فاطمة «ب»
هي فتاة ذكية، حساسة، تشتغل بالثانوية العامة، ومنتسبة إلى كلية الحقوق بالجامعة، تبلغ من العمر اثنين وعشرين عامًا، لم تعرف أباها؛ لأن أمها حملت بها قبل أن تتزوج أباها، وهرب الأب، وواجهت الأم المشكلة وحدها، ووُلدت فاطمة كطفلة غير شرعية، عطفت عليها الأسرة وتستَّرتْ على أمها حمايةً لها من الفضيحة الكبرى بين الناس، لكن فاطمة منذ طفولتها وهي ترى الكراهية حولها، وكثيرًا ما سمعت أمها تقول لها وهي لم تبلغ الرابعة من عمرها: «ليتكِ متِّ قبل أن ألدك»، وبعض أفراد الأسرة حين يضيقون بها يقولون لها: «ليتَ أمك ماتتْ ومتِّ معها وهي تلدك.»
وعاشت فاطمة في ظل أسرة أمها، وحصلت على اسم والد أمها (جدها)، وكان هو الذي يطعمها ويطعم أمها أيضًا، وحين حصلت فاطمة على عمل بالثانوية العامة أصبحت تنفق على نفسها وعلى أمها، وفكرت أن تأخذ أمها وتعيش في مكان بعيد عن هذه الأسرة التي لا تكف عن تذكيرها بالماضي الذي تحاول أن تنساه، لكن أمها رفضت وأصرَّت على أن تبقى هي وابنتها في ظل حماية الأسرة.
وحدثت المأساة حين تقدم أحد الرجال للزواج من فاطمة، كانت فاطمة في الواحد والعشرين من عمرها، وكان هو في الرابعة والخمسين، ولم تشعر فاطمة نحوه إلا بالنفور، لكن الأب (والد أمها) أصرَّ على تزويجها؛ فقد كان هذا الرجل يمتلك مالًا كثيرًا، وكان الأب رب أسرةٍ كبيرة العدد، وله من الأولاد والبنات تسعة، واعتقد أن هذا العريس صفقةٌ رابحة لا يمكن تعويضها، وأصرَّت فاطمة على الرفض؛ فثار الأب، وأخذ يهددها ويلمح لها بالماضي، وبأنه هو الذي منحها اسمه، ومعنى ذلك أنه منحها الشرف، وأنه هو الذي أطعمها وأدخلها المدارس، وبكت أم فاطمة، وراحت تستعطف فاطمة من أجل أن تقبل الزواج من هذا الرجل إرضاءً لأبيها وردًّا لجميله السابق، وضعفت فاطمة أمام دموع أمها (وكانت تحبها وتشفق عليها كثيرًا)، ووافقت على الزواج من هذا الرجل، وحددت الأسرة موعد عقد القران، وقبل الموعد ببضع ساعات فوجئت الأسرة بصرخةٍ حادَّة من فاطمة، وسقوطها على الأرض عاجزة عن السير، وحين حملوها إلى الطبيب قال لهم إنها أُصيب بشلل في ساقيها، وإنه يعتقد أنه شلل هيستيري، وإنها في حاجة إلى علاج نفسي. وفي اليوم التالي، وبعد أن أدركت فاطمة أن موعد عقد القران قد فات دون أن تتزوج، نهضت من سريرها وسارت على قدميها، وفوجئت كل الأسرة، وتصور الأب أنها لم تكن مريضة، وإنما مثَّلت الدور بإتقان لتهرب من الزواج، وانهال عليها ضربًا وسبًّا؛ لأنها تسببت في ضياع العريس، وفي تلك الليلة ظلَّت فاطمة مؤرقة في فراشها تبكي، وفي الصباح ظلت تبكي، ولم تتوقف عن البكاء إلا عند الطبيب النفسي الذي أخذوها إليه في العيادة الخارجية، وعندما سمع الطبيب حكايتها حوَّلها إلى ضمن حالات البحث الذي أقوم به، وبالرغم من أن فاطمة كانت منهكة القوى إلا أنها استطاعت أن تحكي لي كل حكايتها بدقَّة، وتحلِّل مشاعرها، وتصف مأساة أمها، وقلتُ للأم: إنني أريد أن أقابل والدها لأتحدث معه بشأن فاطمة، وأن عليها أن تحضر معه الأسبوع القادم، وقالت الأم إنه قد لا يوافق على الحضور، فقلت لها إذا لم يوافق فسأذهب أنا إليه لأشرح له بعض الأمور المتعلقة بصحة فاطمة.
وجاء الأب الأسبوع التالي مع فاطمة، وقلتُ له إن موقفه من فاطمة كان موقفًا غير إنساني وغير شريف أيضًا، ونظر الرجل إليَّ بدهشة، وأصرَّ على أنه رجلٌ شريف، وأن كل الناس يعرفون أنه رجلٌ شريف، واتهم فاطمة بالجنون والمرض، وأنها ابنة حرام، وأن له بناتٍ أخريات على قدرٍ كبير من الأدب والطاعة، ولا تستطيع الواحدة منهن أن ترفع عينها في عينه كما تفعل فاطمة، وقلت له: إن فاطمة فتاة ذكية وحساسة وصادقة وشريفة، وليست ابنة حرام كما يقول، ولكن الحرام وعدم الشرف هو أن يحاول أن يبيعها بالمال لهذا الرجل العجوز الذي تنفر منه تحت اسم الزواج، وشرحتُ للأب معنى الشرف الحقيقي الذي هو الصدق، صدق الأفكار والمشاعر والأفعال، وليس الشرف مجرد أن يحافظ الشخص على أعضائه التناسلية. إن ارتباط مفهوم الشرف بالنشاط الجنسي فقط يجعل الناس يكذبون ويزيِّفون ويتاجرون في بناتهم باسم الزواج ويتصورون أنهم شرفاء.
وأدركت من ملامح الأب أنه يسمع مثل هذا الكلام لأول مرة في حياته، وبرغم أنه حاول أن ينكر خطأه إلا أنني شعرت أنه بدأ يدرك أشياء لم يدركها، وأنه مقتنع في أعماقه بما أقول، لكنه حاول أن ينكر ذلك الاقتناع وقال: إن فاطمة بنت عنيدة، وهي تريد دائمًا أن تنفذ ما في رأسها بأية وسيلة.
لكنه عندما عاد إليَّ الأسبوع التالي كان حزينًا وقلقًا، وقال لي بصوتٍ منكسر: «تعرفي يا دكتورة، إن ضميري أصبح يؤنبني بسبب ما فعلتُه بابنتي فاطمة، لقد فكرتُ طويلًا في كلماتك، وأدركت أنني فعلًا كنت سأبيعها بالمال من أجل أن أستريح أنا، لقد كنت أنانيًّا، وكنت أفكر في نفسي وراحتي، ولم أفكر في راحتها وسعادتها، ولكن اعذريني يا دكتورة، إن العبء عليَّ كبير، ولا أستطيع بمرتبي الصغير جِدًّا أن أنفق على تلك الأسرة الكبيرة، الفقر هو السبب يا دكتورة، والجوع كافر!»
ورأيت الدموع في عينَي الأب، فقلت له: «إن فاطمة ستُشفى، ولكن أرجو ألا تكرر ما فعلتَه معها مع بناتك الأخريات، أنت الآن عرفتَ وفهمت».
فقال: «إن الإنسان لا يتعلم إلا من الخطأ، ومهما تأزمت حالتي المالية فلن أكرر مأساة فاطمة مع بناتي الأخريات.»