مناقشة نتائج البحث
إن ارتفاع نسبة الإصابة بين الفتيات والنساء يدل على أن النساء في مجتمعنا المصري يتعرضن لصراعات وتناقضات متعددة، وعلى الأخص النساء المتعلمات اللاتي خرجن للتعليم والعمل، وأصبح لهن وعيٌ جديد ودورٌ جديد، بالإضافة إلى الدور التقليدي القديم.
وبالرغم من أن المجتمع المصري كأي مجتمع آخر تغزوه الأفكار الجديدة عن تعليم المرأة وعملها في المجتمع وحريتها، إلا أنه لا يزال يخضع لكثير من التقاليد القديمة مثل وضع المرأة الأدنى في الأسرة، وفي هذه الفترات الانتقالية، التي يجمع فيها المجتمع بين الجديد والقديم، يتعرض الناس لصراعاتٍ نفسية، وخاصةً النساء.
حيث إن موقف المجتمع من المرأة أشدُّ تعنُّتًا من موقفه من الرجل، وحيث إن دور الرجل لم يتغير، والقيم الاجتماعية والأخلاقية والاقتصادية في المجتمع ما زالت تميل إلى جانب الرجل.
وتزداد حدة الصراعات في حياة المرأة المتعلمة الواعية بحقوقها الجديدة أكثر من المرأة غير المتعلمة غير الواعية بهذه الحقوق، وتزداد هذه الصراعات أيضًا في حياة المرأة المتعلمة العاملة؛ لأن المجتمع لم يُهيَّأ بعدُ (اجتماعيًّا وتربويًّا ونفسيًّا) لدور المرأة المتعلمة العاملة.
ولا يزال المجتمع بصفة عامة ينظر إلى دور المرأة في البيت (كزوجة وأم) على أنه دورها الأساسي في الحياة، أو دورها الوحيد المسموح به، أمَّا عملها خارج البيت فليس إلا من أجل تخفيف الأعباء الاقتصادية عن كاهل رب الأسرة في الحياة، وهو خدمة الزوج والأطفال في البيت.
والمرأة المصرية العاملة خارج البيت عليها أن تؤدي واجباتها داخل البيت أيضًا دون تقصير أو إهمال، وإلا تعرضت للَّوم أو العقاب (قد يصل الأمر إلى الطلاق)، وبالرغم من أن المرأة العاملة تشارك الرجل مسئولية الإنفاق على الأسرة، إلا أن الرجل المصري لا يشاركها مسئولية الأعمال داخل البيت، ويعتبر أن مثل هذه الأعمال المنزلية لا تليق بكرامته كرجل.
والمرأة العاملة هنا هي المرأة التي تعمل في المصانع أو المكاتب أو المهن المختلفة، أمَّا المرأة العاملة في الحقل (الفلاحة المصرية) فهي تخرج للعمل في الحقل منذ آلاف السنين، وهي تجمع بين عملها داخل البيت وخارجه، وهي تعمل خارج البيت بغير أجر تحت سيطرة زوجها ولحسابه، ولا تتقاضى عن عملها أجرًا شهريًّا مستقلًّا عن الزواج، والأغلبية الساحقة من الفلاحات المصريات أميات يجهلن القراءة والكتابة.
ويلعب التعليم والعمل بأجر في حياة المرأة دورًا كبيرًا في مساعدتها على أن ترفض وضعها الأدنى في الأسرة، وأن ترفض التقاليد العتيقة، التي تنظر إليها كوعاء لإنجاب الأطفال أو طاعة الزوج، وعلى أن تصبح إنسانة لها طموح فكري ونفسي في الحياة يزيد عن غسل الصحون وإرضاء الزوج؛ ولهذا السبب تزيد المشاكل النفسية ومرض العصاب بين النساء المتعلمات عنها بين النساء غير المتعلمات.
وقد وجدنا من نتائج البحث أن ٦٣ بالمائة من النساء المتعلمات الطبيعيات تمنين في فترة من حياتهن أن يكنَّ ذكورًا، وهذه النسبة تكاد تكون ضعف مثيلاتها بين النساء غير المتعلمات، ومن هذا يتضح أن التعليم يلعب دورًا كبيرًا في إشعار الفتاة بالتفرقة القائمة بين الجنسين في معظم الأسر المصرية، ورفضها لهذه التفرقة، وبالتالي رغبتها في أن تكون ذكرًا لتتمتع بالامتيازات الاجتماعية والشخصية التي يتمتع بها الذكر.
ولهذا لا يمكن لنا أن نتَّهم الفتاة التي تتمنى أن تكون ذكرًا بالشذوذ أو المرض النفسي أو عقدة من العُقَد الفرويدية، ولكن علينا أن ندرس ظروفها الاجتماعية؛ لندرك الفروق والامتيازات التي يحظى بها الذكور دون الإناث، وقد سبق أن وجدنا ٧٢ بالمائة من العصابيات المتعلمات تمنَّيْن أن يكُنَّ ذكورًا، وهذا يدل على أن التفرقة بين الجنسين من العوامل التي تؤثر في نفسية الفتاة، وتدفعها إلى الرفض والتمرُّد أو إلى العصاب أحيانًا.
وقد اعتبر فرويد وأتباعه الفتاة التي تتمنى أن تكون ذكرًا فتاة غير طبيعية، وأرجع رغبتها إلى أنها تنشد عضو الذكر الذي ينقصها، وقد أثبت علماء النفس من بعد فرويد خطأ هذه الأفكار، وأهمهم في هذا المجال هي الطبيبة النفسية كارين هورني التي عارضت فرويد في هذه الفكرة، وقالت إن البنت تتمنى أن تكون ذكرًا لتحصل على الامتيازات الاجتماعية التي يحصل عليها الذكر، وليس لأنها تنشد عضو الذكر.
وخلال حديثي مع المرأة أو الفتاة التي تجيب بأنها تمنت أن تكون ذكرًا في وقتٍ ما من حياتها كنتُ أسألها لماذا تمنت ذلك، وكانت الإجابة في معظم الحالات تؤكد أن الامتيازات الاجتماعية أو الاقتصادية أو الأخلاقية هي السبب الرئيسي.
وقد اتضح من نتائج البحث أن الحرمان العاطفي في الطفولة وحده ليس كافيًا لأن يسبب العصاب، ولكن لا بد من تعرض الفتاة أو المرأة لعوامل أخرى في مراهقتها أو شبابها لكي تُصاب بالعصاب، وهناك كثيرٌ من أطباء النفس مَن يعتقدون (بسبب تأثير فرويد) أن مشاكل الطفولة هي التي تسبب المرض؛ ولهذا ما إن تجلس المريضة أمام الطبيب منهم حتى يسرع بالسؤال عن الصدمات النفسية التي شعرت بها في طفولتها، ويظل يلحُّ بالأسئلة حول مرحلة الطفولة محاولًا للكشف عن أسباب المشكلة الحالية لهذه المرأة في ماضيها البعيد، وذلك بالبحث عن أي خيالات طفولية جنسية قد تقوده إلى عقدة ألكترا أو أوديب.
وقد ذكرت لي إحدى طالبات الجامعة المتزوجات التي كانت تتردد على أحد أطباء النفس للعلاج: «في كل مرة كان يسألني عن طفولتي، وما إذا كنت حسدتُ أخي لأنه يملك عضوًا لا أملكه! لم أكن أفهم أي معنًى لسؤاله، في حين أنني كنت أستطيع أن أقول له في نصف دقيقة أنني يمكن أن أُشفى تمامًا لو أن زوجي تركني أكمل تعليمي الجامعي ولم يضربني كل يوم بعد عودتي من الكلية.»
وقالت لي فتاة أخرى: «كان الطبيب يسألني أسئلة كثيرة بعيدة عن مشكلتي الحقيقية، في حين أن مشكلتي كانت أن أخي الأكبر يضربني بسببٍ وبغير سبب، ويهددني بحبسي في البيت إذا لم أسرق له النقود من أمي.»
وهناك كثيرٌ من الأطباء أيضًا ممن يعتقدون أن العصاب مرضٌ وراثي، أو أنه يرجع إلى ضعف مُعيَّن في الجهاز العصبي يُورَّث عن طريق الكروموسومات وعلاقات الدم، لكني بسؤالي عن وجود أي تاريخ لمرضٍ عصابي في أسرة الأب أو الأم أجابت ٩٦ امرأة من العصابيات بالنفي، وأجابت الأربع الباقيات بأن هناك قريبًا في الأسرة كان مريضًا بمرضٍ نفسي. وقالت لي إحدى هؤلاء الأربع: «سألني الطبيب كثيرًا عن جدتي التي قلتُ له إنها كانت تشكو من مرض عصبي، وقلت للطبيب إن مشكلتي الحالية لها علاقة بالماضي أكثر مما لها علاقة بالحاضر، ولم أكن أقتنع بمنطق الطبيب؛ لأنه كان يشبه منطق أمي التي كانت كلما شكوتُ لها من العذاب الذي أعيشه مع زوجي قالت لي في هدوء: «اصبري يا ابنتي، فسوف يعوِّض الله صبرك خيرًا في الآخرة»، كان منطق أمي أن العلاج الوحيد لحالتي لن يكون إلا في الآخرة بعد أن أموت، أمَّا الطبيب فكان يرى أن السبب الوحيد لحالتي قد حدث قبل أن أُولَد، وكلاهما لم يكن يهتمُّ بالمشكلة الحقيقية في حياتي الحاضرة، وهي زوجي.»
وقد استمتعتُ كثيرًا بالحديث إلى مثل هؤلاء النساء العصابيات الذكيات؛ فقد كان لبعضهن قدرة نادرة على السخرية الذكية الواعية، وكانت الواحدة رغم مشاكلها النفسية أكثر وعيًا بأسباب مشاكلها من الطبيب الذي يعالجها، لكنها لم تكن تجد ثمة شخصًا آخر تلجأ إليه إلا الطبيب النفسي. وقد اقتنعتُ بعد فحصي لحياة هؤلاء النساء والفتيات بأن سيطرة الزوج على زوجته أو ضرب الأب لابنته يسبب العصاب للمرأة أكثر مما تسببه الوراثة أو الكروموسومات.
وقد اتضح من نتائج البحث أن نسبة ممارسة العادة السرية أو المداعبات الجنسية في مرحلة الطفولة أكثر ارتفاعًا بين النساء العصابيات (٦٤ بالمائة) عنها بين النساء الطبيعيات (٢٠ بالمائة)، وقد وجدتُ أن سبب ذلك هو أن المرأة العصابية أكثر جرأةً وأقل كَبتًا من المرأة الطبيعية، وإذا عرفنا أن جميع الأطفال لهم حياتهم الجنسية الطبيعية من حيث المداعبات أو غيرها، فإننا ندرك أن إحجام المرأة الطبيعية عن مثل هذه المداعبات (سواء كان هذا الإحجام صحيحًا أو لمجرد الخوف من التصريح بمثل هذه الأفعال الجنسية في هذه السن المبكرة) ليس صفة طبيعية بقدر ما هو الخوف أو الكبت بسبب التربية القائمة على التحذير والتخويف، أو بسبب عملية الختان التي أُجريت على نسبة (٩٠ بالمائة) من النساء والفتيات الطبيعيات مقابل (٧٧ بالمائة) من النساء العصابيات؛ ففي هذه العملية تم استئصال البظر في جسم الفتاة قبل أن تبلغ سن الرشد (قبل مجيء الدورة الشهرية) وذلك بين خمس سنوات إلى تسع سنوات في معظم الحالات. وقد اتضح لي من مناقشة النساء والفتيات حول هذه العملية أن معظمهن لا يعرفن شيئًا عن مضارها، وبعض منهن يتصورن أنها عملية صحية من أجل النظافة والطهارة (تُسَمَّى العملية باللغة العامية: الطهارة)، وبالرغم من أن نسبة إجراء هذه العملية بين النساء المتعلمات أقل مما هي بين النساء غير المتعلمات (٦٦٫١٢ بالمائة مقابل ٩٧٫٥ بالمائة)، إلا أن معظم النساء المتعلمات اللاتي تحدثتُ معهن لم يفطنَّ إلى آثار العملية على صحتهن النفسية أو الجنسية، وقد كان الحوار يدور بيني وبين المرأة أو الفتاة على النحو التالي:
– هل أُجريَتْ لكِ عملية الختان (الطهارة)؟
– نعم.
– كم كان عمرك في ذلك الوقت؟
– كنت طفلة حوالي سبع أو ثماني سنوات.
– هل تذكرين كيف حدثت العملية؟
– بالطبع؛ لا يمكن أن أنسى.
– هل شعرتِ بخوف؟
– بالطبع، وقد اختفيت منهم فوق الدولاب (أو في حالات أخرى تحت السرير أو عند الجيران …) لكنهم أمسكوني وأنا أرتعد من الخوف.
– هل شعرت بألم؟
– بالطبع، كان الألم مثل النار، وصرختُ، وكانت أمي تمسك رأسي كي لا أحركه، وخالتي تمسك ذراعي اليمنى، وجدتي تمسك ذراعي اليسرى، وامرأتان غريبتان لم أرهما من قبل كل واحدة منهما تمسك ساقًا من ساقَيَّ وتشدُّها بكل قوتها بعيدًا عن الساق الأخرى، أمَّا الداية فقد جلست بينهما ومعها الموس الذي قطعتْ به البظر، ومن شدة الألم والذعر فقدتُ الوعي بعد لسعة الألم الشديدة مثل النار.
– ماذا حدث بعد العملية؟
– شعرتُ بآلام شديدة في جسدي، ظللتُ في السرير أيَّامًا لا أستطيع السير، واحتبس البول فترة من شدة الألم أثناء التبول، وظل الجرح ينزف، وأمي تضع عليه شاشًا وقطنًا حتى الْتأم الجرح.
– ماذا كان شعورك حين علمتِ أنك فقدت عضوًا من أعضاء جسمك؟
– لم أكن أعرف شيئًا عن هذه العملية سوى أنني سمعتُ من أمي أنها عملية بسيطة جِدًّا، وتُجرى لكل البنات من أجل الطهارة والنظافة وحُسن السمعة، وأن البنت التي لا تُطهَّر بهذه العملية تصبح عرضة لألسنة الناس، وتسوء أخلاقها، وتجري وراء الرجال، ولا يقبل على الزواج منها أي أحد، وسمعت من جَدَّتي أن العملية ليست إلا إزالة قطعة صغيرة جِدًّا من اللحم بين فخذيَّ، وأن بقاء هذه القطعة الصغيرة في جسدي يجعله قذرًا ومُدنَّسًا وقبيح المنظر، يُنفِّر الرجل الذي سيتزوجني.
– هل صدَّقتِ هذا الكلام؟
– بالطبع صدَّقتُه، وفرحتُ بعد شفائي من العملية، وأحسستُ أنني تخلصتُ من شيء كان لا بد أن أتخلَّص منه، وأنني أصبحتُ نظيفة وطاهرة.
كانت هذه إجابة معظم الحالات، متعلماتٍ وغيرَ متعلمات، وكانت إحدى الحالات طالبة بكلية طب عين شمس بالسنة النهائية، وكنتُ أتوقع أنها ستقول لي كلامًا مختلفًا، لكن إجابتها كانت مُشابهة للإجابة السابقة. ودار بيني وبينها حوار أذكره على النحو التالي:
– ولكنك ستصبحين طبيبة بعد عدة أسابيع، فكيف يمكن أن تصدِّقي أن قَطْع البظر من جسد الفتاة أمر صحي، أو على الأقل غير ضار؟
– هذا صحيح، فإن علوم الطب ليس من بينها علم الجنس حتى اليوم، وأعضاء المرأة الجنسية هي الأعضاء التناسلية فقط (الرحم والمهبل والمبيضان)، أمَّا البظر فهو عضو يُهملُه الطب كما يُهمله المجتمع.
– أذكر أن أحد الطلبة سأل الأستاذ مرة عن البظر، فإذا بوجه الأستاذ يحمرُّ ويردُّ عليه بغلظة قائلًا إن أحدًا لن يسأله في الامتحان عن هذا، وليس لهذا العضو أهمية تُذكَر.
وقد حاولت أن أعرف أثر هذه العملية على النساء والفتيات على حياتهن النفسية أو الجنسية، وقد أجابتني معظم الطبيعيات — اللاتي كُنَّ أكثر شعورًا بالخجل والحرج تجاه مثل هذه الأسئلة من العصابيات — بأن العملية لم تؤثر عليهن في شيء، ولم أكن أكتفي بهذه الإجابة، وكنت أسأل كل واحدة عن حياتها الجنسية قبل عملية الختان وبعدها، وكان الحوار بيني وبين المرأة يدور على النحو:
– هل شعرتِ بأي تغيير في مشاعرك أو رغباتك الجنسية بعد عملية الختان؟
– كنتُ طفلة صغيرة ولم أكن أشعر بشيء.
– ألم تكن لك رغبة جنسية وأنت طفلة؟
– لا، أبدًا، وهل الأطفال لهم رغبات جنسية؟
– الأطفال يشعرون بلذة حين يلمسون أعضاءهم، وتحدث بينهم في سن مبكرة مداعبات جنسية، ويلعبون عريس وعروسة تحت السرير معًا، ألم تلعبي عريس وعروسة مع أصدقائك الأطفال؟
وهنا كان يحمر وجه المرأة أو الفتاة، وقد تحرك عينيها بعيدًا عن عينيَّ حتى لا ألحظ اضطرابها، وبعد مزيد من الحديث والفهم والطمأنينة تبدأ الواحدة منهن تحكي عن ذكرياتها وهي طفلة، وأنها شعرت بلذة جنسية حين كان يداعبها جنسيًّا رجلٌ من أفراد الأسرة، أو الخادم، أو البواب، أو المدرس الخصوصي، أو ابن الجيران، وقالت لي طالبة جامعية إن أخاها الأكبر كان يداعبها، وكانت تشعر بلذة، وأنها فقدت هذه اللذة بعد عملية الختان، وذكرت لي امرأةٌ متزوجةٌ أنها لا تشعر بأي لذة جنسية مع زوجها، وأن آخر عهدها باللذة كان منذ عشرين عامًا أو أكثر حين كانت طفلة في السادسة قبل أن تُجرَى لها عملية الختان، وقالت لي فتاة إنها مارست العادة السرية وهي طفلة، ثم توقفت بعد أن أَجْروا لها عملية الختان وهي في العاشرة من عمرها، وبمزيد من التعمق في الأسئلة كانت المرأة منهن تفتح قلبها وتحكي أدقَّ أسرارها في الطفولة والمراهقة. وقد لاحظتُ أن العصابيات أكثر استعدادًا وقدرةً على التعبير والمصارحة في حديثهن معي، وكنت أنفق مع المرأة الطبيعية ضعف الوقت تقريبًا الذي أنفقه مع المرأة العصابية من أجل الوصول إلى الإجابة الصريحة نفسها، وقد أصرَّت إحدى النساء الطبيعيات المتعلمات أنها لم تشعر بأية رغبة جنسية وهي طفلة قبل عملية الختان ولا بعدها، بل إنها كانت تنفر من الذكور وتبتعد عنهم، وقد التقيت بهذه السيدة أكثر من مرة، وفي إحدى المرات قالت لي دون أن تدري إن هناك حادثًا معيَّنًا لا تنساه منذ الطفولة، وشرحت لي كيف أخذها ابن عمها ذات يوم إلى سطح المنزل وجعلها تخلع السروال، وأنها شعرت بلذة، لكنها أصبحت تخاف منه وأصبحت تخاف أن يقول لأمها أو لأبيها.
وقد استطعت لكوني امرأة وطبيبة أن أحصل من هؤلاء النساء والفتيات على اعترافات قلَّما يحصل عليها باحث من الرجال؛ فالمرأة المصرية بحكم تربيتها الصارمة المرتكزة على إنكار الحياة الجنسية للبنات قبل الزواج ترفض التصريح بأنها عرفت شيئًا من هذا الجنس قبل الزواج، وهي تخجل من الحديث في هذه الأمور أمام أي رجل حتى وإن كان طبيبها المعالج.
وقد اتضح لي من مناقشة بعض أطباء النفس الذين كانوا يشرفون على علاج بعض النساء العصابيات في مجموعة بحثي أن هؤلاء الأطباء يجهلون الكثير عن حياة المرأة أو الفتاة العصابية التي يشرفون على علاجها، وكان سبب ذلك إمَّا أن الطبيب نفسه لم يتعمق بالقدر الكافي في حياة المرأة النفسية والجنسية، وإما أن المرأة تحرَّجت من التصريح له بحقائق حياتها.
وقد وجدتُ من خلال مناقشتي لمعظم أطباء النفس في مجتمعنا المصري، ومن خلال زمالتي لعددٍ كبير من الأطباء ولمعظم أطباء النفس في مجتمعنا المصري، ومن السنوات الأربع التي أصبحتُ فيها عضوًا في مجلس نقابة الأطباء؛ من خلال كل ذلك فقد وجدتُ أن مهنة الطب في مجتمعنا قاصرة حتى اليوم عن إدراك المشاكل الحقيقية الأساسية التي يُعاني منها المريض، سواء كان رجلًا أو امرأةً، وبالذات إذا كانت امرأة؛ فإن مهنة الطب كغيرها من المهن تخضع للقيم السياسية والاجتماعية والأخلاقية في المجتمع، بل إنها كغيرها من المهن أحد الأجهزة التي تُستخدَم أحيانًا لحماية هذه القيم والمحافظة عليها.
ويُمثِّل الرجل الأغلبية العددية في مهنة الطب كغيرها من المهن، وبالإضافة إلى الأغلبية العددية، فإن معظم النساء من الطبيبات لا يختلفن في أفكارهن عن الرجال الأطباء، بل إنني عرفت من الطبيبات من هن أكثر تزمُّتًا وتخلُّفًا في نظرتهن إلى المجتمع والحياة والناس والقيم السائدة.
وقد حاولت أن أُجري هذا البحث نفسه في قسم الأمراض النفسية بكلية طب قصر العيني بالقاهرة منذ سنوات، لكني صادفت من العقبات ما جعلني أصرف النظر عن الفكرة، وكان أول هذه العقبات هي العقلية التقليدية السائدة لدى الأطباء المسئولين عن البحوث، هذه العقلية التي ترى أن كلمة «جنس» مرادفة لكلمة «عيب»، وأن البحث العلمي المستخدم يحب ألا يخوض في مثل هذه المسائل، وقد صادفت العقبة نفسها في كلية طب عين شمس، ونصحني أحد الزملاء الأطباء في لجنة البحوث ألا أُشير بحرفٍ واحد إلى كلمة «جنس» في اسم البحث حتى لا تعترض عليه لجنة البحوث، وكنت أفكِّر في أن يكون عنوان بحثي «المشاكل التي تعترض الحياة الجنسية للمرأة المصرية»، وبعد مفاوضات طويلة مع بعض الزملاء الأطباء في طب عين شمس حذفتُ كلمة «الجنسية» ووضعتُ مكانها كلمة «النفسية»، وبذلك زالت الحساسية لدى الأطباء المسئولين، وتمت الموافقة على إجراء البحث في كلية طب عين شمس، وهذا الكلام ليس خروجًا عن مناقشة نتائج البحث، بل إنه في صلب الموضوع؛ لأنني بعد أن حصلت على تلك النسب المرتفعة من النساء والفتيات اللاتي أُجريَتْ لهن عملية الختان في الطفولة أو اللاتي تعرضن في الطفولة لحوادث جنسية من رجال كبار، أصبحتُ أبحث في كليات الطب ومراكز البحوث عن بحوثٍ سابقة أُجريَتْ في مثل هذه المجالات دون جدوى، فإن أحدًا من الأطباء أو الباحثين أو الباحثات لم يُقدِم على بحثٍ من هذا النوع بسبب حساسية الموضوع، ولأن معظم البحوث لم تكن إلا بحوثًا شكلية من أجل الحصول على الشهادة أو الترقية، وأغلبية الباحثين والباحثات يبحثون عن طريق السلامة أو أقصر طريق للوصول إلى الهدف المنشود (الشهادة أو الترقية)، وليس هناك من يبحث عن المشاكل أو الصراعات مع المسئولين عن العلم أو الدين أو الأخلاق أو الفضيلة، حيث إن كل هذه الأشياء مجتمعة تعاني من مرض الحساسية تجاه كلمة «جنس»، وبالذات «الجنس» فيما يخص «المرأة».
إلا أنني بالرغم من كل ذلك فقد عثرت على بعض الأطباء من ذوي الشجاعة العلمية الذين شجعوني على إجراء البحث، منهم الدكتور أحمد عكاشة والدكتور عادل صادق بكلية طب عين شمس، بل إنني أيضًا عثرت على بعض الأطباء من ذوي الشجاعة العلمية الذين أقدموا على إجراء البحث العلمي الوحيد في مصر عن ختان البنات وآثاره الضارة، وقد أجرى هذا البحث الدكتور محمود كريم والدكتور رشدي عمار سنة ١٩٦٥ في كلية طب عين شمس، ويشتمل البحث على جزأين: الجزء الأوَّل وعنوانه: أثر ختان البنات على الرغبة الجنسية عند المرأة، والجزء الثاني بعنوان: مضاعفات ختان البنات. وكان من نتائج هذا البحث الذي أُجريَ على ٦٥١ امرأة مُختَّنة (تم إجراء عملية الختان لهن في الطفولة) ما يلي:
-
(١)
أن عملية الختان عملية ضارة بصحة المرأة، وهي تسبب صدمة جنسية للفتاة، ولها أثر مؤكد على إضعاف قدرة المرأة عن الوصول إلى قمة اللذة الجسدية (الأورجازم)، ولها أثر أقل درجة على رغبة المرأة الجنسية.
-
(٢)
أن التعليم يساعد على الإقلال من انتشار هذه العادة، حيث إن الآباء والأمهات المتعلمين أصبحوا يرفضون إجراء هذه العملية على بناتهم، أمَّا الأسرة غير المتعلمة فلا تزال تختن خضوعًا للتقاليد السائدة أو اعتقادًا بأن هذه العملية تقلل من الرغبة الجنسية عند البنت بهدف المحافظة على عذريتها وعفَّتها.
-
(٣)
ثبت خطأ الفكرة التي كانت تقول بأن عملية الختان تمنع حدوث أمراض سرطانية لأعضاء المرأة الجنسية الخارجية.
-
(٤)
أن عملية الختان بجميع درجاتها، وعلى الأخص الدرجة الرابعة المعروفة باسم النوع الفرعوني (الطريقة السودانية في الختان) تصاحبها مضاعفات مباشرة أو بعد فترة من الزمن، مثل: النزيف، الالتهابات، اضطرابات في المجاري البولية، أكياس أو أورام قد تسدُّ مجرى البول أو الفتحة التناسلية، إلى غير ذلك.
-
(٥)
وُجد أن ممارسة العادة السرية لدى البنات «المختنات» أقل من النسبة التي ذكرها كينزي في بحثه عن البنات غير المختنات.
وقد التقيت بالدكتور محمود كريم في القاهرة، وعرفت منه أنه صادف كثيرًا من العقبات أثناء إجراء هذا البحث، وأنه تعرض لكثير من النقد من بعض الأطباء وبعض رجال الدين الذين يَعُدُّون أنفسهم حُماة الأخلاق، والذين يتصور بعضهم أن التعرض لمثل هذه الموضوعات مساس بالأخلاق والتقاليد والدين.
وقد اتفقت بعض نتائج هذا البحث مع نتائج البحث الذي قمت به، حيث إن عملية الختان تُحدِث في حياة البنت صدمة نفسية وجنسية، وإنها تصيبها بنوع من البرود الجنسي تختلف درجته من امرأة إلى امرأة ومن ظرف إلى ظرف، كما أن التعليم يساعد على إحجام الآباء والأمهات عن إجراء العملية لبناتهم، لكن التعليم (في رأيي) وبالذات التعليم التقليدي في المدارس والجامعات، الذي يهدف إلى الحصول على الشهادة وليس الحصول على الثقافة، هذا التعليم الشكلي لا يستطيع الوقوف بقوة في وجه التقاليد الراسخة في المجتمع المصري، وبالذات التقاليد المتعلقة بالجنس وعُذرية البنات وعِفَّة النساء، لارتباط مثل هذه التقاليد بالقيم الأخلاقية والدينية الحساسة السائدة منذ مئات السنوات.
وحيث إن عملية الختان هدفها الأوَّل والأخير هو ضمان عذرية البنت وضمان عِفَّتها قبل الزواج وبعده، فليس من المتوقع أن تنقرض هذه العملية بسهولة في المجتمع المصري (أو غيره من المجتمعات التي تسود فيها القيم والتقاليد نفسها)، إلا أن كثيرًا من الأسر المتعلِّمة أصبحت تنْتَبه لمضارِّ هذه العملية وتحمي بناتها منها، كما أن طريقة إجراء العملية أصبحت أقل وَحْشية، وانخفضت نسبة الطريقة الفرعونية بدرجاتٍ كبيرة في المجتمع السوداني وفي جنوب مصر، وأصبح الاتجاه إلى التخفيف من درجة هذه العملية باستئصال البظر وحده أو جزء من البظر فقط، وكنتُ قبل أن أُجري هذا البحث أظن أن هذه العادة لا تعيش إلا في الريف المصري وبين الأسر غير المتعلمة، لكني وجدت أن نسبة غير قليلة من الأسر المتعلمة في القاهرة لا تزال تؤمن بإجراء هذه العملية كوسيلة لحماية البنت من الزلل.
وقد أيقنتُ خلال هذا البحث أن كثيرًا من الأسر المتعلمة وغير المتعلمة لا تزال تؤمن بأن القياس الوحيد لشرف البنت هو عذريتها ليلة الزفاف، وأن معظم الرجال المصريين لا يتزوجون إلا العذراء، وقد وجدتُ أن أكثر ما يهدد سمعة الأسر أو شرفها هو سلوك بناتها ونسائها وحياتهن الجنسية التي يجب أن ترتكز أساسًا على العفة والزهد، إلا أنني وجدت أن هذا التشدد الأخلاقي الظاهري يقابله تسيُّبٌ أخلاقيٌّ في الخفاء؛ فالأب الذي يضرب ابنته لأنها حادثت زميلًا لها؛ يخون زوجته في معظم الأحيان، والأخ الذي يتظاهر بالتدين بالنهار يمد يده في الليل ليلمس جسد أخته الصغيرة.
إن الازدواجية الأخلاقية تقود بطبيعة الحال إلى التناقضات، وقد كنتُ أدرك من خلال عملي كطبيبة أن حوادث الاعتداء الجنسي على البنات والأطفال ليست بالقليلة في مجتمعنا؛ لأن مثل هذه الحوادث لا يدري عنها أحد، وإذا ضُبطت بالصدفة فإن كثيرًا من الأسر تتكتم الأمر حفاظًا على سمعة الأسرة وبناتها.
وقد وجدت في البحث أن نسبة مثل هذه الحوادث الجنسية في الطفولة مرتفعة في حالة النساء غير المتعلمات عنها بين النساء المتعلمات، ونسبة المشاكل الاقتصادية أكثر ارتفاعًا في المجموعة غير المتعلمة، ومعظم هؤلاء يعيشون في بيوت صغيرة، وأفراد مثل هذه الأسر كثيرة الإنجاب، وقد يعيش في حجرة النوم الواحدة عدد من الإخوة الذكور والأخوات البنات، وقد يكون معهم أيضًا الأب والأم، وفي مثل هذه الظروف تزيد نسبة العلاقات الجنسية السطحية وغير السطحية بين أفراد الأسرة الواحدة. قالت لي واحدة من العاملات في إحدى شركات الأدوية: «كنت وأنا طفلة أرقد بين أبي وأخي، ولا أعرف في الليل مَن منهما الذي يمد يده ويلمس جسدي، وكنت أتظاهر بالنوم خوفًا من أمي التي كانت ثقيلة النوم لا تدري شيئًا عما يحدث.»
وقد وجدت أن نسبة مثل هذه الحوادث الجنسية مع رجال كبار تبلغ ٤٥ بالمائة في حالة النساء غير المتعلمات (عصابيات وطبيعيات)، أمَّا في حالة الطبيعيات (متعلمات وغير متعلمات) فهذه النسبة ٣٥ بالمائة، وهي تزيد عن النسبة التي حصل عليها كينزي في بحثه، إذ وجد أن هذه النسبة هي ٢٤ بالمائة فقط، وأنا لا أستطيع مقارنة مثل هذه النسب في مجتمعات شديدة الاختلاف في الظروف الاجتماعية والثقافية كالمجتمع المصري والمجتمع الأمريكي مثلًا، كما أن هناك فارقًا زمنيًّا يبلغ عشرين عامًا بين بحث كينزي وهذا البحث، إلا أنني أستطيع أن أقول إن مثل هذه الحوادث الجنسية مع رجال كبار تزداد في المجتمع أو في الأسرة المكبوتة جنسيًّا، والتي ترتكز فيها التربية على إنكار الجنس أو احتقاره، وفي مثل هذا الجو المكبوت قد لا يجد الشخص وسيلة للتخلص من توتُّره الجنسي إلا من خلال طفلة ترقد بجواره على السرير، وهي تنتشر أيضًا في مجتمعنا المصري بسبب الوضع الأدنى للفتاة والمرأة في الأسرة، والازدواجية الأخلاقية التي تسهل في مجتمعنا للرجل استغلال المرأة اجتماعيًّا أو اقتصاديًّا أو جنسيًّا، وفي حالة اعتدائه الجنسي عليها فإنه يدرك أنها هي التي تتحمل أثر الاعتداء، إنها هي التي تفقد عذريتها أو شرفها أو سمعتها، أمَّا هو فلا يفقد شيئًا.
إن مفهوم الشرف مرتبط في المجتمع المصري بما يُسَمَّى «العِرض» أو عذرية الفتاة قبل أن تتزوج، وإخلاصها لزوجها وطاعته بعد الزواج، فإذا ما فقدت البنت عذريتها لأي سبب، وإن كان اغتصابًا رغم أنفها، فإنها تصبح فتاة بغير عذرية أو بغير شرف، وإن شرف الأسرة أو عِرضها قد أصبح في الأرض، وعلى رجال الأسرة أن يستردُّوا شرفهم الضائع إمَّا بقتل الفتاة (كما يحدث في الصعيد أحيانًا) أو بكتمان الأمر (الذي يُسَمَّى الفضيحة) وتزويجها في السر من الرجل الذي اعتدى عليها أو أي رجل آخر يتطوع للزواج منها، ويُعتبَر هذا الرجل المتطوع شهمًا مُضحِّيًا بنفسه من أجل إنقاذ شرف الأسرة، وكأنه يتطوع للموت في الحرب مثلًا أو في كارثة وليس أنه يقبل على الزواج من فتاة.
لكن الزواج من فتاةٍ غير عذراء يُعتبَر حتى اليوم في مجتمعنا المصري أمرًا مكروهًا لا يقبله أي رجل، وإذا اكتشف الرجل أن عروسه غير عذراء ليلة الزفاف فسرعان ما يُطلِّقها، فتنتشر الفضيحة والعار الذي يلحق بأسرة الفتاة التي قد تكون بريئة تمامًا من أي تجربةٍ جنسية قبل الزواج، وإنما شاء حظها العاثر ألا تنزف ليلة الزفاف أو قادها حظها العاثر إلى زوج لا يعرف العذراء من غير العذراء، وهذا أمرٌ صعب لا يمكن أن يعرفه أحد، وكم يجهل هذا الأمرَ أيضًا معظمُ الأطباء! ولأن العُذرية لا تُعرَف إلا بالنزيف الدموي ليلة الزفاف، وكم من عذراوات لا ينزفن قطرة واحدة ليلة الزفاف! بسبب اختلاف أغشية البكارة واختلاف أحجام أعضاء الرجال الجنسية، وبسبب حوادث غير جنسية في حياة البنات أو حوادث وقعت في طفولة البنت المبكرة؛ مثل هذه الاعتداءات الجنسية من رجال الأسرة ذاتها أو من الغرباء.
وقد أظهرت نتائج البحث أن أغلبية الأسر في المجموعات الأربع تفضل الذكور على الإناث (٧٢٫٥ بالمائة في المتوسط)، لكنها تزيد في الأسر غير المتعلمة عنها في الأسر المتعلمة، وتزيد نسبة النساء والفتيات اللاتي تمنين أن يكنَّ ذكورًا في المجموعة المتعلمة عنها في المجموعة غير المتعلمة؛ ذلك أن التعليم يزيد من وعي الفتاة بحقوقها؛ فتصبح أكثر إدراكًا لمظاهر التفرقة بينها وبين أخيها، ويزداد تمردها على الوضع الأدنى وتتمنى أن تكون ضمن الجنس الأعلى، ويلعب التعليم دورًا أيضًا في تشجيع الفتاة أو المرأة على مقاومة الكبت، ويجعلها أكثر جرأةً في ممارسة الجنس أو محاولة إرضاء رغبتها الجنسية أو الفكرية، فقد لوحظ ارتفاع نسبة الطموح الفكري وتفضيل التعليم على الزواج بين المتعلمات (٨٦٫٢ بالمائة).
ويدل ارتفاع نسبة تفضيل التعليم على الزواج في المجموعات الأربع على أن الطموح الفكري والرغبة في التعليم والعمل على تحقيق الذات من خلال العمل المنتج (وليس من خلال الزواج) هي صفات طبيعية في المرأة لا تُغيِّر من كونها أنثى، وأنها حين يُفرَض عليها الزواج كوظيفة وحيدة في الحياة تشعر بالإحباط والنقص وعدم تحقيق الذات، وتتعرض للمشاكل النفسية وللعصاب، وقد اتضح من نتائج البحث أن المرأة العصابية أكثر طموحًا في الحياة من المرأة الطبيعية، وأنها تشعر بكونها إنسانة لها عقل وجسد أكثر من المرأة الطبيعية التي تقتل طموحها الفكري في الحياة من أجل الزواج أو النجاح في حياتها الزوجية.
وحيث إن المجتمع ما زال ينظر إلى أن الوظيفة الأساسية للمرأة في الحياة هي الزواج؛ ولهذا تواجه المرأة الطموحة فكريًّا العراقيل والصعاب التي تقودها أحيانًا إلى العصاب، وتواجه المرأة العصابية المشاكل الجنسية والمشاكل الأسرية أكثر من المرأة الطبيعية بسبب رغبة المرأة العصابية في الانطلاق والتساوي مع الرجل في الحرية الاجتماعية والشخصية، وهو مطلب طبيعي للمرأة التي تشعر بإنسانيتها وتكامل شخصيتها كجسم وعقل، أمَّا المرأة الطبيعية فإن قبولها للأمر الواقع وتكيُّفها معه يجعلها أكثر استسلامًا للقيود الجنسية والاجتماعية والأسرية، وبالتالي أقل مواجهةً لمشاكل العصاب من المرأة غير المكبوتة أو العصابية.
وقد لوحظ في نتائج هذه الدراسة ارتفاع نسبة المشاكل داخل الأسرة بين المتعلمات العصابيات (٤٦ بالمائة) عنها بين المتعلمات الطبيعيات (١٣٫٣ بالمائة)، وهذا يشير إلى أن المشاكل الأسرية خلال فترة المراهقة أكثر تأثيرًا على نفسية الفتاة من الحرمان العاطفي خلال مرحلة الطفولة.
وقد يكون سبب ذلك أن القيود والكبت والتحذيرات تزيد على الفتاة في سن المراهقة عنها في مرحلة الطفولة، وأن الطفلة البنت تتمتع بحرية اجتماعية أكثر من الفتاة المراهقة؛ ولهذا تزيد وطأة المشاكل الأسرية على الفتاة المراهقة أكثر من الطفلة البنت، وتشعر الفتاة المراهقة بالظلم والاضطهاد وتمييز الذكور عليها أكثر من الطفلة البنت.
وقد اتضح من البحث أن ٥٨ بالمائة من العصابيات المتعلمات لديهن مشاكل بسبب الدورين داخل البيت وخارجه، وهذه النسبة مرتفعة عن حالة الطبيعيات المتعلمات، حيث لا تشعر بمثل هذه المشكلة إلا ١٦٫٦ بالمائة منهن فقط، وهذا يشير إلى أن من العوامل التي تسبب العصاب للنساء والفتيات مشكلة الجمع بين الدورين داخل البيت وخارجه، وأن مثل هذه المشكلة لا يواجهها الرجل الذي لا يُطلَب منه أي عمل أو مسئوليات داخل البيت، وبازدياد خروج المرأة للتعليم والعمل، فإن أثر هذه المشكلة يزداد، خاصةً أن عقلية الرجل والمجتمع عامة لا تزال ترى أن أعمال البيت هي مسئولية المرأة وحدها، وأن الرجولة أو الذكورة تقتضي من الرجل ألا يكنس ويمسح ويغسل الصحون؛ فهذه أعمال لا تليق بكرامة الذكر وإنما هي تليق فقط بجنس الإناث الأدنى.
أمَّا ارتفاع نسبة المشاكل بسبب الدورين داخل البيت وخارجه بين النساء غير المتعلمات، فقد يرجع إلى أن هؤلاء النساء لا يستطعن الاستعانة بخادمة أو شغَّالة؛ نظرًا لانخفاض مستوى حياتهن الاقتصادي. ويدل الارتفاع هنا في نسبة من لا يُرضي مستوى العمل طموحَها على انخفاض العمل في مجموعة العاملات غير المتعلمات (كان أغلبه روتينيَّا أو آليًّا أو يدويًّا أو أحد أعمال الخدمة المنزلية).
وإذا عرفنا أن مجتمع العمل أو الدراسة لا يساوي في نظرته بين المرأة والرجل، وبالذات في حالة غير المتعلمات، لأدركْنا أن المرأة غير المتعلمة أكثر استسلامًا للتفرقة والاضطهاد من المرأة المتعلمة، وأن المرأة الطبيعية أكثر استسلامًا من المرأة العصابية، ولو أضفنا إلى ذلك أن طموح المرأة الطبيعية في العمل أو الدراسة أقل إرضاءً من المرأة العصابية، فإنه يتضح أن المرأة الطبيعية أكثر خضوعًا لظروفها السيئة من المرأة العصابية، وأن هذا الخضوع ليس نوعًا من الصحة النفسية بقدر ما هو نوع من العجز والاستسلام وعدم المقاومة.
وارتفاع نسبة المشاكل الزوجية في هذا البحث يوضح أن الزواج يمثل مشكلة كبيرة في حياة المرأة، وأنها بانتقالها من حالة كونها غير متزوجة إلى كونها زوجة تصبح معرضة لعدد من المشاكل الاجتماعية والنفسية والجنسية التي تسبب لها العصاب في أحيان كثيرة.
ويتضح أن المرأة العصابية المتعلمة أكثر المجموعات قدرةً على اختيار زوجها عن حب، وأن أقلهن في هذا الشأن هي المرأة الطبيعية غير المتعلمة، ورغم ذلك فإن المرأة الطبيعية غير المتعلمة هي أقل المجموعات إقدامًا على العلاقات الجنسية خارج الزواج، على حين أن المرأة العصابية المتعلمة هي أكثرهن إقدامًا على هذه العلاقات، ولو أضفنا إلى ذلك أن سيطرة الزوج وعدم تعاونه مع زوجته يزيد في حالة الطبيعيات غير المتعلمات، نرى أن المرأة العصابية المتعلمة أكثر من غيرها جرأةً في البحث عن إرضاء رغباتها، أكثر رفضًا لواقعها ولسيطرة الرجل، رغم أن حياتها أفضل بالنسبة للمرأة الطبيعية وبالذات غير المتعلمة.
إن نسبة العلاقات الجنسية خارج الزواج في مجموعتي العصابيات المتعلمات وغير المتعلمات كانت (٣٢٫٣ بالمائة)، وهي أكثر منها لدى مجموعتي الطبيعيات متعلمات وغير متعلمات (٩ بالمائة) بالرغم من أن عدم الإشباع الجنسي في معظم الحالات يكاد يكون متساويًا (٧٧٫٥ بالمائة و٧٠٫٤ بالمائة)، ومعنى ذلك أن المرأة الطبيعية رغم حرمانها الجنسي أقل جرأةً في ممارسة الجنس خارج الزواج من المرأة العصابية، أو أنها أقل جرأةً في التصريح بهذه الممارسة لو أنها حدثت.
وقد اتضح من النتائج أن النساء العصابيات يفضلن حياتهن عن حياة أمهاتهن بنسبة أكبر من النساء غير المتعلمات، وهذا يشير إلى أن المرأة العصابية رغم مشاكلها في الحياة أكثر طموحًا ورغبةً في التقدم والسير إلى الأمام من المرأة الطبيعية.
كما أن التعليم يلعب دورًا في أن يجعل المرأة أكثر إقدامًا على التقدم رغم ما يخلقه التقدم من مشاكل جديدة.
وقد وُجد في البحث أن العصابيات المتعلمات أكثر استخدامًا لوسائل منع الحمل من الطبيعيات، وأن الزوجات غير المتعلمات أقل استخدامًا لوسائل منع الحمل من المتعلمات.
وتفسير ذلك أن الثقافة تجعل المرأة أكثر وعيًا ورغبةً في التحكُّم في جسدها وحملها وولادتها، وأنها لا تحتاج إلى الأطفال من أجل تحقيق ذاتها من خلالهم كما تحتاج إليهم المرأة غير المثقفة، وحيث إن زيادة وعي المرأة بحقوقها كإنسانة تُعرِّضها للصراع من أجل تحقيق ذاتها داخل البيت وخارجه؛ لهذا فإن المرأة العصابية أكثر إدراكًا بأن كثرة الأطفال تمثل قيدًا للمرأة على وقتها وحريتها؛ وبالتالي هي تحاول التحرر من هذا القيد عن طريق وسائل منع الحمل. وقد لاحظتُ أن النساء العصابيات أقل التصاقًا بأطفالهن من النساء الطبيعيات، وقد فسر بعض الأطباء المعالجين مثل هذه الحالات بنقصان في مشاعر الأمومة بسبب المرض النفسي، ولكني وجدت أن شدة التصاق المرأة الطبيعية بأطفالها وتعلُّقها الشديد بهم ليس إلا أمومة مريضة متضخمة، تُعوِّض بها عن أنواع الحرمان الأخرى المفروضة عليها من الأسرة والمجتمع.
ومن أهم نتائج البحث أن المشاكل الفكرية والاجتماعية كانت أكثر أهمية لدى معظم الحالات من المشاكل الجنسية أو العاطفية.
وقد تختلف هذه النتيجة مع الفكرة الشائعة بأن المرأة أقل طموحًا من الرجل في المجالات الفكرية والاجتماعية، وأنها أكثر انشغالًا بالأمور العاطفية والزوجية والجنسية. إن المرأة ليست أقل طموحًا من الرجل في الحياة الفكرية والاجتماعية، ولكنها تَكبِتُ طموحها الفكري من أجل إرضاء الرجل، سواء كان زوجًا أو أبًا أو ولي أمر، وهي ليست أكثر من الرجل انشغالًا بالأمور الجنسية والعاطفية، العكس هو الصحيح؛ فلقد اتضح لي من الحديث مع أزواج بعض الزوجات العصابيات والطبيعيات أن الزوج أكثر حساسية لكفاءته الجنسية ورغبته في إثبات هذه الكفاءة بشتى الطرق، أمَّا المرأة فهي لا تهتم كثيرًا بدورها الجنسي أو عدم إشباعها الجنسي، وتحسُّ وطأة المشاكل الأخرى أكثر. وتفسير ذلك أن المجتمع يساعد الرجل أكثر من المرأة على إشباع طموحه الفكري والاجتماعي، فيَقلُّ انشغاله عن المرأة التي تشعر بأن المجتمع يحرمها من إشباع طموحها الفكري والاجتماعي أكثر مما يحرمها من إشباع طموحها العاطفي والجنسي. إن المرأة في نظر المجتمع أداة جنس وحب وعاطفة أكثر منها أداةً فكرية للعمل والإنتاج في المجتمع.
إن القلق يحتاج إلى درجة معينة من الوعي حتى يحدث، والقلق ليس إلا رغبةً في الحصول على المزيد، ورغبة في حياة أفضل وطموح أكبر وتحقيق نوع من التكامل والرضا عن النفس وتحقيق الذات، أمَّا الخوف فهو شعور بالضعف والرغبة في الانسحاب وعدم القدرة على مواجهة التحديات والصراعات، والهستيريا هي ذلك العجز عن مواجهة العصاب الذي يأخذ شكل العجز العضوي في أحد أعضاء الجسم. القلق هو مرض النساء القويات الصامدات اللاتي يواجهن التحديات، والهستيريا والخوف هما مرض الضعيفات العاجزات عن المواجهة؛ ولهذا فإن علاج القلق ليس هو (في رأيي) بإزالته عن طريق المهدئات والمُسكِّنات، ولكن علاج القلق هو تسليح المرأة بالقوة وإمكانيات أكثر للانتصار على التحديات وتحقيق ذاتها كإنسانة متكاملة العقل والجسد في مجتمعٍ يساوي بين جميع أفراده.
أمَّا الجدول الذي يشير إلى نسب الاعتداءات والحوادث الجنسية في حياة البنات الصغيرات، فربما يكون أقلَّ من الحقيقة؛ إذ لم يكن من السهل لكل امرأة أو فتاة أن تعترف لي بكل ما وقع لها في طفولتها رغم جهودي في هذا السبيل، كما أن ذاكرة بعض الأطفال تنسى مثل هذه الحوادث إذا حدثت في سن مبكرة جِدًّا، أو بسبب أن ذاكرة الإنسان تنسى في معظم الأحيان ما تريد أن تنساه.
إن هذا النسيان لا يعني أن الحادث ضاع في الزمن، ولكن معناه أن الحادث اختفى في سراديب العقل الباطن ورقد في الظلام، وقد يطفو على السطح حينما تساعد الظروف على إظهاره.
وقد يندهش بعض الناس لحدوث مثل هذه الحوادث الجنسية مع البنات الأطفال بواسطة الرجال الكبار الغرباء أو من أفراد الأسرة نفسها، وهذه الدهشة تدل على أن هؤلاء الناس ينسون حقائق كثيرة، ويتجاهلون تناقضات عديدة يعيشها الرجال الكبار في المجتمع، لقد وجدت أن معظم هذه الاعتداءات على الأطفال البنات تحدث في الأسر المكبوتة جنسيًّا؛ ولذلك لا يكون أمام الأخ الشاب المراهق إلا أخته الصغيرة، خاصةً إذا كانت تشاركه سريرًا واحدًا كما يحدث في الأسر ذات الموارد المحدودة، اعترفتْ لي إحدى النساء أن أخاها الذي يكبرها بأربعة أعوام اتصل بها وهي طفلة، ولم يكتف بها بل اتصل بأخواته الثلاث الأخريات الأصغر منها، مع أنه كان شابًّا طبيعيًّا ومتفوقًا في دراسته، ولم يشك فيه أحد من الأسرة. وإذا كان الأخ المحروم يعجز عن التحكم في نفسه مع أخته الطفلة، فما بال الشاب الغريب سواء كان جارًا أو بوَّابًا أو خادمًا أو مُدرِّسًا؟ ولكن من يدفع ثمن هذا؟ إنها البنت المسكينة وحدها التي تُفاجَأ في ليلة الزفاف بأنها ليست عذراء، وتحدث الكارثة التي تعصف بمستقبلها، أو إذا مرت ليلة الزفاف بسلام، فإن تجربتها السابقة والتي غلَّفتها بالإحساس بالذنب والخوف والكبت تقودها إلى البرود الجنسي وعدم القدرة على الإشباع.
إن الجدول الذي يشير إلى نسبة عدم الإشباع الجنسي في المجموعات الأربع من النساء قد لا يعبر عن كل الحقيقة؛ لأن المرأة المصرية بطبيعتها تخجل من الحديث في الجنس، وهي إذا لم تخجل فهي تجهل معنى الإشباع ولا تعرف ماذا يعني الأورجازم، وهي إذا عرفتْه نظريًّا لم تعرفه عمليًّا، وهي إذا عرفته عمليًّا فهذا أمر نادر، يتوقف أيضًا على أن يكون زوجها قادرًا على فهمها، ومتعاونًا معها إلى أبعد حدٍّ وليس أنانيًّا، وأغلبية الرجال غير ذلك بحكم التربية القائمة على تمييز الذكور عن الإناث.
إن الجدول الذي يشير إلى نسبة الأزواج الذين يتعاونون مع زوجاتهم في أعمال البيت والأطفال يمكن أن يعطينا فكرة عامة عن أن أغلبية الأزواج لا يتعاونون مع زوجاتهم، وهناك بحث محلي آخر أوضح أن غالبية الأزواج في الأسر المصرية (في الريف والحضر) لا يسهمون مطلقًا في الأعمال المنزلية أو رعاية الأطفال (فيما عدا الذهاب بهم إلى الطبيب)، وذلك فيما يقرب من ٨٥ بالمائة، هذا برغم أن معظم الزوجات الريفيات يشاركن أزواجهن العمل بالحقل أو يعملن بالتجارة، وأن نسبة غير قليلة من الزوجات في الحضر يعملن خارج البيت ويشاركن في نفقات الأسرة مع الزوج.
إن أنانية الأزواج ليست إلا نتيجة لتلك التربية التي تقوم في معظم الأسر على التفرقة في المعاملة بين الولد والبنت، وقد رأينا في جداول البحث كيف أن أغلبية الأسر المصرية لا تزال تُفضِّل الذكور على البنات، ومثل هذه التربية تخلق رجالًا ساديين أنانيين ونساء ماسوشيات سلبيات، كما أن هذه التربية تفسد العلاقات بين الرجال والنساء، وبالذات العلاقات الزوجية، وتسبب مشاكل متعددة، وخاصةً للزوجات العاملات بسبب الصراع الذي تعيشه المرأة العاملة سواء في عملها خارج البيت أو في علاقتها مع زوجها داخل البيت أو في علاقتها مع نفسها، وصراعها بين صفات الأنوثة التقليدية من طاعة وخضوع، وصفات المرأة العاملة المستقلة الشخصية والرأي. إن الدورين اللذين تقوم بهما المرأة العاملة خارج البيت وداخله يمثلان لها عبئًا جسديًّا ونفسيًّا شديدًا، وتجد المرأة العاملة نفسها أحيانًا من شدة الإرهاق ومن شدة الصراع بين الدورين، مطالبةً بأن تختار إمَّا عملها وإما حياتها الزوجية، أمَّا الرجل فهو لا يواجَه بمثل هذه المشكلة أبدًا؛ لأن المجتمع بجميع قوانينه ونظمه قد جعل العمل للرجل حقًّا وواجبًا لا نقاش فيه، وكذلك جعل البيت للرجل تخدمه فيه الزوجة وتعطيه وتلبِّي رغباته، وإلا استخدم ضدها قانون الزواج فطلَّقها أو عاقبها.
وسوف يظل الزواج مشكلة في حياة النساء العاملات إلى أن تحدث المساواة الكاملة بين الجنسين داخل الزواج وخارجه.
وبسبب التفرقة في المعاملة بين البنات والأولاد، وإعداد البنت للزواج والخدمة بالبيت أكثر من إعدادها للعمل المنتِج في المجتمع، وبثِّ صفات الأنوثة الخاطئة في نفس البنت منذ صغرها من حيث الطاعة والهدوء والاستكانة، وزجرها أو اتهامها بالاسترجال إن أبدت شيئًا من قوة الشخصية أو الاستقلال في الرأي، كل ذلك يفسد العلاقة بين الأزواج والزوجات، وتصبح الزوجة المثالية هي الزوجة المطيعة المستكِينة، وليست الزوجة الذكية صاحبة الرأي. إن ذكاء المرأة أو استقلال رأيها يعتبر عيبًا لا ميزةً، ويفسَّر تفسيرًا سيِّئًا على أنه نوع من العناد أو العصاب أو الشذوذ أو التشبه بالرجال. إن معظم الزوجات الذكيات المثقفات اللاتي تحدثتُ معهن كانت إحدى مشاكلهن الأساسية أن أزواجهن يكرهون صفة الذكاء فيهن ويقاومونها بشتى الطرق، ويفضلون عليهن النساء الغبيات؛ لمجرد أنهن يَطِعْنَهم طاعة عمياء.
وفي بحثٍ محلي اتضح أن أكثر صفات الزوجة تفضيلًا عند الأزواج (في المجموعة الريفية) هي قدرة الزوجة على قيامها بواجباتها كربَّة بيت ومدبِّرة للشئون المنزلية، وأن تكون مطيعة ومتعاونة. وبالنسبة للأزواج (في المجموعة الحضرية) فضَّلوا من صفات الزوجة الطاعة أوَّلًا، ثُمَّ القدرة على الصبر والصمود أمام الأزمات، والمشاركة في تقدير ما يتعرض له الزوج من ظروف، وحسن الخلق، وحسن التدبير في الشئون. أمَّا الصفات التي يكرهها الزوج في زوجته (في المجموعة الريفية) فهي صلابة رأيها أو عنادها، ثُمَّ عدم حب الزوجة لأهل الزوج، والتدخل في شئونه الخاصة، والغيرة من الزوجات الأخريات. وبالنسبة للأزواج (المجموعة الحضرية) فالزوج يكره في زوجته الغضب وشدة الحساسية أولًا، ثُمَّ صلابة الرأي والعناد، وعدم الاهتمام بمظهرها، والغيرة على الزوج، وعدم حبِّها لأهله، وأخيرًا رغبة الزوج في السيطرة.
أمَّا الزوجات فقد وجدت الباحثة أن الصفات التي تكرهها الزوجة في زوجها (في المجموعة الريفية) هي أوَّلًا سرعة غضب الزوج، والخضوع لأهله، وأنانيته الشديدة، وإهانة الزوجة وإساءة معاملتها، والتحكم في الزوجة واستبداد الزوج. وفي المجموعة الحضرية وجدت الباحثة تشابهًا في الصفات غير المستحَبة إلى جانب صفات أخرى لم تُشر إليها الزوجات الريفيات، وكانت من أولى الصفات غير المفضلة عندهن هي سرعة الغضب بالنسبة للزوج، ونرفزته الشديدة على أبسط الأسباب، وعدم معاملته لها كزوجة، ورأت بعض الزوجات أن أخلاق أزواجهن وتصرفاتهم كلها معيبة.
وأوضحت الدراسة أن بعض الأزواج في المجموعتين حاولوا القيام بمحاولة لتغيير هذه الجوانب في طباع زوجاتهم حتى يتم التوافق بينهم بالصورة التي يرتضونها، إلا أن نسبة الأزواج الذين فشلوا في تغيير زوجاتهم (في المجموعتين) أكبر من نسبة الأزواج الذين أحدثوا هذا التغيير، وهذا يدل في رأيي على أن مقاومة الزوجة (سواء في الريف أو المدينة) لسلطة الزوج ليست هينة، وأن الصراع بين الزوج وزوجته لا ينتهي دائمًا بخضوع الزوجة الكامل، وإنما هو خضوع جزئي أو ظاهري خوفًا من الطلاق أو المشاكل مع الزوج، وتظل المرأة في أعماقها محتفظة بصفاتها الطبيعية غير المستحبة من الزوج، وأهمها تلك الصفة التي يُطلِق عليها الزوج اسم صلابة رأي الزوجة أو عنادها، إن إفصاح الزوجة عن رأيها يعتبر في نظر الزوج نوعًا من العناد؛ لأن الزوج يرى (عُرفًا وقانونًا) أن الزوجة واجبها (الطاعة) فقط، وليس لها أن تناقش أو أن يكون لها رأي، فإذا كان لها رأي فهذا ليس ميزة فيها كإنسانة تفكر وتعتز برأيها، وإنما هو عيب وصِفَة غير مستحبة توضع تحت عنوان العناد وصلابة الرأي، ويحاول الزوج أن يصلح زوجته، وذلك بأن يحوِّلها من زوجة لها رأي إلى زوجة بلا رأي، ورأي زوجها هو رأيها، فإن فشل في إصلاحها فالويل لها، الطلاق أو الزواج بأخرى أو السبُّ أو الضرب، وفي حالة الأزواج المثقفين أو المهذبين فإنه الإهمال أو الهجران والتسلل إلى عشيقة أو امرأةٍ أخرى، تعترف له أنها تطيعه طاعة عمياء؛ لأن رأيه صائب مائة في المائة، ولأنه لا يُخطئ أبدًا، ولأنه ليس بشرًا ولكن إله.
وكم تصبح المشكلة حادَّة في حياة المرأة العاملة خاصةً إذا كانت ذكية ومثقفة؛ لأنها تضطر في كثير من الأحيان أن تتظاهر بالغباء من أجل الحفاظ على حياتها الزوجية، أو تضطر إلى تنفيذ رأي زوجها الخاطئ لأنه مصرٌّ عليه ورافض لرأيها، وهذا بطبيعة الحال يؤدي إلى إصابة النساء المتزوجات بالعصاب أكثر من النساء غير المتزوجات، والنساء الذكيات المثقفات أكثر من النساء غير المثقفات.
على أن المرأة التي حُرمت من التعليم أو حُرمت من العمل، لها أيضًا مشاكلها التي تسبب لها العصاب. إن الانقطاع عن التعليم أو العمل يسبب للمرأة وخاصةً الذكية عصابًا وألمًا نفسيًّا بسبب إحساسها بضياع مستقبلها، وعدم قدرتها على تحقيق ذاتها كإنسانة لها طموح فكري في الحياة، وتظهر هذه المشكلة بوضوح في الطبقات المستريحة اقتصاديًّا، حين تشعر المرأة غير العاملة بالفراغ القاتل وضياع حياتها هباءً، وأن الزواج لا يحقِّق ذاتها كإنسانة، فالرجل لا يحقق ذاته من خلال الزواج، وإنما من خلال العمل المنتِج في المجتمع، وتبيَّن من بعض البحوث عن المرأة أن المرأة تخرج إلى العمل تحت إلحاح الضغط الانفعالي لشعورها بالوحدة أكثر من خروجها تحت ضغط الحاجة الاقتصادية، وهذا بالطبع في غير الطبقات الكادحات والفقيرة التي تمثل الحاجة الاقتصادية السبب الرئيسي لخروج نسائها للعمل، بل إلى خروج الرجال للعمل أيضًا. إن الحاجة الاقتصادية هي التي تدفع ملايين الرجال والنساء والطبقات الكادحة والفقيرة إلى العمل، أمَّا في الطبقات المستريحة نسبيًّا، فإن الإنسان (امرأةً ورجلًا) يشعر بحاجة إلى العمل من أجل تحقيق ذاته كإنسان، ولكن العمل هنا لا بد أن يكون من ذلك النوع الذي يحبُّه الإنسان ويختاره، وليس العمل الذي يُفرض عليه ويشعر نحوه بعدم الرضا، وهذا أمر لا يتحقق في العالم لمعظم الناس (نساءً ورجالًا) بسبب النظم الاجتماعية القائمة على التنافس والاستغلال أكثر من التعاون والمساواة.
وقد اتضح من نتائج البحث أن عدم الإشباع الفكري في العمل المنتج بالمجتمع الكبير، يمثل مشكلة نفسية في حياة المرأة المصرية أكثر حدةً من عدم الإشباع الجنسي.
وهذا أمر طبيعي في حياة الإنسان (امرأةً أو رجلًا)؛ لأن الإنسان حيوان مفكِّر، والمرأة الذكية المثقفة تحتاج الإشباع الفكري من خلال العمل المنتِج أكثر من غيرها التي لم تحظَ بالثقافة والوعي والذكاء.
إن الكبت الفكري يؤدي إلى كبت جنسي، والبنت التي تُرَبَّى على كبت أفكارها وآرائها تتعوَّد أيضًا على أن تَكبِت رغباتها ومشاعرها، والكبت الفكري طوال سنوات الطفولة والمراهقة يؤدي إلى عقمٍ فكري في الشباب والكهولة، وكذلك الكبت الجنسي طوال سنوات الطفولة والشباب يقود إلى عُقمٍ جنسي (ومعناه برود جنسي) في سن النضوج والكهولة؛ لأن انتشار البرود الجنسي عند الزوجات أحد نتائج الكبت الفكري والجنسي المفروض على البنات منذ الولادة، والكبت الجنسي في مجتمعنا كان يمكن أن يكون أقل خطرًا على صحة البنات والنساء النفسية لو أن الثقافة والإعلام والفنون في مجتمعنا تخضع للقيم الأخلاقية نفسها التي تتحكم في تربية البنات، لكن هذا لا يحدث في مجتمعنا؛ لأن الذي يتحكم في وسائل الثقافة والفنون والإعلام عامةً ليست هي القيم الأخلاقية القائمة على الكبت الجنسي، وإنما هي القيم التجارية القائمة على الربح من وراء عرض أفلام الجنس والرقصات العارية وأجساد النساء وتأوُّهات المطربين والمطربات ليل نهار في الراديو والتليفزيون وعرض الأفخاذ والنهود العارية في صفحات المجلات.
ويصبح على البنت المصرية أن تحلَّ وحدها المعادلة الصعبة؛ عليها أن تتشبع بهذه الأفلام والصور والأصوات الصارخة بالجنس والشبق، وعليها في الوقت نفسه ألا تتأثر بها، وإن تأثرت (وهذا ما يحدث) فعليها أن تُخفي هذا التأثر وأن تتظاهر بشيء آخر، أمَّا أن يتحول هذا التأثر إلى فعل (وهذا أمر طبيعي عند الإنسان السليم نفسيًّا وجسديًّا) فهذه هي الطامة الكبرى التي تقع في حياة البنت، سواء انكشفت أو لم تنكشف، إن انكشافها يقود إلى فضيحة علنية يضيع فيها مستقبل البنت أو حياتها، وإن عدم انكشافها يقود إلى إحساس طاغٍ بالخوف أو الذنب يلازمها طوال حياتها ويسبب لها البرود الجنسي أو العصاب أو ما شابهه، وفي جميع الأحوال لا يؤدي الكبت والتناقضات التي يفرضها المجتمع على البنت إلا إلى التعاسة العامة التي تشعر بها النساء والفتيات من جميع الأعمار، المتزوجات منهن وغير المتزوجات، وقد تُنكر بعض النساء هذه التعاسة، ويتوهمن أنهن سعيدات، لكن المرأة منهن لا تصمد طويلًا أمام الأسئلة التي تجعلها تُعيد التفكير في حياتها وفي سعادتها السطحية، إحدى هؤلاء أقنعتني أول الأمر أنها سعيدة وراضية بزوجها وأطفالها وأسرتها، ولا ينقصها شيء، وحينما بدأت أسألها عن طفولتها تلعثمت بعض الشيء، وحينما سألتها عن طموحها في الحياة قالت إنها دفنتْ هذا الطموح في اليوم الذي تركت فيه الدراسة لتتزوج، وحينما سألتُها عن حياتها الجنسية مع زوجها، وهل تحصل على الإشباع؟ قالت إنها لا تعرف شيئًا عن هذا، ولا تمارس الجنس إلا لتُرضي زوجها، أمَّا هي فيكفيها سعادة أن زوجها لا يتذمر، ولا يشخط كالأزواج الآخرين، ولا يدخِّن، ولا يعربد مع النساء، وهو رجلٌ مستقيم لا يعرف الطريق إلا من مكتبه إلى بيته، وهي تعتبر نفسها زوجة محظوظة بالنسبة لغيرها من الزوجات اللائي يتعرضن للشتم أو الضرب أو الطلاق.
هذه السعادة في علم النفس تشبه سعادة العبيد؛ فالعبد يشعر بالسعادة في اليوم الذي لا يضربه فيه سيده، والخادم يشعر بالسعادة في اليوم الذي لا يشخط فيه سيده، والزوجة تشعر بالسعادة لأن زوجها لا يشتمها ولا يضربها ولا يعربد مع النساء ولا يطلِّقها، وهذا كله لا يمكن أن يُسَمَّى سعادة بالمعنى الحقيقي أو بالمعنى الإنساني، سعادة الإنسان لا يمكن أن تكون سعادة سلبية، لا يمكن أن يسعد الإنسان لأنه لا يتعرض لأذًى معين، ولكن الإنسان يسعد لأنه يفعل شيئًا، وهذه هي السعادة الإيجابية، الإنسان يسعد لأنه يفكر ويعمل وينتج.
بعض الأزواج انزعجوا حينما بدأت عيون زوجاتهم تتفتح، أو أنها كانت مفتوحة من قبل لكنهن كن يعجزن عن إظهار ما يعتمل داخلهن خشية الطلاق أو البهدلة (كما عبرت إحداهن). وقال لي أحد الأزواج في انزعاج: لقد بدأتْ زوجتي تشعر بالقلق وبدأتْ تشعر بالحنين إلى استكمال دراستها التي قطعتها حين تزوجت، لقد كانت هادئة وراضية بحياتها، ولكنها الآن لم تعُدْ راضية. وسألني بشيء من الغضب قائلًا: هل تعتقدين يا دكتورة أن تحويل الزوجة الراضية إلى زوجة غير راضية أمرٌ مفيد صحيًّا لها؟ وقلت له: نعم بالطبع، وهذه هي إحدى فوائد المعرفة والوعي والثقافة، إن المعرفة هي إثارة عدم الرضا في نفس الإنسان من أجل أن يعمل على تغيير حياته إلى الأفضل، ولولا عدم الرضا لما تقدم الإنسان، ولكانت حياته كحياة الحيوانات. إن الحيوانات لا تشعر بعدم الرضا، ولا تشعر بالقلق؛ ولذلك هي لا تغير حياتها إلى الأفضل، وحياة الحيوانات اليوم هي حياة الحيوانات منذ القِدَم، أمَّا الإنسان فليس كذلك.
وكان هذا الزوج يعارض في أن تعود زوجته لاستكمال دراستها الجامعية رغم أن ظروفها من جميع النواحي كانت تساعدها على استكمال هذه الدراسة، ولم أستطع أن أفهم السبب الحقيقي أول الأمر، لكن الزوجة قالت لي إن زوجها لم يحصل على شهادة جامعية، وإنه يعمل بشهادة متوسطة، لكن دخله الشهري مرتفع بسبب امتلاكه لعزبة بإحدى القرى، وقد أدركت أنه يعارض في استكمالها التعليم خوفًا من أن تحصل على شهادة لم يحصل عليها هو، ولم أعرف حتى اليوم ماذا حدث بعد ذلك، هل رضخت الزوجة وعادت راضية بحياتها وتنازلت عن الأمل الذي لاح لها؟ أم أن قلقها كان شديدًا وإصرارها كان شديدًا ففرضت رأيها وواصلت دراستها؟
وقد لاحظت أن الأزواج ينزعجون حينما يزيد وعي زوجاتهم، وقد يقبَل بعضهم زيادة هذا الوعي بشرط ألا يشتمل هذا الوعي على أي وعيٍ جنسي. وقال لي أحدهم: إن الوعي الجنسي خطر على المرأة، وإن علم الجنس علمٌ غريب على مجتمعنا الشرقي، وإنه أحد العلوم المستوردة من الغرب. وقلت لهذا الزوج إن ابن سينا كان من أوائل العلماء في تاريخ البشرية إن لم يكن الأوَّل الذي بدأ علم الجنس واعترف به، إن رسالة ابن سينا في العشق تُعتبَر أول رسالة علمية مَنحت الحب والجنس دورًا إيجابيًّا، ففي هذه الرسالة تغلَّب ابن سينا لأول مرة على الهوَّة التي تفصل نشاط النفس الحيوانية عن نشاط النفس الناطقة في الإنسان، وبذلك استطاع أن يصل بين طرفي الحب الطبيعي (الجنس) والروحي، وأعطى للجنس دورًا، وجعل حب الجمال الظاهري، أي الحب الجنسي، عونًا على الاقتراب من الله. وابن سينا في هذه الرسالة يطبِّق مبدأه العام في النفس وأجزائها على مشكلة الحب والجنس، وكتب ابن سينا منذ حوالي ألف عام في كتابه الضخم «القانون في الطب» مؤيِّدًا هذا المعنى.
وردَّ الزوج بشيء من الغضب: أنا لا أعرف عن ابن سينا شيئًا أو تاريخ الطب في العالم، ولكني رجلٌ مسلم، والإسلام يتعارض مع تفتيح عيون الزوجات على الجنس؛ فالمرأة لم تُخلق للاستمتاع الجنسي، ولكنها خُلقت لخدمة زوجها والتفاني في خدمة أطفالها، وإذا كانت الزوجات يطالبن باللذة الجنسية في الغرب، فهذا قد يتمشى مع أخلاقهم وأديانهم، ولكنه لا يتمشى مع أخلاقنا وإسلامنا.
وقلت لهذا الزوج إن الإسلام لا يتعارض مع الثقافة الجنسية، بل يدعو إلى الثقافة والعلم والمعرفة في جميع نواحي الحياة، ومنها الحياة الجنسية.
وإن الإسلام لا يوافق على تزويج الفتاة لرجل لا ترغبه، ويعارض الزواج بالإكراه.
وإن الإسلام لا يوافق على أن تستمر الزوجة في الحياة مع زوجها إذا كانت تكرهه، أو إذا لم يكن يرضيها.
وإن الإسلام يعتبر العلاقة الجنسية بين الزوج وزوجته ليس هدفُها الإنجاب فقط، وإنما إرضاء رغبة كلٍّ من الرجل والمرأة، والاستمتاع بالحق الطبيعي في الحياة؛ ولهذا لا يتعارض الإسلام مع فكرة تنظيم الأسرة وتحديد النسل.
وإن بعض فقرات من القرآن والأحاديث النبوية تدرس لبعض نواحي الجنس، وهناك نصوص في الفقه الإسلامي تذكر الأوضاع أثناء الممارسة الجنسية، وهناك إرشادات لكيفية تفادي الحمل أثناء الاتصال الجنسي، وفقرات تشير إلى أن كثرة العيال تسبِّب الفقر والعجز.
وبعض الناس يعتقدون أن ختان البنات جاء مع الإسلام، وهذا اعتقاد خاطئ؛ لأن ختان البنات كان موجودًا قبل ظهور الدين الإسلامي، وحينما ظهر النبي محمد وجد أن هذه العادة موجودة عند العرب، وأدرك بذكائه الفطري ضرر هذه العادة على صحة النساء وسلبها لجزء من قدرة المرأة على الشعور باللذة الجنسية، وجاء في الحديث أن النبي محمدًا قال لأم عطية الخاتنة: «إذا خفضتِ فأشمِّي ولا تنهكي، فإنه أضوأ للوجه وأحظى لها عند الزوج».
يُقال: أشمَّت الخافضة البظر أي أخذت منه قليلًا جِدًّا، وقوله لا تنهكي أي لا تأخذي من البظر كثيرًا، شبَّه القطع اليسير بإشمام الرائحة والنهك بالمبالغة فيه، أي اقطعي شيئًا صغيرًا ولا تستأصليها، وَمِنْ ثَمَّ يجب أن تُوصَى الخافضات بأن يراعين ذلك لدى الخفاضة، فلا يبالغن في قطع البظر، فإن إنهاكه — أي استئصاله — يحرم المرأة لذة الجماع، فلا تحظى عند زوجها.
ومعنى هذا الكلام أن ختان البنات ليس عادة إسلامية، ولا علاقة لها بالدين، فهي عُرفت في مجتمعات متباينة الأديان، وعُرفت في الشرق وفي الغرب، وفي مجتمعات مسيحية، وفي مجتمعات إسلامية، وفي مجتمعات لا دينية، وعُرفت في أوروبا في القرن التاسع عشر، وعُرفت في مصر والسودان والصومال والحبشة وكينيا وتانجانيقا وغانا وغينيا ونيجيريا، وعُرفت في بلاد آسيوية، وفي سيلان وإندونيسيا، وعُرفت أيضًا في أجزاء من أمريكا الجنوبية، وعُرفت أيضًا في عهود قديمة عند بعض قدماء المصريين، وقد قرأتُ أن هيرودوت ذكر شيئًا عن ختان البنت ٧٠٠ سنة قبل الميلاد.
وقد بحثتُ عن دراسة اجتماعية علمية تلقي ضوءًا على سرِّ ممارسة المجتمع لمثل هذه العملية الوحشية على الإناث فلم أجد، لكني وجدتُ في التاريخ عمليات أشدَّ وحشية من الختان، وهي وأد البنات وهن أحياء، وأيضًا عملية إلباس المرأة حزام العفة الحديدي، وعملية غلق أعضاء المرأة الجنسية بالدبابيس والأقفال الحديدية، وهي عملية شديدة البدائية، لكنها تشبه إلى حد كبير الطريقة السودانية في ختان البنات، إذ تُقطع كل أعضاء البنت الجنسية (البظر والشفرتان الداخليتان والخارجيتان)، ثُمَّ يغلق الجرح بقطعة من أمعاء الشاة، ولا تترك إلا فتحة صغيرة جِدًّا (تسمح بدخول طرف الأصبع فقط) من أجل خروج البول ودم الحيض، ويُعاد فتح هذا الجُرح حين تتزوج الفتاة ليتسع لدخول عضو الزوج، ثُمَّ يُعاد فتحه حين تلد الزوجة طفلها، ثُمَّ يُعاد إغلاقه بعد الولادة أو بعد الطلاق من الزوج لتعود عذراء مرة أخرى، ويُحكَم إغلاقها بالخياطة حتى لا يمكن لرجل أن يتصل بها إلا الرجل الذي سيتزوجها، وحينئذٍ يُعاد فتح الجُرح مرة أخرى، وهكذا.
والسؤال الذي يخطر بالذهن هو: لماذا فعل المجتمع مثل هذه العمليات الوحشية ضد المرأة؟ والإجابة عن هذا السؤال هي أن المجتمع أدرك منذ قديم الزمان أن الرغبة الجنسية عند المرأة قوية جِدًّا بطبيعتها، وأنها لو تُركت هكذا بغير تدخُّل من جانب المجتمع فسوف ترفض النساء القيود الأخلاقية الاجتماعية والقانونية والدينية التي تَفرِض على المرأة زوجًا واحدًا، إن نشوء المجتمع الأبوي القائم على الأسرة الأبوية (القائمة على فرض زوج واحد على المرأة وتعدد الزوجات للرجل) ما كان ليقوم أو يستمر إلا بفرض قيود وعمليات صارمة تقلل من طبيعة المرأة الجنسية حتى يمكنها الخضوع لزوجها الواحد، وهذا هو السبب في عداء المجتمع الشديد لرغبة المرأة الجنسية ومقاومته المستمرة لها بأبشع الوسائل؛ إن المجتمع يُدرك أن أي تهاون من جانبه في هذا المجال معناه خروج المرأة من قفص الزواج الحديدي والاتصال برجلٍ آخر، ومعنى ذلك اختلاط النسب واختلاط أطفال الزوج الشرعي بأطفال رجال غرباء، ومعنى ذلك انهيار الأسرة الأبوية القائمة على اسم الأب فقط.
وإذا عرفنا من التاريخ أن الأب لم يكن حريصًا على معرفة أطفاله إلا من أجل أن يورثهم أرضه، فإننا ندرك أن السبب الرئيسي لنشوء الأسر الأبوية كان سببًا اقتصاديًّا، ومن أجل أن يحمي المجتمع مصالحه الاقتصادية، فإنه يدعمها بالقيم الأخلاقية والدينية والقانونية.
وعلى هذا فإن دراسة التاريخ توضح لنا أن حزام العفة الحديدي وعملية الختان ومثيلاتها من العمليات الوحشية ضد رغبة المرأة الجنسية لم تنشأ إلا لأسبابٍ اقتصادية.
بل إن استمرار مثل هذه العمليات في مجتمعنا حتى اليوم إنما هو أيضًا لأسباب اقتصادية، إن آلاف الدايات والحكيمات والأطباء الذين يُثْرون على حساب عملية ختان البنات لا يمكن إلا أن يقاوموا أي محاولة للقضاء على مثل هذه العادات الضارة.
وفي المجتمع السوداني جيشٌ هائل من الدايات يعشن على هذه العمليات المتكررة، من فتح أعضاء المرأة وإغلاقها في مناسبات متعددة ما بين زواج وولادة وطلاق وزواجٍ مرة أخرى. إن الأسباب الاقتصادية، ومِنْ ثَمَّ الأسباب السياسية، هي التي وراء نشوء واستمرار عادات مثل ختان البنات، وهذا التوضيح هام؛ لأن كثيرًا من الناس يخلطون بين السياسة والدين، وكثير من الناس يعمدون إلى إخفاء الأسباب السياسية والاقتصادية بأسباب دينية حتى يصرفوا الأذهان عن الأسباب الحقيقية، وكثير من الناس يقولون إن الإسلام هو السبب وراء ختان البنات في مصر، وهو السبب وراء الوضع الأدنى للمرأة في البلاد العربية.
لكنني أرى أن سبب التخلف في مجتمعاتنا العربية ليس هو الدين الإسلامي، وإنما هو السلطة السياسية خارج مجتمعاتنا (الاستعمار الأجنبي)، أو السلطة السياسية في الداخل (الحكومات العربية الرجعية المستغلة) أو كلتاهما معًا، ومحاولة تفسير الدين تفسيرًا خاطئًا واستخدامه ليخدم أغراض القهر والخوف والاستغلال.
إن الدين بمعناه العام هو الصدق والمساواة والعدالة والحب والصحة لجميع الناس رجالًا ونساءً، ولا يمكن أن يكون هناك دين يدعو إلى المرض أو تشويه أجساد البنات وقطع بظورهن.
وإذا كان الدين من عند الله، فكيف يمكن للدين أن يأمر بقطع عضو من الجسم الذي خلقه الله؟ المفروض أن الله لا يخلق الأعضاء اعتباطًا، ولا يمكن أن الله يخلق البظر في جسد النساء ثُمَّ يُنزل على الناس دينًا يأمرهم بقطع هذا البظر، فهذا تناقض خطير لا يقع فيه الله، وإذا كان قد خلق البظر كعضوٍ حساس للجنس وظيفته الأساسية والوحيدة هي الإحساس بلذة الجنس، فمعنى ذلك أن الله قد أباح للنساء اللذة الجنسية وأنها جزء من الصحة النفسية، ولا يمكن أن تكتمل صحة المرأة النفسية بدون اكتمال لذَّتها الجنسية.
إن عددًا كبيرًا من الأمهات والآباء المتعلمين لا يزالون يفزعون من ترك البظر في أجساد بناتهم، وقد قال لي بعضهم إن الختان يحمي البنت من الانزلاق والزلل، وهذا منطق خاطئ؛ لأن الذي يحمي البنت أو الولد من الزلل ليس هو بتر الأعضاء الجنسية وإنما هو الوعي والمعرفة التي تساعد البنت على تحديد هدف ومعنًى في حياتها، والسعي لتحقيق هذا الهدف وهذا المعنى، وكلما زاد وعي الإنسان (امرأةً أو رجلًا) ارتفع هدفه في الحياة إلى المستوى الإنساني والرغبة في تطوير الحياة إلى الأفضل، ولا يقتصر هدفه في الحياة على استخدام أعضائه الجنسية أو ممارسة الجنس. إن أكثر البنات تحرُّرًا (بالمعنى الصحيح للتحرر) أقلُّهن انشغالًا بالجنس؛ لأن عقل البنت منهن يصبح مشغولًا بأشياء أخرى كثيرة في الحياة، أمَّا البنات المكبوتات فلا يشغل رءوسهن إلا الجنس والرجل، وقد وجدتُ أن المرأة الذكية المثقفة بصفة عامة أقل انشغالًا بالجنس عن المرأة الأخرى، لكنها أكثر جرأةً في ممارسته، وهي تنساه بعد الممارسة والشعور بالرضا وتفكر في أشياء أخرى.
إن الجنس في حياة المرأة الذكية المتحررة لا يشغل من حياتها إلا حيزه الطبيعي، أمَّا الجهل والكبت والقيود والتخويف فتجعل الجنس في حياة معظم البنات والنساء يتضخم ويتمدد ليشغل كل حياة المرأة أو الفتاة.
وتدل نتائج البحث على أن الحب مفقود في معظم الحالات بين الزوج والزوجة، ومعنى ذلك أن معظم الأزواج والزوجات محرومون من الحب ومحرومون من الجنس بمعناه الصحيح، ومعنى ذلك أنهم يحاولون تعويض ذلك الحرمان خارج الزواج، ولا شك أن الرقم في هذا البحث الذي يشير إلى نسبة العلاقات الجنسية خارج الزواج أقل من الحقيقة؛ إذ ليس من السهل على الزوجة أن تعترف في مثل هذه البحوث بممارستها الجنسية خارج الزواج، أمَّا الأزواج فإنه من المعروف في معظم المجتمعات (وليس في مجتمعنا فقط) أن لهم علاقاتهم المتعددة خارج الزواج، ويشجعهم على ذلك النُّظُم والقوانين وتقاليد الحضارة الأبوية التي تعطي للرجل وحده الحرية الجنسية.
لقد فشل الزواج بقوانينه الجائرة التي لا تساوي بين الرجال والنساء في تحقيق السعادة للأزواج والزوجات؛ فالسعادة لا يمكن أن تتحقق إلا في ظل المساواة والحب والحرية، وهذه المبادئ الثلاثة عجز الزواج عن منحها للرجال والنساء، وبالذات النساء؛ ولهذا لم أُدهش حين وجدت أن ٨٥ بالمائة من الزوجات يرفضن الزواج بأزواجهن مرة أخرى لو عادت السنين إلى الوراء.
وقد لاحظتُ أن المرأة غير المتعلمة وبالذات الريفية أكثر رضاءً عن حياتها من المرأة المتعلمة أو التي تعيش في المدينة.
ولا شك أن من ميزات الحياة الريفية ذلك الزواج المبكر الذي يحل مشكلة المراهقين والمراهقات في المدن وما يتعرضون له من كبتٍ نفسي وجنسي، وقوانين أخلاقية متناقضة، وازدواجية في القيم، ومشاكل متعددة. كما أن الحياة الريفية أقل تعرُّضًا من المدن للتناقضات الثقافية والأخلاقية الموجودة في مجتمعنا، والتي تنتقل عن طريق أجهزة الإعلام والأفلام والمجلات والصحف وغيرها.
لكن حياة الفلاحة المصرية بصفة عامة حياة قاسية شقِيَّة، والاستغلال يقع عليها مضاعفًا. والذي يهبط إلى الريف المصري يستطيع أن يرى الفلاحات الكادحات بجلاليبهن السوداء المتربة، وعيونهن الغائرة الحزينة، ووجوههن الممصوصة، وأيديهن وكعوبهن الخشنة المشقَّقة، فيدرك على الفور مدى انسحاق الفلاحة المصرية. والذي يعيش يومًا في بيت من بيوت الفلاحين يسمع صوت الزوج الخشن ينادي زوجته: «يا بت!» أو يرى كفه الخشنة الغليظة التي تسقط فوق وجهها في صفعةٍ قوية لأي خطأ منها، أو صوته الغليظ حين يرتفع غاضبًا لأتفه سبب قائلًا: عليَّ الطلاق بالثلاثة! بالإضافة إلى ما تتعرض له البنت الفلاحة ليلة الزفاف من مهانة التقليد الذي لا يزال سائدًا في الريف المصري، وهو فض بكارة العروس بالأصبع وإظهار الدم على بشكيرٍ للناس، وكم من مآسٍ بسبب العذرية في الريف!
أمَّا النساء العاملات الكادحات في المصانع أو الوظائف والأعمال الدنيا فحياتهن أشد قسوة؛ لأنها تجمع التناقضات والمشاكل جميعًا: مشاكل الريف ومشاكل الحضر، مشاكل التطلع إلى الطبقة الأعلى، مشاكل الدخل الصغير المحدود، مشاكل العمل خارج البيت وداخل البيت، كل ذلك في ظل القوانين نفسها الجائرة التي تحكم النساء جميعًا.
وقد أوضح تعداد ١٩٧٦ أن نسبة العاملات بأجر ٩٫٢ بالمائة من القوى العاملة كلها، لكن هذه النسبة لا تضم الفلاحات وربَّات البيوت اللائي يعملن بغير أجر.
والمرأة الكادحة هي التي تعمل داخل البيت (الطبخ والتنظيف ورعاية الأطفال)، وتعمل أيضًا خارج البيت في حقل أو مصنع أو مكتب أو أي مكان آخر، وتمثل النساء الكادحات أغلبية النساء في المجتمع المصري، من فلاحات وشغالات وعاملات بالمصانع وموظفات بالمصالح الحكومية والشركات، ومهنيات في مختلف أنواع المهن، هؤلاء اللائي يقمن بأعمال في المجتمع جنبًا إلى جنب مع الرجال، ثُمَّ يَعُدْن آخر اليوم إلى البيت ليخدمْن الأسرة أو الأب أو الزوج والأطفال، وتحُول ظروفهن دون الحصول على خادمات المنازل.
ولا يخفى على أحد الحياة الشاقة المؤلمة التي تعيشها الفلاحات المصريات، وقد اعتدتُ أن أزور قريتي كفر طحلة (قليوبية) كل عام، وأعيش بين الفلاحات من قريباتي ومن أهل قريتي، وأستمع إلى قصص حياتهن المؤلمة، وأشهد نماذج من حياتهن التعيسة، وأقف على مدى ما يسود القرية المصرية حتى اليوم من أفكارٍ متخلفة تحقر المرأة، وخزعبلات وخرافات.
ولا شك أن الفقر أو المشكلة الاقتصادية هي أهم ما في حياة النساء الكادحات، إن السعي وراء لقمة الخبز يمتص حياة المرأة منذ شروق الشمس حتى غروبها، فلا تكاد تجد الوقت لتلتقط أنفاسها، أو تنظر إلى نفسها في المرآة لتعرف أنها امرأة أو رجل، أو تفكر في ذلك الشيء الذي نُطلق عليه اسم الحب أو الجنس.
سألتُ مرةً إحدى قريباتي المتزوجات عن حياتها الجنسية مع زوجها وعما إذا كانت ترضيها أم لا، وتطلَّعتْ إليَّ المرأة الفلاحة بدهشة وقالت: ما إن أضع جسدي المهدود فوق الحصيرة حتى أنام كالقتيل إلى أن أصحو على أذان الفجر.
ونظرتُ إلى هذه المرأة، كانت شابة في الثلاثين، لكنها تبدو في الخمسين، خشنة الملامح، جافة الجسد، سمراء البشرة، سوداء الجلباب، ولديها من الأطفال ثمانية، وسألتها: كيف أنجبتِ هؤلاء الأطفال؟
قالت في حزن: لا أعرف، ولدتُهم كما تلد الجاموسة.
وسألتها: والزواج؟
قالت: الله يلعنه يا دكتورة! نحن هنا في القرية لا نعرف شيئًا، ما إن تكبر البنت مِنَّا ويبرز ثديها حتى يزوجها أهلها لأي فلاح.
سألتها: ألا تذكرين ليلة الزفاف؟
قالت: أذكر أنه أُغلق البابُ عليَّ، وضربني بفلقة الحمارة حتى عضضتُ الأرض، ثُمَّ قفز فوقي وانتهى كل شيء.
وقد لمست الكثير من مشاكل الفلاحة المصرية الاجتماعية والنفسية والجنسية، لكني أعتقد أن المشكلة الاقتصادية تطغى على جميع المشاكل الأخرى في بعض الحالات النادرة، حين تصادف المرأة مشاكل حادة بسبب زوج شديد القسوة يذيقها كل ألوان الضرب والعذاب، أو حماة أو ضرَّة (زوجة ثانية لزوجها) تحوِّل حياتها إلى جحيم، أو طلاق يشرِّدها في الطرقات تشحذ لقمة عيشها، أو تفقد صوابها ولا تجد أمامها إلا الزار أو المشايخ أو أهل النصب والاحتيال.
والفلاحة المصرية رغم مشاكلها المتعددة أكثر قوةً وصحةً نفسيةً من المرأة العاطلة بغير عمل داخل البيت أو خارجه.
ولا توجد لدينا بيانات لتحديد نسبة دقيقة للنساء العاطلات، إلا أننا جميعًا نعرف أن هذه الفئة من النساء موجودة في مجتمعنا، وأنها تمثل معظم النساء من الطبقة العالية والطبقة فوق المتوسطة، ونساء الطبقة الجديدة التي تضخمت في السنوات الأخيرة بسبب الثراء السريع مع الجهل والتخلف.
ومعظم هؤلاء النساء يعشن في المدن الكبيرة والمدن الصغيرة، ومنهن من تعلمت تعليمًا عاليًا بالجامعة ثُم لزمت البيت بسبب الزواج أو التقاليد أو عدم حاجة الأسرة إلى مورد اقتصادي إضافي، ومنهن من لم تتعلم على الإطلاق بسبب التقاليد.
على أن السمة الغالبة على هذه الشريحة من شرائح المجتمع المصري أنها أكثر الفئات راحةً من الناحية الاقتصادية (بدليل وجود خدم بالمنزل)، وأن مستواها الاقتصادي أعلى من مستواها الثقافي والحضاري (بدليل وجود المرأة بالبيت، وبدليل شدة التمسك بالتقاليد والعادات القديمة ولو ظاهريًّا).
ومن المعروف في علم المجتمع أن التغيير الاقتصادي يحدث بأسرع من التغيير الاجتماعي أو الثقافي أو الوجداني، فما أسهل على الفلاح المصري بمجرد أن يحصل على بعض المال أن يشتري الثلاجة والراديو أو السيارة، ولكن ما أصعب عليه أن يغيِّر من عاداته وتقاليده ونظرته إلى المرأة، وبالمثل أيضًا ما أسهل على الأسر العالية في مصر أن تشتري أحدث الأجهزة، وتستخدم أحدث الوسائل التكنولوجية في البيت والعمل، بل وترتدي أحدث الملابس من سراويل ضيقة وفساتين قصيرة تكشف عن أفخاذ النساء (الميني جيب) وغيرها من أزياء القرن العشرين، ومع ذلك تظل الأعماق عاجزة عن التخلص من الأفكار المتخلفة وخزعبلات القرن التاسع عشر، وبالمثل أيضًا ما أسهل على المجتمع أن يتحول بالقرارات الاقتصادية وقرارات التأميم من مجتمع إقطاعي أو رأسمالي إلى مجتمع اشتراكي، ومع ذلك تظل الأفكار والمشاعر الوجدانية والتقاليد إقطاعية أو رأسمالية، ويمكن القول إن مجتمعنا المصري مزيج من كل هذه التناقضات والصراعات بين الريف والحضر، بين القديم والجديد، وبين الشرق والغرب، وبين الإقطاع والرأسمالية والاشتراكية، وتختفي هذه التناقضات أحيانًا، أو تطفو على السطح أحيانًا، لكنها موجودة وتكون ظاهرة عامة عندنا.
ولا شك أن دراسة حياة المرأة المصرية في الأسرة فوق المتوسطة والعالية، وهذه الأسر التي تكون النساء فيها عاطلات أو شبه عاطلات، تعطينا صورة عن جزء من حياة مجتمعنا المصري عامة، كما أنها تعطينا صورة أوضح عن تلك التناقضات التي نعيشها؛ لأن المرأة (بسبب كثرة المحظورات عليها بالنسبة للرجل) أكثر عرضةً للوقوع فريسة التناقضات الاجتماعية.
إن المرأة المصرية في هذه الأسر هي مُستهلِكة فقط (بعكس المرأة المصرية الكادحة أو الفلاحة التي هي مُنتِجة ولا تكاد تستهلك شيئًا)؛ ولهذا فإن الفرق كبير جِدًّا بين هاتين المرأتين فيما عدا أنهما متساويتان في الخضوع للزوج بسبب اعتمادهما الاقتصادي عليه (رغم أن الفلاحة المصرية منتِجة عن طريق عملها في الحقل، إلا أنها تعمل بغير أجر لحساب زوجها وتعتمد اقتصاديًّا عليه). إن نظرة واحدة إلى وجه وشكل المرأة من هذه الطبقات، وإلى وجه وشكل المرأة الفلاحة، تعطينا صورة صارخة للتناقض بين هذه وتلك؛ إن المستهلكة ممتلئة باللحم، وترتدي أفخر الثياب، وتضع على وجهها وجسدها كمًّا هائلًا ثمينًا من المساحيق، في حين تعاني المرأة الفلاحة من النحول وذبول الجسد المرهَق، وتعاني نقصًا شديدًا في التغذية أيضًا، وجلبابها الأسود المُترَب بتراب الحقل، ووجهها الذي لا تغسله إلا بالماء نظرًا لارتفاع سعر الصابون.
ولا شك أن هذا التناقض ليس قاصرًا على النساء، ولكنه يشمل الرجال أيضًا، لكنه أوضح ما يكون في النساء؛ لأن الاستغلال الواقع على النساء يكون مُضاعَفًا، حيث إن البطالة تُفرَض على المرأة، وَمِنْ ثَمَّ يُفرَض عليها أن تكون مستهلِكة فقط، كما أن الفلاحة المصرية تتعرض لاستغلال من زوجها؛ لأن زوجها يسيطر عليها ويشغِّلها كالأجير لحسابه ويستهلك أكثر منها، فهو يعطي نفسه من الطعام والملابس والدخان والمتع ما لا يعطيه لها.
إن جميع النساء اللائي يعملن في البيوت أو الحقول أو المصانع أو المهن المختلفة، جميعهن منتِجات، وجميعهن يستهلكن أقل مما يستهلك الرجل في أُسَرهن، أمَّا هؤلاء النساء العاطلات بغير عمل في البيت أو خارج البيت فهن غير منتجات، ومن اللائي يمكن أن نقول عنهن إنهن مستهلِكات فقط.
وقد يتصور بعض الناس أن بطالة النساء ميزة تعطيهن الراحة، لكن البطالة نوع من أنواع الاستغلال، والبطالة تحرم المرأة من العمل الذي هو ضرورة إنسانية تُحقِّق به ذاتها، وتحقق به نفعًا للمجتمع، وتَحقُّق الذات يمنح الإنسان سعادةً وذكاءً وتطوُّرًا وإنسانيةً، وتحرم من كل ذلك النساء العاطلات.
ولهذا لا تشعر النساء العاطلات بالسعادة بسبب عدم وجود العمل، وبسبب أيضًا وضع المرأة الأدنى في المجتمع، وإحساس المرأة أنها تابعة وعالة على الرجل.
وإن القانون يمنح الزوج حرية طرد زوجته في أي وقت يشاء؛ ولهذا كله تشعر النساء العاطلات بالفراغ والتعاسة والقلق على مصيرهن ومستقبلهن، ويحاولن تعويض كل ذلك عن طريق الاستهلاك الشَّرِه، وقتل المال في شراء الملابس وأدوات الزينة، وقتل الوقت في الثرثرة والنميمة، واصطناع احتياجات جديدة لمزيد من الشراء والاستهلاك، واصطناع شهوات جديدة للطعام والحلويات والمربات، والممارسات الجنسية أو إنجاب الأطفال.
ورغم الأكل الكثير واللحم الكثير والمساحيق الملونة، إلا أن المرأة العاطلة من هؤلاء حين تغسل وجهها يبدو وجهها شاحبًا بسبب الشقاء الذي تعيشه، وبسبب التناقضات التي تمزقها؛ فهي متخمة لكنها محرومة، وهي مشبعة لكنها فارغة، وهي مكتظة بالشهوات والمتع وهي عاجزة عن الاستمتاع بشيء منها، وهي تقتني الراديو والتليفزيون وتقرأ الصحف والمجلات وتذهب إلى السينما؛ ولهذا فهي تقع أيضًا فريسة التناقضات الثقافية في المجتمع كله، ويصلها حتى سريرها الأفلام الجنسية والرقصات العارية والموضوعات الفنية الرخيصة المشوِّهة لكل الحقائق والمشاعر.
يصل إليها كل ذلك عن طريق أدوات العلم الحديث والقرن العشرين. والمرأة تتلقى كل هذا، وهي هنا أيضًا مستهلكة، هي «منفعلة» فقط، لا تجرؤ على «الفعل» بسبب التقاليد، إنها قد تحفظ عن ظهر قلب النكات الجنسية الرخيصة، وتثرثر مع صديقاتها بكل قصص العشق والغرام، لكنها لا تعيش في واقع حياتها قصة حب حقيقية، وإن عاشتها فهي تعيشها نظريًّا فحسب أو بطريقةٍ مشوَّهةٍ مريضة، وهي تسمع ليل نهار تأوهات المغنيات والمغنين، وفوق الشاشة الكبيرة والشاشة الصغيرة وأغلفة الكتب والمجلات ترى أجمل الأجساد، لكنها لا تجرؤ على رؤية جسدها في المرآة، ولا تجرؤ على الاستمتاع بالجنس، والزوجة من هؤلاء تعاني من الحرمان الجنسي. إن علاقتها بزوجها لا تسبب لها الرضا، وإنما النفور وكراهية الجنس. إن الرضا الجنسي لا يمكن أن يحدث في ظل علاقة غير متساوية، ولا يمكن أن يحدث في ظل تربية صارمة تسبب العُقد، ولا يمكن أن يحدث في ظل تناقضات تسبب المرض النفسي والقلق، كما أن الزواج في معظم هذه الحالات يتم لأسباب غير الحب الحقيقي، وقد تكون أيضًا حُرمت من العضو الحساس (البظر) بسبب عملية الختان، وفي ظل القيود والمحظورات، فإن الجنس يصبح عملية منفِّرة كريهة يهرب منها الزوجان، ويذهب كل منهما إلى حيث يعرض عن ذلك بطريقة أو بأخرى.
إن مظاهر التعويض نلاحظها على مثل هذه المرأة العاطلة في تقليدها الجنوني، أو جريها وراء الموضات، والتظاهر بالجاذبية الجنسية المتأجِّجة، تعويضًا عن الحاجة الجنسية المكبوتة، أو ذلك النهم الشديد للأكل والاستهلاك الشديد الذي ليس إلا تعبيرًا عن الكبت الشديد والتمزق الشديد بين التناقضات.
ومن أهم نتائج هذا البحث أن أغلبية النساء العاملات، متعلماتٍ وغيرَ متعلمات، لم يتحررن، ولا يعشن حياة أسعد من حياة النساء غير العاملات، وأنهن مرهقات جسديًّا ونفسيًّا بسبب الدورين اللذين يقمن بهما معًا داخل البيت وخارجه، بدون مساعدة الرجل أو المجتمع، إن خروج المرأة للعمل في ظل ظروف وقوانين لا تساوي بين الرجال والنساء في جميع الحقوق والواجبات، لا يؤدي إلا إلى المزيد من استغلال الرجل للمرأة خارج البيت وداخله، بعد أن كان يستغلها في الداخل فقط. إن المرأة الذكية الواعية هي التي ترفض أن يستغلها الرجل؛ ولذلك يزيد تمرد المرأة كلما زاد ذكاؤها وتعليمها، لكن التمرد أو الرفض يسبب لمعظم النساء العصاب، أمَّا القليلات القويات فهن هؤلاء النساء اللائي يحوِّلن الرفض إلى ثورة، أو إلى فعل حقيقي يرفع عنهن الظلم والاستغلال؛ ولهذا لا تُصاب الثائرات بالعصاب؛ فالفعل الحقيقي هو المصدر الوحيد للصحة النفيسة عند الإنسان الذكي الواعي، والفعل الحقيقي معناه العطاء للمجتمع والإيجابية، وليس التلقِّي والسلبية، وكما قال كيركجارد: «إنه من الأفضل أن تعطي عن أن تتلقى، إن التلقي أكثر صعوبةً على النفس من العطاء».
وقال سقراط أيضًا: «لكي تعرف نفسك لا بد أن تفعل»، والفعل هنا هو العمل الحقيقي الخلَّاق، وليس العمل الروتيني الممل الذي يشبه دوران البقرة في الساقية، وكم من النساء يدرن في ساقية العمل سواء داخل البيت أو خارجه، وكم من رجال أيضًا.