فاطمة «أ»
فاطمة في العشرين من عمرها، طالبة بكلية الآداب قسم فلسفة، ذكية، تقضي معظم وقتها في قراءة الفلسفة والتاريخ والأدب وعلم النفس، وتفتح عقلها على مفاهيم جديدةٍ تمامًا عليها، متناقضة تمامًا مع القيم التي تربَّت عليها في أسرتها. كانت أسرتها إحدى أسر الطبقة المتوسطة، أبوها كان مُدرِّسًا للجغرافيا بأحد المعاهد المتوسطة، وأمها في البيت، ولها أربع بنات، كبراهنَّ هي فاطمة، وكان الأب من النوع المتديِّن، الذي ورث التدين عن أبيه كما ورث البيت الذي يعيش فيه، ورغم أنه مُدرِّس، إلا أنه لم يقرأ شيئًا خارج ذلك المقرر المحدود الذي يُدرِّسه للتلاميذ في الجغرافيا، ورغم تدينه الشديد، إلا أنه كان جاهلًا بالدين؛ لأنه لم يقرأ فيه إلا تلك المعلومات الأولية التي يعرفها جميع الناس، والتي لا تساعده إلا على أداء الفرائض، أمَّا حقيقة الدين وجوهره فلم يكن يعرف عنه شيئًا، وكان كمعظم الآباء (وبالذات آباء البنات) متزمِّتًا، يخاف على بناته من الفساد الأخلاقي الذي يعتقد أنه منتشر، والذي يرى مظاهره في الرقصات الخليعة في السينما والتليفزيون، وصور النساء نصف العارية فوق أغلفة المجلات. وقد فرض الأب على ابنته الكبرى فاطمة أن تواظب على الصلاة وهي طفلة في السابعة من العمر. وكان يحذِّرها من الاختلاط بالأولاد، وكانت فاطمة تلميذة مجتهدة في المدرسة الابتدائية، لكنها كانت ضعيفة جِدًّا في الحساب، فأتى لها أبوها بمدرس للحساب في البيت (وهو أحد زملائه المدرسين في المعهد)، وكان هذا المدرس يشرح لها الحساب، لكنها كانت تحس أصابعه أحيانًا فوق فخذها، وأحيانًا تصعد أصابعه إلى فوق، ومن شدة الخزي والحياء والخوف كانت تستسلم لأصابعه استسلامًا كاملًا، وأحيانًا تشعر باللذة التي سبَّبتْ لها إحساسًا أليمًا بالذنب، ورغم أنها كانت تصلي، وتطلب من الله أن يغفر لها، إلا أن الإحساس بالذنب كان يؤرقها كثيرًا.
حصلت فاطمة على الابتدائية، ولم يعد مدرس الحساب يأتي إليها، وتنفست الصعداء، لكنها وهي في الثالثة عشرة أو الرابعة عشرة كانت تمارس العادة السرية أحيانًا، وتشعر بلذة، ويعقبها ذلك الإحساس الأليم بالذنب، والذي لا يضيع بالصلاة والصوم وطلب المغفرة من الله.
وحين حصلت فاطمة على الثانوية العامة لم يمنعها أبوها من دخول الجامعة؛ لأنها كانت تحب التعليم والقراءة، ولأن أحدًا لم يتقدم للزواج منها، وكان الأب يحمل همَّ أربع بنات، ويتمنى لو رزقه الله بأربعة عرسان لهن ليزوِّجهن وينتهي من عبئهن، لكن أحدًا لم يتقدم، ودخلت فاطمة كلية الآداب، وبدأت تقرأ كتب الفلسفة، وكان أبوها يفرض عليها أن ترتدي طرحة تخفي تحتها شعرها، وترتدي أكمامًا طويلةً صيف شتاء، ولم تكن فاطمة تختلط بزملائها في الكلية، كانت تتصور أن مصافحتها للرجال حرام، وأن صوتها عورة، وكانت بعد انتهاء المحاضرات تسرع إلى البيت دون أن تكلم أحدًا، كانت حياتها تنحصر في المذاكرة والقراءة والصلاة.
لكن بعد سنتين في الجامعة شعرت بالميل نحو أحد زملائها، وتصورت أن هذا الزميل يخصها بنوع من الاهتمام، كان يبتسم حين يراها في الفناء، أو يقول لها صباح الخير، فيحمرُّ وجهها وترد عليه بالتحية، وبدأت فاطمة تعيش حُبًّا صامتًا لهذا الشاب، وتغذيه بأحلامها وخيالاتها، ولم تجرؤ على أن تصرح له بهذا الحب، بل كانت تختلس إليه النظرات من بعيد، وفي الليل تحلم أحلامًا جنسية تسبب لها في النهار إحساسًا طاغيًا بالذنب، وفوجئت فاطمة في يوم أن هذا الزميل قد خطب زميلةً أخرى، وتصورت أنَّه خانها، وأُصيبت بصدمةٍ عنيفة جعلتها تبكي وحدها وهي في سريرها، وحين تصلي تطلب من الله المغفرة على ذنوبها، وكانت ذنوبها أنَّها تخيلت كثيرًا أنَّ هذا الشَّاب يُقبِّلها ويمارس معها الجنس في أحلامها.
وفي يوم كانت فاطمة تصلي، فإذا بها بدلًا من أن تسبِّح بحمد الله تبدأ في توجيه اللوم إلى الله، بل أكثر من اللوم، كلمات عنيفة قاسية لا يمكن أن يوجهها أحد إلى أحد، فما بال الله، وارتعدت فاطمة من الذعر، وحاولت أن تمنع نفسها، لكنها لم تستطع، كانت هذه الألفاظ تسيطر عليها ولا تستطيع منعها، ومن شدة الذعر كانت تبدأ الصلاة مرة أخرى، وتستغفر الله على ما بدر منها من ألفاظ وأفكارٍ سيئة، لكنها بعد الاستغفار تجد نفسها فريسةً مرة أخرى لهذه الأفكار والألفاظ غير اللائقة. والغريب أن هذه الألفاظ تحولت بعد أيام قليلة إلى أفعال، وأصبحت فاطمة فريسة لأحلامٍ جنسية مفزعة، تُفرَض عليها فرضًا بقوةٍ قاهرة لا تستطيع منعها، ولم تكن هذه الأفعال تحدث إلا مع الله، الذي كان يتجسد أمامها أحيانًا على شكل رجل، ومن شدة الفزع كانت تبكي وتلعن نفسها، وتتهم نفسها بسوء الخلق والفساد، وتكثر من الصلاة حتى أصبحت تصلي نصف النهار، لكن الصلاة أصبحت ترعبها أيضًا؛ لأن الأفكار السيئة كانت تغزوها أثناء الصلاة ذاتها.
ولم تستطع فاطمة أن تحكي مشكلتها لأبيها أو لأمها، وحينما بدأ الهزال والشحوب يظهر عليها أدركت أنها أصبحت عاجزة عن النوم، وعذَّبها الأرق والبكاء. لجأت إلى الطبيب الباطني في عيادة الجامعة، ولم تستطع بالطبع أن تحكي حقيقة المشكلة، لكنها قالت له إنها تشعر بصداع دائم ولا تنام، وحوَّلها الطبيب الباطني إلى الطبيب النفسي، ولم تستطع أن تحكي له حقيقة المشكلة، كانت ترتعد كلما انفرجت شفتاها لتقول كلمة «الله»، وتصورت أن ما يحدث لها جريمة لا تُغفَر، وأن أي أحد سيسمعها سيتَّهمها بأفظع الأشياء، وأعطاها الطبيب النفسي بعض الأقراص المهدئة والمنومة، ولم تشعر فاطمة بأي تحسن، وأصبحت حياتها جحيمًا، ولم تعد قادرة على المذاكرة أو القراءة. وفي إحدى الليالي، وبعد أن عاشت أكثر من ساعة فريسة لتلك الأفعال والأفكار اللاإرادية المنكَرة، فكرت في الانتحار، وابتلعت جميع الأقراص الباقية في الزجاجة، وكادت تموت، لولا أن أمها حملتها بسرعة إلى المستشفى حيث عملوا لها غسيل معدة وأنقذوا حياتها، وعادت مع أمها إلى البيت.
ولكن أسرتها هبَّت من نومها فزعة ذات ليلة على صوت صرخةٍ عالية، ورأوا فاطمة مُلقاة على سجادة الصلاة والطرحة حول رأسها، تهذي بكلمات غير مفهومة، فحملوها إلى المستشفى النفسي حيث تلقَّت الجلسات الكهربية.
وسألتني فاطمة بصوتها الضعيف الخائر: ماذا أفعل يا دكتورة؟ إنهم يمنعونني من الموت.
وسألتها: ألم تتحسني بعد مجيئك إلى المستشفى؟
قالت: لا، لقد زادت حالتي سوءًا، وبعد أن كانت الأفكار السيئة تراودني مرة أو مرتين في اليوم، أصبحت تراودني ثلاث وأربع وخمس مرات، ولا أدري ماذا أفعل!
نظرت إليَّ فاطمة بعينين مذعورتين، وسألتها وأنا أنظر داخل عينيها: ماذا يفزعك يا فاطمة؟
قالت: يفزعني عذاب الله.
قلت لها: إن الله لن يعذبك.
نظرت إليَّ في دهشة وقالت: كيف؟ إنني بنتٌ منحطَّة، وسوف يحرقني الله.
قلت لها: لستِ بنتًا منحطة.
فسألتْ بسرعة: وهذه الأفكار السيئة يا دكتورة؟
قلت: يمكنك التخلص من هذه الأفكار لو استطعت التخلص من إحساسك بالذنب، إنكِ لستِ مذنبة يا فاطمة.
سألتْ: وهذه الأفكار؟
قلتُ: إنها لا تراودك وحدك، بعض الناس تراودهم هذه الأفكار نفسها بسبب التزمُّت والتخويف والكبت.
اتسعت عيناها بدهشة وقالت: لا أظن أن هناك من يراوده مثل هذه الأفكار.
وحكيتُ لفاطمة عن بعض الحالات من الفتيات اللائي قابلتهن، واللائي كن يعانين من المشكلة نفسها، وشرحتُ لها أسباب ذلك.
إنَّ الإحساس الشَّديد بالذنب الذي عانته في طفولتها بسبب مدرس الحساب، ثُمَّ بسبب ممارسة العادة السرية، ثُمَّ بسبب الأحلام الجنسية؛ أرهقها نفسيًّا، خاصةً أنها تعيش في جوٍّ من القيم والتقاليد التي تتناقض تمامًا مع ما يحدث لها في أعماقها، لقد وقعتْ فاطمة فريسة التناقض بين الواقع الذي يفرضه عليها جسدها وبين النظرة التي يفرضها عليها أبوها والمجتمع من حولها، ولا شك أنَّ قصة حبِّها الصامت ومن طرفٍ واحدٍ تدل على أنها في حاجةٍ ماسة إلى تبادل الحب مع الرجل، لكن القيم النظرية داخل رأسها كانت تمنعها من ممارسة الحب أو الاعتراف به، وهذا جعلها تختزن عواطفها كالبخار المضغوط داخل نفسها، وكان لا بد أن يأتي يوم وتنفجر نفسها كبركانٍ لأقل هزة، وقد حدثت هذه الهزة حين خطب هذا الشاب (الذي أحبتْه ومارست معه كل شيء في أحلامها) فتاةً أخرى غيرها. إن رد الفعل لهذا الحدث كان شديدًا بسبب الشيء المخزون داخل فاطمة.
ولم يكن لفاطمة أن تُشفَى من حالتها إلا إذا أصبحت واعية بهذه الأشياء:
-
(١)
إن اللذة التي شعرت بها وهي طفلة (بسبب المدرس) أو بعد ذلك (بسبب العادة السرية) كانت إحساسًا طبيعيًّا، وما كانت لتسبب لها أي ضرر، لولا الإحساس بالذنب الذي صاحبها والذي كان له تأثيرٌ ضارٌّ على نفسيتها.
-
(٢)
إن الأحلام الجنسية التي كانت تعيشها كانت أحلامًا طبيعية، وما كانت لتسبب لها أي ضرر لولا ذلك الإحساس بالذنب الذي صاحبها.
-
(٣)
إن حبَّها لذلك الشاب كان شيئًا طبيعيًّا، وكان يمكن أن يكون أكثر صحةً لو أنها غذَّته بالحقيقة والواقع بدلًا من الخيالات، وربما لو عرف هذا الشاب أنها تحبه لأحبها، ولكنه كان يجهل بالطبع أنها تحبه؛ ولذلك لا يمكن أن نعتبر خطوبته لفتاةٍ أخرى خيانةً لها.
-
(٤)
إن الإحساس بالذنب، والكبت، والتناقض، والخوف الشديد من عقاب الله، هو الذي أدى بها إلى تلك الحالة العكسية التي أصابت علاقتها بالله، ولا بد لها أن تدرك أنها غير مذنبة، وأن الله لن يعاقبها، وأنها ليست الوحيدة التي تشعر بما شعرت به، وإنما هناك الكثيرون غيرها.
ولم يكن من السهل بطبيعة الحال إقناع فاطمة بهذه الحقائق، ولكنها شعرت بارتياحٍ شديد، وتنهدت وهي تقول: لقد كنت أتصور أنني فتاة منحطة الخلق فاسدة، وكنت أظن أنني الفتاة الوحيدة على ظهر الأرض التي حدث لها ذلك. وكلما كنت أؤكد لفاطمة أنها ليست الوحيدة التي حدث لها ما حدث، وأنَّها فتاة ذكية، وأخلاقها طيبة، وليست منحطة، وأنها تستحق كل خير من الحياة؛ كانت تشعر فاطمة بالارتياح، وطلبتُ منها أن تتطلع إلى المستقبل، وأن تضع لنفسها هدفًا فكريًّا تحققه بقراءتها ودراستها.
وقد قابلت والد فاطمة، وشرحتُ له حالة ابنته على حقيقتها، والأسباب الحقيقية، ولم يكن هذا الأب منغلق الذهن تمامًا، وكان قد بدأ يلمس الراحة والتحسن في عيني ابنته، وبدأ الأمل في شفائها، وبسبب ذلك أنصت إليَّ بذهنٍ مفتوح، واقتنع بما شرحتُ له، وطلبتُ منه أن يساعدني من أجل شفاء ابنته.
وفعلًا ساهم هذا الأب في شفاء ابنته، فقد أكد لها أنها غير مذنبة، وأن إحساسها بالذنب لا أساس له، وأن أحدًا لن يعاقبها، وأن من حقها أن تحب وأن تشعر برغباتٍ جنسية، وقد كان لوقع هذه الكلمات من الأب نفسه فعل السحر في نفسية ابنته، التي بدأت تشعر كأن عبئًا ثقيلًا ينزاح عن قلبها، وقالت لي في اندهاش وراحة: لم أكن أتصور أن أبي سيقول لي هذا الكلام في يوم من الأيام.
وساعد هذا الأب ابنته على الخروج من المستشفى، وانتظمت فاطمة في دراستها مرةً أخرى، وجاءني صوت أبيها في التليفون ذات يوم يقول في سعادة: تصوري يا دكتورة، لقد نسيَتْ تمامًا هذا الشاب الذي سبَّب لها الصدمة، لم أكن أتصور أنها ستنساه، لقد كانت تهذي باسمه طول الليل.
قلت له: هذا الشاب لم يكن السبب الحقيقي فيما حدث لفاطمة، إنه كان القشة فحسب التي قسمت ظهر البعير، أمَّا السَّبب الحقيقي فهو الخوف الدفين منذ الطفولة، لو أنَّ فاطمة وهي طفلة حكَتْ لأمها أو أبيها عن حكاية مدرس الحساب، أو عن العادة السرية، ولو أن أمها أو أباها طمأناها وشرحا لها حقائق الحياة، لما دخلت فاطمة في تلك الحلقة المفرغة من الخوف والكبت، ثُمَّ الإحساس العنيف بالذنب، الذي تفجَّر في النهاية على شكل المرض النفسي.