ما هو حجم المشكلة؟
أدركت وجود المشكلة (وهي إصابة النساء المصريات بالعصاب) من كثرة الأعراض العصابية التي كانت تشكو منها النساء والفتيات اللائي كُنَّ يترددن على عيادتي أو بيتي أو مكتبي في مجلة «الصحة»، ومن أن نسبة كبيرة من صديقاتي النساء المتعلمات كن يشْكُون لي دائمًا من أعراض نفسية وعصابية، وقد لاحظت بصفة عامة أن حياة المرأة في مجتمعنا المصري حياة لا تحقق لها السعادة أو الصحة النفسية، وأنه من النادر جدًّا إذا ما صادفت امرأة تشعر بالرضى أو بالتحقق جسديًّا أو نفسيًّا.
وانطلاقًا من هذا الإدراك غير المدعَّم بالأرقام العلمية، فقد بدأت أبحث عن حجم المشكلة الحقيقي، أو عن نسبة إصابة النساء بالعصاب في مجتمعنا، وقد لجأت من أجل هذا إلى مراكز البحوث عندنا، سواء في الجامعات أو المعاهد، ودهشت حينما اكتشفت أن مثل هذه البحوث غير موجودة، وأن أحدًا لا يعرف النسبة الحقيقية للعصاب بين النساء والفتيات.
إلا أنني التقيت في كلية الطب بجامعة عين شمس الزميل الأستاذ الدكتور أحمد عكاشة والدكتور عادل صادق، وهما اللذان وجهاني إلى العيادة النفسية التابعة للمراقبة العامة للشئون الطبية لجامعة عين شمس، وهذه العيادة النفسية هي المختصة بفحص وعلاج المرضى والمريضات نفسيًّا من طلبة وطالبات جامعة عين شمس.
من هذه الأرقام يتضح أن نسبة العصاب بين الطالبات أعلى منها بين الطلبة، وهذا أمر يستدعي البحث والدراسة لمعرفة الأسباب التي تجعل الطالبة المصرية أكثر عرضة للإصابة بالعصاب من زميلها الطالب المصري الذي يعيش في الظروف الاجتماعية والاقتصادية نفسها.
كما أننا لو اعتبرنا أن طالبات جامعة عين شمس يمثلن الطالبات المصريات الجامعيات بصفة عامة بمختلف طبقاتهن وأسرهن، فإن نسبة ٩ بالمائة تقريبًا كمؤشر عام لنسبة الإصابة بالعصاب إنما هي نسبة مرتفعة، خاصةً لو وضعنا في اعتبارنا أنها أقل من الحقيقة؛ لأن عددًا من طالبات الجامعة (وخاصة من الأسر العالية وفوق المتوسطة) لا يذهبن إلى العيادة النفسية التابعة للجامعة وإنما يذهبن إلى طبيب الأسرة الخاص، ولا تعلم العيادة النفسية الجامعية عنهن شيئًا.
ولو أنَّا اعتبرنا الطالبات الجامعيات كممثلات للنساء المتعلمات في مصر لاستطعنا أن نقول: إنه من بين كل مائة امرأة متعلمة في مصر، فإن تسع نساء منهن معرضات للإصابة بالعصاب، وهذه نسبة مفزعة في العلوم الطبية بجميع فروعها، وتمثل في حد ذاتها مشكلة تستوجب الدراسة والعلاج.
ومن هنا أيضًا يتضح أن نسبة الإصابة بالعصاب بين النساء غير المتعلمات أعلى منها بين الرجال غير المتعلمين الذين يعيشون في الظروف الاقتصادية والاجتماعية نفسها.
وبالتعمق الأكثر في بيانات هذه العيادة اتضح أنها تخدم العاملات والعاملين في خمسة بنوك يشملها التأمين الصحي «البنك الأهلي وبنك مصر وبنك الإسكندرية وبنك ناصر»، وتخدم العاملين والعاملات في ثلاث شركات أدوية «الشركة العربية للأدوية، وشركة النيل للأدوية، والشركة المصرية لتجارة الأدوية»، وتخدم العاملين في شركة عمر أفندي بمصر الجديدة، وشركة الأزياء الحديثة بمصر الجديدة، وشركة مصر للألبان بمصر الجديدة.
واتضح لي أن أغلبية هؤلاء العاملات لم يحصلن على أكثر من الابتدائية، وبعضهن لا يقرأن ولا يكتبن، ونسبة قليلة حصلت على شهادة متوسطة، وهن موظفات يعملن أعمالًا كتابية.
وقد وجدتُ أن عدد هؤلاء الموظفات في البنوك الخمسة التي تخدمها العيادة: ١٠٨ موظفات، وكان عدد حالات العصاب بين الموظفات: ٩ حالات؛ أي أن نسبة العصاب بينهن = ٨٫٣ بالمائة.
وهذه النسبة تزيد قليلًا عن نسبة الإصابة بالعصاب بين العاملات غير المتعلمات، لكنها تقلُّ عن نسبة الإصابة بالعصاب بين النساء الجامعيات المتعلمات، وهذا يشير إلى أن المرأة تصبح معرَّضة للإصابة بالعصاب كلما زادت درجة تعلُّمها.
ويمكن القول مما سبق: إنَّ حجم المشكلة كبير ويستدعي الانتباه بل الفزع، إن نِسَبًا أقل من هذه النسبة بكثير أفزعت الأطباء في بلاد مختلفة. إن حجم الإصابة بالأمراض النفسية الذي فزعت له الولايات المتحدة الأمريكية لم يصل إلى هذه النسبة، ويقول الدكتور والتر ألفاريز: «كم كانت الصدمة عليَّ حين علمت (منذ سنوات ماضية) أن من بين كل عشرين طفلًا يولَدون في نيويورك هناك طفل واحد مُعرَّض للذهاب إلى المستشفى النفسي.»
وقد يتصور الناس مبلغ الصدمة التي شعرتُ بها حين أدركت أنه من بين كل عشر بنات يولَدْن في مصر فإن هناك واحدة معرَّضة للمرض النفسي.
أهناك دافع أقوى من هذا الدافع لإجراء مثل هذا البحث، ومحاولة معرفة الأسباب الحقيقية وراء هذه المشكلة من أجل الوصول إلى العلاج الصحيح؟
وهكذا يمكن تحديد الهدف من هذا البحث كالآتي:
دراسة الأسباب وراء إصابة النساء والفتيات المصريات بالعصاب، وإلقاء بعض الضوء على المشاكل النفسية التي تتعرض لها المرأة في مجتمعنا المصري، ومحاولة التعرف على أسبابها الحقيقية بين النساء المتعلمات وغير المتعلمات.