت الكاتب عن هذه الاتجاهات ذات الدلالة الواضحة، ولا يستخلص ما يترتب عليها من نتائج تدين هذه الجماعة، وتفضح القوى المحركة لها.
وحين كان أعضاء التنظيم يتحدثون عن الفساد بوصفه سببًا للقتل، لم يكن أحد منهم يقصد الثروات الطائلة التي امتصها «القطط السمان» من دماء الشعب، ولا التفاوت الشديد بين الغنى الفاحش والفقر المدقع، ولا التخريب المنظم والمتعمد لاقتصاد مصر، بل كانوا جميعًا يعنون بهذه الكلمة، الفساد الأخلاقي. وهكذا يعرض الكاتب أقوال عبد الحميد عبد السلام، الذي يصفه بأنه «أكثر أفراد مجموعة الاغتيال وعيًا بأسباب الاغتيال»، فإذا بها كلها من هذا النوع: ففي الدولة مفاسد مثل التشجيع على جذب السياح، والخمر والربا، وتقديم الأشرار على الأخيار، والسخرية من علماء المسلمين، والتحامل على الملتحين، إلخ (٨ / ٤). ويؤكد حسين عباس أن سبب نقمته على السادات هو محاربته للمسلمين بجنوده وقبضه عليهم في المساجد وشتم العلماء وتشويه صورة الإنسان الملتحي (٨ / ٤).
ومن الملفت للنظر أن سياسة السادات إزاء إسرائيل لم تكن من الأسباب الرئيسية للقتل، وقد ورد ذكرها مرات قليلة جدًّا على لسان أقطاب التنظيم، بل إن كتاب «الفريضة الغائبة»، كما رأينا، يرى الصراع ضد العدو الخارجي أمرًا مؤجلًا، لا ينبغي أن ينشغل به المسلمون الآن عن قضيتهم الأولى، وهي محاربة العدو الداخلي. وفي الحالات القليلة جدًّا التي تطرقوا فيها إلى هذا الموضوع، كان الكلام يدور حول «اليهود» وعدم جواز الصلح معهم، وكان محور الاعتراض هو خيانة اليهود للرسول وعدم جواز ترك الأماكن المقدسة في أيدي اليهود … إلخ، أي إن القضية تتخذ بُعدًا دينيًّا خالصًا، وتضيع معالمها وأبعادها السياسية. ومع ذلك فإن الكاتب يستنتج من هذه الإشارات البسيطة أنها «تدل على وعي سياسي متضمن في الوعي الديني» (٨ / ٤)، وهو استنتاج تدحضه الشواهد كلها بصورة قاطعة.
- (١)
فاعتراض الجماعة على الديمقراطية ليس مجرد اعتراض على لفظ لا يعترف به الإسلام، كما قد توحي بذلك عبارات في النص، وإنما هو اعتراض على صميم المعنى والمضمون، فالديمقراطية، كفكرة أو مبدأ، مرفوضة، ورفضها يرجع إلى سبب أساسي، هي أنها حكم الشعب لنفسه بنفسه، بينما المطلوب أن يكون الحكم لكتاب الله، وإذا تعارضت إرادة الأغلبية الشعبية مع نص في كتاب الله، فلا بُدَّ من تغليب النصوص، أما مبدأ الإرادة الشعبية فليس، في رأيهم، من الإسلام في شيء. وبالطبع لم يخطر ببال أحد منهم أن يتساءل: كيف يمكن أن يتضمن كتاب الله شيئًا يتعارض مع إرادة أغلبية الشعب أو مصلحتها؟
- (٢)
كما أنهم لم يروا في التجارب الديمقراطية العظمى، التي حققت نجاحًا تاريخيًّا هائلًا وكانت قدوة لمعظم شعوب الأرض، كالتجرِبة البريطانية التي دامت ألف عام، أو التجرِبة السويدية التي أوصلت مجتمعها إلى أعلى مستوى في العالم، لم يروا في هذه التجارب كلها إلا الجوانب الأخلاقية فقط، أما الجوانب السياسية والاجتماعية فلم تلفت نظرهم على الإطلاق، بل إن وعيهم بها منعدم أصلًا، وحتى في هذه الجوانب الأخلاقية، يختارون أمثلة بعضها مزيف، مثل شرعية تعددية الأزواج في السويد، وبعضها هامشي، كعدم تجريم اللواط في بريطانيا، وبعضها لا علاقة له بالتجرِبة الديمقراطية، كالخمر والرقص والدعارة. وهذه الأمثلة التي يختارونها تعكس نوع التوعية التي تُقدَّم إلى الشباب في هذه الجماعات حيث تم تلطيخ التجارب العظمى في التاريخ باختيار أمثلة أخلاقية استفزازية تنفِّر الشاب من هذه التجارب، ولا مانع من أن تكون هذه الأمثلة كاذبة أو مفهومة بطريقة مشوهة؛ لأن المهم هو النتيجة، وهو إبعاد كافة التجارب والنماذج الناضجة عن ذهن الشاب، حتى لا يتبقى لديه إلا النموذج الإسلامي كما يفهمونه هم فقط. وبالطبع لا يخطر ببال أحد منهم أن يتساءل عن مدى انتشار اللواط في البلاد التي تحمل لواء ذلك النوع الخاص من الدعوة الإسلامية، أو عن مدى شيوع الانحرافات الجنسية والأخلاقية، في صميم البلاد التي تزعم تطبيق الشريعة الإسلامية، وإنما يكفي أن توجد هذه الظواهر في المجتمعات الغربية الديمقراطية لكي يكون ذلك في نظرهم مبررًا حاسمًا لرفض ما تم إنجازه في هذه المجتمعات، ولرفض مبدأ الديمقراطية من أساسه.
ولما كان التطبيق الكامل للشريعة الإسلامية هو الهدف الأكبر، فإن من أهم أسباب حكمهم بإعدام السادات، كما قلنا من قبل، أنه اقترب بهم كثيرًا من تحقيق هذا الهدف، ثم تراجع عنه في اللحظة الأخيرة. ويعبر الكثيرون عن ذلك أصدق تعبير حين يعربون عن تلك الآمال العريضة التي انتعشت لديهم بفضل وجود ووعود صوفي أبو طالب، رئيس مجلس الشعب، ثم شعورهم بالإحباط الشديد حين لم تتحقق هذه الآمال. وكمثال على ذلك، نستمع إلى عبد الحميد عبد السلام وهو يقول «وكان أملنا في مجلس الشعب عندما تعين صوفي أبو طالب رئيسًا له، وإصدار قرارات بتقنين الشريعة الإسلامية، وحتى الآن لم يحدث أي تقدم أو جديد في هذا الأمر» (٨ / ٤).
تأمل معي أيها القارئ مستوى الوعي لدى هؤلاء الشبان حين يتعلق آمالهم بواحد من تلك الشخصيات التي التقطتها ثورة يوليو لتجعل منها — ويا للسخرية — تعبيرًا عن الشعب ورمزًا له. انظر إلى الحقيقة المريرة التي تتمثل في اختيار هذه الثورة، على مراحل متعاقبة لأناس يتبرأ منهم الشعب، مثل حافظ بدوي أو صوفي أبو طالب، أو أنور السادات نفسه في وقت من الأوقات، لكي تجعل منهم رؤساء لمجلس يُفترض أنه نيابي يعبر عن إرادة الشعب، وتأمل معي إلى أي حد يُحتقر الشعب ويُزدرى في مثل هذه الاختيارات.
وانظر إلى مدى قصور الوعي لدى شباب هذا التنظيم حين يغفلون عن سوءات هذه الشخصية ويضعون آمالهم فيها … ولو كان صوفي أبو طالب قد سار بعض الخطوات في تقنين الشريعة الإسلامية، بنفس طريقة النفاق الديني التي كان يسير عليها العهد كله، لأصبح في نظرهم بطلًا تاريخيًّا!
وأخيرًا، انظر إلى سذاجة ذلك الكاتب الذي يقرأ عبارات كهذه ولا يلفت نظرَه فيها شيء، بل وتحسر معي على مستوى تحليله حين تراه يقول في نفس الصفحة التي ورد فيها هذا الكلام الواضح الصريح، وقبل عمودين فقط: «إذ تكشف التحقيقات عن درجة عالية من الوعي الديني والسياسي لدى أفراد الجماعة، وأن انتماءهم (كُتبت بخطأ مطبعي هو انتحارهم) الأول والأخير كان للإسلام ولمصر» (٨ / ٢).
ولقد كان موضوع فصل الدين عن الدولة من الموضوعات التي أثيرت مرارًا عند حديث أعضاء الجماعة عن أسباب القتل. ويكفي، على سبيل المثال، أن نشير إلى قول حسين عباس «وهو قد خرج من دين الله بكلمة قالها وهي: لا دين في السياسة ولا سياسة في الدين.» وكذلك قول عطا طايل: «بل تعدى الأمر ذلك وطالب بفصل السياسة عن الدين، وهذا ليس من الإسلام في شيء، وعندما تُعزل السياسة عن الدين ففي أي نهج يمكن أن يقودنا القائد؟» (٨ / ٤).
والواقع أن دعوة «الإسلام دين ودولة» التي تدافع عنها هذه الجماعات، والتي هي أساس خصومتها مع أنظمة الحكم القائمة، تتناقض تناقضًا صارخًا مع ممارسات هذه الجماعات الإسلامية ذاتها، فهذه الممارسات عندما بلغت ذروتها وتحققت على أكمل وجه، لم تتجاوز نطاق اغتيال الحاكم لأسباب شعائرية شكلية، والدخول في معارك حامية مع أفراد الطوائف الأخرى من أجل المساجد والكنائس، والكفاح في الجامعة من أجل منع الاختلاط وتحريم الموسيقى والحفلات المشتركة … إلخ. والمفروض فيمن ينادون بالإسلام دينًا ودولة أن يبدءوا هم أنفسهم بضرب المثل، ويقدموا الممارسات العملية التي تثبت دعوتهم، أي أن يكون لهم رأيهم الإسلامي الواضح في أوضاع الدولة ومظاهر الاستبداد فيها وسياستها الداخلية والخارجية. أما ممارساتهم الحالية فتثبت أن الإسلام، كما يفهمونه، أبعد ما يكون عن إدارة شئون الدولة المعقدة، ولو قامت الدولة التي يدعون إليها لكان أقصى ما تصل إليه هو إقامة المساجد والصلوات في كل مكان، وتأمين النساء لرجالهن «من عيون الذئاب» (التي هي في الواقع ذئاب إسلامية أيضًا!) على حد التعبير الشائع بينهم، وتعميم إطلاق اللحى والحجاب والجلباب، بينما تُترك بقية الأمور معلقة بلا حل، معرضة لتلاعب المحترفين واللصوص، أي صورة أخرى مما يجري في بعض الدول التي تزعم أنها طبقت الشريعة الإسلامية، بل أسوأ منها لأن هذه الأخيرة تملك على الأقل ثروات نفطية. وبعبارة أخرى، فلن يستطيع معتنقو شعار «الإسلام دين ودولة» أن يخدموا شعارهم هذا خدمة حقيقية إلا إذا أثبتوا أنهم قادرون على تسيير شئون الدولة بالمعنى الحديث، والاهتمام بكافة جوانب الحياة فيها. أما في وضعهم الراهن فإن المعنى الواقعي لشعارهم هو «الإسلام دين ودولة ليست لها وظيفة إلا ممارسة شعائر الدين».
وعلى أية حال فقد كان فصل الدين عن السياسة، ذلك المبدأ الذي سارت عليه مصر منذ أول عهود نهضتها الحديثة، والذي كان يدافع عنه زعماءُ متدينون، على المستوى الشخصي مثل مصطفى النحاس، بطريقة صريحة وقاطعة، كان في نظرهم من جرائم السادات الكبرى، وكان السادات يستحق القتل لأنه اتبع في هذه المسألة نفس الطريق الذي سارت عليه البشرية المتقدمة منذ أن خرجت من ظلام العصور الوسطى ومن إرهاب رجال الدين وتسلطهم. وبالطبع فإن هذا يثير سؤالًا أساسيًّا: لماذا اختير السادات بالذات بالقتل من أجل هذا السبب، مع أن معظم حكام العالم، وحتى العالم الإسلامي، يعترفون بمبدأ فصل الدين عن السياسة؟ في اعتقادي أن السبب الذي أوردته في فقرة سابقة هو الذي يعلل هذه الظاهرة، فالسادات قُتل لأنه داعب آمال هذه الجماعات، التي أعادها هو ذاته عمدًا إلى الحياة، ونافقها ووعدها بقرب تحقيق أهدافها، ثم تراجع أمام الأمر الواقع الذي يبدو أنه كان على وعي به منذ البداية، وكذلك أمام القوة المتزايدة للجماعة، التي لا يبدو أنه حسب حسابها في البداية، أي إنه قُتِل لأنه من بين كافة الزعماء الذين يَفْصِلون الدين عن السياسة، هو وحده الذي تجرأ على أن يلعب هذه اللعبة الخطرة، لعبة تقديم الوعود العريضة للجماعات الإسلامية، والتلويح لها بأن أهدافها على وشك أن تتحقق، وخُيِّل إليه أنه يستطيع فيما بعد أن يتراجع عن هذه اللعبة ويخرج من تراجعه سالمًا — وكان هذا هو خطؤه القاتل.
وأخيرًا، فقد كان هناك سبب أساسي، تكرر على لسان الأعضاء الرئيسيين في التنظيم، يتعلق بوضع المرأة في المجتمع؛ وأعني به موقف السادات من الحجاب، وقيامه بتعديل قانون الأحوال الشخصية. فقد تحدث عبد الحميد عبد السلام، باستنكار، عن لجوء السادات إلى السخرية من الحجاب الذي فرضه الله تعالى على نساء المسلمين. كما استنكر عطا طايل «معارضة رئيس الجمهورية لأمر الله سبحانه وتعالى بأن تبقى المرأة في بيتها ولا تخرج إلا للضرورة، والاستهزاء من حكم النقاب للإسلام والسخرية به وهو حكم إلهي به نص شرعي في القرآن» (٨ / ٤). وتحدث حسين عباس عن أنه «كان يستهزئ ببعض آيات الله مثل قوله عن الحجاب الشرعي إنه خيمة» (٨ / ٤). أما أمير الجماعة فيقول: «كفاه حربًا على الإسلام … وصفه زي زوجات النبي صلى الله عليه وسلم بأنه خيمة … ووصفه لالتزام المرأة ببيتها حسب أمر الله تعالى وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ بأنه تخلف» (٩ / ٣). أما صدور قانون الأحوال الشخصية فقد أثار الجماعة ثورة عارمة، وهو ما يعترف به الكاتب؛ إذ يقول: «كما صدر قانون الأحوال الشخصية الذي أثار الجماعة الإسلامية باعتباره خروجًا على الشريعة الإسلامية، وصدر في لمح البصر لأن حرم الرئيس كانت وراءه، في حين ظل تقنين الشريعة الإسلامية سنوات وسنوات دون أن تنجز شيئًا» (٧ / ١). وقد ورد هذا الكلام ذاته على لسان عبد الحميد عبد السلام (٨ / ٤)، كما قال عطا طايل: «حتى ما تبقى من الشريعة الإسلامية، وهو قانون الأحوال الشخصية، قام بإلغائه ووضع قانونًا جديدًا» (٨ / ٤).
- الأولى: هي الدور الهام الذي تلعبه أخلاق الجنس في تفكيرهم، وانصراف قدر كبير من جهودهم إلى موضوع حجب المرأة عن المجتمع، والخوف المرضي من التعامل مع المرأة بوصفها ندًّا للرجل وشريكًا متساويًا معه، وما يكشف عنه ذلك ضمنًا من نظرة شريرة إلى الطبيعة البشرية تكون فيها عين الرجل أشبه بعين ذئب، وأداة لهتك عرض المرأة، ويكون الطمع الجنسي هو المسيطر في أي التقاء بين الرجل والمرأة، وهي نظرة تكشف الكثير عن العُقد النفسية لأصحابها.
- والثانية: هي سيادة الأمور الشكلية على تفكيرهم، إلى حد أن يجعلوا من رأي رئيس الجمهورية في زي المرأة سببًا رئيسًّا لقتله.
- والثالثة: هي التجاهل التام لمسار التاريخ واتجاه التطور الاجتماعي، بحيث يتمسكون بالزي الذي كان صالحًا لزوجات الرسول، في مجتمع معين وبيئة معينة وعصر معين، كما لو كان صالحًا لكل مجتمع وبيئة وعصر، مع أن الزي، بوجه عام، ليس من أساسيات العقيدة على الإطلاق، فضلًا عن أنه، حتى لو كان قد ورد فيه نص، من الأمور القابلة بطبيعتها للتغير تبعًا للظروف التي يعيش فيها الإنسان. والأهم من ذلك أن التعديلات التي أُدخلت على قانون الأحوال الشخصية، والتي أقامتهم ولم تقعدهم، كانت تعديلات طفيفة جدًّا، يظل إطارها العام إسلاميًّا بحتًا، وكل ما في الأمر أنها تصرفت قليلًا في تفسير بعض النصوص المتعلقة بالطلاق والتعدد وبيت الطاعة، من أجل إعطاء مزيد من الحقوق للمرأة، فكان هذا في نظر الجماعة كفرًا وخروجًا على شريعة الله. أما مسألة عمل المرأة وخروجها من البيت، فقد كانت وجهة نظرهم فيها أحط مستوًى من وجهة نظر المشايخ الذين عارضوا قاسم أمين منذ ثمانين سنة؛ لأن خروج المرأة للعمل، بل مجرد خروجها من البيت، يعد في نظرهم كفرًا بشريعة الله.
هذه هي الأسباب الحقيقية، والوحيدة، التي دعت جماعة الجهاد إلى قتل السادات. وفي إطار هذا التفكير الشديد التخلف، فسرت الجماعة تصرفات السادات، وأصدرت حكمها بأن دمه حلال. وحين يتأمل المرء هذه الأسباب، تتملكه دهشة هائلة من تلك الأوصاف التي امتلأت بها مقالات الكاتب عن وطنية المقاتلين وسمو مقاصدهم ونبل أهدافهم. فليقارن القارئ بين تلك الشواهد التي قدمناها من الأقوال المباشرة لأقطاب الجماعة، وبين الأوصاف الشعرية التي قدمها الكاتب، والتي لا تستند إلى أي أساس من الواقع: «انتهى كل شيء بيد جيش مصر، وبروح مصر وبأيدي مصر، وبتراث مصر، تعبيرًا عن إرادة مصر الجماعية» (٨ / ١). ويقول عن خالد «قاتل كي يخلص مصر من الطغيان والفساد … وظهر النور يشع من وجهه، وقال لأمه: (نحن أحرار وأنتم مساجين …) وإليه يرجع الفضل في ما تنعم به مصر الآن من حرية نسبية وبشائر ديمقراطية وإعادة الحياة للصحف والكرامة للجامعة …» (٨ / ١). وليقارن المرء أسباب القتل الحقيقية بما يقوله الكاتب بعد أن عرض هذه الأسباب من خلال أقوال المجموعة، ولم يستنتج منها إلا الاستنتاج العكسي، وهو: «الحقيقة أن روح مصر هي التي غيرت وجه مصر، وما الضابط خالد ورفاقه، وجماعة الجهاد، والأصولية الإسلامية إلا الجانب التنفيذي فقط … فإن الضابط خالد ورفاقه يعبرون إذن عن إجماع وطني شامل، وكان هو مجرد الأداة المنفذة لإرادة شعبية عامة، وتجلت فيه روح مصر الجامعة بين الإسلام والوطنية وطهارة الشباب ومثله، والعلم النافع المقرون بالعمل …» (٨ / ٤).
روح مصر، والإجماع الوطني الشامل، هي إذن تلك التي تتمثل في رفض أية زحزحة بسيطة عن قانون الأحوال الشخصية، وفي الإصرار على بقاء المرأة في البيت، وفي رفض الفصل بين الدين والسياسة، وعدم الاعتراف بمبدأ الديمقراطية وحكم الشعب، وتعليق الآمال الكبار على صوفي أبو طالب …
إن الأمانة والموضوعية الفكرية تحتم على المرء أن يتوصل هنا إلى نتيجة أليمة هي أن أولئك الذين قتلوا السادات لهذه الأسباب الشكلية، ولم تهتز مشاعرهم أو يثور غضبهم بسبب الفقر المدقع الذي يعيش فيه الملايين والثراء الفاحش الذي يتمتع به اللصوص في عصر الانفتاح، أولئك الذين تثيرهم السخرية من الحجاب ولا يثيرهم سكنى مليون إنسان في مقابر القاهرة، أولئك الذين تحركهم الدعوة إلى إعطاء المرأة حق العمل أو بعض الحريات الشخصية، في إطار محدود جدًّا، ولا يحركهم القمع والإرهاب وتزييف الانتخابات ووضع الوطنيين في السجون بقوانين استثنائية مزيفة، أولئك الذين يغضبون إلى درجة التصميم على القتل بسبب مبدأ فصل الدين عن السياسة وعدم تطبيق الشريعة الإسلامية، ولا ينطقون بحرف ضد الأحلاف والقواعد العسكرية الأميركية، بل يجعلون من التصدي للصهيونية هدفًا ثانويًّا ينبغي إرجاؤه؛ أقول إن هؤلاء لا يمكن أن يكونوا هم الذين يمثلون روح مصر، ولا وطنية مصر.
بل إن الأمانة والموضوعية الفكرية توصلنا إلى نتيجة أكثر إيلامًا، فقد كان السادات حاكمًا يمتلئ سجله بالسيئات، ولكنه كان في جوانب قليلة مضطرًّا — كأي حاكم يعيش في هذا العصر — إلى مسايرة جوانب من روح العصر الحديث، والمأساة الحقيقية تكمن في أن السادات لم يُقتل من أجل سيئاته الكثيرة، بل قُتل من أجل تلك الجوانب القليلة التي يمكن أن تُعد، من وجهة نظر الفكر الذي أومن به، جوانب إيجابية. لقد تجاهلت الجماعة جرائم السادات الكبرى، ولم تحرك فيها تلك الجرائم أية رغبة في تخليص البلاد منه، وإنما تحركت الجماعة وانفعلت واستشاطت غضبًا لأنها وجدت لديه اتجاهًا بسيطًا لإعطاء المرأة بعض حقوقها الإنسانية، ولإبعاد الدين عن السياسة، ولمهاجمة التنطع الديني والدروشة العقائدية، وهو اتجاه لم يكن يرجع إلى فضيلة كامنة في شخص رئيس مصر السابق، بقدر ما يرجع إلى استحالة تجاهل أي حاكم لتجارب قرنين من التطور والتقدم في بلاده.
وأخيرًا، تأتي أكثر النتائج كلها إيلامًا، وهي أن يُضْطَر المرء إلى الاعتراف، بدافع الأمانة والموضوعية الفكرية أيضًا، بأن هذا النوع الخاص من القتل، أعني قتل جماعة الجهاد للسادات بناءً على الأسباب الخاصة التي وردت في أقوالهم، إنما هو قتل للتحديث الذي هو جزء منا جميعًا — أعني من المثقفين المستنيرين — وقتل للعصر الحديث بأكمله، ولكل تقدم وتحرر حققته الإنسانية فيه. إن إرادتهم لم تتجه إلى قتل السادات وحده، بل كانوا يقتلون معه نيوتن وجاليليو وفولتير وقاسم أمين وطه حسين (وحسن حنفي ذاته، كما يعبر عن نفسه في غير هذه المقالات) وكل من أسهم في تحديث المجتمع ورفع غشاوة الظلام عن أعينه، بل كل من فكر بطريقة نقدية لا تعتمد على الطاعة والتسليم المطلق. لقد كانت نيتهم تتجه إلى قتل المبادئ التي ناضلت البشرية، من أجل اكتسابها، ضد طغاة العصور ومزيفي الأفكار من كل لون وشكل … أما خيانات السادات الحقيقية، وجرائمه التي دخل من أجلها التاريخ من أظلم أبوابه، فلم يكن لها عندهم أي حساب.
(٦) صورة المستقبل
لا يدع الكاتب مجالًا للشك في إيمانه بأن موجة المستقبل، في بلادنا، هي ما يسميه بالأصولية الإسلامية، وعلى عكس الرأي القائل بأن هذه الجماعات مشدودة إلى الماضي، وإلى العصر الذهبي، هروبًا من الحاضر، يرى حسن حنفي أن «الدعوة الجديدة دعوة مستقبلية … وتعطي المسلمين أملًا جديدًا؛ فالمستقبل يحتوي على إمكانية أكثر من الماضي، والمسلم يتجه بقلبه نحو المستقبل … وليس نحو الماضي» (١٢ / ١). ولا يكتفي الكاتب بذلك، بل يذهب إلى حد القول إن هذه الجماعة تحررت من أغلال الماضي: «ثم يأتي البُعد الثالث للزمان، وهو الماضي وضرورة التحرر من الارتباط به … من أجل تحقيق الانطلاقة نحو المستقبل. وهنا تبدو الحركة السلفية كرؤية مستقبلية للعالم، لا عودة إلى الماضي كما هو معروف في كتب علم الاجتماع الغربي وفي أذهان الباحثين المعاصرين المتأثرين بالغرب وبأحكامه المسبقة؛ فالإسلام مقبل وليس مدبرًا، والمستقبل أكثر غنًى من الماضي» (١٢ / ١).
ولكن الكاتب سرعان ما يرد على نفسه بنفسه، كما اعتاد دائمًا، وسرعان ما يتناقض مع الرأي الذي رأيناه يتحمس له؛ فقد تحدث عن أربع مراحل للتاريخ الإسلامي، كما يعرضها كتاب «الفريضة الغائبة». أما المرحلة الخامسة، المستقبلية، فإنه يصفها بأنها «عودة إلى الخلافة والحكم بسنة النبي، أي عودة إلى المرحلة الثانية» (١٢ / ١). هذه المرحلة الخامسة التي يصفها بأنها «تمثل النهضة ومستقبل الأمة» هي «مرحلة البداية الجديدة، والعودة إلى المرحلة الأولى، مرحلة البداية» (١٢ / ٢). وهكذا تكون هناك نظرة مستقبلية حقًّا، ولكن المستقبل هنا ليس إلا تكرارًا لمرحلة ماضية واقتداءً بها، أما النظرة المستقبلية التي تترك الباب مفتوحًا أمام أية احتمالات لم تتكرر من قبل، فهي غريبة تمامًا عن هذا الفكر.
على أن المؤلف يرد على نفسه، ويفند كل ما قاله، بطريقة أصرح في موضع آخر، فيقول تعليقًا على فكر هذه الجماعة: «والحقيقة أن الماضي هو الذي فرض حكمه على الحاضر بناءً على أزمة الحاضر وعزلة الفكر الإسلامي عنه، فسرعان ما ألقى الحاضر بثقله كله في الماضي فوجد المبررات الكافية للخروج على الدولة دون مراعاة لاختلاف الظروف التاريخية بين الماضي والحاضر» (٠ / ٢). وحين يعرض الكاتب ملاحظاته على كتاب «الفريضة الغائبة» نجد أن أولى هذه الملاحظات تقول: «سيادة النصوص الخام … في التحليل النظري أو وصف الواقع الحالي للمسلمين مما يدل على عزلة الجماعة عن واقعها وإيجاد بديل عنه في التراث القديم … مما جعلهم يُسقِطون عامل التاريخ والزمن من الحساب.» وملاحظته الثانية هي «سيادة الماضي على الحاضر، والعيش في الفترة الزمنية الأولى التي انتصرت فيها الدولة الإسلامية» (١٣ / ٤). وهكذا يُثبت الكاتب نفسه ارتباط هذه الجماعة بفترة العصر الذهبي الأولى للإسلام، وإسقاطها كل التاريخ التالي من الحساب، وهو وضع جعل من المستحيل على إعطائها رؤية الحاضر على حقيقته؛ لأنهم كانوا يتأملونه دائمًا بمنظار الماضي، فإذا كانوا عاجزين عن رؤية الحاضر نفسه، وإذا كانوا قد عزلوا أنفسهم عنه، ألن تكون النظرة المستقبلية بالنسبة إليهم أكثر استحالة؟
فإذا تركنا جانبًا البحث النظري في إمكان وجود رؤية مستقبلية لدى هذه الجماعات وانتقلنا إلى صورة المستقبل الفعلية كما يراها الكاتب، وجدناه في مواضع كثيرة يؤكد أن المستقبل للأصولية الإسلامية؛ لأنها هي التي تم على أيديها «خلاص مصر الأخير»، ولما كانت قوى المعارضة الأخرى قد أثبتت عجزها، فإن الشعب «لن يتورع (!) عن الانضمام للحركة الإسلامية المنظمة بعد أن أثبتت جدارتها وقدرتها على الفعل … وأي إعلان يتم في الحاضر أو في المستقبل عن حركة إسلامية عامة ستنضم إليها جموع الشعب» (١٤ / ١). وبعد قليل يقول «وسيزداد الرصيد الإسلامي أكثر فأكثر في وجدان الشعب بعد أن توارت المنظمات اليسارية» (١٤ / ١)؛ وذلك لأن الأصولية الإسلامية «قدمت نفسها على أنها القادرة على قيادة الشعب وعلى الوقوف في وجه السلطان الجائر» (١٤ / ٢). ثم يعلن الكاتب رأيه بوضوح تام إذ يقول: «وإذا كانت الأصولية الإسلامية في حاضر مصر تتعمق أكثر فأكثر، ويزداد رصيدها الشعبي نظرًا لما حازت عليه من ثقة بها، وقدرتها على الإنجاز، وشرعيتها التاريخية في الماضي والحاضر، فإنها أيضًا تقدم نفسها على أنها مستقبل مصر الذي لا بديل له مهما كانت هناك من إنجازات اجتماعية وسياسية تقوم بها الأيديولوجيات الثورية العلمانية، فهي البديل المستقبلي الوحيد» (١٥ / ١).
وهكذا يتأكد القارئ، بعد أن يقرأ هذه السطور الواضحة، أن الكاتب قد أرسى سفينته، وسفينة البلاد كلها، في مرفأ آمن مستقر، هو الأصولية الإسلامية، ولكن سرعان ما يخيب أمله إذ يجد الكاتب، في نفس المقال، يتخذ كعادته موقفًا مخالفًا، ويرد على نفسه بنفسه، فينتقد الجماعة الإسلامية لأن «الظروف النفسية التي نشأت فيها … جعلتها أقرب إلى الانعزال والانغلاق عن جماهير الشعب … وظروفها النفسية والتاريخية جعلتها تتعثر في أداء الدور؛ فالحاكمية حتى الآن لم تترجَم على الصعيد السياسي والاجتماعي بالنسبة لمصر بإحصاء كمي دقيق وبرنامج وطني واضح» (١٥ / ٣). وهكذا يتضح أن هذه الجماعة التي قيل عنها إنها البديل المستقبلي الوحيد، «والتي حققت له (للشعب) مطالب حاضره، ويرجو منها (الشعب) أن تحقق آمال مستقبله» (١٥ / ١)، هي بالفعل معزولة عن الجماهير، منغلقة على نفسها، عاجزة عن وضع برنامج واضح. وتهبط آمال القارئ في الاستقرار على رأي نهائي وفي الاطمئنان على مستقبل واضح المعالم، من السماء إلى سابع أرض، حين يتضح له أن الكاتب يوجه كل هذه الانتقادات القاسية إلى نفس الجماعة التي كان يؤكد منذ قليل أنها، لو أتيحت لها فرصة الدعوة الحرة لنفسها، لانضم إليها الشعب كله (١٤ / ١). بل إن حيرة القارئ ستزداد حين يفكر قليلًا فيما يطالب به الكاتب، وهو أن «تترجَم الحاكمية بإحصاء كمي دقيق وبرنامج وطني واضح»؛ إذ يعلم القارئ أن الحاكمية هي ترك الحكم لله وعدم الإيمان بحكم البشر، فكيف تترجَم هذه الفكرة إحصائيًّا وكميًّا؟ وكيف تتحول إلى برنامج وطني واضح؟ ألا يعني هذا، من ضمن ما يعنيه، ترجمة الحكم الإلهي إلى حكم بشري، وهو المبدأ المرفوض أصلًا لدى الجماعة؟
ولا بُدَّ أن القارئ قد لاحظ، في المقتطفات التي اقتبسناها، ذلك الخلط الذي شاع في المقالات كلها، وفي أجزائها الأخيرة بوجه خاص، بين الإسلام بوجه عام وبين تنظيم إسلامي له فكره الخاص المحدود، وهو تنظيم الجهاد، أو بين هذا التنظيم والأصولية الإسلامية، وهو خلط لا بُدَّ أن تكون له نتائج خطيرة بالنسبة إلى تقييم الكاتب للحركة ونظرته إلى المستقبل، ولا بُدَّ أن تنعكس هذه النتائج الخطيرة على أذهان قرائه في صورة حيرة وبلبلة فكرية شديدة.
إن الكاتب كان على حق عندما أشار إلى التأثيرات السلبية للظروف النفسية والتاريخية التي مرت بها الجماعة، فقد ظهرت الجماعة في السجون، وتحت وطأة التعذيب والإرهاب، أي إنها ظهرت في ظروف شاذة، كانت تحتم أن تكون عناصر كثيرة في تفكيرها ذات طابع مَرَضي. وقد وصفها أحد أعضاء الجماعة (ممدوح محرم) في شهادته بأنها «مرض فكري» (١١ / ٤)، فكيف يقبل الكاتب أن يصبح هذا الفكر حالة دائمة تعبر عن المستقبل؟ وكيف يتمنى لبلاده أن يكون الفكر الذي يسود مستقبلها فكرًا تولد في ظل سادية ضباط السجون أو الحكام المنحرفين في بعض الفترات غير المضيئة من تاريخنا؟
فلنتابع، على أية حال، تصور المؤلف للمستقبل وموقع الجماعة الإسلامية فيه، فبعد أن بدأ بالقول إنها هي البديل المستقبلي الوحيد، وجه إليها في نفس الصفحة انتقادات تجعل هذا البديل الوحيد مظلمًا بحق. وفي الخطوة الثالثة يقدم صيغة جديدة: هي أن الناصرية هي «مستقبل مصر القريب، والإسلام مستقبل مصر البعيد» (١٥ / ٣). أما الخطوة الرابعة فتقدم صيغة أخرى، تنضم فيها كل التيارات الإسلامية والليبرالية واليسارية تحت جناح «الناصرية الشعبية»، فتصبح هذه الصيغة هي مستقبل مصر. أي إن الأصولية الإسلامية تراجعت، في مقال واحد، من تعبير وحيد عن مستقبل مصر (ومستقبل العرب كلهم على الأرجح)، إلى مجرد تيار ممثل في تحالف كبير، بحيث ينطوي الجميع تحت جناح الناصرية.
ويتخذ الحل الجديد، عمليًّا، صيغة «مصالحة علنية بين الإخوان والثورة». وحين يفكر المرء قليلًا في هذه «المصالحة» تتملكه الحيرة؛ فالإخوان لم يعودوا هم المسيطرين على الجماعات الإسلامية التي تنشط في هذه الأيام، والثورة لم تعد ثورة عبد الناصر ولا حتى أنور السادات، بل يمسك زمامها الآن رجل ليست له أية علاقة مباشرة بالثورة في الأعوام الخمسة والعشرين الأولى من تاريخها، فأية صورة إذن يقصد، وأي إخوان؟
على أية حال فإن المطلوب في النهاية هو إرضاء الجميع: الأحزاب القديمة، اليسار، الناصرية، الجماعة الإسلامية القديمة والجديدة. أعني كل التيارات التي كانت مشكلتها التاريخية هي أنها لم تعرف كيف تتعايش سويًّا، ولكن حسن حنفي يطلب إليها أن تفعل ذلك «في إطار من الاحترام المتبادل للرأي المعارض» (لا أدري كيف، بعد كل هذا التاريخ من الخلافات)، وتتحول الجماعة الإسلامية إلى «جناح»، واليسار إلى جناح آخر، أما الثورة فهي «قلب مصر» (لاحظ أن الإسلام كان هو القلب طوال الوقت) أما الرأي فهو التاريخ الليبرالي، أي الأحزاب، وتصبح الصيغة التوفيقية أشبه بنهاية سعيدة لفيلم عربي رخيص، يتزوج فيه جميع الأبطال من جميع البطلات. ثم يتمخض الجبل فيلد فأرًا، وتتقلص وسيلة تحقيق مشروع المستقبل إلى مطالبة الثورة المصرية بأن تقدم للإخوان «اعتذارًا رسميًّا على صفحات التاريخ» (!) وتعيد إليهم المركز العام في الدرب الأحمر … إلخ. وتنتهي التحليلات الطويلة العريضة بصيغة توفيقية رخيصة لا ندري كيف يمكن إخراجها إلى حيز التنفيذ بعد ذلك التاريخ الطويل من العداوات الدامية بين الأطراف المتصالحة. ولمزيد من الاحتياط، وحتى لا تحدث أية مضاعفات، يتبرأ الكاتب من الثورة الإيرانية في السطور الثلاثة الأخيرة، فينادي بالثورة الإسلامية في مصر «دون تقليد لثورات إسلامية أخرى معاصرة» (١٥ / ٤) … وبهذه السطور الحذرة، التي تزيد الموقف غير الواضح غموضًا، وتعبر عن تراجع آخر للكاتب، وإيثار للهجة المصالحة والخوف على الذات، بعد كل الجهود التي بذلها لنشر فكر الثورة الإيرانية في مصر — بهذه السطور تنتهي ملحمة حسن حنفي عن الأصولية الإسلامية.
(٧) الأصولية الإسلامية وحكم التاريخ
لم يكن لنا مفر من أن نكتب بقسوة ضد مجموعة من المقالات تصدت لموضوع خطير كل الخطورة، واتخذت منه مواقف مائعة، تميل في معظم الأحيان إلى التأييد الحماسي والعاطفي، دون أن تتنبه إلى خطورة الفكر الذي تتحدث عنه على الألوف المؤلفة من الشباب في كافة أرجاء العالم العربي، ودون أن تتصدى بموضوعية وحزم وشجاعة لجوانب القصور فيه. ولقد أعلن كاتب هذه المقالات، منذ اللحظة الأولى، أنه سيأخذ في بحثه بمنهج «متعاطف»، فلا يسارع إلى الإدانة، ولا يقدم معلومات تفيد أعداء الوطن، بل يندمج في الظاهرة من داخلها، ويصبح جزءًا منها، حتى يفهمها من حيث هي خبرة وتجرِبة مُعاشة. وهذه طريقة في البحث جديرة بكل تشجيع واحترام، لو طُبقت كما ينبغي أن تطبَّق.
فالتعاطف لا يعني على الإطلاق، التدليل أو التضليل؛ تدليل أعضاء الجماعة التي يبحثها بالتغاضي عن أخطائهم، وتضليل الجماهير بتقديم صور مشوهة لمثل هذه الظاهرة الخطيرة، بل إن التعاطف الحقيقي مع الشباب الذين آمنوا بهذا الفكر وانساقوا في تياره بعيون مغمضة، إنما يكون بتبصيرهم وتوعيتهم وتنبيههم إلى أخطائهم. هذا هو التعاطف الناضج، المسئول، أما إغماض العين على السلبيات الخطرة والمخيفة فهو تعمية فكرية تتنافى مع مسئولية المفكر إزاء جمهوره وإزاء الأجيال الجديدة منه على وجه التخصيص. ولكن الذي حدث بالفعل هو أن الكاتب كان عاجزًا عن الخروج من شرنقته الخاصة، فألبس الجماعة التي يَدرُسها آراءه الخاصة، وأخذ ينسب إليها ما ليس فيها، وما يتمنى هو أن يكون فيها. وفي الحالات التي كان السياق يرغمه فيه على سرد آرائها على ما هي عليه، كانت جوانب الضعف فيها تنكشف رغمًا عنه، فتكون النتيجة تناقضًا صارخًا، هو في الحقيقة تناقض بين الواقع الفعلي لتفكير الجماعة والنموذج أو المثل الأعلى الذي أراده لها حسن حنفي. وهذه هي النتيجة التي لا بُدَّ أن ينتهي إليها كاتب لا يستطيع إلا أن يرى نفسه في الموضوع الذي يكتب عنه. وهكذا تحول التعاطف من اندماج في الظاهرة ومعايشة لها مع احتفاظ العقل بالموضوعية التي تتيح له أن يدرس الظاهرة من خلال منطقها الخاص، إلى إذابة الكاتب للظاهرة في فكره هو، والقضاء على ما هو مميز فيها من أجل إحالتها إلى مرآة لفكر الكاتب نفسه. وهذا ليس تعاطفًا، بل إنه ليس منهجًا علميًّا بأي معنى، وإنما هو ذاتية مطلقة لعقل يعجِز عن الخروج عن ذاته، مهما كانت الحقيقة الموضوعية أمامه صارخة.
•••
- (١)
فالمرء، حين ينتقد بقوة الاتجاه الفكري للجماعات التي ينتمي إليها تنظيم الجهاد، يدخل أولًا في معركة مع ذاته؛ إذ إنه يهاجم وهو في الوقت ذاته يحس نحوهم بالإعجاب؛ فها هي ذي حالة من الحالات النادرة التي وجد فيها شباب ينتمون إلى الأمة العربية قضية تستحق أن يضحوا بحياتهم من أجلها، وحققوا هذه التضحية بصورة بطولية. ويشهد كل من يعرفون كاتب هذه السطور عن كثب بمدى الإعجاب الذي أحس به إزاء هؤلاء الشباب في اللحظات التي كانوا يتقدمون فيها بصدورهم لمواجهة الحاكم الغاصب. إنها ظاهرة أصبحت نادرة وسط الانهيار المعنوي الشامل الذي أصاب العرب في السنوات الأخيرة. ومن هنا كان المرء في حاجة إلى خوض معركة مع ذاته لكي يتساءل: من أجل أية قضية قام هؤلاء الشباب بهذا العمل البطولي، وبهذه التضحية النادرة؟ ووسط الانبهار والرجفة التي كانت تتملكني وأنا أقرأ عن وصف كلٍّ من أفراد مجموعة الاغتيال للآخر بلقب «الشهيد» وهو ما يزال حيًّا؛ كان لا بُدَّ من قدر كبير من السيطرة على الانفعال التلقائي والمباشر لكي يتجاوز المرء إعجابه ويفكر بتجرد فيما حدث، وينتقد آراء أولئك الذين جرفتهم انفعالاتهم، كحسن حنفي، فتغاضوا عن الأسباب الحقيقية التي دعت تنظيم الجهاد إلى قتل السادات، بل وربطوا بين هذه الأسباب الشكلية الفارغة من المضمون الاجتماعي والسياسي، وبين أخطاء السادات الوطنية وظلمه الاجتماعي وسياسته الاقتصادية التخريبية؛ مما جعل أسبابًا مثل تغيير قانون الأحوال الشخصية، والسخرية من الحجاب ومن بعض أئمة المساجد، ترتفع في نظر الجمهور إلى مستوى العوامل الأخرى المصيرية وتكتسب نفس قيمتها؛ وبذلك تحرز، رغم ضحالتها، تأييدًا هائلًا بين صفوف الشباب.
- (٢)
وحين يُلزم المرء نفسه بالتفكير موضوعيًّا في هذا الحدث الكبير، لا يدخل في معركة مع ذاته ومع انفعالاته التلقائية فحسب، بل يدخل في معركة مريرة مع مشاعر الجماهير. فعندما يصدر المرء حكمًا قاسيًا على قتلة الحاكم الظالم، يسير ضد تيار الشعور الشعبي الذي يميل إلى تمجيدهم بلا تحفظ، ولا يتصور لهم من دوافع سوى الوطنية الخالصة. إن الإنسان العادي يراهم أبطالًا وشهداء؛ وذلك لسبب هام هو أن الحاكم الذي قضوا عليه كان يرمز لكل ما تكرهه هذه الجماهير، وكان في نظرها تجسيدًا لأسباب شقائها ومعاناتها وهزيمتها وإحباطها.
غير أن الجماهير كان لا بُدَّ أن تمجد قتلة السادات لسبب آخر، أهم وأعمق، فقد كان الشعب خلال السنوات الأخيرة من حكم السادات يعاني عجزًا تامًّا عن الحركة، وكانت آخر محاولة هي انتفاضة يناير ١٩٧٧م، ولكن هذه الانتفاضة كانت في الوقت ذاته نقطة تحول في أسلوب عمل الحكم، فمنذ ذلك الحين أصبح يتصرف في كل شيء مستهدفًا ألا يتكرر ما حدث في يناير ١٩٧٧م، واستُحدثت القوانين الاستثنائية، واتُّخِذت الإجراءات القمعية، واستُشيرت الحكومات الأجنبية التي لم تبخل بتقديم نصائحها ومعوناتها الفنية والمادية. كل ذلك من أجل ألا تحدث مرة أخرى تلك الانتفاضة الشاملة التي كادت، رغم تلقائيتها وعفويتها، أن تدك عروش الطغاة في مصر. ومنذ ذلك الحين والضربة تأتي على رءوس أبناء الشعب تلو الضربة، دون أن يستطيع أحد مواجهة الطغيان بأية طريقة فعالة، صحيح أن المعارضة الشعبية، كانت تقوم من وقت لآخر بردود فعل شجاعة، وأحيانًا بطولية، كما فعلت بعض النقابات المهنية مثلًا، ولكن هذا كله كان محدود التأثير، ولم يكن يمس السلطة مساسًا حقيقيًّا. وهكذا ساد إحساس عام بأنه لم يعد هناك شيء يقف في وجه السلطة الفاجرة ويهزها هزًّا عنيفًا ومؤثرًا، في نفس الوقت الذي كانت فيه الممارسات القمعية تعبئ طاقة السخط وتشحنها يومًا بعد يوم. وبلغ هذا الإحساس بالعجز ذروته في اعتقالات سبتمبر ١٩٨١م، التي لم يترك فيها السادات فئة أو جماعة أو طائفة في مصر إلا وتحداها، والتي بلغت فيها التعبئة النفسية للجماهير أقصى مداها.
وسط هذا الإحساس العارم بالسخط والنقمة، مصحوبًا بالشعور بالعجز واستحالة التصدي للسلطة مهما فعلت، أتى الحدث الضخم، المفاجئ، في أبعد الأوقات والأماكن عن التوقع، وهنا وجد الشعب في الحدث الكبير فرصته للإعراب عن سخطه على السياسة الظالمة، فصور المغتالين بأنهم لم يقوموا بعملهم إلا بدافع الثورة ضد القمع والظلم الاقتصادي والاجتماعي والتخاذل الوطني، وكان من الطبيعي في هذه الظروف أن يتجاهل أسبابهم الحقيقية، ويستعيض عنها بالأسباب التي كان هو ذاته خليقًا بأن يقتل السادات من أجلها، لو أتيحت له الفرصة، ولكن الأهم من ذلك أن الشعب كان يريد أن يقنع نفسه بأنه يستطيع أن يفعل شيئًا، ولم يكن في حالة استسلام للضربات المتلاحقة. وهكذا تبنَّى الجماعة التي نفذت العملية ونسب إليها أهدافه هو، وأغمض عينيه عن أهدافها الحقيقية، وشعر بالارتياح حين توحد مع هؤلاء الأبطال لأنه، بهذا التوحد، يصبح «هو» الذي فعل ذلك، ويصبح القتل إنجازًا لشعب كامل، لا مجرد عملية قامت بها جماعة منعزلة لم يخطر ببالها لحظة واحدة أن تتبنى آمال الشعب أو تثور من أجل ما يعاني منه.
وهذا بعينه هو ما جعل كاتبًا مثل حسن حنفي «لا يرى» الأسباب الحقيقية لعملية القتل، مع أنه كتبها بنفسه، وينسب إلى الجماعة أسبابًا أخرى «إسقاطية» تعبر عما كان يتمنى أن يكون هو السبب والدوافع. إنه بدوره يريد أن يوحد بين الجماعة وأمنيات الشعب، بل بينها وبين أمنياته الخاصة؛ حتى يبدد من داخله الشعور باليأس والإحباط، وتبدو الأمور كما لو أنه قد شارك هو ذاته في الفعل الإيجابي الحاسم. لذلك كان لا بُدَّ أن تنزلق عينه عن رؤية الأسباب الحقيقية للقتل، رغم أنها كانت تصرخ أمامه في كل كلمة قالها أفراد الجماعة ونقلها هو ذاته بيده.
- (٣)
بل إن الوقفة الموضوعية مع تنظيم الجهاد تؤدي بالمرء حتمًا إلى الدخول في معركة مع المعارضة السياسية حتى لو كان يتعاطف مع آرائها في معظم القضايا الأخرى؛ فالمعارضة الوطنية والتقدمية تبنت قضية تنظيم الجهاد، إلى حد غير قليل، وسعت إلى إيجاد شكل من أشكال التحالف معه، وتعاطفت مع دوافع منفذي العملية، ولم تتمكن بدورها من رؤية الحقيقة التي كانت تصرخ أمام أعينها، وهي أن التنظيم لم يقتل السادات إلا من أجل بعض الجوانب التي توجد في المعارضة ذاتها بدرجة تفوق وجودها في السادات ألف مرة (كالعلمانية والتحديث وفصل الدين عن الدولة). وهكذا سعت المعارضة إلى التوحد مع التنظيم وصمَّت آذانها عن الكلمات الصريحة لأعضائه، التي رددوا فيها أن أصحاب الأفكار العلمانية والتقدمية هم أعداؤهم التاريخيون.
إن المعارضة تعاطفت مع تنظيم الجهاد لأنه وقف موقفًا معاديًا للسلطة القائمة؛ ومن ثم فهو في نظرها «حليف موضوعي». وهي تتصور أنها قد تستطيع بهذا التعاطف أن تلين مواقفه المتصلبة وتشجعه على سماع وجهة نظرها وتخفيف عدائه تجاهها. ومن يدري، فقد يؤدي ذلك في نهاية المطاف إلى جبهة واحدة تتفق على برنامج مشترك، وتضمن به المعارضة إسهام تلك القواعد الشعبية العريضة التي ترتكز عليها الجماعات الإسلامية في جهودها من أجل التغيير.
ولكن السبب الأهم من ذلك، في رأيي، سبب برجماتي أو عملي؛ إذ يبدو لي أن المعارضة كانت تفكر — دون أن تعلن ذلك صراحة — على النحو الآتي: إن الجماهير تنظر إلى عملية اغتيال السادات على أنها عمل بطولي تم تنفيذه لأسباب وطنية واجتماعية تجاوبًا مع آلام الشعب ومعاناته؛ فلنكفَّ إذن عن التفلسف والبحث النظري في الدوافع الحقيقية لعملية الاغتيال؛ لأن أصول العمل السياسي تقتضي استغلال هذا الشعور المتدفق من أجل إعطاء الجماهير أملًا في أنها تستطيع أن تفعل شيئًا، وذلك بالتغاضي عن الأسباب والبواعث الحقيقية، ومسايرة الاتجاه الشعبي الذي يقول إن الشعب «هو» الذي قام بالعمل البطولي، بدافع من آلامه ومصاعبه. أما لو بحثنا نظريًّا في دوافع عملية الاغتيال، وفي الاتجاه الفكري الكامن من ورائها، فسوف نغامر بفقدان تعاطف الجماهير المتحمسة، وسوف يكون بحثنا عن الحقيقة في هذه الحالة سباحة ضد التيار، تأباها أصول العمل السياسي. إن من ينطق بهذه الحقيقة سيكون صوته أشبه بنعيق البوم، وستبدو صورته أشبه بقط أسود يقتحم قاعة الزفاف ويبعث في ساعة الفرح جوًّا من التطير والتشاؤم. فالناس يريدون أن يكون السادات قد قُتل لأسباب وطنية؛ لأنه ظلم الشعب وقمعه وباعه للأجانب وحرمه من قوته ومن أبسط حرياته، فكيف نصدم الناس، بعد هذا كله، بالحقيقة التي تقول إنه لم يُقتَل لهذه الأسباب، وما قيمة هذه الحقيقة التي تبرد الحماس الملتهب وتطفئ شعلة الأمل وتجعل الظالم المقتول يبدو كما لو كان أوسع أفقًا وأرحب فكرًا (في نواحٍ معينة) من القاتل البطل الشهيد؟ أليس تجاهل هذه الحقيقة والتغاضي عنها هو الموقف الأفضل، الذي لا يثبط عزائم الجماهير ولا يبعث فيها اليأس؟
إن موقف المعارضة يرتكز، كما نرى، على منطق قوي، أشبه بمنطق «الأكذوبة الملكية» عند أفلاطون، فهناك حالات معينة تكون فيها الحقيقة ضارة، والأكذوبة نافعة، وفي مثل هذه الحالات يحتم علينا العمل السياسي أن نلجأ إلى الأسلوب الذي يحرك الجماهير ولا يحبط آمالها.
ولكن الحقيقة لا تستطيع أن تنهزم بهذه السهولة، على الرغم من قوة المنطق السابق؛ ذلك لأن أصول العمل السياسي، في رأينا، لا تسير في الاتجاه الذي تشير إليه المعارضة، لسبب بسيط هو أن التناقض بين فكر المعارضة وفكر هذه الجماعات جوهري، ولو أتيحت لهذه الجماعات فرصة التعبير عن نفسها بحرية، أعني لو لم تكن في حالة مواجهة مباشرة ضد السلطة، لظهر بوضوح أن عدوها الأصلي هو الفكر التقدمي والعلماني الذي يرتكز على تغيير المجتمع من خلال مفاهيم العصر الحديث. وهذا ما اعترف به مخططهم الاستراتيجي خالد الزمر حين أشار إلى اعتزامهم قتل رئيس حزب التجمع، وما ورد ضمنًا في كلام الكثيرين منهم حين ذكروا أنهم استبشروا خيرًا في السادات، في البداية، حين وجدوه يحارب اليسار، وما اعترف به الكثير من أعضائها حين أعلنوا خصومتهم للديمقراطية ومحاربتهم لمبدأ حكم الشعب.
ومن وجهة أخرى، دعونا نتساءل، من منطلق العمل السياسي أيضًا: هل من الممكن تحريك الجماهير حركة إيجابية بناءة بعد تخديرها وإعطائها أملًا كاذبًا في أن قتل الظالم قد تم من أجل أسبابها هي، وليس من أجل أسباب جماعة محدودة ضيقة الأفق تعتبر أن مشكلتها الأصلية هي الشعائر الشكلية للدين، ولا تضع معاناة الجماهير اليومية ضمن أهدافها وهمومها على الإطلاق؟ وهل يمكن أن يعد ذلك، من وجهة نظر سياسية بحتة، أساسًا سليمًا لحركة تغيير إلى الأفضل، أو على الأقل لحركة معارضة واعية؟ وهل من مصلحة الجماهير أن تتبنى دوافع هذه الجماعة وطرق تفكيرها، وتدمجها بحركتها وتتوحد معها، وهل تضمن بعد ذلك أنها ستسير في الطريق الذي يحقق أمانيها؟ هل التأثير الذي يمارسه فكر جماعة الجهاد وبرنامجها يمكن أن يكون عاملًا إيجابيًّا في تحقيق المطالب الجماهيرية على مستوى الواقع العملي؟ ألسنا نوقع الحركة الجماهيرية في بئر بلا قرار لو تركناها تتبنى هذا الفكر، أو حتى تتحالف معه في برامج توفيقية وحلول وسطية؟
فلنقارن موقف المعارضة، في هذا الصدد، بموقف أرملة «ذو الفقار علي بوتو» في باكستان، كما تناقلته وكالات الأنباء في الآونة الأخيرة، فقد وجهت السيدة نصرت بوتو تحذيرها إلى العالم، وإلى شعبها في باكستان، من أن استمرار الأسلوب الدكتاتوري الذي يتبعه ضياء الحق في الحكم، مع تملقه للإسلام، سيؤدي إلى تشجيع التطرف الديني ووصول الجماعات المتطرفة إلى الحكم. هكذا قدم تحذير السيدة بوتو نموذجًا للمعارضة الناضجة، البعيدة النظر، في مقابل الموقف الساذج الذي تتخذه المعارضة المصرية، وأصحاب الفكر التقدمي في العالم العربي بوجه عام، من فكر الجماعات الإسلامية المتطرفة. فما كان أسهل عليها أن تتحالف مع هؤلاء المتطرفين على أساس تكتيكي لإزاحة السلطة الديكتاتورية، لا سيما وأن لديها أسبابًا شخصية قوية، بالإضافة إلى الأسباب السياسية العامة، للانتقام من النظام القائم، ولكنها لم تفعل، بل على العكس من ذلك احتفظت بكل معارضتها للدكتاتور، وفي الوقت ذاته تباعدت بحزم عن التطرف الديني، وكشفت عن ذلك الارتباط العضوي الذي يجعل الدكتاتورية مؤدية بالضرورة إلى سيادة التطرف الديني. هكذا يفكر أصحاب النظر البعيد، أما المعارضة الساذجة فلا تخشى شيئًا من مغازلة الاتجاهات الخطرة القابلة للتفجر، بل تدعو إلى تحالف ستكون هي ذاتها أول ضحاياه.
وبعد هذا كله، دعونا نفكر في النموذج الذي تقدمه هذه الاتجاهات المتطرفة لشبابنا، لتلك الألوف المؤلفة من إخوتنا وأبنائنا في الوطن، الذين ينضمون إلى هذا الفكر بلا وعي، ولكن بحماسة جارفة، هل نرضى نحن بحق أن تكون صورة شبابنا هي صورة ذلك الفتى الذي يغمض عينيه أو يحلق بها في السماء، ولا يعرف كيف يبتسم أو يضحك من كل قلبه، والذي لا يستمتع بالفنون ولا يطرب لها، ويمتنع عن مشاهدة التليفزيون (كما كان خالد يفعل)، أو تلك الفتاة التي ترى أن نظرتها إليك في عينيك، عندما تخاطبك، حرام، والتي تلف نفسها بألف غطاء وغطاء لأنها تفترض ضمنًا أن أنوثتها عيب، وأن عيون الرجال لا تقع عليها إلا لكي تشتهيها، وأن عليها هي أن تدفع ثمن أطماع الرجال، على حين أن الطامعين أنفسهم لا يتحملون شيئًا؟ هل النموذج الذي نريده لأبنائنا هو ذلك الشباب المطيع، الذي يعطل عقله ويلغيه، ويتبارى مع غيره في التراشق بالنصوص بدلًا من أن ينقد ويفكر ويبدع الجديد؟ أليس من واجب المفكر المسئول أن ينبه إلى هذا المرض الذي يزداد انتشاره يومًا بعد يوم، حتى لو كان يعلم أنه يعرض بذلك سلامته الشخصية للخطر إزاء جماعة يضيق صدرها بالمناقشة المنطقية التي لم تتعود عليها، وتلجأ كلما ضاقت بها الحجة إلى حسم الجدال بقبضة اليد؟
(٨) جذور العنف
إن العنف ليس ظاهرة طارئة على هذه الجماعات المتطرفة، وإنما هو شيء ينتمي إلى تركيبها الذاتي، وهو جزء لا يتجزأ من تكوينها الذهني والنفسي، وهو وسيلتها الوحيدة لتحقيق أهدافها في المجتمع. ولا شك أن العنف يمكن أن يتخذ أحيانًا شكل التضحية بالذات، بطريقة بطولية، ولأسباب لا يمكن أن يقتنع بها أولئك الذين يفكرون بطريقة نقدية متروية. فما نوع العقلية، أو التركيبة الذهنية للشاب الذي يقوم بمثل هذه الأعمال البطولية الخارقة، من أجل أسباب شكلية خالصة، ويضحي بحياته في سبيل فتوى مأخوذة عن ابن تيمية بشأن التتار في عصر بعيد وظروف مختلفة كل الاختلاف؟ إن أساس هذه العقلية هو الطاعة المطلقة، والشجاعة الفائقة التي توجَّه حسب الاتجاه الذي يُملَى عليها، لا الذي تختاره هذه بوعيها وفكرها التحليلي. إن الإيمان هنا يصل إلى حد التخدير العقلي شبه الكامل، حتى تتحول الجماعة إلى تنظيم هرمي تسري فيه كلمة من ينتمي إلى المستوى الأعلى على من ينتمي إلى المستوى الأدنى، لا لأن الأخير يخشاه أو يخاف عصيانه (كما في التنظيمات العسكرية مثلًا)، بل لأنه رُوِّض على الطاعة وتكوَّن عقله بحيث يسمع، ويصدق، ويأتمر، ولا يناقِش.
ولا بُدَّ أن نشير هنا إلى حقيقة ينبغي الاعتراف بها، وهي أن النقد والتحليل المفرط كثيرًا ما يؤدي إلى إحجام عن التضحية، وإلى سلوك قد يبدو ظاهريًّا أنه أقرب إلى الجُبن، فأصحاب العقليات التي تناقش وتفكر وتتروى قبل أن تسلك، كثيرًا ما ينتهي بهم الأمر إلى السلوك بحذر وتجنب المخاطرة والاندفاع. غير أن هذه ليست قاعدة عامة، ففي الحرب الأهلية الإسبانية، مثلًا، كان عدد لا يستهان به من كبار مثقفي أوروبا وأميركا، الذين نمت ملكاتهم النقدية والإبداعية إلى أقصى حد، يحاربون ببسالة ضد النظام الفاشي، وضحى الكثيرون منهم بحياتهم وهم يحملون السلاح، عن وعي واقتناع كامل بالقضية التي يناضلون من أجلها.
وقد تكررت هذه الظاهرة بين مجموعات المقاومة و«الأنصار» في البلاد التي احتلتها الجيوش النازية خلال الحرب العالمية الثانية، وما زلنا نشهد لها نماذج كثيرة في نضال المثقفين بالسلاح في أميركا اللاتينية. ولكن يمكن القول بوجه عام إن الاستعداد للتضحية بالنفس، نتيجة للطاعة التي لا تتضمن نقدًا أو تحليلًا واعيًا، يكون أكبر مما هو في حالة التفكير العميق المتروي. كما أن درجة التضحية والاندفاع والقدرة على مواجهة الخطر بغير اكتراث، تكون في الحالة الأولى أشد منها في الثانية؛ ولذا كان جنود هتلر وضباطه يتَّسِمون بقدر هائل من الشجاعة والاندفاع و«البطولة» — بالمعنى المجرد لهذه الكلمة — وذلك في سبيل قضية آمنوا بها وأعينهم مغمضة، ولم يخطر ببالهم يومًا أن يحللوها أو يناقشوها.
وأستطيع أن أقول إن التربة في مصر كانت ممهدة تمامًا لانتشار هذا النوع من العقليات خلال ثلاثين سنة من الحكم العسكري، ففي رأيي أن هناك علاقة عضوية وثيقة بين أسلوب الحكم الذي سارت عليه ثورة ٢٣ يوليو، وبين انتشار التطرف والعنف الديني؛ ذلك لأن أسلوب الحكم هذا كان يتجه بطبيعته إلى أن يطبق على الشعب كله نفس القيم السلوكية المطبقة في الجيش، ويميل إلى جعل العلاقة بين الحاكم والمحكوم أشبه بالعلاقة بين القائد وجنوده، لا بين مواطنين أكْفاء عقلاء متساوين. وهكذا كان المواطن الذي اتجه عهد الثورة إلى تشكيله هو المواطن المطيع، الذي يمتنع قدر الإمكان عن التحليل والمناقشة والتفكير المستقل، والذي يفكر له الزعماء والقواد، وما عليه إلا التنفيذ. ومن هنا فإن ما بين الحكم العسكري والتطرف الديني ليس إلا شعرة، ففي الحالتين نجد تفكيرًا سلطويًّا، وطاعة عمياء، واعتقادًا بامتلاك الحقيقة المطلقة، ورفضًا للرأي الآخر، بل معاملته على أنه خيانة أو كفر، وفي الحالتين تسود القوة على المنطق، وتُحسم المعارك بالتصفية لا بالحوار، ويصادر حق العقل في الاعتراض واتخاذ موقف مستقل، وتختفي المنابر الإعلامية التي تنمي في الناس ملكة التفكير النقدي.
إن العنف هو، في رأينا، ظاهرة مشتركة بين الحكم العسكري والجماعات الإسلامية المتطرفة. وفي هذا الصدد أود أن أشير إلى أن العنف، في الحالتين، ليس طارئًا، وإنما هو شيء ينتمي إلى صميم الكيان نفسه. وهذه حقيقة لا تحتاج إلى إثبات في حالة الحكم العسكري، حيث تشكل القوة المادية المباشرة أساسًا معترفًا به للحكم، أما في حالة التنظيمات الدينية المتطرفة فإن تأصل العنف فيها يحتاج إلى إثبات.
فمن الممكن القول إن فكرًا مثل فكر جماعة الجهاد يمكن أن يقود إلى حرب أهلية بين المسلمين والمسيحيين، بدأوها فعلًا عندما قتلوا أصحاب محالِّ المجوهرات من الأقباط واستولَوْا على أموالهم، ونظروا إلى هذه العملية — وهذا هو الأهم — على أنها واجب ديني واكتساب لأموال هي غنائم حلال للمسلمين. ومن الممكن القول إنهم لو نجحوا في مخططهم واستولَوْا على الحكم لكانت النتيجة أن تسبح البلاد في بحر من الدماء، أغزرها هي دماء الديمقراطيين والتقدميين الذين سعت منابرهم الرسمية إلى التحالف مع هذه الجماعات. ولكن هذا كله لا يكفي لإيضاح طبيعة ظاهرة العنف ودورها في تكوين هذه الجماعات، بل إن الأهم من ذلك هو شيوع ظاهرة «التكفير» عندهم، وسهولة إطلاق هذا الوصف، فالدولة في هذا العصر «كافرة»، ومن لم يحكم بالشريعة الإسلامية ويطبق حدودها «كافر»، ومن يفكر في غير الإطار الإسلامي البحت «كافر»، بل إن المسلم الذي لا يسايرهم في تفسيراتهم هو في بعض الأحيان «كافر»، وربما كان لفظ «كافر» هو أكثر الألفاظ ترددًا على ألسنة المتهمين في تحقيقات تنظيم الجهاد.
وهنا ينبغي أن ننتبه إلى أن صفة «الكفر» هذه ليست، في الإطار الفكري لهذه التنظيمات، شيئًا هيِّنًا على الإطلاق، فهي لا تعبر عن معارضة أو استنكار أو نقد عقلي فحسب، بل إنها إدانة كاملة، وإحلال للدم والمال، و«محو» من الوجود، وكل من تلصَق به هذه الصفة ينبغي استئصاله، وإلغاؤه، وإخراجه من مجال الفكر والواقع، فالتكفير حكم بالإعدام، يتخذ طابعًا معنويًّا طوال الوقت الذي لا تكون فيه القدرة على تنفيذه الفعلي متوافرة، ولكن بمجرد أن تكتمل هذه القدرة يصبح تنفيذه أمرًا ضروريًّا، ويتم تطبيقه عمليًّا بكل هدوء نفس وراحة ضمير؛ لأنه يصبح عندئذٍ واجبًا دينيًّا، ومثوبة في الدنيا ومدخلًا إلى الجنة في الآخرة.
وبعبارة أخرى فإن التكفير هو المقابل الديني للسجن والقمع والتعذيب والإعدام الذي تملكه السلطة الدنيوية. وإذا كانت الحكومة تستطيع أن تعزل خصومها عن المجتمع وتسكت ألسنتهم أو توقف نبضات قلوبهم، أي بعبارة أخرى تمحو المعارض، بشكلٍ ما، من الوجود، فإن الجماعة الدينية تفعل هذا الشيء نفسه مع من يعارضها، ولكن بطريقتها الخاصة. وإذا كان هذا المحو من الوجود، في الحالة الأخيرة، لا يتخذ الشكل المادي في معظم الأحيان، فما ذلك إلا لأنهم لا يحكمون، ولا يملكون زمام الأمور، ولو حكموا لطُبِّق هذا «المحو من الوجود» على نحو أوسع نطاقًا بكثير مما تمارسه الحكومات العلمانية، مهما كانت درجة دمويتها.
وهكذا فإن العنف متبادل بين الطرفين، وكما أنه يكوِّن جزءًا لا يتجزأ من الأسلوب العسكري في الحكم، فإنه، بقدر أكبر، ينتمي إلى صميم البناء الذهني للجماعة الدينية المتطرفة. ومجرد استخدام أفراد هذه الجماعة، على نطاق واسع، للتعبير «فلان كافر»، أو «هذه الدولة أو المؤسسة كافرة»، يعادل بالضبط استخدام حاكم مثل السادات لتعبير «الذي يعارض سأفرمه». بل إن سحق الخصوم يكون أشد عنفًا في الحالة الأولى؛ لأنه يتم عندئذ بضمير مستريح ولا يقترن على الإطلاق بذلك الوعي بالقسوة والبطش المقصود لذاته، الذي يكون لدى الحاكم العلماني المستبد.
وإذن، فهناك عنف بنائي أو تكويني يجمع بين الحكومات العسكرية وأساليب الجماعات المتطرفة، ويشكل أساسًا قويًّا للجمع بينهما، وهذا عامل هام ينبغي أن يضاف إلى العوامل التاريخية الأخرى التي زادت من توثيق الروابط بين الطرفين. أعني تلك الإحباطات والإخفاقات المتوالية التي تميز بها تاريخ ثورة يوليو، والتي شكلت أفضل جو يُفرخ هذا النوع من الفكر: الهزائم العسكرية؛ تشجيع الخرافة والابتعاد عن العقل؛ تملق المشاعر الدينية بطرق لا تخلو من النفاق؛ السير على أساس مبدأ «الحقيقة الواحدة» وإلغاء كل ما يتعارض معها.
•••
وهنا يأتي أوان الإجابة عن سؤال أساسي: إذا كان ظهور مثل هذه التنظيمات المتطرفة قد أصبح يُعرف، في الأوساط السياسية والثقافية، باسم «الصحوة الإسلامية»، وإذا كانت هذه هي الظروف التي نشأت فيها هذه «الصحوة»، فهل من الممكن أن تُعد هذه الصحوة مظهرًا لمزيد من التقدم في الوعي الإسلامي، كما يزعم المنتمون إليها، وكما يجاريهم كثير من الكُتاب، المحليين والأجانب، الذين ينافقونهم لأسباب متباينة؟ في واقع الأمر أن الصحوة الإسلامية، بصورتها الراهنة، تبدو لنا مظهرًا لذلك التخلف الذي ساد العالم الإسلامي، والعالم العربي بوجه خاص، في السبعينيات من هذا القرن، فالصحوة هي الانعكاس المباشر للهزائم والإحباطات في وعي الناس، وليست «رد فعل» عليها أو محاولة لتجاوزها. وليس الهروب إلى الشعائر الشكلية وإغماض العين عن المشكلات المتجسدة في الحياة الواقعية أو الطاعة المطلقة وإلغاء العقل النقدي، أو العودة إلى الماضي والتغاضي عن كل ما أتت به قرون عديدة من تحولات وتغيرات؛ ليس هذا كله سوى «فكر الهزيمة» ذاته، وانعكاس للإحباط العام الذي ولدته على وعي البشر. فالظاهرة ليست وليدة سخط الأجيال الجديدة على الأوضاع وإخفاق الشباب في التوحد مع السلطة، كما يذهب بعض الباحثين (سعد الدين إبراهيم مثلًا)؛ لأن هذه العوامل ذاتها كانت قبل ذلك، وحتى أواسط السبعينيات، تولد لدى الشباب فكرًا يساريًّا، بل إن الظاهرة إنما هي تعبير مباشر عن بلوغ الانحطاط الفكري ذروته، وعن وصول النزعة التسلطية بعد ثلاثين عامًا من تزييف الوعي إلى نتيجتها الطبيعية. فنفس الجو العقلي الذي جعل من ثروت أباظة أديب مصر الرسمي، ومن أنيس منصور ومصطفى محمود أهم المفكرين والفلاسفة، ومن أحمد عدوية أكثر الفنانين شعبية، هو الذي جعل من التطرف الديني أوسع الاتجاهات انتشارًا بين الأجيال الجديدة من الشباب.
وتبقى بعد هذا كله نقطة جوهرية، ينبغي أن نلتمس فيها العذر لأي كاتب يتعاطف مع هذه الاتجاهات؛ ذلك لأن الشباب المنتمي إلى هذه الجماعات المتطرفة هو وحده الذي استطاع أن «ينجز» شيئًا — بغض النظر عن دوافعه في هذا الإنجاز — وهو الذي تمكن من إزالة حالة الجمود التي بدا وكأنها استقرت، وسوف تستمر، سنوات طويلة، وهو الذي ألقى في البركة الآسنة حجرًا ضخمًا حرك مياهها وأحدث فيها دوامات قد تتحول يومًا ما إلى أمواج وعواصف عاتية. وفي مقابل ذلك فإن التقدميين والديمقراطيين والعلمانيين لم يكن لهم دور في هذا التحريك المفاجئ للأحداث، بل كان يبدو، في الوقت الذي حدثت فيه المفاجأة، أنهم وصلوا إلى طريق مسدود لا مخرج منه.
وهكذا تبرز أمام المفكر السياسي مشكلة حقيقة يصعب إيجاد حل لها؛ إذ يبدو أن بلادنا أصبحت الآن أمام خيارين كليهما أتعس من الآخر: فإما أن نكتفي بفكر متقدم مستنير قادر على الفهم والنقد والتحليل، ولكنه عاجز عن الحركة، وإما أن نسير وراء فكر متخلف، قاصر في فهمه ونقده وتحليله، ولكنه هو وحده القادر على التحرك. لقد أصبح المأزق الحقيقي الذي تعاني منه مصر، في تطلعها إلى المستقبل، هو اضطرارها إلى أن تختار بين فكر بلا فعل، وفعل بلا فكر. وأحسب أنه لن يكون لنا خلاص إلا في اليوم الذي يصل فيه الذين يفكرون إلى المستوى الذي يتيح لهم أن ينقلوا فكرهم إلى حيز الفعل المؤثر والفعال، أو يصل الذين يفعلون إلى المستوى الذي يدركون فيه قيمة الفكر المتفتح والعقل المستنير.