مديحة
كانت مديحة من أذكى النساء اللائي قابلتُهن في حياتي، وهي تخرجت في كلية البنات (علوم)، واشتغلت مدرِّسة علوم بإحدى المدارس، لكنها كانت تكره وظيفتها، وكانت تحب الرسم، وحوَّلت حجرتها في البيت إلى مرسم، وأقامت معرضًا للَوْحاتها في أحد الأحياء الصغيرة بالقاهرة، تزوجت أحد الرسامين، الذي شعرت نحوه بالحب، أنجبت منه طفلًا، ثُمَّ حدث الطلاق؛ لأن زوجها كان يغار عليها لدرجة الجنون، وحوَّلَ حياتها إلى جحيم، مع أنها كانت تحبه. لم يكن في حياتها رجلٌ آخر، لم تفكر مديحة في الزواج مرة أخرى، وتفرَّغت لعملها الفني وهو الرسم، وحاولت أن تنجح فيه، لكنها شعرت منذ عشرة شهور بأرقٍ وصداع وخفقان في القلب، ذهبت إلى طبيبٍ باطني، فحوَّلها إلى الطبيب النفسي الذي شخَّص مرضها بكلمة «قلق»، وأعطاها بعض الأقراص، لكن حالتها لم تتحسن. وتصف مديحة مشكلتها كالآتي:
إن كل الحياة من حولي تفرض عليَّ أن أكذب، أن أكون واحدة أخرى غيري، أن أكون مزدوجة الشخصية؛ لأن المجتمع من حولي مزدوج الشخصية ومزدوج الأخلاقيات، إن مرضي النفسي وأرقي وقلقي كله سببه أنني عاجزة أن أكون واحدة غيري، كل ما أطلبه هو أن أكون نفسي وحقيقتي، وأن أعبر عن ذلك بالرسم.
ولكنهم يسدُّون أمامي كل الطرق، نصحتني إحدى صديقاتي من الرسامات الناجحات أن أعمل مثلها، وأن أجعل النجاح هدفي (معنى النجاح هنا هو أن يفتتح الوزير معرضي، وتكتب عنه الصحف)، ولكنني أرى النجاح غير ذلك، إنني أحاول أن أقدم فنًّا جيِّدًا رفيعًا يعبر عن حقيقة الإنسان ومشاعره، كما أنني أشعر باحترام لفني، ولا أطيق الانتظار في مكاتب الوزراء وكبار الموظفين. وتقول عني صديقتي إنني لست اجتماعية، ولكن الرسم والقراءة وطفلي ووظيفتي التي آكل منها (وهي التدريس) كل ذلك يأخذ وقتي، ومع ذلك فأنا اجتماعية ولستُ منطوية على نفسي، أنا أحب الاختلاط بالناس، وبالذات الناس الذين أشعر أنهم صادقون في مشاعرهم وأفكارهم، ولكني لا أطيق هؤلاء الذين يحاولون التزييف أو النفاق، وهذا هو السبب الحقيقي وراء كراهيتي الانتظار في مكاتب الوزراء وكبار الموظفين. صديقتي تقول لي إنني سوف أظل رسَّامة مغمورة لا يعرفها أحد (بمعنًى آخر: رسامة فاشلة)، ولكني عاجزة عن أن أفعل ما تفعله هي، وعاجزة عن أكون شخصيةً أخرى غير شخصيتي، ولكني أشعر بالعزلة وأشعر بالوحدة، وأشعر أن فني لا يصل إلى الناس؛ وأنا لا أرسم كي أتفرج على لوحاتي، ولكني أرسم ليرى الناس لوحاتي. إن الفنان لا يعيش إلا من خلال تفاعل الناس بأفكاره؛ إنني في أشد الحاجة إلى الناس، والوصول إلى توصيل فكرتي إلى الناس يكلفني الكثير، يكلفني أن أتملق السلطة، وأكذب، وأصبح مزدوجة الشخصية. إن السلطة تقف بين الناس والفنان، لا يمكن أن يرى الناس لوحاتي إلا بعد موافقة السلطة، وعن طريق أجهزتها ووسائلها. وظللتُ أرسم بضع سنوات ثُمَّ توقفت، كنت أشعر بالاختناق حين أجلس وأتفرج على لوحاتي المتراكمة وحدي، أو مع صديقتي التي كانت تحب رسوماتي ولكنها تكره انطوائي وابتعادي عن الناس.
بعد طلاقي من زوجي بثلاث سنوات شعرت بالحب نحو رجلٍ آخر، لكننا لم نتزوج، لقد كان نسخة مكررة من زوجي السابق، كان يقول إنه يحبني، لكنه كان يريد أن يملكني امتلاكًا كليًّا بحيث لا أفكر إلا فيه هو: ماذا يأكل؟ وماذا يشرب؟ وماذا يلبس؟ وكيف يتمتع بالجنس والخروج والنزهة؟ كان لا يطيق أن أنشغل عنه بالرسم أو القراءة أو حتى طفلي الصغير، وكان يغار من حياتي الماضية، ومن زوجي السابق، ومن طفلي، ومن لوحاتي، ومن أي شيء يشعر أنني أحبه أو كنت أحبه، وقد أراد هذا الرجل أن يسلخني عن كل هذا، وأن يبعدني حتى عن طفلي الذي لم يكن له أحد يرعاه غيري؛ ولهذا هربت من هذا الرجل ورفضت الزواج به، رغم أنني كنت أشعر نحوه بميلٍ شديد؛ وقد أرهقتني هذه المشكلة نفسيًّا وزادت من أرقي وقلقي، ولم أجد الحل إلا في الأقراص المهدئة والمنومة.
ولم أشعر بالحب بعد ذلك لأي رجل، لقد اكتسبتُ من خبراتي السابقة فهمًا لشخصية الرجل المزدوجة في مجتمعنا، إنه يفكر بطريقة، ويسلك في الحياة اليومية بطريقة أخرى، إنه يتكلم نظريًّا عن المساواة والحب والأخلاق، ولكنه ينتهك في تصرفاته اليومية كل هذه المبادئ. ومضت أربع سنوات إلى الآن دون أن أحب أي رجل، ودون أن أمارس الجنس؛ لأن الجنس مرتبط عندي مع الحب، إنني أشعر بحنينٍ جارف إلى الحب والجنس، وأشعر كالظمآن الذي لا يجد الماء، مع أنني محاطة بالرجال في وظيفتي، ولكنهم جميعًا من النوع المزدوج الشخصية، وقد قال لي الطبيب النفسي أن أتنازل بعض الشيء عن مبادئي، وأن أعيش كما يعيش الناس، ولكني لا أستطيع؛ إنني لا أستطيع أن أكون مزدوجة الشخصية، ولا أستطيع أن أفقد الحقيقة من أجل أي شيء، وإن كان هو النجاح كرسَّامة أو النجاح كامرأة وزوجة، لكن الفشل الذي أعيشه يرهقني نفسيًّا، وعدم تمكني من عرض لوحاتي على الناس يقتلني، وعدم إشباعي لحاجتي إلى الحب والجنس يرهقني جسديًّا ونفسيًّا، وأنا ما زلت أعيش في هذه الدوامة، والأقراص المهدئة والمنومة لا تفعل لي شيئًا الآن.
وحينما أزيد كمية الأقراص أشعر بقواي الجسمية تخور وتضعف، وأشعر بالاختناق، وأحيانًا بعدم القدرة على النهوض من سريري، وأحيانًا أشك في نفسي، وأظن أن طريقتي في الحياة خاطئة، وأن العيب فيَّ وليس في الآخرين، ولكنني أتذكر طفولتي، وما كان يقوله لي أبي وأمي، وكم كانا يثقان فيَّ وفي ذكائي، وكانا يشجعاني دائمًا على الصدق، وكنت متفوقة في دراستي، وكان أبي وأمي يمنحانني الحرية ويثقان فيَّ، ولم أتعود أبدًا على أن أكذب أو أغير حقيقتي، لدرجة أنني كنت أحكي لأبي ولأمي عن كل ما يحدث لي مع زملائي وزميلاتي، ولم يكن أبي أو أمي يمنعانني من أن يكون لي أصدقاء من الجنسين. وبالطبع لم أتعرض لعملية الختان، وحدَّثتني أمي عن الدورة الشهرية والحيض قبل أن أصل إلى سن البلوغ، وحدَّثتني عن كثيرٍ من الأمور، ومنها العادة السرية، وقد كنت أمارسها قليلًا قبل أن أنام، وخاصة أيام الربيع، حين يصبح الجو دافئًا بعد الشتاء، أو حين أتخيل الرجل الذي أحبه، كنت أصل إلى الأورجازم من هذه الممارسات، وقد وصلت إلى الأورجازم بسهولة مع زوجي أول الأمر، وحين كانت حياتنا لا تزال سعيدة، ولكن حينما أفسدَتْ غيرتُه الشديدةُ حياتنا لم أعد أصل إلى الأورجازم، ولم أعد أحب ممارسة الجنس معه، وتكرر هذا مع الرجل الذي أحببته، أحيانًا أمارس العادة السرية حين يشتد توتري الجسدي والنفسي، وأصل إلى الأورجازم، وأشعر أن التوتر زال عني، لكني أظل أشعر بظمأ إلى الحب والجنس مع رجل أحبه، حينما أرسم أشعر بالراحة، ولكن حينما تظل اللوحة قابعة في ركن حجرتي المظلم أشعر بالاختناق، أنا أحب طفلي، وأشعر بالراحة حين أحتضنه وأُقبِّله وأُطعمه، ولكني أشعر أنه لا يأخذ إلا جزءًا صغيرًا من حياتي، وطاقتي النفسية والفنية، وأشعر برغبة في إفراغ تلك الطاقة في شيء أكبر. ليست عندي مشكلة اقتصادية؛ لأن مرتبي الشهري بالإضافة إلى مورد آخر صغير من منزل تركه لي أبي يكفيني أنا وطفلي. ليست عندي مشكلة في الوظيفة سوى أنني أشعر بالملل من التكرار، ولا أشعر بلذة في الوظيفة أو تجديد بها، ولكني في حاجة إليها بسبب المرتب الشهري، ولأنني لا أستطيع أن أعيش اقتصاديًّا على الرسم وبيع لوحاتي كما يفعل الرسامون المشهورون.
هذه هي مشكلة مديحة كما عبَّرتْ هي بنفسها عنها، وقد ذهبتْ إلى طبيبين نفسيين للتخلص من الأرق والصداع وحالات الاكتئاب التي تصيبها، أحد الأطباء شخَّصها «قلق» وأعطاها الأقراص اللازمة، والطبيب الثاني حاول أن يقنعها أن المشكلة داخل رأسها هي، وأن العلاج هو اقتلاع هذه المشكلة الوهمية من رأسها عن طريق تغيير كيمياء الدماغ، وذلك عن طريق حقنها بمادة كيميائية معينة سوف تشعر بعدها بالراحة والسعادة وانتهاء المشكلة، ولم تقتنع مديحة بهذا الكلام، لكنها تركت نفسها ليفعل بها الطبيب النفسي ما هو يراه، وفعلًا أخذت جميع العقاقير الكيماوية التي أعطاها لها، ولكن حالتها لم تتحسن، ولم تشعر بالراحة أو السعادة.
والمشكلة كما هي واضحة ليست في رأس مديحة؛ إن عقل مديحة عقل ذكي منذ الطفولة، وهي فنانة وخلاقة، وهي إنسانة طبيعية تمامًا، وسليمة النفس والجسد والعقل، ولكن المشكلة في المجتمع الذي يحوط بمديحة، وعلاج المجتمع لا يكون بالأقراص والعقاقير، ولكن بعلاج المجتمع ذاته من الأساليب التي تفرض على أمثال مديحة الكذب والازدواجية في الشخصية والأخلاق.