سهير
دق جرس التليفون في منزلي الساعة السادسة صباحًا، وجاءني صوت فتاة مضطربة وخائفة، وتطلب مني المجيء إليها فورًا.
وسألتُها: أين أنتِ؟
قالت: مستشفى العباسية.
سألتُها: ما اسمك؟ وفي أي قسم؟!
قالت: سهير … في قسم …
ركبتُ سيارتي الصغيرة، وطوال الطريق من الجيزة إلى العباسية وأنا أفكر في أمر تلك الفتاة، ولا بد أن الأمر خطير؛ حتى تطلبني بالتليفون في هذا الوقت المبكر، خاصةً أنني لست من أطباء المستشفى.
ولا بد أنها بذلت جهدًا كبيرًا في التمكن من استخدام تليفون المستشفى في ذلك الوقت، وأنا أعلم حال التليفونات في المستشفيات العامة، فما بال تليفونات المستشفيات النفسية؟ ولا بد أنها دفعت شيئًا للتمورجي النبوتجي، أو تنازلتْ له عن طعامها، أو نفذت أوامره ومسحت العنبر بدلًا منه (إذا لم تكن تملك شيئًا تدفعه له).
حين دخلتُ المستشفى من باب الحديقة الخلفي رأيت بعض المريضات بملابسهن البيضاء جالسات على الحشيش، ونهضتْ واحدة حين رأت العربة، واقتربت مني قائلةً: معك ثلاثة قروش؟
سألتها: نعم، لماذا؟
قالت: سأشتري قطعت حلاوة.
وتقدمت واحدة أخرى مني تقول: معكِ سيجارة؟ وجاء رجل عجوز له عينان واسعتان حزينتان وقال لي: أعطيني قرشًا.
ولم أدهش بالطبع؛ فأنا أعرف من زياراتي لهذا المستشفى، ولغيره من المستشفيات النفسية (وغير النفسية) كم يجوع المرضى والمريضات! وبالذات هؤلاء الذين لا أهل لهم، أو الذين تخلى عنهم أهلهم بسبب طول المرض (مشاعر الأسرة والأهل تجاه الابن أو الابنة المريضة تظهر على حقيقتها)، أو الذين لهم أهل فقراء لا يرسلون إليهم طعامًا بصفة منتظمة أو حتى بصفةٍ متقطعة.
تركت عربتي تحت شجرة أمام المبنى الرئيسي للمستشفى، وسِرتُ نحو المبنى الآخر حيث القسم الذي به «سهير». حين دخلتُ المبنى لفح وجهي على الفور هواءٌ رطب بارد له رائحة عفنة كرائحة حظائر الماشية في بيوت الفلاحين في قريتنا، ورأيت بعض المريضات جالسات على الأرض وأمامهن أكواز من الصفيح، وعرفت أنهن يشربن الشاي. وهذا الشاي المغلي عدة مرات (لاستخدامه أكثر من مرة) يُعَدُّ ترفًا تحظى به المريضات القادرات على دفع ثمنه للتمورجية.
وكانت سهير راقدة في عنبر (يشبه إلى حدٍّ كبير العنابر التي رأيتها في سجن النساء بالقناطر)، وسريرها عليه مرتبة رفيعة ممزقة في أجزاء، ويخرج منها القطن، والملاءة بلون التراب، وإلى جوارها على رف النافذة رغيفٌ أسود، وبقايا عدس في صحن نحاس، تجمَّع حوله عدد من الذباب والصراصير السوداء الصغيرة (تذكرتُ على الفور المناظر التي رأيتها في سجن القناطر).
جلستُ على طرف السرير، وفي مواجهتي وجه «سهير» الشاحب بملامحها الدقيقة، وعينيها الواسعتين، لها نظرةٌ فاحصة ذكية.
قالت لي بصوتٍ هادئ: ألا تذكرين يا دكتورة؟
قلتُ لها: يُخيَّلُ إليَّ أنني رأيتُكِ من قبل.
قالت: نعم، منذ عامين، حين جئتِ إلينا في ندوة في كلية طب عين شمس.
قلت: أنت طالبة بكلية الطب؟
قالت: نعم، في السنة النهائية.
قلت: وكيف جئتِ إلى هنا؟
قالت: أنا لم أجئ، هم الذين أتوا بي إلى هنا.
قلت: مَن؟
قالت: أهلي، أبي وزوجته.
سألتها: لماذا؟
قالت: سأحكي لك كل قصتي، ولكني لجأت إليك اليوم لتساعديني في الخروج؛ فالامتحان بعد أسبوع واحد، وأريد أن أدخله حتى لا تضيع عليَّ السنة، لقد ذاكرت وأنا هنا، ولا أريد أن أتخلف عن الامتحان، إن تخرُّجي من الكلية سوف ينقذني من أبي، وأستطيع أن أعول نفسي، وأعيش وحدي بعيدًا عن أسرتي.
وطلبتُ من سهير أن تترك سريرها، وأن تهبط معي إلى فناء المستشفى لنجلس في الهواء الطلق وأسمع قصتها. كنتُ قد شعرتُ بآلام في رأسي وجسمي من الرائحة العفنة داخل العنبر، والمنبعثة من جسد امرأة ترقد على السرير المجاور لسرير سهير.
وجلسنا في الفناء، وبدأتْ سهير تحكي قائلةً: كنت في السادسة من عمري حين رأيت أبي يضرب أمي، ويصرخ قائلًا لها: أنتِ طالق. ولم أعد أرى أمي، وتزوج أبي من المرأة (هي أخت زوجة عمي)، وأصبح عمي يزورنا مع زوجته كثيرًا، وفي يومٍ كنتُ أطعم الفراخ فوق سطح المنزل، حين دخل عمي ورائي العشة، ورفع عني ملابسي وهو يهمس بصوتٍ غريب قائلًا: لا تخافي، كنت في حوالي السابعة من العمر، ومن شدة الذعر لم أستطع أن أقول لأبي (بسبب قسوته الشديدة عليَّ دائمًا يقول إنني أشبه أمي)، ولكني قلت لزوجة أبي، وكانت تُظهر لي بعض العطف أحيانًا، ولكنها صفعتني على وجهي وقالت بغضب: لا تقولي هذا الكلام المسيء عن عمك يا بنت! إنه رجلٌ فاضل ويحب زوجته، وزوجته تحبه، فلا تفسدي حياتهما بهذه الخيالات التي تتوهمينها. وكنت طفلة، وصدقتُ زوجة أبي أن الذي حدث لم يكن إلا خيالًا توهمتُه، لكن عمي كرر ما فعله مرةً ثانية، وفي هذه المرة أدركت أشياء لم أكن أدركها في المرة السابقة، وقال عمي يهددني: لا تقولي لأحد وإلا ذبحتك! وأصبحت أخاف من الصعود إلى عشة الفراخ في السطح، وضربتْني زوجة أبي مرة لأصعد وأطعم الفراخ، لكني رفضت؛ فظلت تضربني حتى سال الدم من أنفي؛ فصرختُ وقلت لها: لا أريد أن أصعد! فصرختْ: لماذا؟ فصرختُ وأنا أبكي: إنه يصعد ورائي! فصرختْ: مَن؟ فقلت لها: عمي! فنظرت إليَّ في استنكار وصفعتني على وجهي وهي تقول: أنتِ مجنونة! سأقول لأبيك ليضربك. وكنت أخاف من أبي؛ لأنَّ ضربه كان شديدًا، وكان يضربني على رأسي، وكأنه يريد أن يقتلني، فرجوتُها ألا تقول له شيئًا، وأخذتُ أكل الفراخ وصعدت إلى العشة وأنا أرتعد خوفًا، ولم يجئ عمي، وعرفت أنه مريض، ثُمَّ مات بعد بضعة شهور، وفرحتُ حين علمت بموته فرحًا شديدًا، وكنت في حوالي العاشرة من عمري، وارتدتْ زوجة أبي السواد، ورغم أنني كنت صغيرة إلا أنها أتت لي بفستانٍ أسود لأرتديه، فرفضتُ، وضربتني وهددتني بأن تقول لأبي إذا لم ألبس الفستان الأسود، واضطررتُ إلى ارتدائه.
وأصبحتْ زوجة أبي تفرض عليَّ أشياء كثيرة وتهددني، وأصبحتُ أشعر أنني أسيرة لها، ووضعت كل همي في المذاكرة، وكان لي ابن خالة يكبرني بخمس سنوات، وكان يزورنا أحيانًا، وكنت أحكي له عن قسوة أبي وزوجته، فكان ينصحني بالمذاكرة ودخول المدرسة الثانوية مثله، ثُمَّ نشتغل في أي عمل ونهرب من أهلنا، وكان هو أيضًا يعاني من قسوة أبيه، وفعلًا كنتُ متفوقة دائمًا في الدراسة، وحصلت على مجموعٍ عالٍ في الثانوية، رغم أن زوجة أبي كانت تشغلني في البيت، وتفرض عليَّ ترك المذاكرة ورعاية أطفالها، وحاول أبي (بتحريض من زوجته) أن يمنعني من دخول كلية الطب، لكن خالتي وزوجها وابنهما ظلوا وراءه حتى قَبِل، ودخلت الكلية، وكنت متفوقة دائمًا ولا أجد صعوبة في أي علم من العلوم، ولكن الصعوبة الوحيدة كانت في الجو الذي أعيشه في البيت.
وحينما وصلتُ إلى السنة النهائية بدأت زوجة أبي تدرك أنني سأكون طبيبة عما قريب، وبدأت تغيِّر من معاملتها لي، وتناديني أحيانًا: يا دكتورة سهير. وفي يوم جلستْ إلى جواري، وقالت إنها أتت لي بعريسٍ ممتاز، ولم يكن هذا العريس إلا أحد أقربائها، وكان رجلًا مترهِّلًا، لم أشعر نحوه بأي مشاعر، وكنت أشعر بالميل لابن خالتي الذي كنت أشعر بأنه يحبني ويهتم بي، وكان هو سبب تحمُّلي لحياتي الشقية في البيت، وفي نجاحي في دراستي، وكنا قد اتفقنا على الزواج بمجرد تخرجي.
لكن أبي جاءني يومًا وقال لي إن ذلك الرجل (قريب زوجته) قد خطبني منه، وإنه وافق، وإنه اتفق معه على أن يكون كَتْب الكتاب الخميس القادم، أمَّا الدُّخلة فتكون بعد تخرجي هذا العام، ورغم أنني كنت أخاف من أبي، فقد طلبت منه أن يؤجل ذلك كله حتى أنتهي من دراستي، ولم أستطع بالطبع أن أقول له إنني لا أريد هذا الرجل وأريد رجلًا آخر، لكن أبي رفض فكرة التأجيل، وفوجئت بيوم كتب الكتاب، وأبي هو الذي يوقع عقد الزواج بصفته وكيلًا عني، وأصبح الرجل المترهل (قريب زوجة أبي) هو زوجي الذي سأُزَفُّ إليه بعد تخرجي من الكلية.
اهتزت الأرض من تحت قدميَّ، وأحسستُ أن الأمل الذي بنيتُه راح، وأنني لن أتحرر إلى الأبد من هذه القسوة، وبدأتُ أشعر بالصداع والأرق، ولم أعد أستطيع المذاكرة. وجاء الامتحان بالطبع، وتدهورت حالتي، وأصبحت أشعر برغبة في البكاء الدائم والصراخ، واشتدت قسوة أبي وزوجته عليَّ، وأصبحت أقضي اليوم كله في سريري راقدة، وأشعر بالصداع والآلام في كل جسمي. وفي يوم جاءت زوجة أبي لتخرجني من السرير بالقوة لأحضِّر الغداء لأبي، لكني رفضتُ، فصفعتْني على وجهي، فانهلتُ عليها ضربًا ولكْمًا، وجاء أبي وضربني، فأخذت أصرخ بأعلى صوتي، وفقدتُ الوعي تمامًا، ثُمَّ حين أفقتُ وجدتُني هنا في هذا المستشفى، وعلمتُ أن زوجة أبي قالت لأبي إنني مجنونة، واقتنع أبي بكلامها، وحملني على الفور في تاكسي إلى المستشفى، ولم يحاول واحد من الأطباء أن يسمع ما أقوله؛ لقد اكتفوا بما قاله أبي وزوجته، وأدخلوني بالقوة إلى مكان مظلم رطب، حيث سلَّطوا على رأسي جلسة كهربية جعلت عظامي تؤلمني عدة أيام، ورفضت أخذ أي أقراص، وقلت للطبيب إنني لست مريضة، وإنني طالبة بنهائي طب، فردَّ عليَّ الطبيب قائلًا: لا تتصرفي إذن كالجاهلات، وخذي الدواء الذي يُصرَف لك، وطلبتُ منه أن يسمعني لمدة خمس دقائق لأنني لست مريضة، لكنه لم يتوقف وأسرع وركب عربته وغادر المستشفى. والآن يا دكتورة أرجو أن تساعديني في الخروج من هنا، إن أي عاقل يدخل هنا لا بد أن يصبح مجنونًا بعد بضعة أيام؛ إن كل الظروف التي عشتُها تدفع إلى الجنون فعلًا، ولكني ما زلت أحتفظ بقواي العقلية، وقد علمتُ من الطبيب أن زوجة أبي ذكرت له أنني كنت وأنا طفلة أتخيل أشياء وهمية، فحكيتُ له قصة عشة الفراخ وعمي، وقلتُ للطبيب إن هذه ليست خيالًا، وإنها حدثت بالفعل، وكنتُ أتصور أن الطبيب سيصدِّقني، لكنه أمر بإعطائي جلسة كهربية، وحينما طلبت من الطبيب أن يُخرجني من المستشفى حتى لا يضيع عليَّ الامتحان للمرة الثانية قال لي: سأُخرجك حين تُشفَين تمامًا.
وسألته: ومتى أُشفى تمامًا؟
قال: حين تكفِّين عن تصور الخيالات.
قلت له: أية خيالات؟!
قال: الخيالات عن عمك وعشَّة الفراخ.
قلت: هذه أشياء حدثت وأنا طفلة صغيرة، وقد نسيتُها.
قال: هذه أشياء لم تحدث.
قلت له: كيف عرفتَ أنها لم تحدث؟
قال: أهلك قالوا إنها لم تحدث.
قلت: ولماذا تصدق أهلي ولا تصدِّقني أنا؟
قال: نحن نصدق الأهل ولا نصدق المريض.
قلت: ومن قال إنني مريضة؟
قال: نحن.
قلت: من أنتم؟
قال: الأطباء.
قلت: ولكن لم يحدث أن فحصني طبيبٌ واحد منكم، ولم يحاول واحدٌ منكم أن يسمعني أكثر من نصف دقيقة، وقد أمرتم لي بجلسة كهربية فوق رأسي قبل أن تسمعوا مني شيئًا، هل هذه مهنة الطب؟!
قال غاضبًا: المستشفى بها ٣٥٥٠ مريضًا ومريضةً (٢٢٠٠ مريض، ١٣٥٠ مريضة)، فهل يمكن أن أسمع كل واحد منهم أكثر من نصف دقيقة.
قلت: وهل أنت الطبيب الوحيد هنا؟
قال: نحن تسعة أطباء فقط في كل هذا المستشفى؛ أي أن كل طبيب مسئول عن ٤٠٠ مريض ومريضة، أي أنني لو استمعت لكل مريض لمدة دقيقة واحدة، فمعنى ذلك أنني أقضي سبع ساعات في اليوم لمجرد سماع أقوال المرضى والمريضات، ومتى إذن يمكنني أن أقوم بأعمالي العلاجية الأخرى.
قلت: ولكنك لا يمكن أن تقوم بأعمالك العلاجية الأخرى دون أن تسمع ما يقوله المريض أو المريضة.
قال: وهل كل ما يقوله المريض صحيح؟
قلت: بالطبع لا، ولكن هل كل ما يقوله الأهل صحيح؟
قال: لا بالطبع، ولكن ماذا أفعل أنا؟
قلت: لا بد أن تبحث عن الحقيقة. إن معظم المريضات هنا لسن مريضات، وإنما لهن مشاكل مع الأسرة، ومن الظلم اتهامهن بالجنون أو المرض النفسي.
قال: وماذا تريدين الآن؟
قلت: أريد أن تكتب لي «خروج» من المستشفى.
قال: سأكتب لك «خروج» حين تشفين تمامًا.
قلت: وكيف تعرف أنني شُفيت تمامًا؟
قال: حين تقولين إن موضوع عمك لم يحدث، وحين تتكلمين عن أبيك وأسرتك باحترام؛ إن هذا الأب هو الذي أنجبك، وهو الذي أطعمك، وهو الذي أدخلك كلية الطب، ويجب أن تشعري نحوه بالامتنان لا الكراهية.
وسكتت سهير قليلًا، وكان قد تجمع حولنا بعض الفتيات والنساء المريضات، ونظرت إليَّ سهير بعينيها الواسعتين الحائرتين وقالت: المفروض أن أكذب لكي أخرج من هنا يا دكتورة، وسوف أكذب حتى أخرج من هنا وإلا انتهيتُ تمامًا.
وقالت إحدى الفتيات التي بدت في مثل عمر سهير (٢٤ سنة): أرجوك يا دكتورة، وأنا أيضًا أريد أن أخرج، لقد ضيَّعوا عليَّ امتحان العام الماضي، كل زميلاتي وزملائي تخرجوا من كلية الصيدلة، وأنا هنا في هذا القبر.
وسألتها: كيف دخلت إلى هنا؟
ابتسمت بسخرية وقالت: الدخول إلى هنا سهل جِدًّا.
وقالت فتاة أخرى: يكفي أن يرفع الأب سماعة التليفون ويقول لهم: خذوا ابنتي. وقالت امرأة أخرى: يكفي أن يرفع الزوج سماعة التليفون ويقول لهم: خذوا زوجتي!
وقالت سهير: لقد عرفتُ لأول مرة القانون الغريب رقم ١٤١ لسنة ١٩٤٤م الذي ما زال يسري حتى اليوم، والذي بمقتضاه حسب المادة الثانية، فإنه يمكن لأي شخص (الأب أو الزوج أو الجار) أن يبلغ البوليس (ولو كيديًّا) ويقول: هذه مريضة أو هذا مريض. وتحضر عربة البوليس على الفور وتحمل الشخص بالقوة. وإثبات كون الشخص مريضًا أم لا يتم بواسطة مفتش الصحة (الذي لا يعرف شيئًا في الطب النفسي أو حتى الطب الجسدي؛ لأن عمله الأساسي هو فحص الموتى واستخراج شهادة الوفاة)، وما إن يرى مفتشُ الصحة رجالَ البوليس يسوقون إليه شخصًا، فإن هذا الشخص مريض بعقله لا شك، ومهما قال هذا الشخص شيئًا فلا أحد يصدقه، ويكتب مفتش الصحة على الأوراق: حالة جنون. ويُساق الشخص إلى المستشفى على الفور.
وقالت إحدى النساء الواقفات حولنا: الدخول سهل جِدًّا يا دكتورة، يكفي أن تُرزَق واحدة مثلي بزوجٍ جشع، أراد أن أبيع جسدي ليسدد ديونه، وحين رفضت ضربني وطلب البوليس، وحين ساقوني إلى مفتش الصحة قلت له إن زوجي هو المجنون؛ لأنه يريد أن يجعلني مومسًا ليسدد ديونه، لكن مفتش الصحة كان يستعد للخروج من مكتبه، فلم يسمعني، وكتب شيئًا على الأوراق بسرعة، وساقوني إلى هنا.
وقالت امرأة أخرى: أراد زوجي أن يطلقني ليتزوج امرأة أخرى.
وقال لي: تنازلي عن النفقة والمؤخر. فرفضتُ، فضربني وطردني من البيت، ونمتُ عند الجيران؛ لأن أهلي في أسوان. وفي الصباح عُدت إلى بيتي؛ فحاول أن يطردني، فضربني ومزق ملابسي، وطلب البوليس وأخذوني بملابسي الممزقة إلى مفتش الصحة، ولم يكن موجودًا، فاتصل به التمورجي بالتليفون، وقرر مفتش الصحة أنني مريضة بالتليفون ودون أن يراني، وساقوني إلى المستشفى.
وقالت سهير: الدخول هنا سهل جِدًّا، ولكن الخروج عملية صعبة جِدًّا معقدة، فكيف يمكن إثبات أن هذا الشخص شُفي أم لم يُشْفَ بعد؟ إن مقومات إثبات المرض غير موجودة؛ وبالتالي لا توجد مقومات تثبت الشفاء؛ ولهذا يتردَّى الشخص بالسنوات في هذا المستشفى، خاصةً إذا نسيه أهله ولم يطالبوا بخروجه، بعض المرضى والمريضات دخلوا المستشفى منذ ثلاثين عامًا، وفي معظم الأحيان لا يطالب الأهل بالخروج. إن معظم الآباء أو الأزواج الذين يُدخلون ابنهم أو ابنتهم أو زوجتهم إلى هذا المستشفى، يفعلون ذلك من أجل التخلص منهم؛ فكيف يمكن أن يهتموا بعودتهم أو يطالبوا بخروجهم؟ ثُمَّ إن الذي يدخل إلى هنا مرة واحدة يصبح موصومًا إلى الأبد، ومن السهل إدخاله مرةً أخرى، أو التلميح بأنه دخل هذا المستشفى من قبل ليتحطم مستقبله.
وقالت فتاة أخرى يبدو على وجهها الأسى والحزن: إني أسعى لدى الأطباء منذ ثلاث سنوات للخروج، دون جدوى. لقد أحضرني أبي هنا منذ أربع سنوات واختفى، وكلما طلبتُ الخروج قال لي الطبيب إن أبي لم يحضر، ولا بد للمستشفى أن تسلِّمني لأبي أو ولي أمري الذي أحضرني.
وقالت فتاة أخرى: إنهم يرمون بنا هنا ليتخلصوا من أكلنا ومصاريفنا.
وقالت سهير: إني أطلب منك يا دكتورة أن تنقذيني وتخرجيني من هنا!
وصاحت الفتيات والنساء من حولنا: ونحن يا دكتورة، أنقذينا وأخرجينا من هنا!
وكان يومًا من أتعس أيام حياتي، ووجدتُني وسط أكثر من أربعين أو خمسين فتاة وامرأة، وكل واحدة تحاول أن تحكي قصتها، وكلهن ضحايا أُسَر مزَّقها الطلاق، وتعدُّد الزوجات، وخيانة الأزواج، وخيانة الآباء، وضعف الأمهات، وبعضهن طالبات بالجامعة أو المعاهد العليا أو موظفات، وبعضهن زوجات بغير عمل وبغير عائل، وبعضهن انقطعت عنهن زيارات الأهل منذ سنوات طويلة وأصبحن بغير أهل، ويعشن تحت رحمة مجموعة من التمورجية، يأكلون أكلهن (أكل المستشفى الضئيل) ويشغلونهن في مسح الأرض وغسل الملابس والصحون، والتي تعصي الأوامر فليس هنا إلا الضرب، وأحيانًا الاعتداء الجنسي ذاته، وحين تذهب الفتاة إلى الطبيب لتشكو فإن أحدًا لا يسمعها، وإن سُمعتْ فإن أحدًا لا يُصدِّقها؛ لأن معظم أطباء النفس يؤمنون بالمثل القائل: إذا كان المتكلم مجنونًا فالمستمع عاقل.
وتركتُ سهير والفتيات والنساء البائسات وذهبت إلى الأطباء، وحاولتُ أن أعثر معهم على حل، لكن أحدًا لم يكن بيده الحل، ووجهات النظر تختلف، كان بعضهم يرى أن المريضات والمرضى أيضًا يُظلَمون، وأنهم جميعًا ضحايا أُسَرٍ فاسدة أو فقرٍ شديد أو مشاكل جنسية وكَبْت وحرمان، وبعضهم كان يرى غير ذلك ويعتقد أن المريضات والمرضى نوع أدنى من البشر ويستحقون ما هم فيه، وآنست في أحد الأطباء نوعًا من الفهم واتساع الأفق والإنسانية، فطلبتُ منه أن يساعد سهير في الخروج بأسرع ما يمكن حتى لا يضيع عليها الامتحان، وفعلًا تمكَّنَتْ سهير من الخروج من المستشفى بمساعدة هذا الطبيب، وكم كانت فرحتي حين سمعتُ صوتها في التليفون يأتيني بعد عدة شهور وينبئني بأنها نجحت وحصلت على بكالوريوس الطب والجراحة! وأن الرجل المترهل (قريب زوجة أبيها) يرفض تطليقها، وأنها تستعد لرفع قضية في المحكمة ليحكم لها القاضي بالطلاق ولتستطيع الزواج من ابن خالتها.
وسألتُها: وما موقف أبيك الآن؟
قالت: حين خرجتُ من المستشفى علمتُ أنه طلق زوجته؛ ولذلك هو يشجِّعني على الطلاق من قريبها.