موضوع الفلسفة الإسلامية
إسلامية أم عربية؟
الفلسفة الإسلامية هي البحث في الكون والإنسان في ضوء التعاليم الدينية التي نزلت مع ظهور الإسلام.
وقبل أن نخوض في هذا البحث، ونعرض المشاكل التي واجهتها هذه الفلسفة وحاولت حلها، يجدر بنا أن نُفصِّل في قضية عنوان هذه الدراسة، أهي فلسفة إسلامية أم فلسفة عربية؟ لما لهذا التمييز من أثر في موضوع هذه الفلسفة ذاتها.
وقد تعرَّض المؤرِّخون من القدماء لهذه القضية، كما تعرَّض لها المحدثون طوال القرن التاسع عشر وأوائل العشرين، وبخاصةٍ بعد ظهور القومية العربية، وشعور العرب بذاتهم وكيانهم، فكان للقدماء رأي، وللمحدثين رأي آخر.
وعندما جاء الأستاذ المستشرق نلينو يُلقي محاضراته في الجامعة المصرية عقب افتتاحها، ألقى دروسًا في «تاريخ علم الفلك عند العرب»، وتعرَّض للتسمية، وناقش الحجج التي تُقال في كلا الجانبَين، وهذا نص حجته:
كلما يكون الكلام عن زمان الجاهلية أو أوائل الإسلام، لا شك أن كلمة «عرب» مستعملة بمعناها الحقيقي الطبيعي المشير إلى الأمة القاطنة في شبه الجزيرة المعروفة بجزيرة العرب.
ولكن إذا كان الكلام عن العصور التالية للقرن الأول من الهجرة، اتخذنا ذلك اللفظ بمعنًى اصطلاحي، وأطلقناه على جميع الأمم والشعوب الساكنين في الممالك الإسلامية، المستخدمين اللغة العربية في أكثر تآليفهم العلمية، فتدخل في تسمية العربِ الفرسُ، والهند والترك، والسوريون، والمصريون، والبربر، والأندلسيون … وهلم جرًّا، المتشاركون في كتب لغة العلم، وفي كونهم تَبعَة الدول الإسلامية. ولو لم نُطلق عليهم لفظ العرب؛ كدنا لا نقدر أن نتحدَّث عن علم الهيئة عند العرب؛ لقلة البارعين فيه من أولاد قحطان وعدنان.
من الواضح من هذا النص أن نلينو يعتمد أولًا وقبل كل شيء على اللغة، ولذلك قال العلوم عند العرب بمعنى أنها كُتبت باللغة العربية؛ ثم نقل رأي ابن خلدون الذي يذهب فيه إلى أن «حملة العلم في الملة الإسلامية أكثرهم العجم.» وناقش بعد ذلك الوجه المقابل لهذه القضية، نعني القول بفلسفة إسلامية أو علوم إسلامية، وتولَّى الرد عليها بأن لفظ المسلمين يُخرج النصارى والإسرائيليين والصابئة وأصحاب ديانات أخرى لهم نصيب غير يسير في العلوم والتصانيف العربية، وخصوصًا فيما يتعلَّق بالرياضيات والهيئة والطب والفلسفة. وبأن لفظ المسلمين يستلزم البحث أيضًا عمَّا صنَّفه أهل الإسلام بلغات غير العربية، كالفارسية والتركية، وهذا خارج من موضوعنا. وبذلك يخلص نلينو إلى هذه النتيجة بقوله: «فالأرجح أن نتفق فيما كثر استعماله عند الكتبة الحديثين، ونتخذ لفظ العرب بالاصطلاح المذكور، أي نسبة إلى لغة الكتب لا الأمة.»
الإيرانيون والهنود والأتراك يُؤثِرون تسمية هذه الفلسفة بأنها إسلامية، وليس ذلك بمستغرب منهم في الوقت الحاضر بعد انقطاع صلتهم باللسان العربي إلَّا بالنسبة للمختصين فقط. يذهب الأستاذ مُعِين بجامعة طهران إلى أن القول بالفلسفة العربية يُخرِج الإيرانيين والأفغان والباكستانيين والهنود، ويرى اختيار اسم مثل فلسفة إسلامية، أو فلسفة الدول الإسلامية وما جاورها. ويقول الأستاذ أشنه: «إذا كان المقصود ذلك الفكر الفلسفي الذي انتشر في بقعة من الأرض بعد امتداد رقعة الإسلام واللغة العربية، والذي عُبِّرَ عنه دائمًا باللغة العربية، وفي بعض الأحيان من نفس المؤلِّفين باللغة الفارسية، فمن المصطنع عزل جزء من الفكر عن الآخر، اعتمادًا على أداة من أدوات التعبير عنه، أو على العقيدة الدينية للمؤلِّفين. كيف تأخذ جزءًا من فكر الفيلسوف عَبَّرَ عنه باللغة العربية، وتُغفل الجزء الآخر الذي عبَّر عنه بالفارسية؟ كيف نستبعد فكر فيلسوف لأنه يهودي؟ وما الحال في فكر السُّهروردي أو الرازي صاحب مخاريق الأنبياء؟ لهذا أستبعد القول بفلسفة عربية أو إسلامية، وأوثر القول بالفلسفة في العلم الإسلامي.»
ويُعارض الهنودُ القولَ بفلسفة عربية، وفي ذلك يقول الأستاذ تارا شاند: «فلسفة عربية عنوان غير ملائم؛ أولًا لأنَّ المشتغلين بهذه الصناعة لم يكونوا جميعًا عربًا، بل كان معظمهم فرسًا أو مواطنين في بلاد أخرى كمصر ووسط آسيا والأندلس والهند … إلخ. ومع أن نسيج هذه الفلسفة كُتب بالعربية، فقد استُخدمت لغات أخرى كالفارسية وغيرها. واعتبارٌ أهم من ذلك هو أن الفلسفة نشأت من حاجة الإسلام والجدل الديني، واهتمَّت في أساسها إمَّا بتوطيد دعائم العقيدة، أو التماس أساس فلسفي لها، أو تنمية الأفكار الدينية الكلامية، ولا يمكن اعتبار هذه الفلسفة نقديةً أو مستغلة؛ لأنها دارت حول الفكر الديني. أمَّا النصارى واليهود الذين كتبوا مؤلَّفات فلسفيةً نقديةً أو متأثِّرةً بالإسلام، فينبغي إدخالهم في جملة الفلسفة الإسلامية.»
وجاءت طائفة من الردود تأخذ الإسلام لا بمعنى الدين فقط، بل بمعنًى أعم وأوسع، أي حضارة معيَّنة، كما فعل الأستاذ بوزاني من إيطاليا؛ إذ يأخذ الفلسفة الإسلامية بمعنى الحضارة لا الدين. فضرب مثلًا ببرجسون الفيلسوف اليهودي، فإنه يدخل ضمن تاريخ الفلسفة المسيحية في أوروبا في العصر الحاضر. وإلى مثل ذلك ذهب الدكتور إبراهيم مدكور حيث يقول: «ليس القول بفلسفة عربية إنها من عمل جنس أو أمة، ومع ذلك أوثر تسميتها إسلامية؛ لأن الإسلام ليس عقيدةً فقط، ولكنه أيضًا حضارة، ولكل حضارة حياتها الأخلاقية والمادية والفكرية والعاطفية. والفلسفة الإسلامية تشمل إذَن كل ما كُتب من دراسات فلسفية في أرض الإسلام، سواء بأقلام المسلمين أو النصارى أو اليهود. ولست في حاجة إلى ذكر النساطرة واليعاقبة والصابئة الذين كانوا رُوَّاد هذه الدراسات. وأنت ترى أن ابن ميمون ليس إلَّا استمرارًا للفارابي وابن رشد.»
فلْنسمِّها إذن الفلسفة الإسلامية، ولا مشاحة في الاصطلاح كما يقولون.
الفلسفة الإسلامية وعلم الكلام
وقضية أخرى يجدر بنا أن نُفصِّل في أمرها كذلك قبل المُضي في سرد قصة هذه الفلسفة، تلك هي التمييز بين الفلسفة وعلم الكلام. أتكون الفلسفة الإسلامية إذا شئنا التماسها هي علم الكلام عند المسلمين، أم أنَّ الفلسفة شيءٌ وعلم الكلام شيءٌ آخر مختلف كل الاختلاف؟ أم أن علم الكلام فرع من فروعها؟
- أولًا: لأن علم الكلام كما تبيَّن أساسه ديني، فهو علم ديني، ويُقابله في ذلك العصر في أوروبا علم اللاهوت، أو الأثولوجيا Thsology في المسيحية، مع بعض الفروق بين علم الكلام الإسلامي، وبين اللاهوت المسيحي، لا نود الخوض فيها ها هنا، وليس هذا مجالها. ولا نزاع أن الفلسفة ضربٌ من الدراسة يختلف عن اللاهوت أو علم الكلام، منهجًا وموضوعًا. أمَّا منهج الفلسفة فهو البرهان العقلي بحسب القدماء من الإسلاميين واليونانيين، وأمَّا منهج الكلام فهو الجدل، وأمَّا موضوع الفلسفة فهو الكون والإنسان، والنظر في مبادئ الوجود وعلله، ولا بأس أن ينتهي الفيلسوف في تفكيره إلى إثبات وجود علة أولى لهذا الكون وهي الله، أو محرِّك أوَّل للعالم كما فعل أرسطو وسمَّى الله المحرِّك الذي لا يتحرَّك. وقد يذهب بعض الفلاسفة في تفكيرهم كالماديين إلى إنكار وجود الله، والقول بأن المادة قديمة وهي أصل ذاتها، ولكن موضوع الكلام أساسًا هو الله وصفاته، وصلة الله بهذا العالم، والإنسان الذي يعيش على ظهر هذه الأرض طبقًا للشريعة التي أنزلها الله على عباده في كتبه المقدسة. ومن أجل ذلك يتخذ علماء الكلام من الإسلاميين العقيدة الإسلامية كما وردت في محكم التنزيل وفي كتاب الله وهو القرآن، أمرًا مقررًّا لا سبيل إلى الشك فيه، مثل وجود الله، ووحدانيته، وعدله، والبعث في اليوم الآخر، ثم يُحاولون تأييدها بالحجة العقلية. وفرق شديد بين من يقتحم ميدان الفكر حرًّا من كل رأي سابق، وبين من يدخل هذا الميدان مقيَّدًا بعقيدة سابقة لا يستطيع عنها حولًا، وإن استطاع أن يُؤوِّلها تأويلًا.
- ثانيًا: الفلسفة اصطلاح يوناني دخيل في اللسان العربي، أُجرِيَ في هذه
اللغة كما هو. وقد نصَّ الفارابي على ذلك فقال: «اسم الفلسفة
يوناني وهو دخيل في العربية، وهو على مذهب لسانهم فيلسوفيا، ومعناه
إيثار الحكمة. وهو في لسانهم مركب من «فيلا»، ومن «سوفيا»؛ ﻓ
«فيلا» الإيثار، و«سوفيا» الحكمة. والفيلسوف مشتق من الفلسفة، وهو
على مذهب لسانهم «فيلوسوفوس». فإن هذا التغيير كتغيير كثير من
الاشتقاقات عندهم، ومعناه المؤثِر للحكمة.»
ومن ذلك فلسنا في حاجة إلى التدليل على النشأة الأجنبية للفلسفة الإسلامية؛ لأن لفظ الفلسفة ذاته يحمل في طيَّاته هذه المسحة الأجنبية المأخوذة عن اليونانيين. أمَّا «الكلام» فلا مشاحة أنه علم إسلامي أصيل،٥ نشأ في أرجح الأقوال من المناقشات التي دارت حول القرآن، وهو كلام الله، أقديم هو أم مخلوق؟ وهي المسألة التي شغلت الرأي العام الإسلامي فترةً طويلةً من الزمان في صدر الدولة العباسية، واختلف حولها مفكرو الإسلام من معتزلة وحنابلة وأشاعرة. غير أن البحث في كلام الله باعتبار أنه صفة من صفاته تعالى ليس فلسفة، بل لاهوت بالاصطلاح المسيحي، أو كلام بالاصطلاح الإسلامي.
- ثالثًا: في ابتداء ظهور الفلسفة في الإسلام، نعني في أواخر القرن الثاني
وأوائل الثالث للهجرة، كان هناك فلاسفة اشتُهروا بهذا الاسم، وجرى
ذكرهم في كتب التاريخ وسير الحكماء على أنهم فلاسفة، وعرفوا بذلك؛
مثل الكندي الذي اشتُهر عندهم باسم «فيلسوف العرب». وكان عندهم
متكلِّمون مشهورون في التاريخ، مثل النَّظَّام وأبو الهذيل العلاف،
والجُبَّائي، وغيرهم، ولم يقل أحدٌ من القدماء إن هؤلاء فلاسفة.
وأكثر من ذلك كانت هناك منازعات بين الفلاسفة وبين المتكلمين، ونهض
الفلاسفة يُجرِّحون آراء المتكلِّمين ويتهمونها بالضعف والتهافت،
وألَّفوا في ذلك رسائل. وظل الحال على ذلك المنوال طوال القرون
الثالث والرابع والخامس، بل السادس للهجرة، حتى لنجد الغزالي، وهو
يُعَدُّ في ابتداء أمره من جملة الأشاعرة أي المتكلمين، يُؤلِّف
كتابه المشهور باسم: «تهافت الفلاسفة.» ونجد ابن رشد الفيلسوف يرد
عن الفلسفة والفلاسفة هذا الاتهام في كتابه: «تهافت التهافت.»
فوجود طائفة متميِّزة من الفلاسفة كالكندي والفارابي وابن سينا
وابن طفيل وابن رشد، تختلف عن طائفة أخرى من المتكلِّمين
كالنَّظَّام أو العلَّاف أو الأشعري، يدل دلالةً واضحةً لا سبيل
إلى الشك فيها أن الفلسفة الإسلامية كانت لونًا من الدراسة يختلف
عن علم الكلام، إن لم يتعارض معه.
حقًّا بعد القرن السادس الهجري اختلطت الفلسفة بالكلام، إلى الحد الذي ابتلع هذا العلم الأخير الفلسفة ابتلاعًا واحتواها في كتبه، حتى أصبحت كتب «التوحيد» وهي التي تبحث في علم الكلام تبدأ بمقدمة في منطق أرسطو على طريقة الفلاسفة، فضلًا عن بسط الآراء الطبيعية والرياضية في الزمان والمكان والحركة وغير ذلك، كما يتبيَّن من النظر لأحد كتب المتأخرين في هذا العلم، مثل كتاب «المواقف» للإيجي. ثم على مر الزمن أصبح المسلمون يخشَون الفلسفة لما وُجِّه إليها من اتهامات تدمغها بالكفر والإلحاد، فانصرف فالناس عنها، وأضحى الاشتغال بها والنظر فيها وتدريسها ممَّا يحرم، وظل الحال على هذا المنول حتى القرن السابق، إلى أن ظهرت الفلسفة مرةُ أخرى إلى الوجود، ودبَّت فيها الحياة على يد علماء دينيين من زعماء الفكر، على رأسهم جمال الدين الأفغاني، ثم الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده من بعده، ثم مصطفى عبد الرازق وتلاميذه ومدرسته. وبذلك عادت الفلسفة الإسلامية إلى الانفصال مرةً أخرى عن علم الكلام كسابق عهدها في الدولة العباسية.
وهذا رأي ابن خلدون في مقدِّمته يُؤيِّد ما نذهب إليه، ويُوضِّح مرحلة الانفصال بين الفلسفة والكلام، ثم مرحلة اندماجهما، ننقله بتمامه ردًّا على أولئك الذين يذهبون إلى أنَّ الفلسفة الإسلامية هي علم الكلام. قال ابن خلدون:
واعلم أن المتكلمين لمَّا كانوا يستدلُّون في أكثر أحوالهم بالكائنات وأحوالها على وجود الباري وصفاته، وهو نوع استدلالهم غالبًا، والجسم الطبيعي ينظر فيه الفيلسوف في الطبيعيات، وهو بعض من هذه الكائنات، إلَّا أن نظره فيها مخالف لنظر المتكلِّم؛ فهو ينظر في الجسم من حيث يتحرَّك ويسكن، والمتكلِّم ينظر فيه من حيث يدل على الفاعل. وكذلك نظر الفيلسوف في الإلهيات، إنما هو نظر في الوجود المطلق وما يقتضيه لذاته، ونظر المتكلِّم في الوجود من حيث إنه يدل على الموجد. وبالجملة فموضوع علم الكلام عند أهله إنما هو العقائد الإيمانية بعد فرضها صحيحةً من الشرع، من حيث يمكن أن يُستدل عليها بالأدلة العقلية، فترفع البدع، وتزول الشكوك والشبه من تلك العقائد. ولقد اختلطت الطريقتان عند هؤلاء المتأخِّرين، والتبست مسائل الكلام بمسائل الفلسفة، بحيث لا يتميَّز أحد الفنَّين عن الآخر، ولا يحصل عليه طالبه من كتبهم، كما فعله البيضاوي في الطوالع، ومن جاء بعده …
الفلسفة والتصوُّف
وإذا كان ذلك حال الفلسفة والكلام، وانفصال أحدهما عن الآخر حتى القرن السادس كما رأينا، فهو أيضًا حال الفلسفة والتصوُّف، بل الانفصال بينهما أشد والفرق أعظم، إنهما يختلفان منهجًا وموضوعًا.
فالفلسفة تنظر بعين العقل وتجري على طريق الاستدلال والمنطق، والتصوُّف يسلك طريق المجاهدة والمشاهدة، ويتكلَّم بلسان الذوق والحال؛ فالفلاسفة أصحاب براهين، والمتصوُّفة أرباب أذواق ومواجيد.
وموضوع الفلسفة معرفة حقائق الأشياء من أي نوع كانت، طبيعية أو رياضية أو ميتافيزيقية وراء الطبيعة، وفي هذا النوع الأخير تدخل معرفة الله تعالى، وهذا الموضوع هو النظر في الكون. أمَّا النظر في الإنسان فيشمل البحث في سلوكه من جهة الأخلاق والسياسة، وهذا النظر هو الذي سمَّاه القدماء من الإسلاميين فلسفةً عملية.
وموضوع التصوُّف أساسًا معرفة الله سواء بطريق العبادة الشرعية أو بطريق الإلهام والذوق، ولذلك سُمِّيَ المتصوِّفة في ابتداء أمرهم منذ أواخر القرن الثاني وطوال القرن الثالث بالعُبَّاد الزهَّاد والفقراء؛ لأنهم زادوا في العبادة وأحوال الزهد والورع عن الحد الذي أمر به الشرع. وليس التصوُّف في هذا الدور من أدواره سوى التخلُّق بالأخلاق الدينية، ومن هنا جاء تعريف التصوُّف بأنه «الدخول في كل خلق سَنِيٍّ، والخروج من كل خلق دَنِيٍّ.» ثم انتقل بعد ذلك البحث في التصوُّف من أن يكون نُسكًا وعبادةً وزهادةً وفقرًا، إلى أن يكون تدرُّجًا في أحوال ومقامات، حتى يبلغ الصوفي الحال التي يكون فيها مع الحق، وأصبح تجليًا ومشاهدةً ومعاينة. ولمَّا كان التصوُّف حالًا شخصية، ولا تتوقَّف على الصوفي نفسه، بل على الفتوحات الربانية، فلا يمكن أن تتوقع تعريفًا واحدًا لهذا الفن ما دام يخضع للمزاج الشخصي. ونحن ذاكرون أطرافًا من هذه التعاريف تجدها مثلًا في كتاب «التعريفات للجرجاني»، فالتصوُّف: تصفية القلب من موافقة البرية، ومفارقة الأخلاق الطبيعية، وإخماد الصفات البشرية، ومجانبة الدعاوي النفسانية، ومنازلة الصفات الروحانية، والتعلُّق بعلوم الحقيقة، واستعمال ما هو أولى على السرمدية، والنصح لجميع الأمة، والوفاء لله تعالى على الحقيقة، واتباع رسوله ﷺ في الشريعة.
وقيل: ترك الاختيار.
وقيل: بذل المجهول، والأنس بالمعبود.
وقيل: حفظ حواسك من مراعاة أنفاسك.
وقيل: الإعراض عن الاعتراض.
وقيل: الأخذ بالحقائق، والكلام بالدقائق، واليأس ممَّا في أيدي الخلائق … إلخ.
ليس غرضنا الخوض في التصوُّف لذاته، ولكننا نُريد أن نُبيِّن فقط أنه ضرب من الدراسة يختلف عن الفلسفة. حقًّا في عصوره المتأخِّرة تكوَّنت نظريات صوفية تقول بالاتحاد أو الحلول أو وحدة الوجود، ممَّا يدل على تأثُّر التصوُّف بالفلسفة، إلَّا أنَّ ما حصل شبيه بما حصل لعلم الكلام، حين ابتلع في جوفه مذاهب الفلاسفة.
وليس أدل على تباين الفلسفة والكلام والتصوُّف ممَّا أورده الغزالي في «المنقذ من الضلال»، حيث يُصوِّر تقلُّبه بين هذه الدراسات إذ يقول: «أما بعد، فقد سألتني أيها الأخ في الدين أن أبث إليك غاية العلوم وأسرارها، وغائلة المذاهب وأغوارها، وأحكي لك ما قاسيته في استخلاص الحق من بين اضطراب الفرق مع تباين المسالك والطرق … وما استفدته أولًا من علم الكلام؛ وما اجتويته ثانيًا من طرق أهل التعليم القاصرين لدرك الحق على تقليد الإمام، وما ازدريته ثالثًا من طرق التفلسف، وما ارتضيته آخرًا من طريقة التصوُّف.»
وإذ كان الغزالي قد ارتضى أخيرًا طريق التصوُّف وآثره على غيره من طرق المتكلمين والباطنية والفلاسفة، فإن علماء الكلام لا يرتضون طريق التصوُّف، ولا يعترفون بالإلهام وهو أساس المعرفة الصوفية من جملة طرق المعرفة التي يسلكونها، وهي الحواس السليمة والخبر الصادق والعقل، وبذلك يُميِّزون بين أنفسهم وبين المتصوِّفة تمييزًا واضحًا.
أمَّا الفلاسفة فإنهم يُعارضون المتكلِّمين من جهة، ويُعارضون المتصوِّفة من جهة أخرى، ولك أن تقرأ كتاب ابن رشد «الكشف عن مناهج الأدلة في عقائد الملة»؛ لترى كيف يقف للفريقَين بالمرصاد. فهو يعيب على المتكلِّمين عدم وثاقة حججهم وأدلتهم، وأنها لا تبلغ يقين البراهين والأقيسة المنطقية، ويعيب على الصوفية أن طرقهم في النظر ليست طرقًا نظرية، وإنما يزعمون أن المعرفة بالله وبغيره من الموجودات شيء يُلقى في النفس عند تجريدها من العوارض الشهوانية، وهذه الطريقة وإن سلَّمنا بوجودها، فإنها ليست عامةً للناس بما هم ناس.
فإذا علمت أن ابن رشد تُوفي سنة ٥٩٥ هجرية، أي في أواخر القرن السادس، تبيَّن لك أن الفلاسفة كانوا فريقًا من المفكِّرين في الإسلام يختلفون عن علماء الكلام وعن الصوفية. فليس إذن من الحق في شيء أن نزعم أن علم الكلام هو الفلسفة، وأن نُخرج الفلسفة الإسلامية التي كان الإسلاميون يُمثِّلونها بحجة أنهم نقلوها عن الفلسفات الأخرى، ولا أن نزعم أن التصوُّف هو الفلسفة الإسلامية، اللهم إلَّا في العصور المتأخِّرة التي امتزجت فيها هذه التعاليم كلها، واختلط بعضها ببعضها الآخر، حتى أواخر القرن الماضي، وذلك بسبب أن الفلسفة كان قد صدر ضدها فتاوي تُحرِّم الاشتغال بها.
الفلسفة والفقه
وإذا كانت الفلسفة أجنبيةً في أصلها الذي نُقلت عنه، ثم تطوَّرت بعد ذلك على أيدي المتفلسفة من الإسلاميين، وكان الكلام والتصوُّف علمَين تأثَّرا بعناصر أجنبية مسيحية وفارسية وهندية، حتى ذهب كثيرون إلى أنهما كذلك دخيلان على الإسلام. وكان بعض الباحثين يذهب على الرغم من ذلك إلى التماس الفلسفة الإسلامية الأصيلة في علم الكلام؛ فقد رأى الشيخ مصطفى عبد الرازق أن علم أصول الفقه بذلك أوْلى، ونادى في كتابه «تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية» بأن علم أصول الفقه قد ابتكره الشافعي ابتكارًا ووضعه وضعًا، وأن الناظر في الرسالة للشافعي يتبيَّن مظاهرَ التفكير الفلسفي. وفي ذلك يقول: «ورسالة الشافعي كما رأينا تسلك في سرد مباحثها وترتيب أبوابها نسَقًا مقرَّرًا في ذهن مؤلِّفها قد يختل اطراده أحيانًا ويخفى وجه التتابع فيه، ويعرض له الاستطراد، ويلحقه التكرار والغموض، ولكنه على ذلك كله بداية قوية للتأليف العلمي المنظَّم في فن يجمع الشافعي لأول مرة عناصره الأولى.
وإذا كنا نلمح في الرسالة نشأة التفكير الفلسفي في الإسلام من ناحية العناية، بضبط الفروع والجزئيات، بقواعد كلية وإن لم يغفل جانب الفقه، أي استنباط الأحكام الشرعية الفرعية من أدلتها التفصيلية، فإنا نلمح للتفكير الفلسفي في الرسالة مظاهر أخرى: منها الاتجاه المنطقي إلى وضع التعاريف والحدود أولًا … إلخ.»
حقًّا فتح أستاذنا مصطفى عبد الرازق بابًا جديرًا بالبحث والالتفات، ولكن الفقه وأصوله كليهما من العلوم الشرعية، لا من الفلسفة بالمعنى الاصطلاحي، هذا إلى أن علم الأصول نفسه تأثَّر فيما بعدُ بالمنطق الأرسطوطاليسي، كما يتبيَّن من النظر في اسم الأصل الرابع من أصول الفقه وهو القياس.
الفلسفة والعلم
الفقه والتصوُّف والكلام علوم دينية، فلا عجب أن تتنازع مع الفلسفة وتُحاول إبعادها من ميدان الحياة، وكانت الغلبة في نهاية الأمر للدين، وانتصر على الفلسفة وحرَّم الاشتغال بها، وحكم على الفلاسفة بالكفر واتهمهم بالإلحاد.
ولكن معظم الباحثين في تاريخ الفلسفة الإسلامية أغفلوا المصدر الذين نبعت منه الفلسفة، وغاب عنهم أنها استقامت على أساس من العلوم الرياضية والطبيعية، لا على أساس من الدين.
حقًّا الفلسفة تنظر في الموجودات الطبيعية لتهتدي منها إلى وجود الخالق، ولكن هذا النظر هو تاج الفلسفة، وأشرف جزء منها، ولذلك سُمِّيَ بالإلهيات أو بالعلم الإلهي، كما ذهب إلى ذلك أرسطو. وهذا الجانب لا يشتغل به إلَّا من فرَغ من النظر في العلوم المختلفة، وتدرَّب عليها، وتمهَّر فيها. ومن هذا الوجه كان كل فيلسوف عالمًا بالعلوم الرياضية والطبيعية، ولكن ليس كل عالم فيلسوفًا؛ لأنه قد يقف عند حدِّ علم معيَّن يختص به ولا يزيد عليه. وقد اشتُهر بين العرب كثيرٌ من العلماء في شتَّى فروع العلم، ويكفي أن تقرأ كتاب الفِهرست لابن النديم مثلًا، لترى أسماء المهندسين، والمنجمين، والأطباء، وأصحاب الكيمياء، والحساب، وغير ذلك؛ لتعلم إلى أي حدٍّ بلغ الاختصاص في هذه الفروع. وإلى جانب ذلك وُجد الفلاسفة الذين كانوا مهَرةً في العلوم أولًا، ثم ارتفعوا منها إلى الفلسفة، وكان ذلك حال الكندي وهو فيلسوف العرب الذي برع في العلوم الرياضية، وكان يُعَدُّ من أعظم علماء الفلك. وقُلْ مثل ذلك عن ابن سينا الذي طبقت شهرته كطبيب الآفاق، أو البيروني الذي نبغ في علم الهيئة. وظلَّ الحال على ذلك المنوال، نعني لا يُشتهر بالفلسفة إلَّا من تبحَّر في العلوم وبخاصة علم الطب حتى زمان ابن رشد، الذي كان طبيبًا له كتاب الكليات في الطب، وكان إلى جانب ذلك فيلسوفًا.
حتى إذا قنع المتأخِّرون بعد القرن السادس الهجري بالبحث في المسائل الفلسفية التي أثارها القدماء، دون أن يعتمدوا على الأساس العلمي الذي أُقيمت عليه تلك المسائل، انقطعت الصلة بين الفلسفة وبين الأرض التي كانت تغذوها بالماء، وتُجْري في شرايينها الدماء، وأضحت رأسًا بغير جسد، وجسمًا يخلو من الروح، فماتت. ولم تبدأ تُبعثُ من جديد إلَّا في أواخر القرن الماضي عندما عاد الشرق إلى الأخذ بالعلوم مرةً أخرى. ولكن المعركة لم تعد بين الفلسفة والدين في الوقت الحاضر، بل أضحت معركةً مريرةً بين العلم والدين، لا تزال ناشبةً حتى الآن.
الدين والعلم والفن والأدب والصناعة والاقتصاد هي الأمور التي تُميِّز حضارات الأمم، وهي جميعًا متداخلة بعضها في بعضها الآخر، يُؤثِّر بعضها في بعض. وقد لعب الدين والعلم والفلسفة دورًا على مسرح الحضارة الإسلامية، فكانت الفلسفة تتسلَّح في صراعها بسلاح العلم وترفع رايته، وحين أمكن التوفيق بين هذه الجوانب الثلاثة من المعرفة؛ ازدهرت الحضارة الإسلامية وارتفع شأنها، واشتدَّ ساعد الدول الإسلامية، واتسعت رقعتها، وامتدَّت من أقصى الهند شرقًا إلى الأندلس في المغرب، وذلك في وقت ازدهار الحضارة الإسلامية. فلمَّا ابتعد الفلاسفة عن البحث في العلوم، واقتصر المتأخِّرون منهم على شرح كتب السابقين؛ ضعفت الفلسفة الإسلامية، وأصبحت مدرسيةً جدباء، إلى أن قُضي عليها بالانزواء، ولم يبقَ على المسرح سوى الدين.