سوزان
هي امرأة في الثامنة والعشرين، مثقفة ثقافةً عالية، وبعد تفوقها الجامعي سافرت إلى أوروبا في بعثةٍ دراسية، ثُم عادت واشتغلت في عملٍ فكري تشعر فيه بلذة وعطاء فكري لعدد من الناس. شعرت بالحب لأحد زملائها، وكان يدرس معها في أوروبا، وقد استمر هذا الحب أربع سنوات خلال البعثة الدراسية، وكانت هذه المدة كافية لأن يعرف كلٌّ منهما الآخر معرفة كبيرة، متنوعة، منها المعرفة الفكرية والمعرفة الجنسية، وتقول سوزان: كان رجلًا ذكيًّا متطور الأفكار، وكان يتعامل معي بالمثل، ويحترم حقوقي كإنسانة مثله تمامًا، ويعترف بأننا متساويان في الذكاء والعقل، وكان بيننا أيضًا توافقٌ جنسي كبير بسبب احترامه لإيجابيتي ورغباتي تمامًا كرغباته، ولهذا استمر الحب بيننا أربع سنوات.
وحينما عادا إلى مصر فكَّرا معًا في الزواج، لكنها شعرت أنه متردد في الزواج منها، وبدأت تفهم جوانب جديدة في شخصيته، وأن عودته إلى المجتمع الذي تربَّى فيه، والذي نشأ فيه على تقاليد معينة؛ جعلته يعود إلى الإيمان بهذه التقاليد، خاصةً أنها في صالح الرجل، لكنه كان لا يزال يحبها، وكانت لا تزال تحبه، وبرغم بوادر الخلافات الفكرية التي بدأت بينهما، إلا أن الزواج تم بينهما، واستمر ثلاثة أعوام، ثُمَّ حدث الطلاق بعد أن أنجبت سوزان طفلًا واحدًا، وعند الطلاق كانت حاملًا في الطفل الثاني؛ فلجأت إلى طبيب وأجرى لها عملية إجهاض، وتقول سوزان: «خلال ثلاث سنوات الزواج حاول زوجي أن يغيِّرني لأن أتقبل العلاقة بين الزوج والزوجة على أساس أن الزوج له حقوق وواجبات تختلف عن حقوق وواجبات الزوجة، ولكني لم أستطع ولم أقبل أن أتغير.»
وتحكي سوزان عن أن زوجها لم يعترف لها صراحةً بأنه المسيطر، ولكنه كان يغلف ذلك دائمًا بطريقة أو بأخرى، كأن يقول لها مثلًا: ماذا يقول الناس عني؟ إنهم سيقولون إنني لست رجلًا كي أترك زوجتي تفعل ما تفعلين، ولم تكن هي فعلت شيئًا سوى أنها تصرفت بطبيعية وتلقائية في وسط مجموعة من الأصدقاء والصديقات، وعبرت عن آرائها في بعض الأمور، أو طلبت من زوجها أن يصنع الشاي للضيوف لأنها منهمكة في النقاش معهم. وتقول سوزان: «في كل مرة يأتي أصدقاء له يطلب مني أن أصنع لهم الشاي، وأصنعه عن طيب خاطر، ولكن حين يأتي أصدقاء لي، وأطلب منه أن يصنع الشاي لهم (بسبب انشغالي معهم) يغضب، فأضطر أن أترك أصدقائي بعض الوقت لأعمل لهم الشاي.»
ولم يكن زوجها يعارض في خروجها إلى العمل بالطبع؛ فعمل المرأة أصبح من القيم الاجتماعية السائدة، ولم يعد يتشكك الناس في رجولة الرجل الذي يوافق على أن تعمل زوجته، بالإضافة إلى أن مرتَّبها كان يُضاف إلى مرتبه في الإنفاق على الأسرة. لقد كان زوجها قادرًا على تقبُّل القيم الاجتماعية السائدة فقط، لكنه كان عاجزًا عن تقبل أي قيمةٍ أخرى غير سائدة، مثل أن يصنع الزوج الشاي لضيوف زوجته، أو أن يرتدي فوطة المطبخ ويغسل الصحون مثلًا، ولم يكن لديهم شغَّالة مستديمة للقيام بالأعمال المنزلية (بسبب النقص في الشغالات عامة، وبسبب عدم وجود وقت عند سوزان أو زوجها للبحث عن شغالة)، وإنما كان يأتيهم طباخ في الصباح، يطبخ الطعام وينصرف، وكان على سوزان أن تعدَّ المائدة وتغسل الصحون، بالإضافة إلى تنظيف البيت. وحين جاء الطفل زادت أعباؤها بالطبع، ولم يكن زوجها يمانع في مساعدتها أحيانًا، لكنه كان يكره هذه الأعمال، وكان يساعدها لبضع دقائق ثُمَّ سرعان ما يملُّ ويكفُّ، ويتركها هي تكمل الجزء الأكبر الباقي.
وتقول سوزان: «كنت أشعر بعدم العدالة، ففي الوقت الذي أشاركه في الإنفاق على الأسرة، وأبذل جهدًا في العمل خارج البيت مساويًا للجهد الذي يبذله في عمله، أجدني في البيت أشتغل أكثر منه، وفي الساعتين اللتين ينامهما بعد الغداء أشتغل أنا في المطبخ وأقوم بغسل الصحون وإزالة التراب من فوق الأثاث.»
لكن أهم ما سبَّب لسوزان حالة الاكتئاب التي أصابتها، والتي قادت إلى الطلاق، هو أن زوجها كان يحاول أن يغيِّر شخصيتها وطبيعتها؛ بحيث تتلاءم مع كونها زوجة له، وأن الزواج مؤسسة أبوية، السلطة فيها للأب، لم يقل ذلك صراحةً لها، وكان يدَّعي أنها مؤسسة قائمة على التعاون بين الزوجين والمشاركة، لكن أعماله كانت تتناقض مع ما يقوله، مثال ذلك أن سوزان كانت من النوع الطبيعي البسيط، سواء في ملابسها أو في تصرفاتها، لم تكن من النوع الذي يزيف وجهه بانفعالات غير حقيقية، أو يغطيه بطبقات من المساحيق، وكانت مشغولة بعملها الفكري عن الجري وراء الموضات والأزياء الأنيقة من آخر طراز، وكان زوجها على خلاف ذلك، فهو من النوع الذي يحب دائمًا أن يظهر بأحسن مظهرٍ ممكن، وأن ينتمي في مظهره إلى الطبقة العالية، وكان يقول لها إن كل الناس ترتدي أقنعة حين تلتقي في المجتمع، وإنها لا بد أن ترتدي أيضًا القناع، ولكنه كان يخلع قناعه في البيت، ولم تكن سوزان بطبيعتها تميل إلى ذلك، وترى أن تكون دائمًا على حقيقتها، سواء داخل البيت أو خارجه.
وكانت الخلافات بينهما تنشأ أحيانًا لأنها تريد أن ترتدي الملابس المريحة البسيطة التي تحب أن ترتديها، وكان هو يصر على أن يتدخل في ملابسها، ويطلب منها أن ترتدي الملابس الأنيقة اللائقة بزوجة رجل له منصب محترم، وأسرة تنتمي إلى الطبقة العالية، وخاصةً في الحفلات الليلية، حيث تتبارى الزوجات (والأزواج) في الإعلان عن انتمائهم للطبقات العالية. وفي مرة من المرات احتد النقاش بينهما حول الملابس التي كانت سترتديها في إحدى الحفلات. كانت تصر سوزان على ارتداء بلوزة بسيطة وبنطلون، وأصرَّ الزوج على أن ترتدي فستانًا للسهرة كان قد اشتراه في إحدى سفرياته إلى أوروبا، وانتهى النقاش بأن ذهب هو إلى الحفل وحده، ورفضت سوزان إلا أن ترتدي الملابس التي تريدها هي، كانت تقول له إنها لا تتدخل في الطريقة التي يلبس بها، فلماذا يتدخل هو في ملابسها؟ وكانت سوزان تحب بعض الأشياء الصغيرة التي تذكرها بصباها وطفولتها، كأن تشتري قرطاسًا من الفول السوداني مثلًا وتأكله وهي سائرة في الشارع، وكان زوجها يستاء أشد الاستياء، ويقول لها إن مثل هذا لا يليق بوضعها الاجتماعي، وكان يشعر بالحرج حين يراها أحد من أصدقائه أو من أفراد أسرته وهي تتصرف مثل هذه التصرفات، ويقول لها: «ماذا سيقول الناس عني؟» وكانت سوزان تغضب وتقول له: «ما دخلك أنت في هذا؟ إن الناس يجب أن تحكم عليك بتصرفاتك أنت، وتحكم عليَّ بتصرفاتي أنا.» لكنه كان يرد عليها قائلًا: «طالما أنت زوجتي، فإن كل تصرف من تصرفاتك يُنسَب إليَّ أنا.» وتشعر سوزان بالضيق وتقول له: «ولكنك الآن تقيِّدني، أنت تريد مني أن أتصرف وفق ما تريد أنت، وليس وفق ما تريد أنت فحسب، ولكن وفق ما يريده الناس من زوجتك، ومعنى ذلك أن أقلِّد تصرفات جميع الزوجات من طبقتك الاجتماعية، وأن ألغي شخصيتي وطبيعتي تمامًا.»
واعتذرت سوزان لي وهي تحكي عن كثرة الخلافات التي كانت تنشب بينها وبين زوجها بسبب مثل هذه الأشياء التي تبدو صغيرةً جِدًّا وليس لها قيمة، لكن سوزان أكدت لي أن مثل هذه الأشياء الصغيرة ليست صغيرة وليست تافهة؛ لأنها تحدث كل يوم، ولأنها الحياة اليومية لأي زوج وزوجة، ولأي إنسان. إن من أبسط الحقوق للإنسان أن يرتدي الملابس التي تريحه (بشرط ألا يصدم مشاعر الناس بالملابس الشاذة جِدًّا)، وأن يتصرف بحرية وتلقائية (طالما أنه لا يضر أحدًا).
وتقول سوزان إن زوجها كان يقول لها دائمًا إن كلمة «يضر أحدًا» هذه نسبية؛ فإن عدم قبولها للقيم الاجتماعية السائدة في طبقتهم تضره من حيث إن الناس يقولون عنه إنه زوج غير قادر على السيطرة على زوجته، وهنا تشعر سوزان بالرغبة في الصراخ، وتقول له: ولكني سأضطر إلى تغيير كل صفاتي وكل شخصيتي من أجل أن تتمتع أنت وسط أسرتك ومجتمعك بلقب «الزوج المسيطِر على زوجته»، وتسأل سوزان زوجها هنا: «وأنا، ألم تفكر في الضرر الذي يحدث لي أنا بسبب محاولتك قتل شخصيتي الحقيقية؟» ويرد زوجها قائلًا: «نحن لا نعيش وحدنا، إننا نعيش وسط مجتمع.»
وبهذا شعرت سوزان أن زوجها يريدها أن تخضع لقيم المجتمع السائدة، وكانت هي ترفض هذا الخضوع، وتشعر أنها تخون نفسها وتخون عقلها لو أنها فعلت ما لا تؤمن به، أو ما تشعر بأنه العدالة، وكانت ترى أن العدالة هي أن يكون من حقها أن تتصرف وتلبس وتفكر بما تراه مناسبًا لها.
ومما زاد من شدة الصراع بين سوزان وزوجها أن سوزان نشأت في أسرة متحررة نوعًا ما، وأن أباها كان رجلًا مفكِّرًا متقدمًا لا يفرق في المعاملة بين بناته وأولاده، وكانت سوزان أكبر أخواتها البنات والبنين، وكانت أمها قد توفيت وهي طفلة، فمارست سوزان مسئولية الأم إلى حد ما، وبسبب تحرر أبيها واتساع أُفقه؛ فقد شعرت بشخصيتها، وكانت تتصرف بحرية، وكان أبوها يشجعها على أن تكون طموحة فكريًّا، ساعدها أيضًا ذكاؤها على أن تتفوق في دراستها، ووجدت في مكتبة أبيها الفرصة للقراءة وتوسيع أفقها.
أمَّا زوجها فقد نشأ في أسرة ثرية، والده رجل أعمال وصاحب مصنع، ولا يهمه من حياته إلا الربح المادي بأي شكل، وأمه كانت من الطبقة الأرستقراطية التي تعلمت قليلًا من اللغة الفرنسية وقليلًا من البيانو، ثُمَّ باعها أهلها باسم الزواج لهذا الزوج الرأسمالي الثري، وكان له ثلاث أخوات بنات تعلمن في مدرسة فرنسية، ثُم تزوجن لأزواج أثرياء من أصحاب الأرض وأصحاب المصانع. وهكذا تأثر زوجها بقيم هذه الأسرة الرأسمالية الثرية والجاهلية، والتي تعيش لتأكل أفخر أنواع المأكولات وترتدي أفخر أنواع الملابس، ولا يكون دور النساء فيها إلا الاستهلاك الشديد فقط (كل نساء أسرته ليس لهن عمل لا داخل البيت ولا خارجه)، أمَّا رجال أسرته فهم مشغولون ليل نهار في مصانعهم وفي تجميع أكبر قدر من الأرباح ورأس المال.
وكان زوج سوزان مختلفًا عن رجال أسرته في أنه تعلَّم تعليمًا عاليًا، وسافر إلى الخارج في بعثات متعددة، وكان متفوقًا في عمله الفكري، ولم يكن يهتم كثيرًا بالمال مثلهم، ولكنه كان متأثِّرًا إلى حدٍّ كبير بقيم أسرته، يقيم وزنًا كبيرًا لكلام أمه، وكانت أمه حين تقارن بين سوزان وبين بناتها من ناحية الأناقة والاهتمام بالبروتوكول الاجتماعي تجد أن ابنها كان يستحق زوجةً أفضل، ولم تكن مثل هذه الأم بطبيعة الحال تُقدِّر أي صفة فكرية في سوزان؛ لأن الزوجة في رأيها لا تُقاس بالفكر وإنما تقاس بالشكل الخارجي والأناقة والجمال، وكانت سوزان مشغولة دائمًا بسبب عملها الفكري وقراءتها، وكانت الأم تغضب من ذلك وتقول لابنها دائمًا: «لقد تزوجتَ رجلًا وليس امرأةً.»
وتبتسم سوزان بمرارة، وتقول إن زوجها كان يتأثر بكلام أمه، وكان على استعداد لتقبل فكرة أنها رجل وليست امرأة لولا تلك العلاقة الجنسية الناجحة بينهما، والتي كانت تؤكد له أن سوزان امرأة، وكان الجنس يلعب دورًا كبيرًا في استمرار الحياة الزوجية بينهما رغم الخلافات الكثيرة للأسباب السابقة وما شابهها.
وتقول سوزان إن نجاح الجنس بينهما كان بسبب أنها كانت إيجابية، وكانت تتصرف معه بحرية، وأنها كانت تحبه، وتشعر أنه يحبها رغم كل الخلافات، وكانت سوزان تصل إلى الأورجازم بسهولة وعدة مرات، ولم تكن تشعر بأي حرج مع زوجها؛ وقد جاء ذلك من تربية أبيها المتحررة لها، ومن اختلاطها المبكر بالجنس الآخر وحياتها في أوروبا سنوات طويلة، وعدم إحساسها بأن اللذة الجنسية إثم أو عيب، وبالطبع لم تتعرض سوزان لعملية الختان، أو التربية الصارمة لقمع شخصية البنت؛ لأن أمها تُوفيت وهي طفلة، ولأن أباها كان متحرِّرًا، ولم يكن يفرض عليها القيود المعتادة.
وتقول سوزان إن زواجها امتد ثلاث سنوات؛ بسبب الحب والثقة والمتبادلة بينهما، وبالرغم من أن زوجها كان يعلم أنه ليس الرجل الأوَّل في حياتها العاطفية والجنسية إلا أنه كان يثق في أنها إنسانة صادقة، ولم يكن يشكُّ فيها أبدًا من هذه النواحي؛ لأنه كان متأكِّدًا من حبها له، وفعلًا كانت سوزان تحبه، ولم تكن من نوع النساء الذي يمكن أن يكذب على الزوج أو على الآخرين؛ كانت تشعر أنها في غير حاجة إلى الكذب، وقد ربَّاها أبوها على أن تكون صادقة دائمًا.
وكانت سوزان، رغم اعتزازها بشخصيتها، على استعداد دائمًا للعطاء والحنان، لكنها لم تكن تؤمن بالتضحية الدائمة من جانب الزوجة والأخذ الدائم من جانب الزوج، كانت تريد الحياة الزوجية تبادلًا في العطاء والأخذ، لكن ذلك كان مستحيل الحدوث في ظل القيم الاجتماعية السائدة التي تفرض عليها أن تضحي بكل شيء كبير وصغير في حياتها وشخصيتها من أجل زوجها، ولم يكن زوجها (بتربيته وأسرته وعدم قدرته على الصعود فوق القيم السائدة) قادرًا على تحمُّل ما تسببه تصرفات سوزان الطبيعية واعتزازها بحريتها وشخصيتها من حرج ومشاكل بسيطة، لا تزيد عن موضوع الرجولة ومفهومها السائد من حيث السيطرة وحكم الزوجة، وكانت هناك أيضًا الخلافات حول المشاركة في الأعمال المنزلية أو في رعاية الطفل، ومحاولة زوجها إلقاء كل هذه الأعباء عليها وحدها.
أمَّا كيف حدث الطلاق، فتقول سوزان إن الخلافات اليومية أصبحت تزيد بينهما حول اللبس والأكل والطفل والخروج والحفلات وزيارة أسرته، إلى حدِّ أن ذلك أصبح يؤثر على حبهما وعلى علاقتهما الجنسية. وتقول سوزان: «بعد مشاجرة من هذه المشاجرات حول رأي أمه فيَّ لم أشعر برغبة جنسية في تلك الليلة، لكنه أصر على أن يحدث الجنس ليحدث الصلح ككل مرة، لكني هذه المرة عجزت عن أن أشعر بأية رغبة جنسية نحوه، وحدث الجنس من طرف واحد فقط، وتكرر ذلك، وأصبحتُ شبه باردة جنسيًّا معه، وصارحته بالأمر، وبدأت أشعر أن حياتنا معًا أصبحت مهدَّدة لعدم المشاركة في أي شيء، سوى بعض القراءات والأفكار المشتركة العامة المجردة، لكن حياتنا العملية اليومية أصبحت تتباعد، وأصبحت أشعر بحالات الاكتئاب، وأرق، وقلق، وبدأتُ في ابتلاع الأقراص المنومة والمهدئة، لكن حالتي لم تكن تتحسن.»
وسألتُ سوزان: «فكيف حدث الطلاق؟»
وقالت: «فكرتُ في الطلاق حين وجدت نفسي وحيدة في البيت مع طفلنا وقراءاتي، وأصبح زوجي يخرج ويسهر في بيت أسرته مع مجموعة من الأصدقاء والصديقات، الذين لم أكن أشعر بتجاوبٍ فكري معهم، وأشعر بتفاهة أحاديثهم، وباتصاله المتكرر بأسرته، والجو الاجتماعي الذي يعيشون فيه، أصبح أكثر شَبهًا بهم، وأكثر حرصًا على التكيف مع قيمهم، وبذلك زادت بيننا الخلافات إلى حد أن قلتُ له في يومٍ إن زواجنا لم ينجح، ومن الأفضل أن نواجه الأمر بدلًا من الهروب من الحقيقة.
ووافقني زوجي على ذلك، وتم الطلاق بهدوءٍ شديد، وبالطبع أخذتُ الطفل معي، ولم يطلب هو أن يأخذه.»
وسألتُها: «هل تحسنتْ حالتك النفسية بعد الطلاق؟»
قالت سوزان: «نعم، زال عني الأرق والقلق، لكن ما هي إلا بضعة شهور وأصبحت مواجهة بمشاكل اجتماعية كثيرة؛ هي مشكلة المرأة المطلقة في مجتمعنا، وكان عليَّ أن أصارع المجتمع مرةً أخرى، ولكن وحدي هذه المرة، وبدأ الأرق يعاودني، وحالات الاكتئاب، ولم أعد أستطيع أن أنام بغير الأقراص المنومة.»
سألتها: «وماذا عن عملك الفكري؟ هل يرضيك؟»
قالت: «لولا عملي الفكري الذي يعوِّضني كثيرًا ويؤكد لي قدرتي؛ لفقدتُ عقلي تمامًا، أو فكرتُ في الانتحار يأسًا من حياتي في مثل هذا المجتمع، لكن الظروف التي أعيشها تعطلني كثيرًا، وتُجهدني؛ فإذا بي في حالة من الإرهاق النفسي تجعلني عاجزة عن إعطاء علمي حقه من التفرغ والإثراء المستمرِّ، وهذا أيضًا يُشقيني ويعذِّبني، ولكني أدور في حلقة مفرغة، وأحسُّ أنني أصارع قوةً ضخمة أكبر مني بكثير، وأحيانًا أتساءل: أليس أبي هو المسئول عن شقائي لأنه عوَّدني على أن أكون مستقلة حرة وصادقة في مجتمع لا يحب في المرأة إلا الكذب والخداع وعدم الاستقلال؟»
وأكَّدتُ لسوزان أنها كانت محظوظة ليكون لها مثْلُ ذلك الأب المتحرر الواسع الأفق، وطلبتُ منها أن تكف عن الأقراص المنومة والمهدئة، وأن تصمم بينها وبين نفسها على الاستمرار في الكفاح من أجل تفوقها في عملها الفكري، وتنمية قدراتها في عملها وفي عطائها الفكري للناس؛ مما ينورهم ويساعدهم على تغيير القيم المتخلفة، وأن تفتح ذراعيها للحياة، وتعيش وتسعد وتتصرف بتلقائية وحرية، وأن ترتدي الملابس التي تريدها، وتصادق الناس الذين تريد أن تصادقهم، وتأكل الفول السوداني كما يحلو لها وهي سائرة في الشارع، وأن تشتري الكتب التي تحبها، وتقرأ وتفكر وتنتج، وتكون الإنسانة الطبيعية الصادقة، وإذا أحبها رجلٌ كما هي فلتتزوج، وإذا أراد أن يضعها في قالبه فلترفض، وليكن زواجها السابق خبرةً كبيرة لها، وتجربةً تساعدها على فهم الحياة والناس، تجعلها أكثر تمسُّكًا بمبادئ الصدق لا العكس.
واختفت سوزان شهورًا طويلة، ثُمَّ قابلتُها صدفة في الطريق، وأحسستُ من نظراتها اللامعة وحركتها النشيطة أنها تغلَّبت على الأزمة، وشدتْ على يديَّ وهي تصافحني، وقالت: «لقد قذفتُ من نافذة حجرة نومي بكل علب الأقراص المنوِّمة، وصممتُ على أن أكون قوية وشجاعة وصادقة، وأن أستعد للسفر مرةً أخرى في بعثة قصيرة إلى غينيا»، وتألَّقت عيناها بالحماس وهي تقول: «هذه أول مرة أزور فيها أفريقيا، وأشعر بشوقٍ كبير لرؤية هذه البلاد.»
وتركتني سوزان واتجهتْ إلى مكتب شركة الطيران، وأحسستُ أن حياتها أصبحت مليئة ومتجددة، وأنها أصبحت تعطي لعملها الفكري اهتمامًا أكبر، وأنها وضعت قدمها على الطريق، وتخيلتها وهي تلتقي بالرجل الصادق مثلها، الذي يستطيع أن يقدِّر صدقها ويحترمها فتعيش معه، أو أنها لا تعثر عليه أبدًا، فلا تشعر بالفشل أو الاكتئاب، ولا تتعاطى الأقراص المنومة أو المهدئة، ولكنها تجد في عطائها الفكري للناس ما يسعدها، وما يعوِّضها عن أي شيءٍ آخر. والحياة بغير زواج أفضل من الحياة في ظل زواجٍ فاشل وغير سعيد.