تطبيق الشريعة
علمتني المناقشات الصحفية الكثيرة التي كنت طرفًا فيها — داخل مصر وخارجها — والتي كانت تتخذ شكل الحوار تارة وشكل المعركة الفكرية تارة أخرى، أن مؤيدي وجهة النظر التي يقول بها كاتب معين لا يبعثون برسائل مكتوبة في أغلب الأحيان، بل إن المعارضين وحدهم هم الذين يكتبون. وهذا أمر طبيعي ومفهوم؛ إذ إن المؤيد يشعر بالارتياح حين يجد الكاتب قد عبر عن وجهة نظره، فلا يرى داعيًا إلى الكتابة، وأقصى ما يفعله هو أن يعرب عن تقديره في محادثة تليفونية أو مقابلة شخصية، أما المعارض فلديه حافز قوي يدفعه إلى أن يتحمل عناء الكتابة والرد.
وبقدر ما أسعدني ذلك التجاوب الواسع النطاق الذي لقيَتْه — على المستوى الشخصي — مقالاتي الثلاثُ التي نشرت في الأهرام بعنوان: المسألة الدينية في مصر المعاصرة، فإن الردود المكتوبة التي تلقتها «الأهرام» كانت تعبر كلها عن وجهة نظر معارضة. ولما كانت هذه المعارضة هي التي تساعد على استمرار الحوار والكشف عن مواقف أطرافه المختلفة، فقد وجدت أن من المفيد مناقشة وجهات نظر هؤلاء المعارضين، لا من أجل الخوض في جدل شكلي معهم، وإنما سعيًا إلى استكشاف أبعاد جديدة للحوار الدائر على نطاق واسع في هذه الأيام، حول الدعوة الحالية إلى تطبيق الشريعة الإسلامية.
•••
- (١)
فعلى سبيل المثال، خصص الدكتور عبد الرحمن عياد، نائب رئيس محكمة النقض، جزءًا كبيرًا من مقاله المنشور في الأهرام (٢٧ / ٨) بعنوان «المنهج العقلي وتطبيق الشريعة» للدفاع عن المبادئ العامة التي تضمنتها الشريعة، وكأن مقالاتي السابقة قد تضمنت تشكيكًا في هذه المبادئ. ولكن ما أكدتُه، وما زلتُ أؤكده، هو أن التعقد المتزايد للحياة يضعنا كل يوم في مواجهة مواقف جديدة لا يكفي فيها الأخذ بالمبدأ في صيغته العامة، وإنما يحتاج الأمر منا إلى جهد كبير حتى نملأ هذا المبدأ بالتفاصيل التي تتيح لما مواجهة هذه المواقف. ومثل هذا الجهد لا بُدَّ أن يكون «بشريًّا». فحين يحتفظ المجتمع بمبدأ عام، كمبدأ الشورى مثلًا، ينبغي أن يضيف إليه جهدًا بشريًّا تزداد أهميته ويتعاظم دوره كلما تعقدت حياتنا وواجهتنا بمواقف غير مسبوقة. ولا جدال في أن المسافة الحضارية التي تفصل أوضاع حياتنا المعاصرة عن تلك الأوضاع التاريخية التي نزلت فيها الشريعة، قد بلغت من الضخامة حدًّا يحتم الاعتراف بالأهمية الفائقة للجهد البشري الذي ينبغي بذله من أجل تحويل المبدأ العام إلى مجموعة من الأفكار والإجراءات التفصيلية القابلة للتطبيق في مجتمع شديد التعقيد.
ومثل هذا ينطبق على اعتراض الدكتور عياد القائل إن الأهواء البشرية لا تتدخل في تطبيق الشريعة الإسلامية وحدها، وإنما تتدخل في تطبيق أي تشريع آخر، في أية حضارة أخرى، فهذا بالضبط ما كنت أعنيه، ولا وجه للاختلاف بيني وبين الكاتب في هذه المسألة، وكل ما في الأمر أن ضعف البشر وتحيزهم سيظل ملازمًا لنا حتى في تطبيقنا للشريعة؛ لأن الذي سيحوِّل حروف الشريعة وكلماتها إلى واقع حي متجسد هو إنسان مثلي ومثلك، كان ولا يزال يخطئ وينحاز لهواه ومصالحه، كما يشهد بذلك تاريخ طويل. وبطبيعة الحال فإن من يطبقون التشريعات البشرية يخطئون ويتحيزون بدورهم، وما كان الدكتور عياد بحاجة إلى الجهد الكبير الذي بذله من أجل إثبات هذه الحقيقة التي لا ينكرها عاقل، ولكن تدارك أخطاء هؤلاء الأخيرين يظل أهون بكثير؛ لأنهم لا يدَّعون أنهم يطبقون أحكامًا أزلية ثابتة.
- (٢)
وتبدي الدكتورة فوقية حسين محمود، أستاذة الفلسفة بكلية البنات، اعتراضًا شديدًا على ما تسميه «تصويره الخاص جدًّا (تقصد كاتب هذه السطور) للشخص الذي يُقبل على النصوص الدينية؛ إذ هو بالنسبة له شخص تخلى عن عقله طوعًا، ليكون منفذًا آليًّا لدلالات هذه النصوص.» هذا بدوره اعتراض على رأي تخيلتْه الكاتبة؛ إذ إنني لم أتحدث على الإطلاق عن «الشخص الذي يقبل على النصوص الدينية» وإنما تحدثت عن الشباب الذي يدفعه التحمس إلى الانضمام إلى جماعة دينية يكون المنهج الغالب على فكرها وسلوكها هو الطاعة المطلقة، لا للنص وحده، بل لأمراء الجماعة أيضًا. ولا يخفى على القارئ أن فئة «دارسي النصوص الدينية» التي تحدثت عنها الدكتورة أوسع بكثير من فئة الشباب المنضم إلى جماعات دينية، وأن الفئة الأولى تضم أناسًا يدرسون هذه النصوص بمنهج عقلي رفيع المستوى. ومن هنا فإن تغيير كلماتي بحيث تنطبق على كل من يدرس النصوص الدينية هو تحريف يستهدف خلق خصم وهمي حتى يسهل توجيه النقد إليه.
- (٣)
والمثل الثالث لهذا النوع من القراءة المتعسفة ورد في رسالة للدكتور أحمد عبد الرحمن إبراهيم، وهو أستاذ مصري كان يعمل بالسعودية ويعمل الآن في الجزائر. فهو يعترض على رأيي القائل إن الصراع بين عبد الناصر والإخوان المسلمين كان في جوهره صراعًا سياسيًّا، ولم يكن له علاقة بالإسلام في ذاته. ووجهة نظره في ذلك هي أن الإخوان المسلمين كانوا يدعون إلى «الإسلام الشامل» المطبق على كافة جوانب الحياة، على حين أن عبد الناصر، الذي يصفه الكاتب بأنه أحد الحكام العلمانيين، كان يدعو إلى «الإسلام الجزئي». ومن هنا يستنتج الكاتب أن الصراع كان في جوهره متعلقًا بالعقيدة. وهنا أود أن أطرح على الكاتب الفاضل سؤالًا: هل نشب هذا الصراع بعد أن قام عبد الناصر بمناقشة آراء الإخوان المسلمين في «الإسلام الشامل» — على طريقة مناقشات الخليفة المأمون في مجالسه — وحين لم يقتنع بهذه الآراء أمر بالقبض عليهم وإعدام بعض زعمائهم، أم أن الموضوع كان في جوهره صراعًا على السلطة؟ هل نسي كاتبنا أن «الإسلام الشامل» الذي دعا إليه الإخوان كان يشمل نظام الحكم والسياسة؛ ومن ثم فإن دعوتهم هذه تنطوي على نزع السلطة السياسية وسلطة الحكم من نظام عبد الناصر؟
- (٤)
أما المثل الأخير فأستمده من رسالة طريفة وردت إلى الأهرام من السيد نبيه نصر رزق، بالإسكندرية، يعترض فيها على عدم اقتناعي بقصة ظهور العذراء بعد هزيمة ١٩٦٧م قائلًا: «فظهور القديسة المباركة العذراء مريم بكنيسة الزيتون في ٢ من إبريل ١٩٦٨م حقيقة صادقة لا تقبل جدلًا … وليس لي سوى كلمة واحدة للدكتور الفاضل: تعالَ وانظر لترى بعينيك حقيقة ظهور العذراء الطهور ولترى النور ولتلتمس رائحة البخور.»
واضح إذن أن رأيي في هذا الموضوع قد مس مشاعره الدينية، وأعتقد أن هذه حساسية لا داعي لها؛ لأن عدد المسلمين الذين شاركوا في الاعتقاد بظهور العذراء، والذين كانوا يتوافدون على منطقة الزيتون يوميًّا بالألوف، يفوق عدد المسيحيين بمراحل. وإذن لم يكن المقصود إلا انتقاد شكل من أشكال التفكير اللاعقلي انتشر بين الجميع في فترة من أصعب فترات تاريخنا المعاصر. أما عن مضمون الواقعة نفسها، وتأكيد الكاتب أنها حدثت وما زالت تحدث، فمن حقه بالطبع أن يؤمن بما يشاء، ومن حق الذين يقتنعون بأن عصر المعجزات قد انتهى، وبأن معجزات عصرنا هي الترانزستور والأقمار الصناعية والعقل الإلكتروني، أن يكون لهم رأي مخالف، على أن يكون مفهومًا أن الخلاف بين الطرفين خلاف في المنهج العقلي وليس على الإطلاق جدلًا دينيًّا.
هذه أمثلة قليلة لاعتراضات لا أعتقد أنها من ذلك النوع الذي يثري الحوار ويضيف إليه جديدًا. غير أن الردود المعترضة قد أثارت أيضًا مشكلات أخرى أكثر جدية، تلقي مناقشتها أضواء جديدة على الموضوع الهام الذي نحن بصدده.
(١) الإسلام الشامل
تعترض الدكتورة فوقية حسين على رأيي القائل إن تطبيق الشريعة يتطلب تغييرًا شاملًا في جميع نواحي حياتنا، فتنبه إلى أننا مسلمون نعمل بالفعل بمضمون الشريعة، وتؤكد «أن قول سيادته عن ضرورة التغيير الشامل قد ينفذ إلى أعماق الغافل … فالتغيير ليس شاملًا، وإنما سيكون في تكييف الشكليات، إطار وصياغة قانون، أما المضمون فإنا نعمل به.»
من الواضح أن صاحبة هذا الرأي لم تعمل أي حساب لوجود جماعات يصل تطرفها إلى حد تكفير المجتمع بأسره، وجماعات أوسع منها تؤمن بقول سيد قطب إن مجتمعاتنا تعيش جاهلية القرن العشرين؛ ومن ثم يدعو أصحابها إلى تغييرات أوسع نطاقًا بكثير من الشكليات. ولكن، لنترك هذه النقطة جانبًا، ولندع مهمة الرد على الدكتورة لزميل لها هو الدكتور أحمد عبد الرحمن، الذي يقف في نفس المعسكر المعارض لآرائي، ويطرح في رسالته موقف جماعة الإخوان المسلمين، أي التنظيم الأم لمعظم الجماعات الإسلامية المعاصرة. إنه يقول: «لقد قامت الجماعات الإسلامية … من أجل تحقيق عقيدة مركزية، هي عقيدة الإسلام الشامل؛ الإسلام الذي يشمل الفكر، والعبادة، والأخلاق، والاقتصاد، والسياسة، والفن، والأدب، وكل جوانب الحياة البشرية ويصبغها بصبغته المتميزة.» ثم يواصل كلامه قائلًا: «في نظر الإسلاميين يستوي اضطهاد الإسلام ذاته واضطهاد المفهوم الشامل له، كما أن الأخذ الجزئي للإسلام يستوي في نظرهم والردة.» ومعنى ذلك أن ما تقوم به معظم أنظمة الحكم المعاصرة في العالم الإسلامي، من تطبيق جزئي للإسلام، يساوي الردة في نظر متحدث هام بلسان الإخوان المسلمين، والمطلوب تطبيق الإسلام في كافة ميادين الحياة.
•••
لقد تركت الرد على الدكتورة الفاضلة لواحد ممن يقفون معها في صف الاعتراض على آرائي، وممن يمثلون أكبر جماعة إسلامية معاصرة، فهل يندرج أعضاء هذه الجماعة، وما تفرع عنها من جماعات أشد تطرفًا، ضمن الفئة التي تسميها الدكتورة «بالغافلين»؟ هذه، على أية حال، مسألة داخلية أترك للدكتورة أمر تسويتها معهم.
وتبقى أمامنا بعد ذلك مناقشة تلك الدعوة ذات المظهر المغري، البراق؛ دعوة الإسلام الشامل. إن اعتراضي الأساسي على هذه الدعوة هو أنها تفتح الباب للانغلاق الفكري والتحجر الحضاري، ففي ظل السعي إلى تحقيق الإسلام الشامل، يتسع المجال أمام أولئك الذين يدعون إلى إغلاق النوافذ أمام المؤثرات الحضارية الخارجية، بحجة أن هذا غزو فكري، وعنصر دخيل، وأن لدينا في «الإسلام الشامل» ما يغنينا عن كل ما عداه. وفي ظل هذه الدعوة يمكن أن يسود نوع من الشمولية المتزمتة، التي تجمد التاريخ عند مرحلة واحدة من مراحله، وترفض الاعتراف بالتقدم والتطور، وتدفن رأسها في رمال «العصر الذهبي الماضي» وتصم آذانها عن هدير الإنجازات الباهرة التي تتلاحق يومًا بعد يوم في العصر الذي نعيش فيه.
إن دعاة الإسلام الشامل ينادون بتطبيق منظور واحد في ميادين الفكر والاقتصاد والسياسة والفن والأدب.
فماذا نفعل، مثلًا، في المذاهب الفكرية التي ظهرت مستقلة عن الإسلام؟ هل نقف عندئذ موقف أحد علماء الدين المشهورين، الذي أكد أن أكبر جريمة ارتكبها المأمون هي أنه سمح بدخول الفلسفة اليونانية أرض الإسلام؟ وماذا نفعل في تيارات الفن والأدب التي ظهرت في مجتمعات لم تعرف الإسلام؟ ألن يؤدي هذا التطبيق الصارم لمبدأ «الإسلام الشامل» إلى رفض هذا كله، وإسدال ستار كثيف بيننا وبين تيارات الفكر والأدب والفن التي يموج بها عالمنا المعاصر؟
دعوني أضرب مثلًا بسيطًا لفكرة ناقشتها منذ وقت قريب مع بعض تلاميذي حول أحد الموضوعات الفنية. فكما يعلم القراء، هناك أقطار إسلامية (ليس من بينها مصر) تحرِّم فن النحت تحريمًا قاطعًا، على أساس أن التمثال صنم، والإسلام يحرم الأصنام. ولقد كان السؤال الذي طرحته هو: إذا كانت الأصنام قد حرمت في وقت كان احتمال الارتداد إلى الوثنية لا يزال فيه قائمًا، فهل يظل هناك أدنى خوف، في أيامنا هذه، من أن يعامل الناس تمثالًا يُقام في ميدان عام على أنه صنم معبود؟ هل احتمال العودة إلى الوثنية في مجتمعاتنا الإسلامية المعاصرة قائم، ولو بنسبة واحد في المليون؟ وإذا لم يكن هذا الاحتمال قائمًا، فلماذا نحرم أنفسنا من فن رفيع يهذب أذواقنا ويضيف إلى حياتنا لمسة من الجمال والانسجام؟ من المؤكد أننا في مصر، قد فكرنا على هذا النحو، ومن هنا ازدانت أماكننا العامة بأعمال نحتية، للبعض منها على الأقل قيمة فنية رفيعة. ولكن ألا يمكن أن يظهر بيننا، في ظل الدعوة إلى الإسلام الشامل، من ينادون بالاقتداء بأقطار إسلامية أخرى في تحطيم الأصنام وتحريم التماثيل؟ ألا يمكن أن يتكرر هذا في كافة ميادين الفكر والأدب الفني، فينتهي بنا الأمر إلى حياة كئيبة قاتمة تكون فيها الموسيقى حرامًا، والرقص، حتى الفن الرفيع منه، حرامًا، والنحت حرامًا، وتدريس المذاهب الفكرية العالمية حرامًا، ومشاهدة التليفزيون والسينما حرامًا، وهَلُمَّ جَرًّا؟ إن هذه ليست مجرد احتمالات بعيدة عن الواقع، بل إنها قد حدثت بالفعل، كليًّا أو جزئيًّا، في مجتمعات إسلامية أخرى. ويعلم من يعيشون في بعض الأقطار العربية كم تعاني مدرِّسات الموسيقى، مثلًا، من معارضة التلميذات المنتميات إلى جماعات إسلامية تكرَّر على مسامعهن أن الموسيقى مجون وانحلال وكفر. وقل مثل هذا عن سائر الفنون والتيارات الفكرية والعلمية والمخترعات التكنولوجية.
إنني لا أقول إن هذه النتائج ستحدث حتمًا لو طبقت دعوة الإسلام الشامل، ولكنني أؤكد أن مثل هذه الدعوة ستفتح الأبواب على مصراعيها أمام أصحاب هذا النوع من الأفكار، وسيكون من الصعب عندئذ الوقوف في وجه تيارهم المكتسح، ما دام الأساس الذي يقوم عليه المجتمع هو أن الإسلام ينبغي أن يكون شاملًا لكافة ميادين الحياة.
لقد أشار عدد غير قليل من أصحاب الردود، في معرض تأكيد قدرة الشريعة الإسلامية على التعبير عن تطورات العصر، إلى الحديث الشريف «أنتم أعلم بأمور دنياكم …» والشيء الذي فات هؤلاء هو أن هذا الحديث يعارض، بصراحة قاطعة، مبدأ الإسلام الشامل، فإذا كان تصريف الأمور الدنيوية متروكًا لتقدير الإنسان، ولظروفه وطبيعة عصرة، فإن فكرة الإسلام الشامل تؤدي — وفقًا لنص الحديث الشريف — إلى الحد من قدرة الإنسان على تصريف أمور دنياه على النحو الذي هو أعلم به. وإذا كان الحديث ينطوي بطريقة ضمنية على تفرقة بين أمور الدنيا التي يُترَك تدبيرها للإنسان، وأمور الدين التي ينص عليها الشرع، فإن دعوة الإسلام الشامل معرضة للوقوع في خطر إزالة هذه التفرقة وإخضاع كافة جوانب الدنيا لمنظور ديني واحد. ولا أظن أن الأستاذ محمد أحمد فرغلي، في كلمته الموجزة الرائعة التي نشرها على صفحات الأهرام حول هذا الموضوع، قد ابتعد كثيرًا عن روح هذا الحديث الشريف حين أكد أن الدين إنما يمثل واحدًا من جوانب متعددة تشتمل عليها حياة الإنسان.
(٢) قراءة الحاضر في الماضي
كانت كلمات الأستاذ خالد محمد خالد هي التي حفزتني إلى الخوض في هذا الموضوع حين قدم تعريفًا للشورى، أشرت إليه في مقالاتي السابقة، فقال إنها هي فصل السلطات وحرية تكوين الأحزاب وحرية الصحافة وحرية المعارضة … إلخ. وقد استرعى انتباهي أن الأستاذ خالد حين ناقش رأيي هذا على صفحات جريدة أخرى، لم يتطرق إلى النقطة المحورية في مناقشتي لآرائه، وهي: هل كان يستطيع أن يقدم تعريفًا كهذا للشورى، لو لم يكن هو ذاته نصيرًا للديمقراطية، ولو لم تكن قد سبقته إلى الظهور مذاهب وتيارات فكرية بشرية تأثر بها حين حدد عناصر تعريفه؟
إن هذه المسألة في رأيي جوهرية، والتعمق فيها كفيل بأن يكشف لنا عن أن القدر الأكبر من المناقشات التقليدية لموضوع تطبيق الشريعة إنما هو جدل عقيم لا يوصل إلى شيء. فالأستاذ خالد، بوصفه مفكرًا عصريًّا، مستنيرًا، يؤكد لنا أنه وجد هذا المعنى للديمقراطية بكامله، وبكافة عناصره، في التراث. غير أن هذا في رأينا مستحيل لسبب بسيط هو أن مبدأ مثل فصل السلطات لم يُعرَف إلا في العصر الحديث، كما أنه لا الصحافة ولا الأحزاب كانت موجودة في الفترة التي يتحدث عنها الأستاذ خالد؛ وعلى ذلك فإن ما يقصده كاتبنا الكبير هو أننا نستطيع أن نهتدي في التراث إلى مبادئ لو اجتهدنا في تفسيرها من خلال مفاهيمنا الحالية لأمكن أن نجد فيها ما يقاس على المبادئ الديمقراطية في العصر الحاضر، أما أن نجد هذه المبادئ حرفيًّا، وعلى نحو لا لبس فيه ولا غموض، في التراث — كما يوحي كلام الأستاذ خالد — فأظن أن هذا أمر يصعب الاقتناع به.
والآن، لنفرض أن عددًا من كبار المتفقهين في أمور الدين قد اطلعوا على هذه النصوص نفسها، التي يؤكد الأستاذ خالد أنها تتضمن بوضوح قاطع كل مبادئ الديمقراطية الحديثة، فهل سينتهون جميعًا إلى النتائج نفسها التي استخلصها منها الأستاذ خالد؟ هل هذه النصوص ذاتها هي التي تنطق بهذه المبادئ، أيًّا كان التكوين الفكري والاتجاه السياسي والمصالح الاجتماعية والاقتصادية لمن يقرؤها؟ وهل توجد هذه المبادئ فيها على نحو يستحيل أن يختلف عليه اثنان، مثلما يستحيل أن يختلف اثنان عيونهما سليمة على أن لون الزرع أخضر؟
إن المنطق والواقع يشهدان بخلاف ذلك، ويؤكدان لنا أننا لو عرضنا هذه النصوص ذاتها على الشيخ ابن باز مثلًا، لما استخلص منها أي مبدأ ديمقراطي، أو لتجاهلها كلية وركز جهده على نصوص أخرى، تنتمي بدورها إلى التراث، وتتيح له أن يستخلص أفكاره واتجاهاته المفضلة.
إن القارئ والشارح لنصوص الشريعة يقوم بعملية إسقاط يستحيل إنكارها، فهو يسقط أفكاره واتجاهاته الخاصة على ما يقرأ، وينتقي من بين النصوص ما يؤيد وجهة نظره، فيؤكد أحدهم مبدأ «لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى» ويبني عليه مذهبًا كاملًا، ويؤكد الآخر مبدأ «ورفعنا بعضكم فوق بعض درجات» أو مبدأ «يرزق من يشاء بغير حساب» لكي يجعله دعامة لنظام كامل. وفي كل حالة من هذه الحالات ينتقي الشارح من المبادئ الرحبة الواسعة ما يلائم أغراضه، ويغض الطَّرْف عما يتعارض مع مصالحه، ويظل يؤكد لنفسه وللآخرين أنه لا يستوحي إلا التراث وتعاليم الشريعة.
فما هي النتيجة العملية لهذا؟ النتيجة هي أن البشر، بما فُطِروا عليه من أهواء وما يتحكم فيهم من مصالح، هم الذين يوجهون النصوص، وليست النصوص هي التي توجههم. والنتيجة أيضًا هي أن الدعوة التي تتعلق بها الملايين من ذوي النوايا الطيبة — دعوة تطبيق الشريعة — لن تكون هي ذاتها طوق النجاة الذي ينقذنا مما نحن فيه من تخبط، وإنما يتوقف تأثيرها على نوع البشر الذين يقومون بالتطبيق، فلو وُضِع أمر تطبيق الشريعة في أيدي أناس رجعيين، أصحاب مصالح ضخمة، يعيشون على استغلال الغير، فإنهم سيستخدمون الشريعة في تحقيق مآربهم، وسيجدون من النصوص ما يمكن تفسيره على النحو الملائم لأهدافهم. ولو كان المكلف بتطبيقها أشخاصًا لهم عقلية خالد محمد خالد، فسوف نضمن تطبيقًا ديمقراطيًّا بالمعنى الحديث لهذه الكلمة. وهكذا يكون الضامن هو نوعية البشر، لا الشريعة ذاتها، كما تشهد بذلك كافة التطبيقات المعاصرة للشريعة الإسلامية.
إن عملية الإسقاط هذه شبيهة كل الشبه بما يقوم به أصحاب التفسير العلمي للقرآن، فكما نعلم، توجد فئة من المفكرين تخصصت في تفسير القرآن علميًّا، وفي الاهتداء إلى أحدث النظريات العلمية بين نصوصه. فإذا تركنا جانبًا تلك النتيجة الخطيرة التي أشار إليها الدكتور أحمد عكاشة في مقاله الهام بجريدة الأهرام، وهي أن هذا التفسير يجعل النصوص الدينية الثابتة معرضة لكل التغيرات والتقلبات التي تتلاحق على العلم يومًا بعد يوم، إذا تركنا جانبًا تلك النتيجة، فسوف نجد أن ما يقوم به هؤلاء المفسرون ليس إلا عملية إسقاط بشري: فالنظرية العلمية لا تُكتشَف في القرآن إلا بعد أن يكون إنسانًا ما قد توصل إليها، ولو كان في استطاعة واحد من هؤلاء المفسرين أن يكتشف، مقدمًا، نظرية لم يتوصل إليها العلم بعد، من خلال تفسيره للآيات، لآمنا بجدوى العمل الذي يقوم به. ولكن واقع الأمر هو أنهم ينتظرون دائمًا إلى أن يتم الكشف، على أيدي البشر، وبعد ذلك يبحثون عن النص الذي يمكن أن توجد فيه كلمة أو عبارة توحي بهذه الحقيقة العلمية أو تلك. إنه لجهد عقيم، حتى لو كان صحيحًا؛ لأنه لن يغير من حياة البشر ومن علمهم في قليل أو كثير.
ويحضرني في هذا المقام مثل مشهور: ففي طفولتنا كان التفسير الذي يقدَّم إلينا في المدارس للآية وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ هو أن جنس الجنين يدخل في نطاق الأمور التي يستحيل على البشر معرفتها. هكذا علمونا في طفولتنا، وهكذا كانت تقول كتب التفسير الكبرى إلى ما قبل سنوات قلائل. وفجأة ظهر «السونار»، وأمكن للعلم البشري معرفة جنس الجنين قبل مولده، فإذا بالمفسرين العصريين يطلعون علينا برأي جديد، هو أن المقصود ليس جنس الجنين وإنما حياته أو مصيره أو مستقبله … إلخ، فما الذي أحدث هذا التخبط الذي يزعزع ثقة الناس في أمانة بعض المفسرين؟ إنه، بغير شك، إقحام النص الديني في المجال العلمي، والسعي الدائم إلى قراءة الجديد في القديم بأثر رجعي، أي البحث عن المتغير والمتطور في الأزلي والثابت.
إنها حالة صارخة من تلك الحالات التي يقوم فيها البشر بتوجيه النص، بدلًا من أن يكون النص هو الذي يوجههم، وما أكثر الأمثلة التي ستتكرر في حياتنا لهذا التصرف المقلوب والمغلوط، لو أننا استسلمنا للدعوة التي تبدو بسيطة، واضحة، والتي يؤمن الكثيرون بأن فيها الخلاص من كل ما نعانيه من شرور؛ دعوة تطبيق الشريعة.
(٣) بين المبدأ والتطبيق
سأبدأ مناقشتي لهذا الموضوع باقتباس سطور من رسالة بتوقيع «هيمن أحمد يونس»، مصري يعمل بالسعودية، يقول فيها: «لقد تمت بحمد الله تجرِبة جميع أشكال نظم الحكم المعاصرة عبر تاريخ مصر الحديث، وكلها بحمد الله وتوفيقه أثبتت تمامًا فشلها التام في الوفاء بما التزمت به، وهو تحقيق أماني هذا الشعب في التقدم … فلماذا لا نجرب الشريعة؟ … إن الشريعة لم يكن لها نفس فرص التطبيق التي كانت للنظم الأخرى.»
هذا رأي يقول به الكثيرون، ويفترض أن النظم الأخرى قد جُرِّبت وأَخفقت، وأن الشريعة لم تُجَرَّب، ومن ثم فهي جديرة بالتطبيق.
فهل صحيح أن النظم الأخرى قد جُرِّبت وأَخفقت؟ هذا رأي لا يقول به أصحاب الاتجاه الإسلامي وحدهم، بل إنه يتردد لدى كثير من اليساريين، وبين معظم الناصريين. غير أنني أرفض هذا الرأي من أساسه؛ ذلك لأن هذه النظم الأخرى لم تُتَح لها، من الناحية الزمنية، إلا فرصة محدودة جدًّا: فالليبرالية الحزبية لم تدُم إلا ثلاثين عامًا، هي الفترة الواقعة بين ١٩٢٣م و١٩٥٢م، وفي هذه الفترة القصيرة كانت هناك ألوف العقبات التي تحول دون تطبيقها بصورة سليمة، على رأسها الاحتلال البريطاني ومقاومة القصر الملكي بالتعاون مع أحزاب الأقلية، فضلًا عن أن مستوى التطور الاقتصادي والاجتماعي لم يكن يسمح بتطبيق متكامل لليبرالية التي تحتاج إلى مستوًى عالٍ من النمو الرأسمالي. أما الاشتراكية فلم تتجاوز فترة تطبيقها خمس سنوات، من ١٩٦١م إلى ١٩٦٥م، أعقبتها عشر سنوات أخرى كانت عناصر التجرِبة تُمحَى خلالها واحدًا تلو الآخر، حتى زالت نهائيًّا في منتصف السبعينيات، وخلال هذه الفترة القصيرة لم تكن هناك جدية كافية في التطبيق. ويكفي أنها كانت اشتراكية بغير اشتراكيين، وأن المكلفين بحراسة التجرِبة الجديدة ورعايتها كانوا — في معظم الأحيان — يُختارون على أسس شخصية تضمن ولاءهم للحاكم، لا على أساس إيمانهم بالمبدأ نفسه واستعدادهم للتضحية في سبيله. فكيف نقول بعد هذا أن النظم الأخرى قد جُرِّبت وأخفقت؟
أما القضية الثانية، القائلة إن الشريعة الإسلامية لم تُطبَّق من قبلُ فلماذا لا نجربها؟ فتجعل المسألة كلها مسألة تجرِبة للجديد، وكأن أي تجرِبة غير مسبوقة مضمونة النجاح، وكأن مجتمعًا كمصر يحتمل أن يكون حقلًا لهذا النوع من التجارب. ولكن الأهم من ذلك أن تلك القضية باطلة من أساسها؛ فالشريعة الإسلامية قد جُربت بالفعل أكثر من أي نظام آخر، إذا نظرنا إلى التاريخ الإسلامي في جملته. وحتى في الفترة المعاصرة نجد أمامنا أربعة أقطار إسلامية هامة قامت بتطبيق الشريعة: هي المملكة السعودية صاحبة أقدم تجرِبة معاصرة في هذا الميدان، وباكستان وهي من أكبر البلاد الإسلامية عددًا، وإيران صاحبة أكبر ثورة إسلامية في العصر الحديث، والسودان أوسع البلاد العربية، وربما الإسلامية، مساحة.
إن المسألة إذن ليست جديدة على الإطلاق، بل إن أمامنا تجارب عديدة في التاريخ الماضي والعصر الحاضر، ولكن دعاة التيار الإسلامي يصورون لنا الأمر وكأنه شيء لم يُجرَّب من قبل، وينبغي أن نلجأ إليه بعد أن أخفقت تجارب النظم الأخرى.
إن أشد ما يثير العجب في نفسي أن تشتد الدعوة إلى تطبيق الشريعة الإسلامية بعد تجرِبة السودان الفاشلة مباشرةً، فكيف يمكن أن يصل تجاهل دروس التاريخ إلى هذا الحد؟ إنني لو تخيلت نفسي مسئولًا في أشد الجماعات الإسلامية تطرفًا، لجمعت أصحابي بمجرد سماعي بأنباء فشل التجرِبة السودانية، وقلت لهم: دعونا نتريث في دعوتنا، ونراجع خطواتنا، وندرس أسباب فشل هذه التجرِبة القريبة منا في الزمان والمكان، حتى نضمن عدم تكرار أخطائها في تجربتنا المقبلة. ودعونا نحلل الأخطاء الفادحة التي وقعتْ فيها التجرِبةُ الإيرانية بعد ثورة رائعة استحقت تعاطف خصوم التيار الإسلامي أنفسهم. ودعونا نبحث في العوامل التي جعلت تطبيق الشريعة في باكستان يتحول إلى اغتيالات للمعارضين وجلد للصحفيين واستبداد شامل في الحكم. ودعونا ندرس الأسباب التي أدت إلى أن يصبح تطبيق الشريعة في البلاد الغنية وسيلة لجعل الإسلام — كما يُطبَّق هناك — راعيًا للثروة بدلًا من أن تكون الثروة وسيلة لرعاية الإسلام.
إن التجارب المعاصرة في تطبيق الشريعة كانت كلها فاشلة، بل إنها أسفرت آخر الأمر عن نظم في الحكم مضادة لما تدعو إليه جميع الشرائع السماوية، لا الإسلام وحده، من خير وعدل. ألم يكن ذلك وحده كافيًا لكي يتريث دعاة تطبيق الشريعة، ويتفرغوا لوضع برنامج مدروس يحول دون تكرار المآسي والمهازل التي ارتبطت بتطبيق الشريعة في الآونة الأخيرة بين جيراننا الأقربين؟
إن البعض يتنصل من تبعة التجرِبة السودانية والتجارب الأخرى، كما فعل الدكتور أحمد عبد الرحمن إبراهيم في رسالته التي يقول فيها: «فالاستشهاد بالنميري أو غيره ليس له أي قيمة علمية.» غير أن كاتبًا آخر ينتمي إلى المعسكر نفسه، هو السيد وهبي أحمد دهب، عضو الهيئة القضائية السودانية، يرد على الدكتور أحمد عبد الرحمن؛ إذ يقول في رسالته: «أما مسألة تطبيق الشريعة الإسلامية في السودان، أعني الحدود، فإنني أقول إن الشعب السوادني لم يتجاوب مع أي شيء في تاريخه مثل ما تجاوب مع تطبيق الشريعة الإسلامية … فبعد تطبيق الحدود بات الناس آمنين على أرواحهم وأموالهم.» ولنضف إلى هذا الرأي الواضح، ما هو معروف من أن الإخوان المسلمين، في السودان ومصر على الأقل، قد رحبوا كل الترحيب بتطبيق الشريعة على يد النميري، كما أثبت الدكتور فرج فودة بشواهد قاطعة في كتابه الهام «قبل السقوط». وهكذا فإن الجماعات نفسها التي باركت التجرِبة السودانية خلال حكم النميري، هي التي تتبرأ منها اليوم بعد سقوطه، وتكتشف — كما فعل الدكتور أحمد عبد الرحمن بعد فوات الأوان — أن التجرِبة لم تنجح لأن الحكومة التي قامت بالتطبيق علمانية!
هذا عن التجارب المعاصرة، أما التجارب التاريخية فلم تكن إلا سلسلة طويلة من الفشل؛ إذ كان الاستبداد هو القاعدة، والظلم هو أساس العلاقة بين الحاكم والمحكوم، والعدل والإحسان والشورى وغيرها من مبادئ الشريعة، لا تعدو أن تكون كلامًا يُقال لتبرير أفعال حاكم يتجاهل كل ما له صلة بهذه المبادئ السامية.
ولا جدال في أن لجوء أنصار تطبيق الشريعة، مهما اختلفت آراؤهم في الأمور التفصيلية، إلى الاستشهاد الدائم بعهد الخلفاء الراشدين، وبعمر بن الخطاب بوجه خاص، هو في ذاته دليل على أنهم لم يجدوا ما يستشهدون به طوال التاريخ التالي الذي ظل الحكم فيه يمارَس باسم الشريعة؛ أي إن التطبيق الذي دام ما يقرب من ثلاثة عشر قرنًا، كان في واقع الأمر نكرانًا لأصول الشريعة وخروجًا عنها.
إن أنصار تطبيق الشريعة يركزون جهودهم، كما قلنا، على الاستشهاد بأحداث ووقائع تنتمي إلى عصر الخلفاء الراشدين، ولا سيما عمر بن الخطاب، ولكن ألا يعلم هؤلاء الدعاة الأفاضل أن عمر بن الخطاب شخصية فذة فريدة ظهرت مرة واحد ولن تتكرر؟ وإذا كانت تجارب القرون العديدة، وكذلك تجارب العصر الحاضر، قد أخفقت كلها في الإتيان بحاكم يداني عمر بن الخطاب، فلماذا يداعبون أتباعهم بالأمل المستحيل في عودة عصر عمر بن الخطاب؟ وإذا كان الخط البياني للحق والعدل والخير قد ازداد هبوطًا على مر التاريخ، وبلغ الحضيض في التجارب المعاصرة لتطبيق الشريعة، فعلى أي أساس يأمل هؤلاء أن تكون التجرِبة المقبلة، التي يدعون إليها في مصر، هي وحدها التجرِبة التي ستنجح فيما أخفقت فيه الأنظمة الإسلامية على مر القرون؟
إن بعض المعترضين يوجهون إلى مقالاتي تهمة الخلط بين سوء تطبيق الشريعة وبين مبدأ التطبيق ذاته، أو «مشروعية التطبيق» على حد تعبير الدكتورة فوقية حسين محمود.
ولكن ماذا نفعل إذا كانت جميع حالات التطبيق التي نعرفها طوال التاريخ القديم والمعاصر، باستثناء البداية الأولى التي كانت لها ظروف خاصة لن تتكرر، قد أخفقت في إقرار العدل وتبديد الظلم وإقامة مجتمع يختفي فيه استغلال الإنسان واضطهاده لأخيه الإنسان؟ هل سنظل نتشبث بالوهم القائل إن «المرة القادمة» هي التي ستنجح، دون أن نقدم أي برنامج يضمن تخلص «المرة القادمة» من الأخطاء الفادحة التي ارتُكِبتْ في المرات السابقة؟
ومن أجل تبرير هذه الدعوة يقدم إلينا أصحابها عبارات عائمة غائمة تحتمل أشد التفسيرات تباينًا. فها هي ذي الدكتورة فوقية حسين محمود تقول: «فالمطلوب إذن هو الرقي بالذات أخلاقيًّا، وعماد هذا الرقي هو العمل مع خشية الله.» وماذا لو ادعى المسئول أنه يخشى الله وكان يُبطن غير ما يُظهر؟ وكيف نرتقي بملايين الناس أخلاقيًّا، وكم من السنوات يستغرق ذلك، وبأي الوسائل نتأكد من أننا حققنا هذا الارتقاء؟ وها هو ذا الدكتور أحمد عبد الرحمن يقول: «فالظلم محرم في الإسلام تحريمًا قاطعًا، وتعريف الظلم والعدل في القرآن الكريم لا يسمح بأي تحيز أو فساد، فالعدل مثلًا هو أن ينال كل إنسان ثمرة عمله وأن يتحمل تبعة خطئه.» صحيح أن الظلم محرم في الإسلام تحريمًا قاطعًا، ولكن هل كان هذا التحريم حائلًا دون انتشار الظلم على مر التاريخ، وبلوغه أقصى مداه في التجارب المعاصرة لتطبيق الشريعة؟ وهل حال التعريف الدقيق للظلم والعدل دون قيام الحاكم، في معظم الحالات، بتعريفهما حسبما يرضي أهواءه ومصالحه؟ وهل يوافق كل من يطبقون الشريعة — في بلاد النفط مثلًا — على المبدأ القائل إن العدل هو أن ينال الإنسان ثمرة عمله؟
إن الدكتور عبد الرحمن عياد يعترف بأن «هذه الظاهرة (يقصد ظاهرة التحيز والهوى في تطبيق الحكام للشريعة) قد استشرَتْ حقيقة منذ أن انحرف معاوية بالحكم وأقام نظامًا استبداديًّا مخالفًا لمبادئ الإسلام العامة.» فتأملوا معي عبارة: استشرَتْ «منذ» أن انحرف معاوية … كم من الوقت مضى منذ أن انحرف معاوية، وكم من الظلم والاستبداد استشرى منذ ذلك الحين على أيدي حكام، كان كل منهم يؤكد أنه يحكم طبقًا للشريعة؟ هل حال هذا الادعاء بتطبيق الشريعة، طوال هذه القرون، دون ذلك الاستبداد والانحراف؟
أتمنى أن يفكر أصحاب الأحكام العامة والعبارات الإنشائية في إجابة أمينة عن هذه الأسئلة، مع رجائي — مرة أخرى — بألا يسندوا دعاواهم على شخص عمر بن الخطاب الذي كان ظاهرة فذة لن تتكرر، ولو واجهوا أنفسهم بصدق لاعترفوا بأن الإنسان يفرض أهواءه وتحيزاته على كل شريعة يَحكم بها. ومن هنا كان جهد الإنسان الحديث منصبًّا على كفالة «الضمانات» المؤكدة في عملية الحكم. ومن هنا أيضًا اتجهت الديمقراطيات الحديثة إلى تأكيد «الضوابط والتوازنات» بين مؤسسات المجتمع وقواه المختلفة؛ كيما تقلل من تأثير الأهواء والمصالح ومظاهر الضعف البشرية إلى الحد الأدنى، وتضع الإطار العام الذي لا يسمح حتى للمنحرف بأن يتمادى في انحرافه.
(٤) الحلم والواقع
إن أنصار تطبيق الشريعة يداعبهم حلم وردي رائع، ولكن مشكلتهم أنهم لا يبذلون أي جهد لترجمة هذا الحلم إلى لغة الواقع. وهذه الترجمة تحتاج إلى استيعاب كافة دروس الماضي والحاضر واستخلاص دلالاتها، وتحتاج إلى وضع ألوف التفاصيل الدقيقة والضوابط المحكمة بحيث لا يسمح للمنحرفين باستغلال مرونة العموميات في تحقيق مآربهم الخاصة، وتحتاج قبل هذا وذاك إلى التفكير في مدى ملاءمة هذه الدعوة للحظة الزمنية الحاضرة، وفي الأسباب التي تؤدي إلى التركيز على أهداف لا علاقة لها بالمشكلات الطاحنة التي يعانيها الإنسان المصري في كل لحظة من لحظات يومه.
وأهم عناصر هذا الحلم الوردي هو الاعتقاد بأن تطبيق الشريعة سيؤدي آليًّا إلى تبخر كل ما نعانيه من مشكلات، كيف؟ لا أحد يدري، وأغلب الظن أن معظمهم يعتقد في قرارة نفسه بأن العناية الإلهية سترعانا بمجرد أن نطبق الشريعة؛ ومن ثم فإن قوى السماء ستتدخل من أجل حل مشكلاتنا دون أن يبذل الإنسان جهدًا يُذكر … وفي غمرة النشوة التي تبعثها العبارات الساحرة الخلابة، لا يخطر ببال أحد أن يتساءل: هل حدث شيء من ذلك في تجرِبة تطبيق الشريعة في السودان أو باكستان أو غيرهما؟ ألم تستفحل مشاكل هذه البلاد في ظل أنظمةٍ تزعم أنها لا تطبق سوى أحكام الإسلام؟
ومن عناصر هذا الحلم أن أحدًا لا يكلف نفسه عناء التساؤل عن الجهة التي ستقوم بهذا التطبيق وتسهر على حمايته: هل هم رجال الدين؟ عندئذ سنخلق كهنوتًا جديدًا وبابوية جديدة. هل هم رجال العلم المتخصصون؟ عندئذ سيقال لنا إن تطبيق الشريعة على أيدي العلمانيين زيف وخداع. هل سنخلق فئة جديدة تجمع بين التفقه في الدين والتخصص في العلوم العصرية؟ عندئذ يكون من حقنا أن نتساءل عن مصدر تلك القدرات الخارقة التي تتيح لأعضاء هذه الفئة أن يضيفوا إلى أعبائهم المزدوجة مهام الحكم وإدارة شئون مجتمع معقد حافل بالمشكلات!
ومن سمات هذا الحلم الوردي أنه — كأي حلم آخر — لا يعطي الأمور حجمها الحقيقي، فأصحابه يتصورون أن منع الخمر، مثلًا، كفيل بإصلاح المجتمع، وينسَوْن أن الخمر لم تُمنع بين الطبقات الحاكمة في بلدان طبقت الشريعة الإسلامية؛ لأن هؤلاء يظلون دائمًا فوق مستوى تطبيق الحدود، وينسَوْن أن هناك مشكلات أفدح وأخطر ألف مرة من الخمر، ومن أزياء النساء وسفورهن أو حجابهم، ستظل قائمة حتى لو لم تبقَ في المجتمع قطرة خمر واحدة، وأن الأولوية في أي مجتمع متأزم كمجتمعنا ينبغي أن تكون لمشكلات المرافق والاقتصاد والمال والتعليم والصحة — وما أكثرها — لا لمنع الاختلاط بين الجنسين أو الاحتفاظ بالمرأة وراء جدران البيت.
وأخيرًا، فإن هذا الحلم الوردي يؤدي بأصحابه إلى المبالغة في تأكيد قدرة أولي الأمر، في المجتمع المثالي الذي يدعون إليه، على تطوير تعاليم الدين بحيث يستطيع المجتمع أن يواجه بها تحديات القرن الحادي والعشرين، فهل لهذا الأمل ما يبرره؟
لكي نجيب عن هذا السؤال، دعونا نستشهد بمثل واحد؛ فقد ظل العالم الإسلامي سنوات طويلة عاجزًا عن الاتفاق على تحديد موعد بدء الشهور القمرية، واختلف المسلمون مرارًا في تحديد اليوم الذي يبدأ فيه الصوم وعيد الفطر … إلخ. وكان مرجع هذا الاختلاف هو الإصرار على تفسير كلمة «الرؤية» في الحديث: «صُوموا لرؤيتِه وأَفْطِروا لرؤيتِه» على أنها تعني الرؤية بالعين المجردة، والعجز عن الاعتراف بأن الأجهزة الفلكية هي أدق وسيلة لحساب موعد بدء الشهور القمرية. وفي كل عام تثار من جديد قضية «الرؤية» وترفض المؤسسات والمنظمات الدينية، الرسمية منها وغير الرسمية، أيَّ تفسير غير رؤية الشهود بعيونهم الكليلة.
ولم نسمع طوال عشرات السنين عن جماعة إسلامية من الجماعات المطالبة بتطبيق الشريعة، اتخذت موقفًا حاسمًا ووافقت على مراعاة هذا الحد الأدنى من المرونة في تلك المسألة البسيطة، وأغلب الظن أن موعد بدء شهر رمضان في عام ٢٠٠٠م سيتحدد أيضًا في ضوء ما يراه شيوخ يجهدون عيونهم الضعيفة ساعة الغروب. وأغلب الظن أيضًا أن البلاد العربية ستظل في مطلع القرن القادم عاجزة عن الاتفاق على مطلع شهر الصوم أو نهايته. فإذا كنا نواجه كل هذا القدْر من الجمود في مسألة بسيطة كهذه، فهل نستطيع أن نطمئن إلى قدرة هذه المؤسسات والجماعات على تكييف عقيدتها على نحو يتيح لها أن تواجه تحديات عصر العقول الإلكترونية والسفر بين الكواكب؟ ألا يدعونا هذا المثل الواضح إلى الشك في كل ما يقدمونه إلينا من أمنيات باسم هذا الحلم الوردي؟
•••
وبعد، فإن كثيرًا من المعترضين على مقالاتي قد تمسكوا بالحجة القائلة إن تطبيق الشريعة هو الآن مطلب شعبي واسع النطاق. ولست أملك أن أخالف رأيهم في هذه المسألة، ولكن كل ما أستطيع أن أرد به عليهم هو أننا نشأنا في بلد إسلامي وظللنا عشرات السنين لا نعرف إلا مواطنين متدينين معتدلين يمارسون العبادة من خلال العمل والكفاح في سبيل النهوض بأنفسهم ومجتمعهم. ولم تكن صيحة المطالبة بتطبيق الشريعة إلا صيحة خافتة لا تأثير لها على المجرى العامِّ لحياة الناس. هذه هي صورة الدين كما عرفه شعبنا طوال أجيال عديدة. أما الموجة الحالية فإنها — برغم انتشارها الواسع — ظاهرة جديدة ودخيلة على التدين المصري العاقل الهادئ. وكأي ظاهرة دخيلة، ينبغي علينا أن نتعقب أسبابها إلى عوامل طارئة، كالقمع والتسلط الفكري والسياسي وانعدام المعارضة والنقد، وإلى عوامل خارجية مثل سعي الثروة البترولية إلى تأمين نفسها، وبحث القوى المعادية لتقدمنا عن وسيلة لتخدير عقولنا وتفريق صفوفنا وصرف انتباهنا عن خصومنا الحقيقيين في الداخل والخارج.