مقدِّمة
إنها قصة الفكر في أسمى مظاهره، أو على الأقل في جانبٍ من أسمى جوانبه؛ وهو الحكمة والفلسفة. وإنها لَجديرة أن تُروى ليعلم أبناء هذا العصر ما جرى للفكر من أحداثٍ جِسام، وما تقلَّب فيه على مرِّ الأعوام.
بل إنها لمأساة حقيقية مُثِّلت على مسرح الحياة، ولعبت فيها شخصيات عظيمة أدوارًا بارزة، تصارعت مع غيرها من الشخصيات، فانتصر الفلاسفة حينًا، ولكن انتهى بهم الأمر بالاندحار، وأُسدل الستار على مسرحية الفلسفة، وقد قُضِيَ عليها بالكفر وحُرِّمَ الاشتغال بها.
ولم يكن للعرب قبل الإسلام فلسفة، ولا كانت لهم عناية بالعلوم وسائر مظاهر المدنية التي بلغتها غيرها من الدول المحيطة بها؛ من قدماء مصريين، ويونانيين، وبابليين، وكلدانيين، وفُرْس، وهنود. كيف يكون للعرب فلسفة وتظهر فيهم علوم بغير أن يُعنَوا بأول أدوات الحضارة النظرية، وهي التدوين وتأليف الكتب التي تحفظ ما وصل إليه كل جيل من تقدُّم فكري، ليعتمد عليه الجيل التالي، فيُضيف إليه خطوةً أخرى في الابتكار، هي ثمرة ما تبلغه العقول من أنظار.
وقد حكى الفارابي في كتابه «تحصيل السعادة» قصة الفلسفة وانتقالها من الأمم القديمة حتى وصلت إلى العرب، فقال: «وهذا العلم على ما يُقال إنه كان في القديم في الكلدانيين، وهم أهل العراق، ثم صار إلى أهل مصر، ثم انتقل إلى اليونانيين، ولم يزل إلى أن انتقل إلى السريانيين، ثم إلى العرب. وكانت العبارة عن جميع ما يحتوي عليه ذلك العلم باللسان اليوناني، ثم صارت باللسان السرياني، ثم باللسان العربي. وكان الذين عندهم هذا العلم من اليونانيين يُسمُّونه الحكمة على الإطلاق، والحكمة العظمى، ويُسمُّون اقتناءها وملكتها الفلسفة، ويُعنون به إيثار الحكمة العظمى ومحبتها، ويُسمون المقتني لها فيلسوفًا؛ يعنون به المحب والمُؤْثِر للحكمة العظمى، ويرون أنها بالقوة الفضائل كلها، ويُسمُّونها علم العلوم، وأُمَّ العلوم، وحكمة الحكم، وصناعة الصناعات.»
انتقلت الفلسفة إلى العرب بعد الإسلام حين بعث فيهم هذا الدين الجديد حياةً جديدة، ونقلهم من المرتبة القبلية المنحصرة في داخل جزيرة العرب، إلى أُفق الإنسانية الفسيح، وأصبح المسلمون دولةً عظمى تمتد من أقصى الصين شرقًا إلى أقصى الأندلس غربًا، يدين كلهم أو معظمهم بالإسلام، ويتكلَّمون بلسان واحد هو العربية. وتسلَّم المسلمون راية الحضارة العالمية عشرة قرون من الزمان، وتبحَّروا في شتى العلوم والفنون والصناعات وتأمَّلوا في أصول هذه الأمور كلها وتعمَّقوها، فكانت الفلسفة كما قال الفارابي هي: حكمة الحكم، وعلم العلوم، وأم العلوم.
وهذه هي حال الحضارات، تنشأ في أمة من الأمم وتزدهر وتنمو، ثم تنقرض، ولكنها لا تموت، بل تنتقل إلى أمة أخرى. غير أن الحضارة الإسلامية تمتاز عن غيرها من الحضارات بأنها استمرَّت مدةً أطول، وزمانًا أعظم من غيرها من حضارات الكلدانيين والسريان والفُرس واليونانيين. وأكبر الظن أن راية الفلسفة التي انتقلت إلى أوروبا منذ عصر النهضة عن العرب، وازدهرت فيها حتى اليوم، أخذت تعود إلى أصحابها العرب في الوقت الحاضر.
وسترى حين نقصُّ عليك قصة هذه الفلسفة أنها إنما ازدهرت في الزمن الماضي منذ ألف عام، عندما عُنِيَ العرب بالعلوم المختلفة وبرزوا فيها، حتى إذا استقرَّت العلوم وتبحَّروا فيها ووضعوا لها القوانين المُنظِّمة لها، استطاع المفكِّرون أن يرتفعوا من العلم إلى الفلسفة، فأُقيمت على صرح ثابت وأساس وطيد. فلمَّا وقف تيار البحث العلمي والنظر في الطبيعيات والرياضيات؛ هوت الفلسفة تبعًا لذلك، وفقدت الأرض التي كانت تعتمد عليها.
وفي الوقت الحاضر نجد عناية العرب بالعلوم شديدة، ولكنها حركة لا تزال في بدايتها، ولن يتيسَّر أن يكون للعرب فلسفة بمعنى الكلمة إلَّا بعد أن تستقر العلوم عندهم مرةً أخرى، وتنهض من جديد على أيدي العرب أنفسهم؛ وعندئذ نستطيع أن نقص قصة الفلسفة الإسلامية، أو العربية مرةً أخرى.
وسيكون ذلك سريعًا إن شاء الله، بفضل الثورة التي نعيش في غمارها في الوقت الحاضر، الثورة السياسية والاجتماعية والثقافية.
•••
- الفصل الأول «تمهيدات»: نبحث فيه عن هذه الفلسفة أهي إسلامية أم عربية؟ وهل هي الفلسفة البحتة أم تشمل إلى جانب ذلك علم الكلام والتصوُّف وأصول الفقه؟ وكيف تُرجمت الفلسفة إلى اللغة العربية؟ وما هذه الحركة التي تُعرف بعصر الترجمة، والتي بدأت بنقل العلوم؟ وما هي أهم الكتب العلمية التي نُقلت؟
- والفصل الثاني «شخصيات»: نحكي فيه قصة أبرز فلاسفة المشرق وهم: الكندي، والفارابي، وابن سينا. ثم أبرز فلاسفة المغرب وهم: ابن باجة، وابن طفيل، وابن رشد.
- والفصل الثالث «موضوعات»: نتحدَّث فيه عن بعض الموضوعات الرئيسة التي دار حولها البحث بين الفلاسفة، بما يتسع له هذا الكتاب الصغير. وسنقف عند موضوعات أربعة هي: المنطق ومناهج البحث، باعتبار أن المنطق كان أداة الفلسفة وطريقة البحث فيها، ثم ننتقل إلى الله، والعالم، والإنسان.