Wave Image

عصر الترجمة

طلائع الترجمة

والحق أن المسلمين في صدر الإسلام لم يقصدوا إلى نقل الفلسفة، ولم يكن يُهمهم ذلك، بل هم لم يقصدوا إلى نقل أي علم من العلوم، ولم يضعوا ذلك في حسابهم. وإذا كان شيء من تلك العلوم الدخيلة قد تسرَّب إلى العرب، فكان ذلك بحكم الضرورة المحتومة، وثمرة اتصال العرب بغيرهم من الأمم المجاورة لهم. حدث ذلك الاتصال زمان الجاهلية، ولكن على نطاق ضيِّق جدًّا، فتعلَّم الحارث بن كلدة الثقفي الطبَّ في مدرسة جُنْدَيسابور بفارس، حتى عُرِفَ بطبيب العرب. ويُروى عن سعد بن أبي وقَّاص أنه مرض فعاده رسول الله وقال له: «إيتِ الحارث بن كلدة، فإنه رجل يتطبَّب.» غير أن العلم الذي حصَّله الحارث لم يكن غزيرًا، كما أنه لم يكن محيطًا بأصول علم الطب وفروعه بطريقة علمية؛ لأن ذلك يقتضي معرفةً باللغة السريانية للاطلاع على المراجع الطبية التي نُقلت إلى تلك اللغة وانتشرت في جُنْدَيسابور، حيث تولَّى الاضطلاع بهذا الفن أطبَّاء من السريان.

أمَّا كيف انتقل علم الطب إلى جُنْدَيسابور، ولماذا تُرجم من اليونانية إلى السريانية؛ فلذلك قصة يحسن أن نرويها، وهي قصة قديمة تضرب في التاريخ إلى زمان أفلاطون وأرسطو، وكان أولهما صاحب عناية بالرياضيات، وثانيهما مهتمًّا بالطبيعيات والطب. وكان كلاهما إلى جانب ذلك فيلسوفًا وصاحب مدرسة. وقد نشأت كذلك منذ القديم في القرن الثالث قبل الميلاد مدرسة أبقراط في الطب. ولمَّا أُنشئت مدينة الإسكندرية؛ أصبحت مقر الحضارة اليونانية، واتجهتْ وجهةُ علميةُ أكثر منها فلسفية، ونبغ فيها إقليدس وجاليوس وأرشميدس وبطليموس وغيرهم من كبار العلماء، الذين وضعوا أصول العلوم كالهندسة والفلك والطب. وظلَّت الإسكندرية منارةً تُضيء بالعلم حتى القرن السادس بعد الميلاد، وظهر فيها علماء من الطبقة الثانية التي رتَّبت كتب علماء الطبقة الأولى وهذَّبتها وأعدَّتها للتعليم. وعن هذه الطبقة الثانية نقل العرب العلوم المختلفة.

ولم تكن الإسكندرية تُعنى بالعلوم فقط، بل بجميع ألوان الثقافة من دينية وفلسفية وأدبية؛ ففي القرون الأولى الثلاثة من الميلاد، تجدَّدت الفيثاغورية بنزعتَيها الرياضية والأخلاقية، وتجدَّدت الأفلاطونية على يد أفلوطين المصري النشأة والمولد، الإسكندري الثقافة، اليوناني اللغة، وهو صاحب التاسوعات التي فصَّل فيها عملية الفيض عن الواحد، وقد نُقل جزء من كتابه إلى العربية باسم الأثولوجيا. وأثَّرت نظرية الفيض في كثير من فلاسفة المسلمين. ولم يكن تلميذه فرفريوس الصوري أقل منه أثرًا في الفلسفة الإسلامية، ولا عجب فهو صاحب «إيساغوجي» الذي عُرِفَ عند العرب بهذا الاسم اليوناني حتى العصر الحاضر. وإيساغوجي يعني «المدخل»، وهو مدخل إلى مقولات أرسطو.

فالعلم والفلسفة اللذان ازدهرا في الإسكندرية حتى القرن السادس بعد الميلاد، يقعان تحت عنوان الفلسفة الإسكندرانية، ومعظم ما استقاه العرب كان عن طريقهما، ولم تقتصر هذه الفلسفة على مدينة الإسكندرية فقط، ولكنها لأسباب تاريخية منذ القرن الرابع بعد الميلاد، اتجهت صوب الشرق واستقرَّت في مدن الشام؛ مثل أنطاكية والرها ونصيبين ورأس العين. وكانت المسيحية قد تمَّ انتصارها على وثنية اليونان والرومان، وانتشرت في مصر والشام والجزيرة، واضطلع نصارى السريان بهذه الفلسفة الإسكندرانية، ونقلوا معظمها إلى لسانهم. على أن المسيحية ظلَّت قرونًا في صراع مرير مع الفلسفة اليونانية، وكانت الإسكندرية مسرحًا لهذا الصراع؛ فيها نجد وثنية قدماء المصريين، ووثنية اليونان ممثَّلةً في أساطيرهم، ووثنية الرومان، ثم اليهودية التي فلسفها فيلون الإسكندري في القرن الأول، والمسيحية التي أخذت على يد كليمنت وأوريجين تغزو الميادين المثقَّفة، إلى جانب المانوية الوافدة من الفرس، والتي اعتنقها القديس أوغسطين نفسه بعض الوقت في صدر شبابه، كما جاء في اعترافاته، ثم الفيثاغورية الجديدة التي حاولت التوفيق بين شتَّى المذاهب والأديان، هذا التوفيق الذي نجد صداه في رسائل إخوان الصفا. وهكذا يمكن القول: إنَّ الإسكندرانية كانت البوتقة التي انصهرت فيها شتَّى التيارات الفكرية والدينية من الشرق والغرب على السواء.

الحق أن العالم القديم لم يكن في عزلة بعضه عن بعضه الآخر، والفكر الإنساني علمي في معظم العصور، وتقدُّمه هو تقدُّم الإنسانية نفسها. وقد أثَّرت المذاهب الهندية والفارسية في الفلسفة الإسكندرانية، كما أثَّرت الفلسفة اليونانية والإسكندرانية في الشرق، واستقرَّت في قلب فارس في مدينة جُنْدَيسابور.

ذلك أن الحروب بين الفرس والروم قديمة، تمتد في التاريخ إلى ما قبل الميلاد بخمسة قرون، وكانت تتجدَّد بين حين وآخر. وفي القرن الثالث أرسل فاليريان الإمبراطور الروماني ابنه جاليانوس لغزو فارس، فانهزم الرومان على مقربة من الرها، وانتشر جيش الفرس في شمال الشام ونهبوا أنطاكية، ونقل شابور أسرى الرومان إلى مكان بالقرب من تُستر أنزلهم فيه، وسُمِّيَ المكان جُنْدَيسابور، أي معسكر شابور. وأحسن معاملة الأسرى، وترك لهم حرية العبادة وإقامة الكنائس لمن كان منهم نصرانيًّا، وكان فيهم كثير من المهندسين والبنَّائين والأطبَّاء، وأصبحت جُنْدَيسابور منذ ٢٦٠م تقريبًا مهد العلم والطب اليونانيَّين، حتى نهضت فيها العلوم والفلسفة مرةً أخرى عقب طرد الإمبراطور جستنيان لفلاسفة مدرسة أثينا، فرحَّب بهم كسرى في جُنْدَيسابور، حيث نُقلت معظم العلوم إلى السريانية، وبعضها القليل إلى الفارسية. وقد قيل إن ابن المقفَّع نقل منطق أرسطو عن الفارسية.

ويبدو أنَّ أول ما نقله العرب في الإسلام هو علم الطب، وكان ذلك زمان الخليفة الأُموي مروان بن الحكم (٦٤-٦٥ هجرية)، حيث قام الطبيب ماسرجويه بنقل كتاب أرهن بن أعين القس في الطب من السريانية إلى العربية، وظلَّ الكتاب محفوظًا في خزائن الكتب حتى تولَّى عمر بن عبد العزيز سنة ٩٩–١٠١ﻫ، فاستخار الله في إخراجه إلى المسلمين للانتفاع به، ووضعه في مُصلَّاه.

وأهرن هذا شخصية غامضة، يقال إنه من الإسكندرية، عاش في القرن الخامس، وألَّف كتابًا في الطب في ثلاثين كُنَّاشة، وتُرجم إلى السريانية، ومنها إلى العربية.

ويقال في رواية أخرى إن أول نقل في الإسلام كان على يد خالد بن يزيد الأموي (٨٥ﻫ)، الذي أمر بنقل كتب الكيمياء إلى العربية، أو كتب «الصنعة» بالاصطلاح المشهور عندهم. وتذهب الروايات إلى أن خالدًا تعلَّم هذا العلم من شخص يُسمَّى مارينوس، أو ماريانوس، كان قد أخذ الصنعة عن اسطفانوس الذي عاش زمان هرقل قبل الفتح الإسلامي مباشرة. وكانت الكيمياء تستهدف غرضَين؛ أحدهم تحويل المعادن الخسيسة إلى ذهب، والثاني إجراء العمليات الكيميائية الخاصة بالصناعات، مثل عمل الأصباغ وسبك المعادن وصناعة الأسلحة، وغير ذلك ممَّا يشيع في المدن المتحضِّرة. ولم يكن من الغريب أن يجد العرب بعد الفتح ألوانًا من الصناعات في مدن فارس والشام ومصر، وأن يُشجِّع الخلفاء الصنَّاع من جهة، والعلماء الذين يبحثون.

ونحن نرى ممَّا تقدَّم أن المسلمين عرفوا كثيرًا من العلوم في أواسط الدولة الأموية، وأن الخليفة عمر بن عبد العزيز في أواخر المائة الأولى للهجرة شرع يُبيح هذه العلوم ويُخرجها للناس، وهي العلوم النافعة في العمران؛ مثل الطب والكيمياء والهندسة. وبدأت هذه العلوم الأجنبية تتسرَّب إلى العالم الإسلامي شيئًا فشيئًا، حتى جاءت الدولة العباسية، فأحدثت أعظم حركة ترجمة في التاريخ، حتى لقد سُمِّيَ ذلك العصر بحق عصر الترجمة.

عصر الترجمة

ولعلك تسأل وأين الفلسفة من هذا كله؟

نعم، أين الفلسفة؟ ولقد تساءل الفارابي عن هذا السؤال، وقال في الجواب — كما ذكرنا في ابتداء هذا الكتاب — إن لفظ الفلسفة دخيل جاء عن اليونان. ولم يكن العرب قد عُنوا بَعْدُ في القرن الأول للهجرة بنقل الفلسفة؛ لأن عنايتهم كما اتضح لنا كانت بالعلوم فقط. وقد جاء نقل الفلسفة بالتبعية عرضًا لا أصالة؛ ذلك أن فلاسفة اليونان كانوا يجمعون بين الفلسفة والعلم، وكان الناظر في علومهم مضطرًّا إلى معرفة فلاسفتهم الذين كان كل واحدٍ منهم يتقن علمًا ما، وخصوصًا أعلامهم أمثال سقراط وأفلاطون وأرسطو وأنبادوقليس وديمقريطس وفيثاغورس وغيرهم، فكان لا بد لطالب العلم من الاستطراد إلى معرفة الفلسفة والاطلاع على مذاهبها وعلى سير الفلاسفة وما تكلَّموا فيه من صلة بين الفلسفة وبين العلم.

وقد بدأ عصر الترجمة بمعنى الكلمة زمان العباسيين؛ فقد أنشأ المنصور العبَّاسي مدينة بغداد، التي قُدِّرَ لها أن تكون عروس الشرق وقلب الإسلام فترةً طويلةً من الزمان، ثم استدعى من جُنْدَيسابور جورجيس بن بختَيشوع سنة ١٤٨ﻫ، وعيَّنه رئيس أطبَّائه، فظلَّ بها حتى تُوفي سنة ١٥٠ﻫ. واستدعى المهدي ابنُه بختَيشوعَ فخدمه وخدم الهادي والرشيد. كما نبغ ابنه جبريل وأصبح طبيبًا لجعفر البرمكي، واستمرَّ حتى زمان المأمون، وتُوفي في خلافته سنة ٢١٣ﻫ.

وهكذا انتقل مركز الحركة الثقافية — الفلسفية والعلمية — من جُنْدَيسابور إلى بغداد، وأنشأ المأمون سنة ٢١٥ﻫ معهدًا للترجمة سُمِّيَ بيت الحكمة، وعيَّن له رؤساء يُعاونهم كُتَّاب نحارير، يعرفون اللغة السريانية واليونانية إلى جانب حذقهم بالعربية. ومن أشهر من تولَّى رئاسة بيت الحكمة حنين بن إسحاق، الذي كان يُجيد اليونانية، وكان فيما يُقال يحفظ شِعر هوميروس ويتغنَّى به في شوارع بغداد. عيَّنه الخليفة المتوكِّل للترجمة، ورتَّب له أعوانًا مثل؛ اصطفن بن بسيل، وحبيش، وموسى الترجمان، وغيرهم، يُترجمون ويتصفَّح حنين ترجمتهم لتنقيحها. وقد نقل كتب جالينوس في الطب، كما أَلَّفَ هو نفسه مقالات في الطب، ونقل كذلك كتب أرسطو في المنطق والفلسفة والنفس. وكانت طريقته في الترجمة النقل بالمعنى لا باللفظ. ونبغ بعده ابن إسحاق فتولَّى كذلك أمر الترجمة.

وظلَّت حركة الترجمة مستمرةً طوال القرن الثالث، وتُرجمت كتب أكثر من مرة؛ إذ نُقلت نقلًا أوَّلًا لم يكن حسنًا؛ لأنه يلتزم الحرفية دون المعنى، فيُنقل نقلًا ثانيًا أفضل، وفي بعض الأحيان يُنقل نقلًا ثالثًا؛ وبذلك تمَّ نقل معظم التراث الأجنبي.

ونحن ذاكرون طرفًا من أمهات الكتب العلمية التي لعبت في تاريخ الفلسفة الإسلامية دورًا هامًّا، وكذلك الكتب الفلسفية.

الكتب العلمية

ونبدأ بالحساب والهندسة، فنقول إن العرب اهتمُّوا بكتاب «الأصول» من تأليف إقليدس صاحب الهندسة، الذي عاش في القرن الثالث قبل الميلاد. نبغ في الإسكندرية زمان بطليموس الأول، وألَّف كتابه في ثلاث عشرة مقالة، السِّتُّ الأولى منها في الهندسة، والمقالات من السابعة إلى العاشرة في الأرثماطيقي أو علم العدد. وظلَّ هذا الكتاب عمدة الرياضيين من الإسكندرانيين حتى ظهور الإسلام، عندما نُقل وشُرح. بدأ نقله زمان الرشيد، وأُعيد نقله في خلافة المأمون. ويقول سارتون في كتابه «العلم القديم والمدنية الحديثة»:١ «بدأت دراسة الإسلاميين لكتاب الأصول بالكندي، ممَّا يدل على عناية الفلاسفة بهذا الكتاب وتأثُّر الفلسفة به.» وآخر من شرح مقالاته الهندسية شرحًا مشهورًا هو نصير الدين الطوسي.
وليس من الغريب أن تُعَد الرياضيات من الفلسفة؛ إذ كانت الفلسفة تشتمل على سائر العلوم. انظر إلى كتاب المدخل إلى علم العدد لنيقوماخوس من علماء الإسكندرية في القرن الأول بعد الميلاد، والذي نقله ثابت بن قرة، تجد أنه يستهل كتابه بتعريف الفلسفة فيقول: «إن القدماء الأولين الذين سلكوا سبيل علم الحق اليقين ابتدءوا من لدن فيثاغورس أن يحدوا الفلسفة بأنها في اللغة اليونانية …»٢ وعن هذا الكتاب استمد إخوان الصفا أول رسائلهم في علم العدد، فوصلوا بين هذا العلم الرياضي وبين الفلسفة.
وقد درج الإسكندرانيون على تقسيم العلوم الرياضية — وكانوا يُسمُّونها علوم التعاليم — أربعة أقسام هي: الحساب والهندسة والفلك والموسيقى، وهي المجموعة التي اشتُهرت في العصر الوسيط باسم المجموعة الرباعية quadrivium، والتي كان ينبغي على طالب العلم تحصيلها إلى جانب المجموعة الثلاثية trivium وهي: النحو والبلاغة والمنطق. ولكن العرب كان لهم نظر مختلف إلى المجموعة الثلاثية، والتي سمَّاها الفارابي علم اللسان، سنعرض لها عند الكلام عن الفارابي أو عند الكلام عن تصنيف العلوم.
أمَّا في علم الفلك فالكتاب الذي اشتُهر عند العرب هو المجسطي، من تأليف العالم بطليموس. عاش بطليموس في القرن الثاني بعد الميلاد، ونقل العرب كتابه في عصر الترجمة، ونحتوا كلمة المجسطي من ألفاظ يونانية اختلف المحدثون في أصلها،٣ ولكن أوروبا اللاتينية أخذت اسم الكتاب عن العربية فقالوا Almagest، ممَّا يدل على ارتفاع شأن العرب في الحضارة. وبطليموس هو الذي يُنسب إليه فكرة ثبات الأرض ودوران الشمس، حولها إلى أن جاء كوبرنيق فخالفه وأحدث الثورة المشهورة في تاريخ علم الفلك من أن الأرض هي التي تدور حول الشمس، وهي الثورة المعروفة باسم الثورة الكوبرنيقية، والتي بلغ من شهرتها أن كانط الفيلسوف الألماني شبَّه ثورته في الفلسفة بها. ولا جدال أن البحث في هذه الأرض التي نسكنها ما موضعها من السماء، وهل هي حقًّا مركز الكون باعتبار أن الإنسان — وهو الذي يسكنها — أشرف الكائنات، كل ذلك من المباحث التي تضرب من الفلسفة في الصميم، والتي تشغل البال حتى اليوم.

وقد امتدح القفطي في أخبار الحكماء هذا الكتاب، وجعله أحد كتب ثلاثة أحاطت بفنها إحاطة تامة، فقال: «ولا يُعرف كتاب أُلِّفَ في علم من العلوم قديمها وحديثها فاشتمل على جميع ذلك العلم، وأحاط بأجزاء ذلك الفن غير ثلاثة كتب؛ أحدها كتاب المجسطي هذا في علم هيئة الفلك وحركات النجوم، والثاني كتاب أرسطوطاليس في علم صناعة المنطق، والثالث كتاب سيبويه البصري في علم النحو العربي.»

لم يكن بطليموس هو الذي ابتدع هذا العلم ابتداعًا، بل كان حلقةً في تاريخ الفكر اليوناني يُمثِّل تاجها، ذلك الفكر الذي اعتمد في أصوله على معارف قدماء المصريين والبابليين. ولمَّا جاء العرب لم يأخذوا عن بطليموس فقط، ولكنهم أخذوا كذلك عن علم الفلك الهندي والفارسي؛ ذلك أن الخليفة المنصور العباسي بعد أن أسَّس بغداد عُنِيَ بعلم الفلك، وحرَّكه إلى ذلك أن أحد علماء الفلك كان ضمن وفد السند الذي وفد إلى بغداد سنة ١٥٤ هجرية، فكلَّفه المنصور أن يختصر كتاب «براهمسبهطسدهانت»، وتُرجم الكتاب إلى اللغة العربية، واشتُهر في اللسان العربي باسم «السند هند»، وهو تحريف لآخر اللفظة الهندية «سدهانت»، التي تعني العلم أو المعرفة، واستخرج الفزاري منه زَيجًا ظلَّ معمولًا به حتى زمان المأمون. و«الزَّيج» لفظة فارسية تعني الجداول الحسابية التي يستخدمها علماء الفلك في أرصادهم. وبعد زمان المأمون ونقل المجسطي، مزج علماء العرب بين الطريقتَين الهندية واليونانية، فلمَّا كان القرن الرابع وأوائل الخامس استقلُّوا على يد البيروني بهذا العلم، وأضافوا إليه مباحث ودراسات جديدة. وكانت هناك مناظرات ومساجلات بين البيروني وبين الشيخ الرئيس ابن سينا، حول كثير من المسائل الفلكية الهامة.

أمَّا في الطب فقد تُرجمت كتب أبقراط وجالينوس، وكانت الأساس الذي اعتمد عليه أطبَّاء العرب وفلاسفتهم. وكما تقدَّم العرب بالعلوم الرياضية وأضافوا إليها، كذلك فعلوا بالطب، وبخاصة على يد ابن سينا في كتابه «القانون»؛ فأضافوا تنظيمًا جديدًا لهذا العلم، وابتكارات قامت على التجرِبة. وكما أقام بعض فلاسفتهم فلسفته على الرياضيات كالكندي والفارابي، أقام بعضه الآخر فلسفته على الطب كابن سينا وابن رشد؛ ذلك أن الفلسفة كانت في ذلك الزمان تحوي جميع العلوم، فلم يكن من الغريب أن يُحيط فلاسفة العرب بسائر العلوم المتداولة في عصرهم. وبعد، فإن الفلسفة ليست شيئًا آخر سوى منهج في التفكير يسلكه المرء لبلوغ الحقيقة، ويكتسب المرء هذا المنهج من ممارسة العلوم، فإذا اشتغل بالرياضيات سلك سبيل البراهين الرياضية، وإذا عُنِيَ بالعلوم الطبيعية كان طريقه المشاهدات والتجارب وملاحظة الوقاع واستخلاص القوانين التي تحكمها. ومن هنا اختلفت طرائق الفلاسفة باختلاف نزعاتهم العلمية؛ فالكندي أو البيروني لاعتمادهما على الرياضيات كانت فلسفتهما مصطبغة بهذه الصبغة، وابن سينا وابن رشد وقد كانا من الأطبَّاء، اتجهت فلسفتهما وجهةً طبيعيةً أكثر منها رياضية، وهذا قول نُرسله بوجه الإجمال والتعميم، أمَّا إذا شئنا الدقة والتفصيل، فإننا قد نجد فيلسوفًا يجمع بين الطريقتَين، مثل ابن سينا الذي وضع أساس المنهج التجريبي وفصَّل قواعد التجريب في مقدِّمة «القانون»، ومع ذلك كان رياضيًّا كذلك، بل انتهى به الأمر إلى اصطناع منهج صوفي في آخر حياته، نراه واضحًا في كتابه «الإشارات».

العلوم الحِكَمية

وقد ذكرنا كيف كانت الفلسفة في ذلك الزمان تحوي جميع العلوم — والمقصود العلوم الرياضية والطبيعية — دون أن نُفصِّل القول في ذلك. وليس غرضنا أن نتناول في حديثنا هذا تقسيم العرب للعلوم، فهذا موضوع ولو أنه داخل في تاريخ الفلسفة الإسلامية، غير أنه لا يعنينا ها هنا إلَّا بمقدار ما يُؤيِّد وجهة نظرنا التي نُدافع عنها، وهي أن هذه الفلسفة قامت أولًا وقبل كل شيء على العلم. ونحن ذاكرون بعض ما جاء في إحدى رسائل الشيخ الرئيس — وهو ابن سينا — المسمَّاة «في أقسام العلوم العقلية». قال يُعرِّف الحكمة بأنها «صناعة نظر يستفيد منها الإنسان تحصيل ما عليه الوجود كله في نفسه، وما عليه الواجب ممَّا يجب أن يكسبه فعله لتشرف بذلك نفسه وتستكمل، وتصير عالمًا عقليًّا معقولًا مضاهيًا للعالم الموجود، وتستعد للسعادة القصوى بالآخرة، وذلك بحسب الطاقة الإنسانية.»

وهذا تعريف سينوي للفلسفة مشهور، نقلناه كاملًا لأننا سنستفيد منه في الفصول التالية. ومن الواضح أن ابن سينا يجعل الحكمة مرادفةً للفلسفة، وهي عنده تنقسم قسمَين؛ نظرية وعملية، النظرية غايتها الحق، والعملية غايتها الخير. وتنقسم الحكمة النظرية ثلاثة أقسام؛ الطبيعيات والرياضيات والإلهيات (وهذا العلم الأخير هو الذي يُسمَّى باللغة الإفرنجية الميتافيزيقا). وأقسام الحكمة العملية ثلاثة هي؛ الأخلاق، وتدبير المنزل، والسياسة.

والحكمة الطبيعية منها أصلية ومنها فرعية؛ فالأصلية ثمانية أقسام، كل قسم منها يشرحه كتاب يُعَدُّ عمدةً في موضوعه، وهي؛ سمع الكيان، والسماء والعالم، والكون والفساد، والجزء الأول من الآثار العلوي الذي يشرح ظواهر الشهب والسحب والرعد والزلازل وغير ذلك، والمقالة الرابعة من كتاب الآثار العُلوية وهي الخاصة بالمعادن، وكتاب النبات، وكتاب الحيوان، وكتاب النفس.

والحكمة الفرعية الطبيعية هي؛ الطب، وأحكام النجوم (وهو خلاف علم الفلك أو الهيئة) وهو — كما يُعرِّفه ابن سينا — «علم تخميني، الغرض منه الاستدلال من أشكال الكواكب بقياس بعضها إلى بعض، وبقياسها إلى درج البروج، وبقياس جملة ذلك إلى الأرض على ما يكون من أحوال أدوار العالم والملك والممالك والبلدان والمواليد والتحاويل والتسايير.» ثم علم الفِراسة، وعلم التعبير، «والغرض فيه الاستدلال في المتخيلات الحكمية على ما شاهدته النفس من علم الغيب فخيلته القوة المخيلة بمثال غيره.» وعلم الطلسمات، وعلم النيرنجيات، وعلم الكيمياء.

وقد ذكرنا من قبلُ أقسام الحكمة الرياضية الأصلية وهي أربعة؛ الحساب والهندسة والفلك والموسيقى، ولها كذلك فروع كثيرة عددية وهندسية.

والعلم الإلهي — أو الميتافيزيقا — يبحث في أصول الطبيعيين والرياضيين، وفي إثبات وجود الله، وإثبات الجواهر الروحانية، وغير ذلك ممَّا يدخل في علم ما بعد الطبيعة.

ومن الواضح أن ابن سينا يحذو حذو أرسطو وشراحه من الإسكندرانيين في تقسيم العلوم واعتبارها فروعًا من شجرة الفلسفة.

وهو يحذو كذلك حذو أرسطو في اعتبار المنطق آلةً للعلوم، ولذلك أفرد له قسمًا خاصًّا من أقسام الحكمة، ولم يسلكه من جملة الحكمة النظرية.

ولكنه يختلف عن صاحب المنطق — أي أرسطو — اختلافًا جوهريًّا حين يجعل من فروع العلوم الإلهية معرفة نزول الوحي، وعلم المعاد، وما يتصل بذلك من سعادة وشقاوة أخروية، والوحي والبعث والمعاد في الآخرة من العلوم الدينية لا الفلسفية.

ونحسب أن الخوارزمي في «مفاتيح العلوم» كان أصحَّ في تقسيمه للعلوم من الشيخ الرئيس؛ ذلك أن الخوارزمي يفصل علوم الدين عن العلوم البحتة والفلسفية التي يُسمِّيها علوم العجم. وكذلك فعل الفارابي في كتابه «إحصاء العلوم»، وذهب إلى ذلك ابن خلدون في المقدِّمة؛ فقسَّم العلوم قسمَين كبيرَين؛ عقلية وهي علوم الحكمة والفلسفة، وقد حذا فيها حذو ابن سينا، ونقلية أو شرعية أو دينية.

نحن إذن أمام نوعَين أساسيين من العلوم قد يتباعدان إلى حدِّ التنافر، وقد يتقاربان إلى حد التوافق والاندماج، وهما الفلسفة والدين.

وسنعرض لمشكلة التوفيق بين الدين الإسلامي والفلسفة فيما بعد؛ لأن هذه المسألة تُعَد من المسائل الرئيسة في تاريخ الفلسفة الإسلامية. ولكن الذي يعنينا في الوقت الراهن هو الفصل في القضية التي بسطناها وحاولنا تأييدها، نعني على أيِّ أساس قامت الفلسفة، أعلى العلوم الطبيعية والرياضية، أم على العلوم الدينية والشرعية؟ ونحسب أن الجواب عن هذا السؤال من الوضوح بحيث لا يحتاج منا إلى مزيد من التدليل، وهو أن الفلسفة قامت على العلوم، بل أكثر من ذلك كان بين الفلسفة والدين عداء مستمر منذ ظهورها على مسرح الحياة الإسلامية، وانتهى الصراع بينهما إلى تغلُّب الدين فقضى على الفلسفة قضاءً مبرمًا، وحرَّم الاشتغال بها، وعُدَّت من جملة الزندقة والإلحاد حتى القرن الماضي، ولم يُرَدَّ لها اعتبارها إلَّا منذ أوائل هذا القرن، فعادت إلى الظهور، ولم تعد الفلسفة بدعةً أو كفرًا.

الكتب الفلسفية

لم نتوسَّع في ذكر الكتب العلمية التي نُقلت؛ لأن غرضنا ليس البحث في تاريخ العلم، بل تاريخ الفلسفة، وإنما ذكرنا طرفًا من أهم الكتب العلمية، وكذلك حركة ترجمة العلوم المختلفة باعتبار أن هذه المعارف لم تكن منفصلة؛ ولأن الفلسفة كانت تحوي في طيَّاتها العلوم وتعدُّها فروعًا منها.

ولكننا إذ نستعرض تاريخ الفلسفة في الإسلام، فلا مناص لنا من ذكر سائر الكتب الفلسفية. وقد عُنِيَ العرب بنقل المذاهب المختلفة، عن أفلاطون وعن أرسطو، وعن الرواقيين، وعن فلاسفة الإسكندرية، غير أن الفيلسوف الذي ظفر بالنصيب الأكبر من النقل، والذي قُدِّرَ له البقاء والتأثير في الفكر الإسلامي أكثر من غيره هو أرسطو، وفلسفته تعرف بالمشَّائية.

وقبل أن نذكر كتبه المترجمة نقول: إن هناك فرقًا بين الأرسطية وبين المشَّائية؛ فالأرسطية مذهب أرسطو بخاصة لا يتعدَّاه إلى مدرسته ولا إلى شُرَّاحه، والمشَّائية مذهب هذه المدرسة التي أسَّسها أرسطو، وظلَّت تآليفه النبراس الذي يُضيء لها الطريق منذ القرن الرابع قبل الميلاد، حتى زمان ابن رشد في القرن الثالث عشر، وسُمِّيَتْ بالمشَّائية لأن أرسطو فيما يقال كان يُدرِّس وهو يمشي وأتباعه يمشون حوله. الواقع لم تكن هذه الطريقة خاصةً بأرسطو وحده، بل هي المأثورة كذلك عن سقراط وأصحاب الرواق، ولكن المشَّائية إذا أُطلقَتْ لا يُقصد بها إلَّا مدرسة أرسطو.

وقد اتجهت الفلسفة الإسلامية وجهةً مشَّائيةً أكثر منها أفلاطونية.

والمعروف أن أرسطو ألَّفَ في شبابه محاورات تُشبه محاورات أفلاطون، ثم عدل عنها إلى التأليف المرتَّب المنظم؛ فألَّف في جميع أبواب الفلسفة، وقد أتمَّ بعض كتب في حياته ونشرها؛ مثل كتاب الأخلاق، ولكنَّ كثيرًا من كتبه الأخرى لم يكن سوى مذكِّرات يُلقي منها دروسه، ولم يكن قد أعدَّها للنشر، ولم تكن مرتبةً هذا الترتيب المعروف الآن من البدء بالمنطق، ثم الطبيعيات، ثم ما وراء الطبيعة، فهذا النشر وهذا الترتيب من عمل أندرونيقوس بعد ثلاثة قرون من وفاة أرسطو، وكان أندرونيقوس أمينًا على مكتبة الإسكندرية.

والكتب المنطقية ستة هي؛ المقولات، والعبارة، والقياس، والبرهان، والجدل، والسفسطة. ثم أضاف العرب إليها ثلاثة كتب؛ واحدًا يُعَد «مدخلًا إلى المقولات، واسمه باليونانية «إيساغوجي» بمعنى المقدِّمة أو المدخل، وهو من عمل فرفريوس الصوري تلميذ أفلوطين، ويبحث هذا الكتاب في الكليات الخمس وهي؛ الجنس والنوع والفصل والخاصة والعرض العام». أمَّا الكتابان الآخران فقد أُلحقا بآخر المنطق، هما الخطابة والشِّعر؛ ذلك أن فلاسفة العرب لم يفهموا غرض أرسطو من هذين الكتابَين الملائمَين لطبيعة اليونانيين في القرن الرابع قبل الميلاد، حين كانت الديمقراطية أساس حياتهم السياسية بوجه خاص، وكانوا في حاجة إلى صناعة الخطابة للتغلُّب بها على الخصوم وتأييد الآراء السياسية والاجتماعية. ولم تكن خطابتهم كخطابة العرب التي تعتمد على الفصاحة والبيان، وتعتمد على ما يُسمِّيه العرب البلاغة. وكان لها أغراض أخرى خلاف أغراض اليونانيين. أضف إلى ذلك أن الخطابة اليونانية كانت تُعدُّ فنًّا، بالمعنى الحقيقي لمعنى الفن. وكذلك الحال في الشِّعر؛ فهو عند أرسطو السمة التي تُميِّز الفنون جميعًا سواء أكان ذلك الفن نحتًا أم تصويرًا أم موسيقى خالصةً أم قصيدةً غنائيةً أم ملحمةً أم تمثيلية، بمعنًى آخر كل فن جميل شِعْر. وأرقى الفنون هي التمثيليات من كوميديا وتراجيديا، وأرقاها جميعًا التراجيديات. ولم يعرف العرب هذا الفن التمثيلي، وإنما وقفوا عند الشعر الغنائي.

ثم نظر العرب في كتاب الشِّعر من ناحية صلته بالفلسفة التي رأوا أنها طلب «الحق»، وأن هذا الطلب قد يكون يقينيًّا إذا جاء عن طريق البرهان، أو جدليًّا إذا جاء عن طريق الجدل، أو خطابيًّا إذا اعتمد على الآراء المشهورة الذائعة، أو شِعريًّا إذا جاء عن الأخيلة، والانتقال من الشبيه إلى الشبيه، وهذا أضعف درجات الحجة. ومن هنا أضافوا كتابَي الخطابة والشِّعر إلى المنطق؛ وبذلك تمَّت الكتب المنطقية عند متأخري فلاسفة العرب تسعة. أمَّا المتقدِّمون منهم فقد نوَّهوا بكتب أربعة فقط تُعَد أساس المنطق، وهي؛ المقولات والعبارة والقياس والبرهان، فمن جهلها فقد جهل المنطق.

وجدير بالذكر أن العرب عرفوا هذه الكتب أول ما عرفوها بأسمائها اليونانية، فقالوا: إيساغوجي، وقاطيغورياس، وباري أرمنياس، وأنالوطيقا الأولى، وأنالوطيقا الثانية، وطويقا، وسوفطسيقا، وريطوريقا، وبويطيقا. وقد بقيت بعض هذه الأسماء إلى الوقت الحاضر، فلا يزال الأزهر مثلًا يُدرِّس كتاب إيساغوجي، ولو أن المقصود الأزهري بهذا الاصطلاح خلاف المدخل فقط. وانظر إلى لفظة السفسطة التي درجت في اللسان العربي، تجد أن أصلها ذلك المبحث اليوناني في المنطق، ممَّا يدل على تأثير الفكر اليوناني في الفكر العربي. ولا غرابة في ذلك؛ فإن العرب بحكم توسُّعهم بين الشرق والغرب، قد أخذوا من هنا ومن هناك، ونقلوا عن الحضارات المختلفة، وحفظوا هذا التراث كله زمنًا طويلًا، أضافوا إليه معارف جديدة، وهكذا. ذلك أن الإنسانية كلٌّ لا يتجزَّأ، والحضارة التي بلغها الإنسان في الوقت الحاضر ليست ثمرة جهد أمة واحدة، بل نتيجة تفاعل الحضارات المختلفة على مر العصور.

ونقل العرب من كتب أرسطو سائر كتبه الطبيعية، ولا حاجة بنا إلى ذكرها مرةً أخرى؛ فقد أشرنا إليها عند الكلام عن تقسيم علوم الحكمة الطبيعية الأصلية بحسب ما ذكره ابن سينا. وقد نقلوا كذلك كتاب «ما بعد الطبيعة»، وهو المسمَّى بكتاب الحروف؛ لأنه يقع في عدة مقالات، رُتِّبَتْ على الحروف الأبجدية اليونانية. وأشهر هذه المقالات مقالة اللام التي تبحث في الله، وهو عند أرسطو المحرِّك الذي لا يتحرَّك، وقام ابن رشد بشرح هذا الكتاب فقرةً فقرة، ومقالةً مقالة، في كتابه «تفسير ما بعد الطبيعة».

ويحسن بنا أن نقف عند كتاب نُسِبَ خطأً إلى أرسطو، وكان ذلك الخطأ سببًا في كثير من اللبس في الفلسفة الإسلامية، ونعني بذلك كتاب الأثولوجيا أو الربوبية، الذي نقله ابن ناعمة الحمصي، وأصلحه يعقوب الكندي. والكتاب في الحقيقة لأفلوطين لا لأرسطو. وثمة فرق عظيم بين مذهب الفيلسوفَين؛ لأن فلسفة أرسطو تقوم على الوجود، وفلسفة أفلوطين تقوم على الواحد. وقد فطن الفارابي إلى هذا الخطأ وشكَّ في نسبة الكتاب إلى أرسطو.

مهما يكن من شيء، فإن براعة العرب في التوفيق استطاعت أن تُلائم بين هذين الأساسَين، فأدمجت ميتافيزيقا الوجود مع ميتافيزيقا الواحد، وخرجوا من ذلك بفلسفة جديدة تجمع بينهما، ممَّا يُعَد ابتكارًا أصيلًا في الفلسفة الإسلامية.

ولكن أين أفلاطون، وأين فلسفته، وأين محاوراته؟

لقد نقل العرب بعضها، نقلوا «الجمهورية» وسمَّوها «المدينة الفاضلة»، واقتبسوا منها وتأثَّروا بها، كما نرى في «المدينة الفاضلة» للفارابي. ونقلوا كذلك كتاب «النواميس» وتأثَّروا به، وذكر القِفطي أسماء محاوراته فقال: «وكان يُسمِّي كتبًا بأسماء الرجال الطالبين لها، وهي في فنون متعدِّدة منها كتاب لاخس في الشجاعة، وكتاب خرميدس في العفة … إلخ.» ويبدو أن طريقة الحوار في التأليف لم تكن مألوفةً عند العرب، وبخاصة أن المحاورات الأفلاطونية لم تكن مجرَّد حوار بين أشخاص، ولكنها كانت تُمثَّلُ بالفعل حتى زمان شيشرون، وفضلًا عن ذلك فهي مملوءة بالأساطير اليونانية التي تذكر الآلهة، ممَّا لا يود العرب المسلمون ذكره؛ ولهذا لم تُنقل معظم محاورات أفلاطون، ولم تَرُجْ عند فلاسفة الإسلام. ومن هنا آثروا المشَّائية على الأفلاطونية.

على أن الفلسفة الإسلامية لم تقتصر على مشَّائية أرسطو فقط، ولكنها أخذت أطرافًا من الأفلاطونية، ومن الأفلاطونية المحدثة، ومن الفيثاغورية، ومن الفلسفة الهندية والفارسية، وصاغت من هذا التراث كله فلسفةً جديدةً في ضوء التعاليم الإسلامية. ولن يتسع المقام في هذا الحيِّز الضيِّق أن نذكر جميع الكتب الفلسفية التي كان لها أثر في الفكر الإسلامي، مثل كتاب «الخير المحض» وغيره، ولطالب التوسُّع في هذا الموضوع أن يرجع إلى المطوَّلات.

وننتقل بعد ذلك إلى الكلام عن أعلام فلاسفة الإسلام الذين اشتُهروا في التاريخ، قبل أن نتحدَّث عن المشاكل الرئيسة التي عالجوها.

١  انظر هذا الكتاب ص٧٨ وما بعدها لمعرفة شُرَّاحه من العرب.
٢  المدخل إلى علم العدد — الطبعة الكاثوليكية — بيروت، ١٩٥٨م.
٣  انظر نلينو في كتابه «تاريخ الفلك عند العرب»، ومناقشته لهذا الاسم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤